«انتفاضة ١٩٨٧: تحول شعب»: استعادة للحدث والذاكرة

2021-08-13 00:00:00

«انتفاضة ١٩٨٧: تحول شعب»: استعادة للحدث والذاكرة

يخلص العزة في ختام دراسته إلى أن ممارسات تخليد الانتفاضة تبدو كانها ناتجة من منطلق أن الواقع الحالي غير مقبول بالنسبة للفلسطينيين، وهي بذلك تعمل على بعث انتفاضة جديدة لتكون بديلًا عن إفرازات اتفاق أوسلو في الأراضي المحتلة.

 بعد أن عقدت مؤسسة الدراسات الفلسطينية مؤتمرها السنوي عام 2017 تحت عنوان "انتفاضة 1987: الحدث والذاكرة" أصدرت في شهر أيلول/ سبتمبر 2020 هذا الكتاب الذي يقدم للقارئ مساهمات مختارة وطروحات مختلفة تمت مناقشتها خلال المؤتمر. الكتاب الذي حرره روجر هيكوك وعلاء جردات جاء في 397 صفحة من القطع المتوسط مقسم وفق الأوراق الواردة فيه بناءً على الطرح الذي تقدمه. تبدأ الأوراق بتحليل سوابق اندلاع الانتفاضة وتسير نحو تفكيك بنيتها في البدايات، من ثم تركز على مرحلة التصعيد وردّات الفعل، ثم تغوص دراسات أخرى في بحث العوامل الثقافية وآثار الانتفاضة إلى أن تُختتم برؤية استرجاعية وخاتمة بقلم المحرران. 

يشير المحرران في المقدمة إلى أن هذا العمل هو إعادة قراءة متعددة الأبعاد للانتفاضة التي تشبه ماسة غير مصقولة في السرد الروائي لأحداثها (ص3)، وأنها لم تكن السبّاقة في العالم العربي الذي شهد انتفاضات وهبّات مقاومة تتحد جميعها في كونها موجهة ضد الاضطهاد الأجنبي والأصلاني، وأن من أهم تداعيات هذه الانتفاضة ما جرى من انتخابات في الأردن والجزائر ما بين 1989-1990 و1991 والتي كانت انتخابات حقيقية فرضها الشعب على الدولة. 

كما ينوه المحرران أيضًا، أنه في سبيل فهم ما أطلقوا عليه انفجار كانون الأول/ ديسمبر 1987 لا بد من النظر إلى الشعور العام في إسرائيل آنذاك، والذي وصف بأنه شعورٌ بالاستحقاق والسيطرة والتفوق في كافة المجالات على الجانب الفلسطيني، لكن وبحسب هيكوك وجرادات، فإن التاريخ لم يُعلّم هؤلاء المفعمين بعقدة الاستثنائية إلاّ القليل، فلم تكن إسرائيل قادرة على قراءة وتوقع الأحداث التي أفضت إلى قيام الانتفاضة بشكل صحيح. 

يتتبع ماهر الشريف في دراسته المعنونة خلفيات الانتفاضة الشعبية على صعيد الوعي والتعبئة والتنظيم وأشكال المقاومة، المسار الذي قطعته المقاومة الشعبية في الأراضي المحتلة ومدى ارتباطها بالحدث الأبرز، فيصف الانتفاضة بأنها جاءت امتدادًا لنضالات الشعب الفلسطيني منذ قيام إسرائيل باحتلال الضفة الغربية عام 1967، وأن كل ما سبقها كان بمثابة بروفات تدرب الشعب من خلالها على المواجهة وراكم خبرات تنظيمية وتعبوية مختلفة جعلته قادرًا على ضمان استمرارية الانتفاضة عام 1987. 

جاءت دراسة الشريف من قسمين، الأول منها تطرق إلى صمود الفلسطينيين على أرض الوطن بالاضافة إلى تحليل أشكال التنظيمات السياسية وتطور الوعي والمقاوم وأساليبه، أمّا الثاني فقد ركّز على أبرز المحطات خلال فترة الانتفاضة. 

ويذكر الباحث الرئيسي في مؤسسة الدراسات الفلسطينية أنه بعد تبني منظمة التحرير الفلسطينية برنامج إقامة السلطة الوطنية عام 1974 فقد أولت اهتمامًا أكبر للمناطق الفلسطينية المحتلة لتعزيز صمود أهلها، وقيام اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة بتمويل نشاطات أهلية في قطاعات متعددة خلال الفترة ما بين الأعوام 1979- 1986 (ص17).

وفيما يخص سياسات الاحتلال ما قبل الانتفاضة، يذكر الشريف أن إسرائيل قد حظرت عقد المؤتمرات السياسية وفرضت الإقامة الجبرية على العديد من الشخصيات السياسية والصحافيين والنقابيين الذين كانوا يدلون بتصريحات مؤيدة لمنظمة التحرير حينها، كما سعت سلطات الاحتلال إلى التحايل على سكان المناطق المحتلة من خلال محاولات إقناعهم بمشروعها السياسي والاقتصادي وفتح الأبواب أمام العمال الفلسطينيين في الأراضي التي احتلتها عام 1948.

ويذكر الشريف أن الحراك الوطني الفلسطيني بدأ منذ عام 1968 بما يُعرف بلجان التوجيه الوطني التي تشكلت من ممثلي القوى الوطنية بمختلف توجهاتهم ثم توسعت لتشمل ممثلين عن النقابات والهيئات النسائية والمجالس البلدية بالاضافة إلى وجهاء المُدن والقرى. 

استمر تطور وتنوع التنظيم السياسي بحسب الظروف الاقليمية والدولية، ففي أواخر عام 1973 أقامت منظمة التحرير فروعًا لها في المناطق المحتلة الأمر الذي أسفر عن توحيد القوى الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزّة تحت جبهة واحدة سميت "الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة".

وتجلّت أبرز معاني الوحدة الوطنية في الأراضي الفلسطينية عام 1979 حين قامت قوات الاحتلال بمحاولة إبعاد رئيس بلدية نابلس المُنتخَب بسام الشكعة إلى الأردن الأمر الذي أدى إلى اندلاع هبّة نابلس وقدّم مجلس بلدية نابلس استقالته وتبعه قرارات بتقديم الاستقالة صدرت عن المجالس البلدية كافة في الضفة الغربية وقطاع غزّة إن لم تتراجع سلطات الاحتلال عن قرارها، وقد نجحت بنهاية الأمر في مسعاها. 

يشير الشريف إلى دور الجامعات الخاصة التي تأسست في الأراضي المحتلة في تطوير الوعي السياسي الوطني للشعب الفلسطيني، كما برز دور المعاهد الفنية والمهنية ودور إعداد المعلمين في تطوير الحركة السياسية والثقافية من خلال الفعاليات المختلفة التي كانت تُقام قبل اندلاع الانتفاضة، كما يسلّط الضوء على الدور الهام الذي قامت به الصحافة الفلسطينية والمجلات والمنشورات والدوريات الشهرية والفصلية في ترسيخ وتشكيل الوعي السياسي الوطني في تلك الفترة. 

اتخذت المقاومة الشعبية الفلسطينية أشكالًا متعددة، قسّمها الباحث إلى أربع أنواع رئيسية تفرعت منها أساليب مختلفة، فالمقاومة البناءة تتمثل في إقامة مؤسسات بديلة عن مؤسسات الاحتلال وتقليل الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي وحملات لمقاطعة منتجاته، بالإضافة إلى حملات التعليم الشعبي للحد من تأثير المناهج الإسرائيلية، والمقاومة الرمزية جاءت على شاكلة استعادة كل ما هو فلسطيني من العلم إلى الخريطة وصور الشهداء والشعارات على الجدران. أمّا المقاومة الهجومية فقد شملت الإضرابات، والامتناع عن العمل في مؤسسات الاحتلال، تنظيم التظاهرات والمواجهات مع جيش الاحتلال. النوع الأخير من المقاومة أطلق عليه وصف الدفاعية وتمثلت في التصدي للمستوطنين ومحاولات تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وحماية الأحياء والنشطاء والمطلوبين وتنظيم حملات لتموين الأهالي في فترات رفع حظر التجوّل. 

لم يقتصر الكتاب على أوراق بحثية وطروحات تم تقديمها خلال المؤتمر، بل اشتمل أيضًا على ندوة عقدت بعنوان القيادة الموحدة والتنظيمات الإسلامية ومنظمة التحرير في انتفاضة 1987 بإدارة غادة المدبوح ومشاركة كل من جمال زقّوت، بسام الصالحي، حسن يوسف، سمير شحادة، عمر عسّاف ورباح مهنا. 

اتفق المشاركون على عفوية الانتفاضة في بدايتها واختلفوا على الأدوار المختلفة للتنظيمات الفلسطينية فيها، فنقرأ عن بدايات حركة حماس ودورها في الانتفاضة بالاضافة إلى دور التنظيمات الأخرى التي كانت تعمل على الأرض في الداخل الفلسطيني، ويشير المشاركون إلى أن بداية العمل المنظم كان بعد حوالي شهر على انطلاق الانتفاضة، تحديدًا ما بعد 08/01/1988. 

كما يلاحظ أيضًا تباين الآراء حول دور منظمة التحرير الفلسطينية وقادتها المقيمين في الخارج في قيادة وإدارة هذه الانتفاضة الشعبية، والطريقة التي تم تجيير عمل الشعب الفلسطيني المرابط على أرضه لصالح عملية سلام أسفرت عن ولادة سلطة أوسلو بصلاحيات ممسوخة واستقلالية وهمية. 

ومن ضمن تحليل بنية الانتفاضة، نقرأ في الكتاب دراسة لغسان الخطيب تتناول علاقة الداخل بالخارج في سياق الانتفاضة الفلسطينية الكبرى. يعارض الخطيب أغلب الآراء المشاركة والتي أجمعت تقريبًا على عفوية بداية الانتفاضة، فيذكر أنها كانت ممكنة الحدوث والاستمرار والاتساع والعمق والشمولية معولًا على نَضج الأطر الجماهيرية وثقتها بالقيادة السياسية المحلية (ص79). 

يسير الخطيب في دراسته مع تطورات الانتفاضة وتفاعل القيادة الداخلية والخارجية معها، في محاولة لبيان أثر تدخلات م.ت.ف على قيادات الداخل وسير الانتفاضة. 

انقسمت العلاقة ما بين الداخل والخارج إلى قسمين، كانت الأولى بحسب الخطيب هي تلك التي رآها الجميع منذ اليوم الأول للانتفاضة والتي تمثلت بترحيب وتبني قيادة منظمة التحرير تفجر الانتفاضة، حيث ألقى ياسر عرفات خطابًا داعمًا في اليوم التالي لاندلاعها. 

ويتضح اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى أن الانتفاضة جاءت لتكسر عزلة القيادة الفلسطينية الخارجية بعد سنوات على مغادرتهم لبنان واقامتهم في تونس، إذ أنه في السنوات التي سبقت الانتفاضة، كانت القضية الفلسطينية قد تراجعت على سلم اهتمامات الدول العربية بالإضافة إلى انخفاض الدعم المادي الذي كانت تتلقاه. 

القسم الثاني من العلاقة كما يذكر الخطيب كانت مظاهر القلق والريبة وشكوك حول فقدان سيطرة قيادات الخارج على القرار الفلسطيني، الأمر الذي ظهر في تأخر قيادة م.ت.ف في تبني القيادة الموحدة التي تشكلت من قادة التنظيمات الرئيسية في الداخل مع بداية الانتفاضة، وهو الأمر الذي يعود لعدم معرفة من هم في الخارج بكل القيادات الداخلية، والأمر الثاني وهو الأهم كان القلق من تشكل قيادة في الداخل يصعب السيطرة عليها وبالتالي تحل محل المنظمة. 

ويستشهد الخطيب برأي الدكتور علي الجرباوي حول طبيعة علاقة الداخل بالخارج التي وصفها بأنها علاقة ترابطية تكاملية، فقد استفادت قيادة منظمة التحرير من الانتفاضة من حيث إعادة الزخم إلى القضية الفلسطينية وإبرازها إلى الواجهة مرّة أخرى، كما ان القيادة الموحدة استفادت من دعم م.ت.ف لها وكانت بمثابة الرئة الإعلامية والدبلوماسية لما يحدث على أرض فلسطين (ص90).

في المرحلة الثانية من الانتفاضة بدأ الاختلاف يظهر في التوجهات السياسية لهذه القيادات، ويذكر الخطيب مثال البيان رقم 10 الذي سبب احراجًا للقيادة في الخارج وأدّى إلى استقالة أعضاء البرلمان الأردني في الضفة الغربية. 

أمّا الخلاف الأهم كان حول احتلال العراق للكويت، ففي الوقت الذي تجنبت فيه قيادة الداخل الوقوف مع طرف ضد آخر، فأن م.ت.ف انحازت إلى العراق الأمر الذي أدّى بعد خسارته الحرب إلى خلق أزمة للمنظمة تتعلق بوجودها وكيانها واتضحت الصورة لدى الداخل بأن م.ت.ف تستثمر الانتفاضة للدخول في عملية سياسية تبقيها على قيد الحياة. 

يخلص الخطيب في دراسته إلى أن الانتفاضة كانت المرحلة الكفاحية الأكثر اشراقًا في نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار، ويلاحظ أيضًا اطلاقه وصف العفوي على بدايتها الأمر الذي يتناقض مع ما ذكره في مقدمة الدراسة، وأن هذه الانتفاضة التي توسعت وطالت بسبب وجود أطر تنظيمية واعية وراسخة قادتها، وأن العلاقة بالخارج كانت إيجابية في البداية لكنها لم تستمر بسبب محاولات التحكم فيها من قبل القيادات الخارجية (ص96)، وأن قلق م.ت.ف الوجودي هو الذي أدّى إلى التسرع في قطف ثمار هذه الانتفاضة سياسيًا واضعافها بهدف إحكام السيطرة على القرار الفلسطيني. 

تصعيد ونضال متوارث

يسرد محمد فارس جرادات في مقالته المعنونة انتفاضة الحجارة في نموذج عائلي كفاحي، سيرة عائلته التي بدأ نضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي منذُ السبعينات. فارس، الأب المولود في زمن الانتداب ولد له سبعة صبية وابنتان، يذكر محمد أنهم جميعًا شاركوا في مقاومة المحتل منذ بداية وعيهم. 

تشكل سيرة هذه العائلة نموذجًا مصغرًا للعائلة الأكبر، الشعب الفلسطيني، فالجيل الذي عاشَ النكبة غيره الذي عاش النكسة، ومن كان فاعلًا في الانتفاضة الأولى جيلٌ يختلفُ عن الذي أوقد شرارة الانتفاضة الثانية، كما هو الحال مع الهبّة الأخيرة التي حدثت أواخر أيار / مايو من العام الحالي. 

وفي حديثه عن دور أشقائه ابّان الانتفاضة الأولى، يذكر محمد أن منهم من كان منتميًا لكوادر "فتح" ومنهم من كان مع الجهاد الإسلامي، وأنهم كانوا ينسقّون سويًا لعملياتهم ومظاهراتهم وفعالياتهم، الأمر الذي انعكس على ديمومة الانتفاضة، إذ لم تكن مصلحة التنظيم أو الحزب تغلب على المصلحة الكبرى المشتركة. 

كما يستعيد الكاتب دور أهالي بلدة السيلة الحارثية في تنظيم مجموعات شعبية تنافس فيها الأهالي على حراسة مداخل البلدة ومقاومة جيش الاحتلال، الأمر الذي اختلف بعد أن قامت قيادات وشخصيات من خارج البلد بالتدخل ومحاولة تسيير الانتفاضة باتجاه أولويات الفصائل والأحزاب. 

وهذا المثال يستدعي منّا وقفة لتحليل ما يمكن أن نُطلق عليه "مايكرو-مقاومة"، حيث أن مقاومة كل بلدة كان ناجحًا حين كان الأمر بيد أهلها ومن يعرفها بغض النظر عن الحزب أو التنظيم الذي يتبع له، بينما ظهرت الخلافات وفشلت المقاومة في الدفاع عن البلد حين تدخل فيها قيادات من خارجها. 

تشكل الانتفاضة وأحداثها لأبناء فارس جرادات ذكريات جميلة، وعلى الرغم من أن جميع الأشقاء اعتقلوا وعذبّوا في سجون الاحتلال لفترات متفاوتة، فإنهم يشكلون نموذجًا لحياة الفلسطيني تحت ظلم الاستعمار، وأن من يعتقد أن الجيل القادم سينسى، فإن هذه العائلة وغيرها الكثير تثبت لهم أنهم مخطئون. 

في الجزء المتعلق بردّات الفعل، كتب محمد ميعاري عن تفاعل فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948 مع الانتفاضة، ويذكر الكاتب أنها كانت ولازالت تشكل نقطةً خلافية بين الذين تبنّوا موقفًا بصفتهم مواطنين إسرائيليين، والذين يرون أنهم فلسطينيون بالولادة والحراك والالتزام بالقضية برغم حملهم لجنسية دولة الاحتلال. 

ويشير ميعاري إلى حدث شكّل نقطة فارقة في بداية الانتفاضة، وتحديدًا حين تم إعلان الإضراب العام، فما كان من القوى الفاعلة في الأراضي المحتلة عام 48 إلا إعلان عزمها القيام بإضراب استنكارًا للأحداث ومؤيدة للانتفاضة، وهو ما كان في 20/12/1987، الأمر الذي شد من أزر الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية وقطاع غزّة وأعطى دفعة قوية للانتفاضة بحسب ما قاله مروان البرغوثي لميعاري وقتها.

وعودة على علاقة قيادات الداخل بالخارج التي تم مناقشتها سابقًا، يذكر ميعاري ما حدث معه شخصيًا حين تم تكليفه من قبل لجان الانتفاضة في الداخل للقاء أحد قيادات منظمة التحرير في تموز /يوليو 1988 لوضعه بصورة الأحداث وتوضيح مطالب الهيئات وقيادات الداخل، فكان الرد الذي تلقاه صادمًا: "دَشّرنا من الانتفاضة، هاي الانتفاضة أقامتها دولة إسرائيل، حتى تخلق قيادة محلية منافسة لقيادة الخارج في منظمة التحرير الفلسطينية" (ص187).

الفن في زمن الانتفاضة

بعنوان عن الإنتاج الفني في الانتفاضة الفلسطينية الأولى كتب مدير مهرجان رام الله للرقص المعاصر خالد عليان مقالته التي تناول فيها تطور الفنون المختلفة ودورها والأثر الذي أحدثته في تشكيل الوعي الوطني لجيل الانتفاضة. يلاحظ عليان على سبيل المثال استبدال جيل الانتفاضة لصور جمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ  بلوحات وملصقات فنانين فلسطينيين تتحدث عن المقاومة والعودة وتشجع على الوقوف في وجه جيش الاحتلال، كما انتشرت الأغاني التي تنتقد وتعارض الامبريالية والأغاني الثورية سواء كانت لفرق أو مغنين محليين أو من خارج فلسطين. 

يشير عليان إلى النداء الثالث الصادر عن القيادة الوطنية الموحدة في 18/01/1988 والذي دعت فيه القيادة الأكاديميين والمهنيين بمختلف تخصصاتهم للمساهمة في الانتفاضة كل بحسب اختصاصه وقدرته، الأمر الذي أدى إلى تفاعل واسع من قبل الحركة الفنية والفنانين فكانوا يقومون بإنتاج أعمالهم في المساء للمشاركة بها في تظاهرات ومسيرات وفعاليات الصباح. 

يتسائل الكاتب عمّا اذا كانت الحركة الفنية قد حظيت باحترام وتقدير الشعب الفلسطيني وعن القيمة الفنية لإنتاجها، ولا يترك عليان السؤال دون إجابة، بل يورد أن الحركة الفنية قد حازت على هذا التقدير والاحترام من قبل الشعب والقيادة الموحدة للانتفاضة كما أن إسهاماتها قد أدّت دورًا مهمًا في بناء الوعي الجماعي وتشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية. 

لا يخفى أسف عليان على ما وصلت إليه الحالة السياسية والثقافية للواقع الفلسطيني بالاضافة إلى ظلم الاستعمار، والهجوم الذي يتم على أي فعالية أو صورة أو أغنية مختلفة، ويختتم مقالته متفائلًا بالظاهرة الفنية المتمثلة في تعاون وتشابك الفن الفلسطيني ما بين قطاع غزة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948 وفلسطينيي الخارج أيضًا. 

أثر الانتفاضة

فيما يتعلق بأثر الانتفاضة وآثارها، نقرأ في الكتاب دراسة لعلاء العزة بعنوان ممارسات تخليد الانتفاضة 1987: الخطاب والرؤية، وهي دراسة استندت على بحث إثنوغرافي قام به العزة مع ناشطي المقاومة الشعبية ومجموعات شبابية بالاضافة إلى ملاحظات ودراسات متعلقة بالذاكرة وإحياءها وتخليدها متعلقة بالانتفاضة في الضفة الغربية.

يلاحظ العزّة من خلال حواراته التي أجراها مع النشطاء والشباب الذين كان أصغرهم يبلغ إثنا عشر عامًا حينها، أن الانتفاضة حاضرة في ذاكرتهم باعتبارها المرجعية التي يعودون إليها في ممارسة نضالهم اليومي، وأن استخدام تعبيرات مثل "روح" الانتفاضة الاولى وقيمها وأخلاقها حاضر بشكل مكثف في هذه الحوارات، الأمر الذي يشكل حنينًا إلى تلك الفترة من قبل الأفراد الذين عايشوها. 

ومن ضمن ما يلاحظه العزة غياب عمليات تخليد الانتفاضة من جانب السلطة، ويذكر مثالًا على ذلك وجود درس واحد في المنهاج المدرسي الفلسطيني عن الانتفاضة للصف الحادي عشر الفرع الأدبي فقط، ويورد أيضًا مقارنة بين التعابير والمصطلحات التي تصف فترة الانتفاضة الأولى وفترة ما بعد أوسلو، فنجد استخدامًا لتعابير مثل هزيمة، فساد، تمويل أجنبي، تمزق، وتبعية اقتصادية في وصف الواقع ما بعد السلطة، في المقابل توصف فترة الانتفاضة بالانتصار، والنقاء، الإيثار والتبرع، وحدة، واقتصاد مقاوم. 

يخلص العزة في ختام دراسته إلى أن ممارسات تخليد الانتفاضة تبدو كانها ناتجة من منطلق أن الواقع الحالي غير مقبول بالنسبة للفلسطينيين، وهي بذلك تعمل على بعث انتفاضة جديدة لتكون بديلًا عن إفرازات اتفاق أوسلو في الأراضي المحتلة.

خاتمة

بعنوان اللانسيان وضع هيكوك وجرادات خاتمة الكتاب والتي يدعوان فيها إلى المزيد من البحث حول المنسي من تاريخ الانتفاضة، وكما ورد في الدراسات التي يحتويها الكتاب، فإن ميزة الانتفاضة الأولى كانت في وحدة الشعب الفلسطيني نحو هدفه على الرغم من وجود العديد من التنظيمات والحركات والأحزاب حينها، وأن سنوات ما بعد الانتفاضة شهدت انقسامات داخلية إلى أن جاء التقسيم الأسوأ على يد الاحتلال، كما يعوّل الكتابان على النضال الشبابي الحاضر في مواصلة المسيرة، حيث أن هذا الجيل لايزال يبحث عن طريقه الخاص البعيد عن القيادات القديمة التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى ما نراه اليوم من شلل سياسي واقتصادي شبه تام. 

وعلى الرغم من تغطية الكتاب للعديد من الطروحات والزوايا المتعلقة بحدث كبير كالانتفاضة الأولى، إلاّ أن الدراسات والمقالات والندوات الواردة فيه لم تأت على ذكر العمل الفعلي على الأرض، وأهم التنظيمات الداخلية التي برزت أثناء الانتفاضة وتلاشت أو تم اذابتها بعد دخول السلطة، كالفهد الأسود والنجم الأحمر والنسر الأحمر. 

في النهاية، يعتبر الكتاب ذو أهمية كبيرة في تأريخ وتحليل الحدث الفلسطيني الأبرز في الوقت الحديث، لكن الأهم حاليا هو الوقوف على هذه التجربة من وجهة نظر وطنية خالصة وليس فصائلية أو حزبية وذلك لاعادة بث الروح الوحدوية التي أذهلت العالم أجمع وفاجأت المحتل حينها. 

ساهم في الكتاب أيضًا: أمل هاني زايد، عماد الصوص، عمرو سعد الدين، وليد حبّاس، سهاد ظاهر ناشف، ياسمين صالح حمايل، رجا الخالدي، خالد حوراني، عامر شوملي، نادية أبو زاهر، ممدوح العكر، جورج جقمان.