أماكن مغايرة: الذاكرة ما بين الخرسانة والحرير

2021-09-16 10:00:00

أماكن مغايرة: الذاكرة ما بين الخرسانة والحرير

في حالة الفلسطيني المُهجّر؛ تنعكس الذاكرة الجمعية من خلال لوحة الآثار المتبقية لِمقتنيات المنزل، فالذاكرة موجودة، حتى لو كفتات، تفاصيل متراكمة تحت غطاء الزمن يمكن ترجمته كوعي تاريخي للذات التي هي جزء من الكل الذي سلخته النكبة والنكسة عن الماضي الذي لا يمضي،

تفرض ذاكرة النكبة الماضي على المهجرين بكل ما يحمله من تفاصيل، وآثار البيوت ومقتنياتها، وحتى المقابر التي تشهد على الموت لها جانب يشهد على حياة كانت؛ حياة حاضرة في الذاكرة لارتباطها بفكرة الوجود التي ترسو في الذاكرة المحمية بالحرير الأحمر؛ هي ذات اللحظة التي تنبثق منها فكرة القطيعة الإجبارية التي أحدثتها النكبة والنكسة مع المكان. لكن المكان الذي كان من المفترض أن يقف شاهداً على حياة سابقة شوهه المحتل ورممه أكثر من مرة حتى تغيرت معالمه، أما القليل الباقي فتحول إلى فتات بيوت تحتضر. 

ظهرت الأماكن المغايرة التي تمحو وتبطل مفعول ما استبدلت به في الذاكرة في معرض "ما بين الخرسانة والحرير" (مركز خليل السكاكيني، 2012) كبيوت قديمة متهالكة ومقابر وبقايا مقتنيات شخصية تعكس فكرة المتحفة، وكتوابيت وأرقام جثامين تحفظ ذكرى أصحابها، وفي عربة الزمن المتراكم الى ما لانهاية تحت غطاء الحرير التي تحمل ذاكرة التحولات (تسمية الأبناء في أسماء القرى والمدن المهجرة مثل يافا). وأماكن الذاكرة (التجمع المكثف للذكريات والمرتبطة في المكان) لدى اوزمك، لتظهر بعد ذلك محاولة الالتئام التي يحدثها التقاء الصلب بِالمرن لدى الفنانة جوريشا. تبدو هذه المرحلة كصراع بين الماضي المعلَّق بسبب الحدود التي صنعها الآخر"المحتل" والحاضر الذي صنعه المُهجّر؛ حاضر يتجاوز المؤقتية ليغدو المكان الواقعي بيته الجديد، أمّا البيت الأخر المتجسد في لوحة الحروب فليس إلا محض سراب أو ذكرى بدأت بالتحلل، ليس بسبب القسر وحدهما، بل جراء القبول الذي تحدثه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس. 

اختار الحروب العودة إلى الماضي الذي هُجر عنه أصحابه منذ عام 1948 من خلال مجموعة من الصور ذات الإطارات القديمة جسدت مقابر تاريخية. تبدو آثار الزمن على قبور تسكنها أجساد لا نعرفها لها تاريخ يتقاطع مع تاريخ الذين هُجّروا من بيوتهم؛ فظهرت البيوت وكأنها في مراحل متأخرة من التآكل، وما ان نظرت اليها حتى شعرت أن ثمة حالة احتضار. من الطبيعي أن يقابل هذا الاحتضار في الذاكرة حياةً أو ميلادًا لمكان جديد بصرف النظر عن موقعه، فلكل معنى نقيض. هنا قد تطفو مرحلة القطيعة عن المكان لضمان العبور ما بين الماضي المحتضر (المفتت) وميلاد الحاضر للمُهجَّر وتحوله إلى حياة جديدة. أما مقتنيات البيت التي انعكست في اللوحات كالمرآة والكرسي والأقمشة، فظهرت بخلاف البيوت القديمة؛ وجودها مستقر برغم كونه مبتورًا تنقصه الحركة والأجساد، أوهكذا يقدمها لنا ليراكم زمن الجميع ويوقفه في مكان من اختياره. 

من ناحية أخرى. نرى استحالة اختزال البشر بالأرقام في توابيت خالد جراح الخشبية التي تحمل بداخلها جثث مرقّمة مدونة على شواهد التوابيت، أرقام حلّت مكان الأسماء لترسخ فكرة محو الوجود الفلسطيني؛ فالجثة التي لا تحمل اسمًا ولا تاريخ ميلاد أو وفاة مجهولٌ تسقط بالتقادم لتتحول إلى رقم بفعل محتل يتقصد اختزال وجودها.

تتنوع وتمتد منظومة البشاعات التي صنعها الاحتلال. نجد جوريشا تعكسها ظاهرياً من خلال تبيان بشاعة خرسانة جدار الفصل العنصري الذي ربطته بقماش خيمة اللاجئ. وما يختفي خلف ما ظهر في عملها الفني نتاج لقاءات مفتوحة مع الفلسطينيين، تضمنت الشِّعر والنُّصوص الأدبية إلى جانب الصورة لتخلق منطقة ترى أنها نقطة التقاء الصلب بالمرن والفضولي بالغامض، صورتان أو أكثر تندمجان مع بعضهما البعض لِتصبحا صورة واحدة تحاول فيبكة من خلالها تبيان أثر العلاقة بالمكان والسكان على وعيهم الذي أمكن تصوره كحبل سري لا يمكن تخيله دون استحضار الماضي المتمثل بالمكان المتشابك مع حاضر الحداثة وتجلياته، ولا يتم ذلك إلا من خلال الوعي والتواصل بوفرة، فلا مكان للصمت. كسرت فيبكة الصمت بلقاءات مفتوحة لتخلق تواصلًا بين المرن والصلب المقدم باعتباره حلًاً للصعاب الشخصية والاجتماعية للفلسطيني المهجّر؛ لذا يتضح الصمت والصوت كمكان بصري وعنصر فني موجود بين نقائضهما؛ المرونة والصلابة.  

ذات الفعل التواصلي الذي بدأت فيه فيبكة استطاعت كارين أوزمك الغوص فيه عبر تتبع رحلة رجل في مقتبل العمر يجر عربته المغطاة بقماش أحمر، تارة تخاله عامل بناء وتارة أخرى تحسبه فرّاناً، ولربما زبونًا أو عاملًا في مقهى، يحاول إمعان النظر في ذاكرته؛ عربته الغامضة مُحمّلة بتفاصيل المكان والبيت والمقتنيات التي تركها وسنوات الانتظار التي يطوف برفقتها. تخلق هذه الأماكن مشاعر جديدة مرتبطة بذاكرة تعيدنا للماضي وتخلق حالة صراع تحول دون ضرب الجذور في المكان الجديد وتدفع إلى مجهول معلٌق في الفراغ. هذا التعلق أرسى جذور العلاقة بين الرجل وما تحت الغطاء حيث بنيت وتطورت وارتبط فيها الماضي بعناصر أخرى في الحاضر على أمل الحفاظ على الحبل السري مع الحفاظ على العربة مغطاة، إذ أن رفع غطائها يعني الاقتراب من الألم الذي يضع المُهجّر أمام العجز، فهناك عناصر من الألم تختفي خلف ما يمكن أن نراه في الصور وتحت الغطاء؛ ألمُ جرحٍ لم يلتئم بعد؛ فَالتئام الجرح يتطلب التقاء جزئين أحدهما يعيش في الماضي والآخر في الحاضر؛ والالتئام تتحكم فيه سلطة سياسية وطبقات اجتماعية وعلاقات يومية خلقتها حياة جديد بعد قطيعة مع المكان. لذا ما زال الجرح مفتوحاً؛ حتى من خلال المعرض.

تبدو محاولات المعرض في إعادة خلق للماضي كمد جسور بين المُهجّر ومكانه عبر كسر الحدود الزمنية المتخيلة كمحاولة للالتئام بين المُهجّر وبيته؛ لكن المحاولة لم تكتمل، فالاحتلال موجود، والاتفاقيات معه كذلك، والمجتمع الحديث الذي نعيشه يشهد انتقالية متسارعة بدأت فيها معظم، أو إن لم نقل جل أشكال الارتباط بالماضي والمُؤسسة في آن واحد للهوية الجمعية في الاضمحلال التدريجي. كل هذه المعطيات السالفة خلقت البديل الحسي و"الاصطناعي" لذاكرة جمعية لم تعد موجودة تمثلت "بأماكن الذاكرة". هذا البديل انعكاس طبيعي للتقارب بين الحالة الفلسطينية وشروط الصبغة "الذاكرية" التي تحدث عنها بيير نورا والمتمثلة في البعد المادي لأماكن الذاكرة والذي لا يقتصر على أشياء ملموسة (قابلة للمس) ذات طبيعة مادية فقط، كأثار المنزل والمقتنيات والمرآة التي ستكون الشاهد على التبدل، فما إن ينظر فيها المهجر حتى يرى هيكل لجسد لا يعرفه المكان لكن في طيات هذا الجسد وذاكرته سوف يتعرفا لأنه ما زال محتفظ بذلك الماضي وهذا هو المقصود بالبعد الوظيفي لأماكن الذاكرة حسب نورا، فهي تُحقق أو تمارس وظيفة محددة ومضبوطة ضمن المنظومة الاجتماعية، دورها اعادة أو استحضار زمني مؤقت لذكرى أو لذكريات محددة. أما البعد الرمزي، فهو المعنى الرمزي لهذه الذاكرة، مثل المعنى الذي تمثله أرقام الشهداء وبقايا القبور التي تُعتبرُ مكاناً لزمنٍ متوقف ولا يجري.

لنشهد أن حالة انتقال المُهجّر من الذاكرة الجمعية إلى أماكن الذاكرة تعني تجاوز علاقات التمثيل، بحيث يغدو المكان الواقعي بالنسبة له بيتًا جديدًا، أمّا البيت الأخر المتجسد في لوحة الحروب فليس إلا محض سراب أو ذكرى بدأت بالتحلل على الواقع بينما في الذاكرة غير المرئية حسب ما تعكسه أوزمك نجد هذه الذكريات متراكمة تحت غطاء الحرير كالزمن الذي يتراكم الى ما لانهاية والذي يحول وجود الذكريات إلى "مراوحة بين الشيء المفقود، وفقدانه" كما يقول اسماعيل الناشف، أو بمعنى آخر، الاختفاء المتزامن مع الحضور. وإن كان بالإمكان اعتبار ما تراكم تحت الغطاء الحريري في جانب منه أحد الدلالات لوجود الوعي الجمعي بالذاكرة، والتي يمكن اعتبارها ردة فعل على واقع تفتت المنازل وزوالها، أثرها وتحولها لأماكن الذاكرة بفعل المحتل، وانعكاس للتغيير العميق في العلاقات التقليدية التي كانت تربط الفلسطيني بالماضي التي بدأت في الانغلاق والإقصاء في عصر انشغال الفرد بذاته. 

في حالة الفلسطيني المُهجّر؛ تنعكس الذاكرة الجمعية من خلال لوحة الآثار المتبقية لِمقتنيات المنزل، فالذاكرة موجودة، حتى لو كفتات، تفاصيل متراكمة تحت غطاء الزمن يمكن ترجمته كوعي تاريخي للذات التي هي جزء من الكل الذي سلخته النكبة والنكسة عن الماضي الذي لا يمضي، أو العالم الذي فقدناه فلم نعد نسكنه، ولا يخاطبنا إلا من خلال آثار متداخلة وأخرى أمست غامضة تحمل سر ما نحن فيه الآن.