مقدمة "السلطة والحرية، مختارات في الدولة والماركسية ومبادئ الفوضوية" لميخائيل باكونين

فوضوية باكونين

2021-09-23 10:00:00

فوضوية باكونين

تعرّض الفوضويّون إلى هجماتٍ من الطرفين: من الليبراليّين من جهة، الذين تمسّكوا بالفردانيّة، والماركسيّين الذين كانوا يخشون فردانيّة الفوضويّين، المبالغ فيها برأيهم، من جهةٍ أُخرى. على أيّة حال، قدّم باكونين وجهة نظرٍ عن الإنسان تجعله اجتماعيّاً وفردانيّاً في الوقت نفسه: وجهة نظر علميّة، ملتزمة بالتاريخ الفعليّ، لكنّها أيضاً تزرع الأمل في المستقبل. 

الكتاب من ترجمة عدي الزعبي ومؤيد النشار، ويصدر قريباً عن "دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع".

 

تكاد تقتصر كتابات وحياة الثائر الروسيّ ميخائيل باكونين، المؤسّس الفعليّ للفوضويّة، على موضوع وحيد: السُّلطة والحريّة؛ فقد عاش باكونين مشرّداً بين الدول الأوروبيّة وسجونها، وشارك في الثورات والانتفاضات والتمرّدات الخاسرة كلّها في القرن التاسع عشر. لم يتراجع، ولم يستسلم، إلى أنْ سلّم الروح، مؤمناً بثورةٍ قادمةٍ، اشتراكيةٍ تجلب الحريّة بدون سُلطويّة. 

لم يكن باكونين فيلسوفاً بالمعنى الأكاديميّ؛ إذْ لم يدرّس في الجامعات، ولم ينشر أبحاثاً دقيقةً عويصة. بين السجون، وبين الهرب من مدينةٍ إلى أُخرى، وتنظيم الأحزاب والحركات والنضال على الأرض، قطع باكونين لياليَ طوالاً كي يسجّل أفكاره. درس الفلسفة في الجامعة، وتعمّق في التاريخ، وشارك في تحرير الصحف والمجلّات الثوريّة، ولكنّه بقي -أوّلاً وقبل كلّ شيء- مناضلاً ثوريّاً، يعيش الحياة على الأرض يوميّاً.

إذنْ، كتاباته غير متّسقةٍ في كثيرٍ من الأحيان، وفيها تكرارٌ، وغموضٌ، وتسرّعٌ؛ وأفضل أعماله هي تلك المنشورات والكتيّبات التي كان لها أثر هائل على الطبقة العاملة في زمنه؛ إضافةً إلى بعض الأبحاث غير المكتملة، التي عمل عليها مطوّلاً؛ لذا نُشرتْ له عشرات المختارات، التي تحاول استخلاص بعض الأفكار الأوضح من أعماله، ومختاراتنا هذه محاولةٌ مماثلةٌ لتقديم بعض أفكاره. 

نقترح أن أفضل طريقةٍ لفهم باكونين النظر إلى ما كتبه، وما فعله، كجزءٍ من تيّارٍ تحرّريٍّ داخل الحركة والفكر الاشتراكيّين. الخلاف الرئيس بينه وبين ماركس تركّز حول مفهوم السُّلطة والحريّة، وفيما يتعلّق بهذه النقطة، قدّم باكونين مجموعة أفكارٍ: في التنظيم والثورة، والطبيعة البشريّة، ونقد مفاهيم العقد الاجتماعيّ، والدولة، والديمقراطيّة، والانتخابات؛ تترابط، وتتواشج، وتتجاوز -بطريقةٍ مدهشةٍ- الماركسيّة والليبراليّة معاً؛ هذا إسهام باكونين الفكريّ الرئيس. 

يعتقد باكونين أنّ السُّلطات كلّها غير شرعيّة، وأنّ الحريّة الشرط الرئيس لتطوّر الإنسان. وقبل أن نعرض لتفاصيل رؤيته، يجب أن نوضّح أنّ باكونين لم يرفض السُّلطات كلّها بالمُطْلق، وأنّ الفوضويّة ليست الفوضى. تعرّضت الفوضويّة إلى حملةٍ هوجاء لتشويهها، قادها رفاق الدرب: الماركسيّون أوّلاً، ثمّ الليبراليّون، وبالطبع أصحاب السُّلطة التقليديّة؛ ولكنّها حملةٌ ظالمة، وفي الحقيقة، يميّز باكونين بين السُّلطة التي لا تنبع من الأسفل، بل تُفرض على الناس فرضاً، وبين السُّلطة التي تتشكّل من الأسفل، على نحوٍ عضويٍّ وطبيعيٍّ، وتمارس نفوذها ضمن حدودٍ معيّنةٍ ومؤقّتة. نكرّر: لم يرفض الفوضويّون السُّلطة كلّها، ولم يؤيّدوا الفوضى، بلْ على العكس تماماً: كانوا منظّمين على نحوٍ دقيقٍ، وملتزمين بمبادئ واضحة، اشتراكيّة وتحرّريّة. تورّط بعضهم في أعمال عنفٍ وإرهابٍ في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، استهدفت المدنيّين بدون معنى، وهو أمرٌ مؤسف! أدان هذه الأعمال معظم الفوضويّين. لن نبحث هنا في تاريخ الفوضويّة، ولن نبحث في تكتيكاتها، على أهميّتها، إنّما سنركّز على الحريّة والسُّلطة، في هذه المقدّمة، وفي المختارات.

نستطيع تمييز ثلاث نقاط رئيسة في نقاش باكونين عن الحريّة:

أوّلاً، غريزة الحريّة والإنسان الاجتماعي: قد يكون نقد باكونين لفكرة العقد الاجتماعيّ، والإنسان الفردانيّ الحرّ، وبالتالي الأساس الفلسفيّ الذي تُبنى عليه الليبراليّة بأكمله، أحد أفضل إسهاماته وأكثرها إثارة. يقول الليبراليّون: إنّ الإنسان فردٌ منعزلٌ، يدخل عقداً اجتماعيّاً مع الآخرين، ويتنازل عن جزءٍ من حريّته، كي يعيش في مجتمعٍ متحضَرٍ ويبني دولة؛ وقبل العقد، كان الإنسان حرّاً، ولكنّه خائفٌ، ومتوحّشٌ، وهمجيٌّ، وإنّ الحضارة بدأت مع توقيع العقد الاجتماعيّ. 

باكونين يرفض ذلك كلّه؛ لا يوجد عقدٌ اجتماعيٌّ، ولم يوجد يوماً. الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بالفطرة، والإنسان الأوّل وُجد ضمن مجتمع: المجتمع سابق على الدولة، والأخلاق والحريّة موجودتان في هذا المجتمع. الغريزة الاجتماعيّة أصيلة، ولا تتطلّب التنازل عن حريّة الإنسان. إذنْ، الخطوة الأولى، تكمن في تحطيم أسطورة الإنسان الحرّ الفرداني.

تاريخيّاً، كلام باكونين صحيحٌ مئة بالمئة؛ فالإنسان الأوّل وُجد في مجتمعٍ، والعقد الاجتماعيّ أسطورة. ديفيد هيوم، عبقريّ التنوير، سبق باكونين في نقد العقد الاجتماعيّ، وشرح أنّ بعض من قال بالعقد الاجتماعيّ كان يؤكّد أنّها نقطةٌ منطقيّةٌ، وليست تاريخيّةً، كما أنّها استُخدمت لتحدّي نظريّة الحقّ الإلهيّ للملوك؛ هذا كلّه صحيح، ولكنّها استُخدمت -أيضاً- لتسويغ الليبراليّة وعبادة الدولة. باكونين، من جهته، يدفع بنقده إلى نقطةٍ أهمّ: الدولة لم تتأسّس لبناء الحضارة وضمان الأمن، فالدول كلّها تأسّست تاريخيّاً على العنف، والنهب، والسرقة، والقتل. أساس الدول القائمة اليوم غير شرعيّ. 

يضيف باكونين إلى الإنسان الاجتماعيّ غريزة الحريّة: الحريّة غريزةٌ في البشر، لا يمكن التخلّص منها، بل إنّها تشكّل أساس وجودنا وكرامتنا وطبيعتنا، ولن تستطيع أيّة قوّةٍ، سواء كانت استعماريّةً أو دينيّةً أو قوميّةً، القضاء على غريزة الحريّة. يقاوم الناس الاستبداد بشكليه: الخارجيّ والداخليّ، باستمرار. هناك صعوبةٌ كبيرةٌ في تأسيس هذه النظريّة -على العكس من نظريّة الكائن الاجتماعيّ- على أسسٍ علميّةٍ، كما يؤكّد أحد المؤمنين بها بشدّة، الفوضويّ تشومسكي؛ ولكنّ تشومسكي يضيف، أنّ النظريّة المعاكسة القائلة بأنّ الحريّة ليست غريزةً، أيضاً يكاد يستحيل تأسيسها علميّاً. 

على أيّة حال، غريزة الحريّة ستجعل باكونين، وبطريقةٍ استثنائيّةٍ، يعادي الاستعمار بأشكاله كافّةً، وللرجل موقف متقدّم جدّاً بخصوص الشعوب المقهورة المحتلّة، ويتفوّق أخلاقيّاً على كارل ماركس الاشتراكيّ، وجون ستيوارت مل الليبراليّ، المعاصرَيْن له، وهذا أمرٌ فريدٌ تقريباً، في سياق ثقافة القرن التاسع عشر الأوروبيّة. 

تعرّض الفوضويّون إلى هجماتٍ من الطرفين: من الليبراليّين من جهة، الذين تمسّكوا بالفردانيّة، والماركسيّين الذين كانوا يخشون فردانيّة الفوضويّين، المبالغ فيها برأيهم، من جهةٍ أُخرى. على أيّة حال، قدّم باكونين وجهة نظرٍ عن الإنسان تجعله اجتماعيّاً وفردانيّاً في الوقت نفسه: وجهة نظر علميّة، ملتزمة بالتاريخ الفعليّ، لكنّها أيضاً تزرع الأمل في المستقبل. 

ثانياً، الدولة: يرى باكونين في الدولة شرّاً مطلقاً، ومثل ماركس، يعتقد أنّ الدولة يجب أن تزول. فالدولة كائنٌ اصطناعيٌّ يُستخدم لقمع الناس، ولكن خلافه مع ماركس كبيرٌ جدّاً، وأثّر على نحوٍ كارثيٍّ على الحركة الاشتراكيّة. سنعرض سريعاً فقط الأفكار الرئيسة في الخلاف حول الدولة والسُّلطة. 

يريد ماركس أن يؤسّس دولةً مؤقّتةً تمهّد لقيام مجتمعٍ اشتراكيٍّ، يقودها الشيوعيّون. يرفض باكونين ذلك بشدّة، وحجّته بسيطة، أوّلاً: هذه الدولة ستكون سُلطويّةً؛ لأنّ الدول كلّها سُلطويّة. ثانياً: ستسعى هذه الدولة إلى السيطرة على الناس، وستتحوّل الطبقة الحاكمة الجديدة إلى أرستقراطيّةٍ قامعةٍ تتحكّم بالناس بطريقةٍ لا مثيل لها حتّى في الدول الرأسماليّة؛ لأنّ الدولة هنا تملك الاقتصاد، والسياسة، والإدارة، وكلّ شيء. ومع الأسف، أثبتت تنبّؤاته صحّتها في الاتّحاد السوفييتيّ. 

ثالثاً، العلم: رفض باكونين على نحوٍ قاطعٍ محاولة جعل العلم يحكم الناس، وموقفه فريدٌ في القرن التاسع عشر، عندما كانت عبادة العلم شائعةً على نحوٍ كامل؛ فالماركسيّون والليبراليّون والوضعيّون وغيرهم سلّموا بسُلطة العلم، وباكونين وحْده تقريباً رفضها، بدون أن يرفض العلم. الرومانسيّون والمتديّنون مالوا إلى مواقفَ رجعيّةٍ ضدّ العلم، ومشكّكة به. على العكس، احتفى باكونين بالعلم، ورفض أن يكون له سُلطة سياسيّة، وحجّته نفسها في كلّ مرّة، وهي: أنّ السُّلطة السياسيّة تجعل العلماء طبقةً سياسيّةً أرستقراطيّةً جديدةً تتحكّم بالناس، وهذا -بالتأكيد- ليس دور العلم في المجتمع. كما رفض الدين على نحوٍ مطلق، وأدان الكنيسة، ودعا إلى تحطيمها مع الدولة. 
 


خلف هذا كلّه، نجد قناعة باكونين الكاملة والصارمة بأنّ السُّلطة تفسد الناس، الناس كلّهم:

"الامتيازات والمناصب كلّها المرافقة لها تغتال قلوب وعقول البشر، وصاحبُ الامتيازات السياسيّة، أو الاقتصاديّة، فاسد العقل والقلب؛ هذا قانونٌ اجتماعيٌّ لا استثناء له، ويمكن تطبيقه على الأمم كلّها كما على الطبقات كلّها، وعلى الشركات كما على الأفراد".

….

المختارات هذه تُقسم إلى ثلاثة أجزاء: 

أولاً: مختارات من كتاب "الله والدولة"، وفيها ثلاثة نصوصٍ: الأوّل عن طبيعة الإنسان، والثاني عن السُّلطة والعلم، والثالث عن الإنسان والمجتمع. 

ثانياً: "الفيدراليّة، الاشتراكية، نقد نظريّة روسو في الدولة". هذا العمل الشهير يعالج فيه باكونين هذه القضايا الثلاث بوضوحٍ ومباشرةً. 

ثالثاً: نقد الماركسيّة، وفيها ينتقد باكونين التصوّر الماركسيّ للدولة، ثمّ للتاريخ، وعرضنا للموضوع الأوّل أعلاه؛ أمّا نقد فلسفة التاريخ الماركسيّة، فغريبٌ بعض الشيء. يسلّم باكونين، مثل ماركس، بالحتميّة التاريخيّة، ولكنّه يحتجّ على احتفاء ماركس بالأحداث التاريخيّة كلّها، بما فيها الدمويّة، والتي أتت بسُلطاتٍ رجعيّةٍ ومتوحّشةٍ. يرى باكونين في هذه الأحداث أموراً سيّئةً، حتّى لو كانت حتميّة. الفوضويّون: باكونين، وكروبوتكين، وغيرهم، كانوا مرتبكين بخصوص فلسفة التاريخ، فمن جهةٍ نقدوا احتفاء الماركسيّين بالأحداث الدمويّة التي قام بها رجعيّون، ومن جهةٍ أُخرى رأوا في تمسّك الماركسيّة بالحتميّة التاريخيّة تخلّياً عن دور الفرد الحرّ. ولكنّهم لم يكونوا متّسقين، طالما سلّموا بالحتميّة التاريخيّة. وفي القرن العشرين، سيرفض الليبراليّون -على أسسٍ علميّةٍ مقنعةٍ، ككارل بوبر، وإيزايا برلين- الحتميّة التاريخيّة نفسها، كما سيرفضها فوضويّان شهيران: برتراند راسل، ونعوم تشومسكي، على الأسس نفسها. إذنْ، بعض أفكار باكونين مستمدّةٌ ممّا هو سائدٌ في القرن التاسع عشر، فقد رفض الميتافيزيقا، وكان مؤمناً بشدة بالماديّة وبالحتميّة التاريخيّة، على سبيل المثال. أنا أجد هذه الأفكار الثلاث غير مقنعة، ولكنْ لا يتّسع المجال لمناقشتها هنا، ومثل راسل وتشومسكي، لا أعتقد أنّ هذه الأفكار الفلسفيّة ضروريّةٌ للتحرّر، وأعتقد -مثلهما- أنّ على الماركسيّين والفوضويّين تجاوزها. 

الخاتمة الصغيرة نصٌّ كتبه باكونين عن نفسه بعنوان: "من أنا؟"، يشرح فيه ببساطةٍ عشقه للحريّة، والتزامه بالنضال، بتواضعٍ محبّبٍ صادق. 

هناك أيضاً مُلحقان: الأوّل: نصّ "في السُّلطة" لفردريك إنجلز، الذي يشكّل أشهر ردٍّ ماركسيٍّ على أطروحات باكونين. هذا الردّ القاسي والعنيف، يطرح أمرين بغاية الأهميّة: أوّلاً: سوء فهمٍ للفوضويّة، مقصود ربّما، بتصويرها كحركةٍ ترفض وجود أيّة سُلطةٍ، وتؤدّي إلى الفوضى، ولا تفهم شيئاً ممّا تتكلّم عنه. الثاني: على العكس، يطرح مشكلةً عويصةً للفوضويّة: كيف يمكن قيام ثورةٍ بدون سُلطة؟ وكيف يمكن نجاح الثورة بدون سُلطةٍ مركزيّةٍ قويّة؟ لا توجد إجابةٌ مقنعةٌ من الفوضويّين. 

الملحق الثاني: "مختصر سيرة باكونين"، بقلم رفيقه في النضال والسجون "جيمس غيوم". النصُّ شهيرٌ جدّاً، وأساسيٌّ لفهم باكونين، والنصُّ -بالطبع- غير محايدٍ، ومكتوبٌ بقلم تلميذٍ ومحبٍّ لباكونين، وهذا لا يقلّل من قيمته، بل قد يساعدنا على فهم تصوّر الفوضويّين أنفسهم لنضالهم. 

….

أودّ أن أوضح نقطةً حول التركيز على الخلاف مع الماركسيّة في هذه المختارات. هذا أمرٌ لا مهرب منه، ولكنّني لا أريد أن يُقرأ الكتاب كمحاولةٍ لتفنيد الماركسيّة. على العكس، الفوضويّة الشقيقة الصغرى للماركسيّة، ويؤكّد باكونين تأثّره وإعجابه بماركس مرّاتٍ كثيرة. التركيز على الماركسيّة سببه تاريخيٌّ، أي: الصراع بين الماركسيّين والفوضويّين في الأمميّة الأولى، وانعكاس ذلك في كتابات باكونين. كما يتيح هذا التركيز فهم الفوضويّة بمقارنتها بأفكار الماركسيّة التي اصطدمت معها. في النهاية، الفوضويّة حركةٌ اشتراكيّةٌ، أرادات تصحيح بعض مظاهر السُّلطويّة في الماركسيّة. 

….

ختاماً، ملحوظات سريعة حول تقديم باكونين إلى القرّاء العرب. 

لم يُترجم الكثير لباكونين، أو للفوضويين عموماً، إلى العربيّة، وهذا أمرٌ مؤسفٌ حقّاً، وفيما يلي محاولة متواضعة لشرح أهميّة الفوضويّة اليوم.

قدّمت الليبراليّة مفهوم الحريّة، ودافعت عنه، ووصلت الديمقراطيّة التمثيليّة إلى طريقٍ مسدود، بجعلها الحريّة الاقتصاديّة غير أساسيّة، فأصبحت هذه الديمقراطيّة عاجزةً، بل وقمعيّة: الأغنياء يتحكّمون بالناس، وعلى ذلك فالانتخابات الحرّة تنحو إلى أن تكون شكليّةً تماماً. كيف نستطيع تطوير نظامٍ تحرّريٍّ أعمق؟ الماركسيّة قدّمت نقداً لاذعاً لليبراليّة، وأوضحت -بما لا يدع مجالاً للشكّ- أنّ غياب الحريّة الاقتصاديّة يعني سقوط الحريّة بأنواعها كلّها، لكنّها أخفقت في تقديم نموذجٍ مقنعٍ للتحرّر، بل إنّ النماذج التي بُنيت عليها، أي: الصين والاتّحاد السوفييتيّ، كارثيّةٌ واستبداديّةٌ كليّاً. قامت الفوضوية بنقد الطرفين السُّلطويّيْن برأيها، بلْ قامت بنقد أشكال السُّلطة كلّها من جذورها، خاصّةً تلك الأخطر، أي تلك المتخفّية تحت قناع الحريّة: السُّلطة كما تتجلّى في الدولة الليبراليّة، وفي الممارسات والدولة الماركسيّة. 

بالعودة إلى نقد إنجلز للفوضويّة، تعاني الفوضويّة مشكلةً في تقديم تصوّرٍ إيجابيٍّ لتنظيم نفسها. ربّما الزمن الآن مختلف، والصراع حول الثورة الاشتراكيّة التي تدقّ الأبواب، وكيفيّة تنظيم أنفسنا لنكسر الأبواب بسرعة، ليس بالأهميّة نفسها. ولكنْ يبقى التساؤل قائماً حول طبيعة التنظيم الذي يمكن لنا، كاشتراكيّين، التفكير به، بدون أن يكون ماركسيّاً سُلطويّاً، ويكون في الوقت نفسه فعّالاً. وأكثر من ذلك، كيف يستطيع الفوضويّون تنظيم أنفسهم، ومواجهة التحدّيات، وبناء المجتمع الاشتراكيّ، لو التزموا بالحريّة، ورفضوا السُّلطة، على طريقة باكونين؟ نجح الفوضويّون أحياناً، وأخفقوا أحياناً أخرى، هذا الأمر يحتاج نقاشاتٍ طويلة. 

هذه النقاشات ستكون مفيدةً جدّاً، ولكنّنا لا ندعو إلى التمسّك بمذهب الفوضويّة، ولا نريد مواجهة الماركسيّة والليبراليّة بمذهبٍ آخر مكتملٍ نحاربهم به؛ فنحن لا نعيش اليوم في القرن التاسع عشر، وكلٌّ من هذه المذاهب قد طوّر نفسه في اتّجاهاتٍ مختلفةٍ، نتيجة للظروف الجديدة التي عاشها. ولكنّنا، بالتأكيد، ندعو إلى الاستفادة من عالم باكونين المذهل، ومن التفكّر به، ومن محاولة العمل بأنفسنا على تطوير تيّارٍ اشتراكيٍّ تحرّريٍّ، يحقّق الحريّة، ويرفض السُّلطة. هذه المختارات تشكّل واحدةً من ذرى الفكر الإنسانيّ في تشريح السُّلطة والحريّة، ونأمل بأن تشجّع على فتح نقاشٍ متجدّدٍ حول ماهيّة الحريّة، وماهيّة السُّلطة، على نحوٍ عميقٍ وجديدٍ، يستجيب للتحدّيات والآمال التي أطلقها الربيع العربيّ منذ سنة 2010. 

لا يبقى لنا إلّا أن نستشهد بكلمات باكونين الرنّانة، التي تصلح اليوم، كما كانت صالحةً قبل قرنٍ ونصفٍ من الزمن، عن الحريّة الليبراليّة التي تتحوّل إلى وهمٍ وديكتاتوريّةٍ للأغنياء يتحكّمون فيها بالناس بسبب غياب التوزيع الاقتصاديّ العادل، وعن الاشتراكيّة التي تتحوّل إلى كابوسٍ مظلمٍ مليءٍ بالطغيان بدون الحريّات الليبراليّة: 

"الحريّة بدون اشتراكيّة طغيانٌ وظلمٌ؛ الاشتراكيّة بدون حريّةٍ عبوديّةٌ ووحشيّة".

….

ملحوظة حول الترجمة عن الإنجليزيّة: معظم المختارات صدرت بالأصل بالفرنسيّة، التي كان باكونين يكتب بها كثيراً؛ وبعضها صدر بالروسيّة، وترجمناها جميعاً عن الإنجليزيّة. كذلك نصّ غيوم مكتوب بالفرنسيّة بالأصل وترجمناه عن الإنكليزية. أمّا نصّ إنجلز، فقد صدر بالإيطاليّة في الأصل، وترجمناه عن الترجمة الإنجليزيّة التي قام بها روبرت تاكر. 

اعتمدت على نحوٍ رئيسٍ على الكتاب التالي: 

Bakunin on Anarchy, Edited, Translated and with an Introduction by Sam Dolgoff, Published in 1971, by Vintage Books.

كما استفدت كثيراً من هوامش المترجم الإنجليزي. بعض الهوامش في كتابنا تعود إلى باكونين، وبعضها إلى غيوم، الذي حرّر بعض نصوص باكونين عند صدورها بالفرنسيّة، وبعضها للمترجم الإنجليزيّ، كما أضفنا أنا ومؤيّد النشار بعض الهوامش، وأشرنا في نهاية كلّ هامشٍ إلى صاحبه.

نأمل أنْ تصدر ترجماتٌ أُخرى لأعمال باكونين، مباشرةً عن الفرنسيّة والروسيّة، وستكون بالطبع أدقّ وأكثر علميّةً ومصداقيّةً من ترجمتنا هذه الوسيطة عن الإنجليزية؛ وعُذرنا في ترجمة هذه الأعمال عن لغةٍ وسيطةٍ هو اهتمامنا بأعمال باكونين، وبمبادئ الفوضويّة، ورغبتنا بتوفير مدخلٍ مناسبٍ لأفكاره الرئيسة باللغة العربيّة، التي تجاهلتها الثقافة العربيّة لمدّةٍ طويلةٍ جدّاً.