"الاحتجاج الشعبي في فلسطين": تتبّعٌ للمقاومة غير المسلحة

2021-10-20 13:00:00

ومن خلال التحليل، تبيّن للمؤلفين أن الفلسطينيين يفتقدون وحدهم القوة القادرة على التأثير في الإسرائيليين لجعلهم يغيرون موقفهم، ولكن في هذا العصر إذ تمارس الحركات الاجتماعية العالمية التي تتخطى الحدود الوطنية تأثيرًا في الرأي العام حول العالم، بالتالي في القادة السياسيين وصنّاع القرار.

إنّ كتاب "الاحتجاج الشعبي في فلسطين: المستقبل المجهول للمقاومة غير المسلحة" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018، للمؤلفين روان درويش وأندرو ريغبي، لا يستمد أهميته من كونه يقدم مراجعة تاريخية لتسلسل المقاومة المدنية غير المسلحة عبر تاريخ النضال الفلسطيني، استنادًا إلى مجموعة كبيرة من الأعمال البحثية والأدبيات بشأن المقاومة المدنية وحسب، ولكن في بحثه الدقيق عن الطرق التي حاول فيها الفلسطينيون ومناصروهم من خلالها استخدام أساليب المقاومة السلمية، وأسباب فشلها في تسجيل أي تقدم ملموس في اتجاه تحقيق هدفها الأساسي في إنهاء الاحتلال.

يحدد المؤلفان الافتراضات الأساسية المتعلقة بديناميات المقاومة المدنية، ومنها القوة التابعة، وأهمية تحديد ركائز الدعم الأساسية لنظام ما واستكشاف سبل تقويضها، كما شددا على أهمية تأثير المقاومين غير العنيفين في سياسات النظام من خلال القيام بنشاطات تزيد تكلفة سياساته القمعية. وفي أشكال العمل غير العنيف، يحدد درويش وريغبي، خمسة أشكال: المقاومة الرمزية، والمقاومة الجدلية، والمقاومة الهجومية، والمقاومة الدفاعية، والمقاومة البناءة.

وفي العمق، يحاول الكتاب تحديد جملة من الشروط والأوضاع التي من شأنها تقوية احتمال قيام حركة مقاومة مدنية غير مسلحة، تحمل المؤهلات الذاتية للاستدامة، وتحقق تقدمًا في اتجاه تحقيق أهدافها وتحسينها، ولا يمكن لذلك أن يحدث من دون القدرة على صوغ استراتيجيا واضحة قابلة للتحقق، مع جملة من الخطط التكتيكية، ونمو حس تنظيمي قوي على مستويات الحركة، تعززه مشاركة أشخاص لديهم خبرة بالمقاومة غير العنيفة. 

يغطي الكتاب الاحتجاج الشعبي خلال الحقبة التاريخية الممتدة منذ الحكم العثماني وحتى فترة ما بعد الانتفاضة الثانية. يتتبع المؤلفان مسار المقاومة الفلسطينية غير المسلحة ضد مصادرة أراضي الفلسطينيين وتهديد مصادر رزقهم الذي طرحته الهجرة اليهودية قبل تأسيس دولة "إسرائيل"، ويتضّح في عرض هذا المسار، أنه خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، كيف تأثر هذا الكفاح ضد المشروع الصهيوني، ومنذ البداية، بالتحزب والانقسام اللذين عكسا، جزئيًّا، طبيعة الشرذمة التي عانى جرّاءها المجتمع الفلسطيني. ومن ناحية أخرى، فإن الصراع الدامي وطغيان قوة السلاح أغلقا الباب أمام أي مبادرات غير مسلحة، إذ كيف يمكن الحديث عن المقاومة السلمية أمام مجازر العصابات الصهيونية التي كانت في أوجها.

ويتوقف الكتاب عند الأشكال الهادئة من النضال، التي اتبعها الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم، وتحولوا إلى جماعة غريبة بعد إقامة دولة إسرائيل، للبقاء في قيد الحياة بمواجهة أوضاع حياتية شديدة القسوة ترافقت مع تشريدهم، من أبرزها المقاومة من خلال الزراعة، والمقاومة الرمزية من خلال التمسك بالثقافة والهوية، فأصبحت الأعراس والمناسبات الوطنية والدينية منابر للتعبير عن الموقف السياسي، وأداء الأناشيد الوطنية وسيلة هادئة لتحدي الحكم العسكري. وخلال العقد الثاني بدأوا بالانتقال من أشكال المقاومة الهادئة، إلى أشكال مسموعة وظاهرة أكثر من الاحتجاج والمقاومة، فاكتسب هذا التطور زخمًا كبيرًا بعد حرب 1967، بعد أن تمكن الفلسطينيون داخل إسرائيل، من إعادة التواصل مباشرة مع أهلهم ومواطنيهم. 

يرى مؤلفا الكتاب أنه بعد انتهاء تمجيد "الكفاح المسلح" بصفته الطريق الوحيد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفشل هذا النمط من المواجهة، ساهم في انطلاقة الانتفاضة الأولى، وهي فترة ممتدة من المقاومة الشعبية غير المسلحة، تلاشت بعد فشل ما يسمى "عملية السلام"، الذي زرع بذور الانتفاضة الثانية ما أتاح لدولة إسرائيل إيجاد مبرر لبناء جدار الفصل الذي مكّنها من قضم مزيد من أراضي الفلسطينيين المتضائلة. ثم ظهرت جيوب للمقاومة الشعبية ذات "عمر افتراضي" واضح، فالاحتجاجات كانت، في الغالب، تظهر كردة فعل على تهديدات فورية لأسلوب عيش الناس وأرزاقهم جرّاء بناء الجدار وتعديات المستعمرات المتواصلة على الأراضي الفلسطينية. 

ومن خلال التحليل، تبيّن للمؤلفين أن الفلسطينيين يفتقدون وحدهم القوة القادرة على التأثير في الإسرائيليين لجعلهم يغيرون موقفهم، ولكن في هذا العصر إذ تمارس الحركات الاجتماعية العالمية التي تتخطى الحدود الوطنية تأثيرًا في الرأي العام حول العالم، بالتالي في القادة السياسيين وصنّاع القرار. في هذا الإطار، يصبح للمقاومة الشعبية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة معنى خاص، إذ يمكن للفلسطينيين توسيع قاعدة مؤيديهم على المستوى العالمي، ومواصلة تعرية ممارسات النظام الإسرائيلي في نظر الدوائر المتعاطفة معه حول العالم.

ويمكن للفلسطينيين من تطوير استراتيجيا للمقاومة، يصبح فيه الثمن المالي والإنساني والدبلوماسي الذي تتحمله إسرائيل في مواصلة الاحتلال عبئًا على الجمهور وقادته السياسيين، عبر حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، كما يصبح العنف الذي يقوم عليه الاحتلال ظاهرًا لقطاعات واسعة من المهتمين حول العالم، يجد معه القادة السياسيون في الدول التي تجعل الاحتلال ممكنًا صعوبة في الإحجام عن ممارسة ضغوط على إسرائيل كي تطلب السلام.

يأتي الكتاب في ثمانية فصول، مصحوبة بمقدمة وخاتمة: "المقاومة الفلسطينية لقيام دولة إسرائيل"، و"الفلسطينيون في إسرائيل: من المقاومة الهادئة إلى الاحتجاج المسموع والحراك السياسي"، و"من النكبة إلى جدار الفصل: 1948 – 2002"، و"تجدد المقاومة الشعبية 2002 – 2013"، و"التحديات التي تواجهها المقاومة الشعبية الفلسطينية"، و "دور ناشطي السلام والتضامن الإسرائيليين"، و"الإغاثة والمناصرة والصمود: دور هيئات الإغاثة الإنسانية الدولية"، و"حلقات في السلسلة – وسائل ضغط دولية؟"

ومن أهم ما توصل إليه، وتضمنته الخاتمة، أن المقاومة الشعبية الفلسطينية لم تترك، عمليًا، منذ الانتفاضة الثانية، أي تأثير مهم في شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي. وعلى الرغم من غياب التأثير في الجمهور الإسرائيلي وصناع القرار، فإنها أثرت في مشاعر شبكة واسعة من الناشطين عبر العالم، إذ غذت المقاومة الشعبية اتساع حركة متنامية من التضامن الدولي لمصلحة إنهاء الاحتلال، ويشدد على أنّها الشكل الأهم من النضال في المنعطف الراهن.