سياسة الإقصاء الجديدة: غزة كمقدمة (ترجمة)

2021-11-16 10:00:00

سياسة الإقصاء الجديدة: غزة كمقدمة (ترجمة)
Herakut, Eyes of Gaza, photo Falk Lehmann

حسب هذه الطريقة فإن المعضلات الأخلاقيّة تُترجمُ إلى نظام مشين للعد، يُعَرفُ على أنّه "إنسانيّ". هذا النوع من الأخلاقيات هو في الصميم غير أخلاقي وغير إنسانيّ، فهو يهدف إلى نزع الشرعية والقضاء على كلّ مواقع الالتقاء مع الآخر، حيثُ لا مكان للتعاطف والتعاضد أو لخلق علاقات، حيثُ لا توجدُ المأساة والشعر.

كتبها كل من اِيفار ايكلاند، وسارة روي ونشرت في themarkaz، في ١٥/١٠/٢٠٢١.
 

بدأَ يتبلورُ نوعٌ جديد من السياسة في الديمقراطيات الغربية، وربما أفضل تصنيف لهذه السياسة أنّها تقوم على الشّرذمة. هنا يتخذ الجدل السياسي طابعاً معلوماتياً وبصرياً، ويتسمُ بالتشظي وعدم الترابط، فهو بلا بنيّة أو حدود، ولذلك فهو جدل عابر وآنّي. وفي هذا السياق، يطرحُ المؤرخ مارتن كونويه (١) فكرة أنّ العَقد السياسي الذي عَمر طويلاً بين المواطن الذي يصوّت ويمتثل للقانون ويدفع الضريبة، اِلخ. والدولة التي توفرُ العديد من الخدمات الاجتماعية وغيرها مقابل ذلك في طريقه إلى التراجع، ويزدادُ مع ذلك تراجع أهميّة ما معنى أن تكونَ مُمثَلاً سياسياً، وما معنى أن تكونَ مواطناً. فلأنّ الدولة توفر القليل يشعرُ المواطن بالتزام أقل وأقل تجاهها. وبهذا فإن أزمة الشرعيّة الناتجة عن ذلك تؤدي إلى نوع جديد من صناعة القرار الفردي من قِبلِ المواطنين الذين يريدون "أخذ زمام الأمور فيما يتعلق بمنطقتهم ومجتمعهم المحلي، وأيضاً أن يكونَ لديهم القدرة على اِتّخاذ القرار بخصوص ما يريدون لأنفسهم، بعيداً عن الآخرين، مثل الحكومة، التي تقرّر ما هو خيرٌ لهم." (٢)

يقودنا ما سبق إلى اسئلة مثيرة للاهتمام، وهي: كيف تحكم مجتمع لا يريد أن يتمَّ التحكم به؟ ماذا تصبح السياسة عندما تختفي الأعراف الديمقراطية والرؤى الأيديولوجية؟ والإجابة على ذلك تكمن في أنّ القوانين والأعراف تتراجع، وتصبحُ الاستثناءات هي القوانين الجديدة، وتحدّدُ الأعراف الجديدة. وفي هذا الإطار، تمثلُ غزة مختبراً حيثُ يتمّ تجريب هذه الأعراف.

منذ أرسطو والسياسة تعرفُ على أنّها محادثة بين الناس الذين حدثَ أنّهم يتقاسمون أرضاً مشتركة ويحاولون أن يجدوا الطريقة الأنسب للعيش المشترك. تضمحل هذه الأرضيّة المشتركة في أيام الناس هذه، فكون الناس يتقاسمون أرضاً لم يعد أساساً متيناً بما يكفي لتقاسم مستقبل مشترك. أشارت حنة أرندت إلى هذه الحالة بصورة قوية، ففي كتابها "الإرباكات حول حق الإنسان" تطرح فكرة "أنَّ الحرمان الأساسي من حقوق الإنسان يتم التعبير عنه بالمقام الأول من خلال حرمان الإنسان من مكان ما في العالم، مكانٌ يجعل الأراء مهمة والأفعال مؤثرة. شئٌ ما أكثر أصالةً من الحرية والعدالة وهي حقوق المواطنين على المحك هنا، حيث يتعلق الأمر بالإنتماء لمجمتع ولدَ فيه الفرد ولم يعد هذا أمراً بديهياً ذا أهميّة، وكذلك لم يعد أمراً يخضعُ لحرية الاِختيار...ذلك هو الإقصاء، ولا شيء آخر"، تستدرك أرندت قائلةً، "هي حالة الناسِ المحرومين من حقوق الإنسان. فهم ليسوا فقط محرومين من الحق في الحرية ولكن أيضاً الحق في الفعل والنشاط، ليس فقط الحق في التفكير فيما يروه مناسباً، ولكن الحق في أن يكونَ لهم رأيٌ."(٣) وعندما تكونُ الأمور بهذه الطريقة، تقول أرندت، فإنّ الناسَ "يُجبرون على العيش خارج إطار العالم المعهود...بلا مهنة، وبلا مواطنة، وبلا رأي، وبلا عمل يُشارُ إليهم ويُعَرِفونَ أنفسهم من خلاله".(٤) لقد حفزها على قول هذا مأساة اللاجئين الأوروبيين خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن الآن هناك غزة.

تأصيل الاستثناء: غزة أنموذجاً 

لماذا غزة؟ تلك الأرض التي تقع على مساحة 140 ميلاً مربعاً، وهي بلا موارد مثل الأرض والمياة والكهرباء، وهي عبارة عن اِقتصاد مدمر غير فعال، بدون قاعدة صناعيّة تُذكرُ، ويعيشُ فيها أكثر من مليوني شخص، أكثر من نصفهم أطفال، ومعظمهم لاجئين بمعدلات عالية من البطالة والفقر، ويعتمدون بشكل طاغٍ على مساعدات اِغاثيّة، وهم كذلك سجناء تقريباً كلياً خلف جدار عسكري، وتحت مراقبة دائمة من الجو.

ومع ذلك فإن مساحة غزة الصغيرة وبؤسها وهشاشتها المستمرة تتخطى حدود أهميتها العميقة، التي لم يتم فهمها، بل وتمّ تجاهلها، الاّ من اسرائيل. لماذا جعلت إسرائيل من غزة استثناءً وكيفَ فعلت ذلك؟

منذ بداية الاحتلال وإسرائيل لم تعرف ماذا تفعل بغزة. تاريخياً، تعرفُ غزة بأنّها مركز الوطنية الفلسطينية والمقاومة للاحتلال الإسرائيلي، فلقد بقيت بالرغم من أوقات من الهدوء بؤرة تحدّ، ورفضت الحكم الإسرائيلي. وقد ظهرت نقطة التحول في تعامل إسرائيل مع غزة خلال الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، حيثُ غيّرت نظرة إسرائيل إلى الفلسطينيين، (ونظرة الفلسطينيين إلى أنفسهم أيضاً). حينئذٍ وخصوصاً في السنوات الأولى للانتفاضة ظهرت طرق جديدة غير مسبوقة للتعامل مع الفلسطينيين. فمن ناحية، أظهر الفلسطينيون أنّهم قادرون على التنظيم والعمل كجماعة، وأنهم على قدر من الانضباط والترابط على المستوى المحلي وأكثر.

فلقد عبروا عن مطالب واضحة، مصرين على حلٍ سياسي يتضمنُ توافقاً لطالما رفضته إسرائيل على الدوام. وبالإضافة إلى ذلك، فلقد غيروا بنجاح نقطة المرجعية السياسية في النقاش التاريخي المتمحور حول إسرائيل، إلى دولة (فلسطينية) لهم تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. ولبرهة من الوقت، وإن كانت قصيرة، عمل الفلسطينيون كمجموعة وطنية واحدة، أجبرت إسرائيل على التعامل الدبلوماسي، وعلى قواعد وأرضيّة ليست تماماً إسرائيلية. أظهر الفلسطينيون أنّ بإمكانهم التعبير عن تاريخهم، أي عن تاريخٍ لم يكنْ لإسرائيل أن تتحرّر وتفلتَ منه. (٥)

وهكذا واجهت الإنتفاضة إسرائيل بواقع جديد حيث يطالب الفلسطينيون بالتعامل معهم على أساس أكثر من المساواة وبطرق تتناقض مع نظرة إسرائيل الطويلة الأمد لهم والضرورات السياسية. لكن هذا التفاعل لم يحصل. فبدلاً من ذلك أدركت إسرائيل أنّه يجب عليها أن لا تتقألمَ وتتكيف مع الفلسطينيين أو مطالبهم الوطنية، بل يجب أن تنقض على كليهما من خلال تضييق وجهة نظرهم وتحطيم قدرتهم، بحيث تهاجم ما يجعلُ فلسطين حاضرة وغير قابلة للتفكك. أصبح الوجود الفلسطيني يثيرُ ويستفز الدولة الإسرائيلية. فبالنسبة للإسرائيلي، وُجِدَ الحل في جعل الفلسطينيين يختفون في أرض لا مالك لها، خلقت بهدف إخفائهم. الوضع الحالي هو بلا سابقة تاريخية، وبالتالي فهو بطبيعة الحال، يعدُ حالة استثناء. غزة هي مختبر حيثُ تُجَرّبُ إسرائيل بقواعد وأعراف جديدة، وإنّه لطرحنا هنا أنَّه مع تطور ديمقراطياتنا بحيثُ تصبح جميعها حالات اِستثناء، فإنهم سوف ينظرون بعين الرضا إلى تجربة غزة.

 ومن هنا فإنَّ أول خطوة تجاة خلق هذه الحالة من الاستثناء كانت في تقطيع أوصال فلسطين تحت مظلة اتفاقيات أوسلو. "تحت ظلال أسلو، تمَّت إعادة تحوير الصراع التاريخي حول الأرض ليشملَ سياسة انفصال وعزلة واحتواء. وتحت هذا الإطار تمَّ فصل غزة والضفة الغربية عن بعضهما البعض من الناحية السكانية، وعملياً على الأرض. وكنتيجة لذلك، أصبح يُنظرُ إلى غزة على أن أنّها حالة اِستثناء وكهامش" (٦)، مبتورة من دولة فلسطينية وأمة فلسطينية. وأصبحت حالة غزة الإستثنائية الطريقة الأكثر بروزاً في هدف إسرائيل بخصوص ضمّ أجزاءً كبيرة من الضفة الغربية، والنموذج لتقسيم الضفة الغربية إلى جيوب صغيرة غير متصلة وتحت أشكال مختلفة من العدوان المستمر. ومن هنا فإنّ السياسة الإسرائيلية تتضمن شيئاً آخر. القوى الكولونياليه سَتُعَرِفُ المظلومين كأصحاب البلاد الأصليين، أيّ أنَّهم ينتمون إلى الأرض حتى وإن كانت الأرض ليست لهم. ليس هذا هو الحال مع إسرائيل والتي تهدف إلى إزالة، أو لنقل على الأقل حجب الفلسطينيين عن أنظار العالم. ينطبق هذا على الضفة الغربية مع تمدّد وتغلغل المستوطنات الإسرائيلية، وبنية المستوطنات كما هو الحال في غزة.

حجب غزة عن فلسطين وإحالة الفلسطينيين إلى ناس بلا حقوق تمّ تحقيقه من خلال سياسات إسرائيلية عديدة. ولعل أبرز هذه السياسات هو تحويل الفلسطينيين في غزة من أناس ذوي حقوق سياسية واقتصادية ووطنية إلى مجتمع ضعيف يعتمدُ على إغاثة إنسانيّة. مَسؤول رفيع المستوى في منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية (قيشا) لخصَ كيفية تعامل إسرائيل كما يلي: "في بقيّة العالم نحن نحاول أن نرفعَ مستوى الناس لكي يرقى إلى المستوى الإنساني. غزة هي المكان الوحيد الذي نحاولُ فيه أن نجعل المستوى يهوي، بحيث نُبقي الناس في القاع على جميع المستويات."(٧) وبهذه الطريقة فإنَّ الإغاثة الإنسانية لا يتمّ اِستخدامها لتلبية احتياجات السكان المتزايدة لمجتمع يزدادُ فقراً (وذلك بسبب الإغلاق الإسرائيلي المُحكم على غزة والذي وصل الآن إلى عامه الخامس عشر)، ولكن أيضاً لإطالة أمدّ الصراع والمعاناة. إسرائيل تخلق وتُبقي على مشكلة إنسانية لكي تحتوي مشكلة سياسية. في أحسن الأحوال، كتب إيال وايزمان (٨)، يتمُّ اِستبدال العدالة السياسية بالعطف والتضامن، وأما في أسوئها، فبالتدمير. وبهذه الطريقة تصبح الإنسانيّة نفسها ضرباً من ضروبِ العنف ضدَّ الناس الذين توجه لهم هذه المساعدات.

في الهجوم الأخير على غزة في شهر أيارـ مايو من عام ٢٠٢١ دمرت إسرائيل بشكلٍ كاملٍ أو جزئي، كما فعلت في جولات عدوانية أخرى، بعضاً من البنية التحتية لغزة، وتشمل هذه البيوت، والمدارس، ومراكز صحية، وأماكن للعمل، ومشاريع إدارية، وشوارع، ومكاتب حكومية. وأيضاً تمَّ تدمير أكبر محلات غزة من المبيدات الحشرية والأسمدة، حيثُ قُضي على ٢٥٩ طناً من المبيدات الحشرية و ١٧٥٨طناً من الأسمدة (هذا بالإضافة إلى ٩٣١٢ طناً من البذور).(٩) وبالرغم من كلّ هذا فإن هذا التدمير المقصود يتخطى بكثير قطاعاً معيناً إلى حدّ كبير، وخصوصاً للزراعة. الاستهداف المتعمد للبيئة بمواد كيمائيّة مُسَرطِنة (تسبب السرطان) بهذه الطريقة، بالإضافة إلى السموم التي تنشرها القنابل وغيرها من أنواع الذخيرة التي تسقط على غزة، يؤكد أنَّها تخترق التربة والمياه الجوفيّة، وكتحصيل حاصل إمدادات الغذاء، والتي لم تقلص فقط، ولكنها أيضاً مسمَّمة بشكلٍ متزايد. ويؤدي هذا ليس فقط إلى تدمير شامل وممنهج، ولكن أيضاً ومع الوقتِ إلى تشويه التربة، وربما تسبب العقمَ. 

وبهذا فإنَّ غزة ليست فقط معزولة، ولكن أيضاً تمَّ اقصاؤها وإحالتها إلى مكان عديم الفائدة. فلا يخفى على أحد أنَّ الحياة الإنسانية هشّة بدون أي مكانة حقوقيّة أو قانونيّة وبدون وجهة شرعيّة يتمُّ إحالة الأشياء إليها أو القدرة على الاستئناف، وهذا بالضبط ما يُقْصَد بمفهوم حالة الاستثناء. فعدم القدرة على اللجوء إلى القانون هي جزءٌ من مفهوم المجتمع الدولي، حيث استطاعت إسرائيل أن تنزع صفة الشرعية عن الفلسطينيين، ونأت بنفسها عن العنف الذي تخلقه. وفي مثل هذه الحالة من الاستثناء والإقصاء تُنْزعُ أيضاً صفة الثقافة والإنجاز عن أهل غزة، فهم بلا اِسم إلا فيما يتعلق باحتياجاتهم البيولوجية، حيث كما قلنا سابقاً حسب حنة أرندت، هم مجبرون على العيش خارج إطار العالم المعهود، بلا مكان وبلا اِنتماء بكلّ ما تحمله هذه المفاهيم من مضامين، ويتمُّ حتى مراقبة نشاطاتهم وتغريداتهم على وسائل التواصل، مثل الفيس بوك وتويتر.

لقد خلقت إسرائيل واقعاً موازياً لغزة، ويتمثلُ هذا في تدمير ما هو مألوف (أو ذلك الذي يربط المجتمعات ببعضها البعض)، وأيضاً بالقضاء على المسكن وأسّس الرزق والحياة، وذلك في إطار فضاءٍ اِجتماعي عنيف، حيث الإيغال بالعنف هو العادة ويتسم حتى بالرتابة الحميمية، وفي ظلّ سياسة تعتبرُ "السلام" أداة قمع وقهر.

 يتمُّ التعبير عن حجب غزة من خلال السياسة الإسرائيلية والتي تتسم بالوضوح التام الذي يُسْكتُ أي تعبير ممكن عن التعاطف والتضامن مع غزة. فبالنسبة لإسرائيل، كلّ شخص في غزة هو حماس، وبالتالي فهو هدف مشروع، بمن في ذلك النساء والأطفال والرجال والعائلات، وحتى الموتى والمدفونين. ليس هناك أبرياء أو أناس لا يمكن لومهم بغزة، لا آباء، ولا أمهات، ولا أخوات ولا أخوة، ولا بنات، ولا أبناء. ليست هناك بيوت، أو مدارس، أو متاحف أو جامعات أو مكتبات أو عيادات صحية أو حدائق أو ملاعب. ما هنالك، حسب المسؤولين الإسرائيليين، هو فقط عشب والذي يجب أن يتمَّ تقليمهُ من وقتٍ إلى آخر. (١٠)

بعض أفكار الختام    

لقد تمّت إزالة غزة من إطار السياسة. الإغاثة هي الخيار الوحيد المُتَبَقِي.

غزة هي تجربة حيث السياسة تستخدم لكي تُقصي والتكنولوجيا تُستخدم للتحكم. وفي مثل هذه الفضاءات المقيتة تُجربُ أسلحة ووسائل مراقبة باِستمرار، وذلك لفائدة قطاع الصناعة الإسرائيلي بالدرجة الأولى. وليست فقط الطائرات بدون طيار هي التي تستخدم للمراقبة والقتل أو وسائل التجسس من البرمجيات المعروفة، وآخرها بيجاسوس هي الأكثر فتكاً وتخويفاً من الصادرات الإسرائيلية، فهذه تَصْغرُ أمام النظام التلقائي المتأصل فيها.  

القرارات التي يتخذها البشر أصبحت الآن تؤخذُ من معادلات رقميّة، أما المعضلات الأخلاقيّة المؤلمة فقد تمَّ تحويلها إلى معادلات حسابية مقيتة. (١١) فكم من أعضاء في جماعة يجب أن يقتلوا حتى تصبح الجماعة بلا فاعليّة. الإجابة الآن هي ٢٥ بالمائة. (١٢) كم من الناس الأبرياء من ممكن القبول بقتلهم عندما يتمُّ اِستهداف شخصٍ ذي أهمية. كان العدد الأقصى المقبول خلال الحرب على العراق هو ٢٩ شخصاً (١٣)، حيث أي عدد دون ٢٩ كان مقبولاً، أما تخطى العدد ل ٣٠ فحينها من الضروري الحصول على موافقة من رامسفيلد أو بوش.

حسب هذه الطريقة فإن المعضلات الأخلاقيّة تُترجمُ إلى نظام مشين للعد، يُعَرفُ على أنّه "إنسانيّ". هذا النوع من الأخلاقيات هو في الصميم غير أخلاقي وغير إنسانيّ، فهو يهدف إلى نزع الشرعية والقضاء على كلّ مواقع الالتقاء مع الآخر، حيثُ لا مكان للتعاطف والتعاضد أو لخلق علاقات، حيثُ لا توجدُ المأساة والشعر.

يتمُّ اِختزال وتقليص السياسة والأخلاق إلى مسائل اقتصادية، فكلّ شيء له ثمن، حتى أعمال المقاومة. فإذا كان الثمن غالياً، فالناس، وهم الفلسطينيون في هذه الحالة، سوف يجدون أنّه من غير المعقول أن ينخرطوا بأعمال مقاومة. أما إذا أصروا عليها، فإن الثمن كان منخفضاً ويجب أن يزيد، حتى يتم الوصول لمستوى جديد من الخوف والألم. تصبحُ الأخلاق مشكلة اِزدياد الثمن للحد الأقصى. فيجب أن يتمّ اِسكات أهل غزة بأقل الأثمان في الحياة والدمار. فإيجاد التوازن الصحيح بين قتل عدد كبير من الناس (وهذا سيؤدي إلى غضب أخلاقي عارم بين بعض الناس) أو قتل عدد قليل (وهذا لن يؤدي إلى مستوى الرعب المطلوب) يمثلُ مشاكل حسابيّة مثيرة للاهتمام، مثل تلك التي تطرح في النظريّة الاقتصادية. 

غزة بالطبع هي حالة خاصة، ولكن هناك حالات تتزايد وتتحورُ حول العالم، حالات لأماكن مهملة وبلا إطار شرعي يحتضنها. فمثلاً في أمريكا ما زال شعار "لنجعلَ أمريكا عظيمة مرةً أخرى" يسيرُ على قدم وساق مع إرجاع ناس من "بلاد قذرة" إلى حيثُ أتوا، وبهذا يبقون بعيداً عن الأنظار. وبالمثل، ملايين من الناس يُحْتَفظُ بهم في معسكرات للجوء في تركيا وليبيا وأوروبا نفسها مع احتمالات ضئيلة جداً للهجرة أو لكسب القوت اليومي. تبقى عائلات لسنوات في معسكرات للجوء، معلقة بين الأمل في ظلّ نظام لجوء غير مستقيم في أوروبا وبين الخوف من إعادتهم. يتمُّ النظر اِليهم بشكلٍ مطرد على أنّهم عالة من الضروري احتوائها وعزلها بدلاً من الترحيب بها ودمجها. هذه هي النسخ الأوروبية من غزة، بدون قصف. فالحكومة الفرنسية التي لطالما ساعدت على دمج اللاجئين وتحويلهم إلى مواطنين فرنسيين هي بصدّد حملة ضدّ سكانها المسلمين، فلقد تمَّ الإشارة إليهم دون غيرهم على أنّهم "اِنعزاليين"، وفي الأثناء يسنُّ البرلمان قوانين "لمحاربة الإسلام السياسي". فالمشاكل الاجتماعية التي تنبع من الفقر والتميّيز العنصري يتمّ تعريفها في اِطار الدين والوطن، ويتمّ التعامل معها كإرهاب. وويلٌ لعلماء الاجتماع، وعلماء الاقتصاد والمؤرخين الذين يحاولون إعادة طرح المشكلة بما يتوافق ومجال تخصّصهم، فالوزير الفرنسي للتعليم العالي دعا إلى تحقيق فيما سمّاه "الإسلاموية اليسارية" في الفضاء الأكاديمي، وذلك توافقاً مع ما طرحه رئيس الوزراء الأسبق فالس، الذي نقل عنه رسمياً الادعاء بالقول "المحاولة للفهم هي خطوة نحو المحاولة لخلق أعذار".

لعدّدٍ متزايد من الناس، السياسة الجديدة هي ببساطة سياسة حجب الآخر، بحيثُ لا يُرَى. وبناءً على هذه السياسة، فإنَّ المستقصينَ قدْ يقتلوا ولا حقَّ لهم، ولا أرض ولا دخل، ولا حماية، وبالطبع لا مكان أو بيت، فلا يقدم لهم الاّ الطعام والماء فقط، وهذا ما سماه أجامبين "حياة الكفاف". فلكلّ إنسان تمَّ عزله واِنكار وجوده، هناك غيّرهم الذين يُعَرَفُون من خلال العزل والاستنكار. سياسة الاقصاء وسياسة الهوية هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ. فأنت إسرائيلي يهودي إذا لم تكن فلسطينياً، وأنت فرنسي جمهوري إذا لم تكن مسلماً ملتزماً. كذلك أنت أمريكي إذا لم تكن مهاجراً غواتيمالياً يسعى للمواطنية الأمريكية.

نسخ صغيرة من غزة تتبلور حول العالم. فمن غزة إلى جزيرة ليسبوس، ومن ليسبوس إلى أفغانستان وأبعد من ذلك، وهذه مواطن مستثناة وتتزايدُ حيث يتمّ استبعاد الناس عن إطار خطاب سياسة شرعية، فهي غير مُعترف بها ولكنها تبقى حيّة، بدون مجتمع أو الحق في الوطن والوطنية، فهي تُتسمُ بعدم الأهليّة، بلا ماضٍ، وهي مخفيّة من التاريخ، وهي ملقاة في إطار مجرد، بلا معنى ملموس. فوجودهم محدود ولا ينتمي للعالم، بدون اِنتماء، أو صلة، أو هدف أو وظيفة، حيثُ الهدف الرئيسي للسياسة هو للتحكم بسكان غير مرغوب بهم، وبدون أيّ أفق تجاه أي شيء سوى مزيد من التحكم. هذه سياسة لا تهدف إلى اِيجاد حلول أو عندها تصوّر لكيف من الممكن أن يكونوا، وهذا توجه يحظى بالدعم، مما يساعد الظلم على ضربِ جذورهِ في الأرض. ومن هنا فإنّه ليست من الغرابةِ بشيء أنَّ العالم المتطور ما عاد يفكر في اِطار المصير المشترك والمتبادل، وهذه اِشارة غاية في السوء للتحديات العالمية التي تواجه الإنسانية مثل مشكلة التغيّير المناخي، والأوبئة القادمة. هناك إذن حاجة لعمل جماعي لمنع أسوأ النتائج التي تنتظرنا، ومع هذا فإنّه في عالم يقوم على الوطنيّة وتزدادُ فيه السياسة العالمية اقصاءً ، وفي ظلّ غياب الرؤية والرحمة، فإن هكذا عمل يبدو أكثر فأكثر بعيد المنال. 

في يومٍ ما، النسخ الكثيرة من غزة ستهزمنا. 

 

المؤلفان: 

إيفار أيكلاند هو رئيس سابق لجامعة باريس- دوفين، وهو رئيس باحث في الاقتصاد الحسابي في جامعة كولومبيا البريطانية. وهو عضو في المجمع الملكي في كندا والأكاديمية الأوروبية. 

سارة روي هي باحثة متقدمة في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد. كتابها الأخير هو "حجب الصمت عن غزة: أفكار عن المقاومة"، وقد صدر عن بلوتو بوكس في لندن، عام ٢٠٢١. 

 

الهوامش

١. مارتن كونويه، "صناعة تاريخ ترامب"، اورج،٢٥ شباط ـ فبراير ٢٠٢١، الموقع: https://issforum.org/to/ps20219.
٢. نفس المصدر
٣. بيتر بيهر (المحرّر)، مختارات حنة أرندت. (نيويورك، بينغوين، ٢٠٠٣)، ص.٣٧.
٤. حنة أرندت، أصول السلطويّة، (نيويورك، هاركورت براس، ١٩٥١)، ص.٣٠٢.
٥. أُنظر سارة روي، حجب الصمت عن غزة: أفكار عن المقاومة. (لندن، بلوتو بوكس،٢٠٢١)، ٢٠١ـ٢٠٢. تمَّ شرح بعض النقاط المذكورة هنا بشكلٍ أكثرُ تفصيلاً في هذا الكتاب.
٦. روي، ٢٠٢١، ٢٠٩ـ٢١٠.
٧. روي، ٢٠٢١، ٧٨ـ٧٩.
٨. أُنظر آيال وايزمان، أقل الشرور المُّمكنة: عنف الإغاثة الإنسانية من حنة أرندت إلى غزة. (لندن، فيرسو، ٢٠١١).
٩. تقديم للدكتور وسام المدهون "تقييم التأثيرات لحرب غزة عام ٢٠٢١: رؤى نحو اِعادة بناء مستدامة"، لقاء عالمي لإطلاق التقرير، أوقات السياسات (بوليسي تايمز)، ١من تموزـ يوليو، ٢٠٢١.
١٠. أُنظر على سبيل المثال، أدم تيلر "بضربات صاروخية تستهدف الصواريخ والأنفاق، النهج الإسرائيلي في "جزّ العشب" يعود إلى غزة"، واشنطن بوست، ١٤ أيارـ مايو ٢٠٢١.
١١. أُنظر ديريك جريغوري، "من وجهةِ نظرٍ إلى قتلٍ: الطائرات المسيرة والحرب الحديثة المستجدة"، النظرية، والثقافة والمجتمع، المجلد رقم ٢٨، الرقم الداخلي ٧-٨، ص.٢٠٨، وكذلك جريغوار شامايو، نظرية الطائرة المسيرة، (نيويورك: ذا نيو بريس، ٢٠١٥)
١٢. وايزمان (٢٠١١)، ص.١٤. تمَّ الاقتباس من مقابلة مع الجنرال يتسحاق بن اسرائيل في الفيلم، المختبر.
١٣. وايزمان، (٢٠١١)، ص. ١٣٢.