كلامٌ كثير يُقال عن واقع المهرجانات السينمائية العربية. هذه ملاحظات للنقاش، في زمنٍ عربيّ يريد حاكمون فيه خنق كلّ إبداع في الثقافة والفنون والعلاقات، وقتل كلّ جمال في الاشتغالات، وتحويل السينما إلى غطاء لأفعالهم الجُرمية، والجُرم متنوّعٌ وكثيرٌ.
السينما العربية غير محتاجة إلى مهرجانات سينمائية جديدة، تُقام في مدنٍ عربية وغربية. الموجود أكثر من كافٍ، ومعظمه عائقٌ أمام تطوير المهرجان، مفهوماً وثقافة واشتغالاً ودعماً ووعياً معرفياً. مهرجان جديد يحول دون غربلة الموجود، والموجود كثير، والغربلة مفقودة. العلاقات العامة سببٌ لإقامة مهرجان. تحسين صورة حاكمٍ أو ثريّ سببٌ آخر. الأفعال التي يرتكبها حاكمٌ لن تُغيَّب بمهرجان سينمائي، يظنّ سيّده أنه واجهة إيجابية تحجب حقائق إجرامه في بلده، اجتماعاً وعيشاً وعلاقات وحريات وحقوقاً. الثريّ يُحسِنُ، أحياناً قليلة، صرف بعض ماله في مهرجان سينمائي، لكنّ هذا يجب ألاّ يمنع من التنبّه إلى أفعالٍ له في الاقتصاد والمال والتجارة، وفي الارتباط بنظامٍ، شُهرته مبنية على القمع والمنع والتغييب.
كثرة المهرجانات السينمائية العربية ضررٌ لسينما عربية، يحاول عاملون وعاملات فيها بلورة صُوَر جديدة وتجديدية لها، في أفلامٍ تنقلب على السائد، وتتحرّر من سطوة الرأسمال والقديم. المهرجانات الأساسية مستمرّة في تقليدٍ لاحقٍ على تقليدٍ يكاد يختفي كلّياً، لولا محاولات يريدها مدراء فنيّون امتداداً للسابق، وتفعيلاً لحوار ونقاش. تقليد سابق يتمثّل بندوات تطرح مسائل وتناقشها، وإنْ من دون حضور لائق وتأثير إيجابي عملي؛ وتقليد لاحق عليه يكمن في إيجاد مساحة للدعم المالي، يُمنح لمشاريع في إحدى مراحل الإنتاج. المطبوعات تختفي، إلاّ من بعض المهرجانات، وغالبيتها الساحقة غير صالحة للقراءة، لارتباك في النص، ولبهتان في الطباعة والتصميم، ولتكرار مملّ لتكريماتٍ لا طائل منها.
مهرجانات "عريقة" يخبو وهجها، الملتبس أصلاً، في زمن يصعب عليها اللحاق به، رغم أنّ مسؤوليها يجهدون في انتشالها من خرابها، فينجحون قليلاً. مهرجان دمشق متوقّف، بسبب الحرب الأسدية ضد شعب وبلد وتاريخ وراهن. القاهرة وقرطاج يكافحان لخروجٍ آمن إلى غدٍ أفضل. بيروت معطّلة، فالأزمة الاقتصادية خانقة، وتفشي كورونا مخيف، ومع هذا يُنظّم قليلون مهرجاناتٍ أو تظاهرات تستكمل معنى السينما في المدينة وتاريخها. مراكش يُصارع بين سطوة فرنسية ورغبةٍ داخلية في جعله مغربيّاً أكثر. مدن عربية كثيرة تحتضن مهرجانات، بعضها متخصّص وهذا ضروري ومهمّ، ومعظمها مبنيّ على ارتباطات شخصية ومصالح محلية، والسينما تأتي في مرتبة أخيرة.
يصعب ترداد المهرجانات كلّها. المآزق التي تعانيها متشابهة، أبرزها يحضر في الغياب القاتل لتفكيرٍ مؤسّساتي، رغم أنّ بعض المهرجانات يدّعي حضور المؤسّسة فيه، وهذه الأخيرة مجرّد غطاء لسلطات حاكمة، تصرف على المهرجان كي تُبقيه في قبضتها. غياب التفكير المؤسّساتي ضررٌ فادح، وتغيير مسؤولي هذا المهرجان أو ذاك، كلّ عام أو أكثر بقليل من كلّ عام، دليلٌ على سطوة حاكمٍ يرفض كلّ مساحة حرّة، فيفرض شروطاً يستحيل على المهرجانات تجاهلها، رغم استثناءاتٍ مهمّة، مع أنّ اكتفاء المهرجان بتمكّنه من عرض أفلامٍ يصعب، أو يستحيل عرضها في الصالات التجارية، ضرر آخر لمعنى أنْ يكون هناك مهرجانٌ.
والمعنى واضحٌ: على المهرجان أنْ يؤثّر في مسار الصناعة السينمائية، أقلّه في البلد المُقام فيه. أنْ يكتشف أناساً أو أشكالاً أو أفلاماً، وأنْ يكون داعماً، معنوياً على الأقلّ، للمُكتَشف، فلا يبقى المهرجان شاشةً للعرض، وسهرات للاحتفال، ولقاءات مكتفية بتبادل سريع لآراء ونمائم. الغالبية الساحقة من المهرجانات العربية تعتبر أنّ مهمّتها متوقّفة عند دعم المشاريع الجديدة، وهذا حسنٌ وضروري، لكنّه غير كافٍ. الدعم بحدّ ذاته قليل، والمطالبة بعرض أفلام منبثقة من المشاريع المدعومة في الدورات اللاحقة حسنٌ، لكن تجربة مهرجاني دبي وأبوظبي سيئة، إذْ ينافس فيلمٌ مدعوم أفلاماً غير مدعومة، ويفوز غالباً بجوائز، معظمها ماليّ، والمبالغ كبيرة.
الاختصاص فصلٌ من معنى المهرجان. الترويج لأفلامٍ، تندرج في اختصاصٍ أو نوعٍ أو شكل بصري، مهم وضروري. هذا يؤدّي، بطريقة ما، إلى تفعيل الاختصاص والنوع والشكل البصري. في بيروت، هناك "مهرجان مسكون لأفلام الرعب والخيال العلمي والفانتازيا". في المغرب، "مهرجان سلا" مهتمّ بالمرأة، كاهتمام مهرجان أسوان المصري بها. في الإسماعيلية المصرية اختصاصٌ بالفيلمين القصير والوثائقي. في لبنان، هناك مهرجان للأفلام القصيرة (نادي لكلّ الناس) ولأفلام البيئة (بيروت دي سي)، ولحقوق الإنسان ("كرامة"، المُقام أيضاً في عمّان). هذه أمثلة. المشهد أوسع منها. لكنّ الخلل قاتلٌ، فالحاجة ماسّة إلى مالٍ، وإلى صالاتٍ لا إلى قاعاتٍ غير صالحةٍ لعروضٍ سينمائية.
غياب الصالات الحديثة في مدنٍ عربية كثيرة، تُستخدم لعرض أفلامٍ في مهرجانات مختلفة، عطبٌ. أيُعقل تنظيم مهرجانٍ سينمائي في مدينة عربية، لا صالات سينمائية فيها؟ بل لا صناعة سينمائية، ولا حقوق وحريات، ولا مقوّمات عيشٍ يحترم الفرد، رغم وفرة المال الذي ربما لن يصل إلى الجميع، والفردُ امرأة أو رجل، يجب منحهما ما يُفترض بهما الحصول عليه، فهذا حقّ طبيعي لهما ككائنين بشريين (السعودية)؟ أيُعقل أنْ تُصرف أموالٌ من جهات رسمية في بلدٍ عربي على مهرجانات غير مفيدة وغير نافعة وغير مُنتجة، لأنّ مدراءها ومؤسّسيها يرتبطون بعلاقات ما مع نافذين في تلك الجهات (المغرب)؟ أيُعقل أنْ يمارس نظامٌ عربي أفعالاً جُرمية يومية ضد شعبه وبلده، ويتباهى بعض ناسه بوجود مهرجانات سينمائية فيه، تخضع لسطوة السلطة، ولمزاجها ورغباتها وحاجاتها (مصر)؟
مهرجانات سينمائية عربية، قديمة وجديدة وحديثة الولادة، تتباهى بعدد الأفلام الحاصلة عليها، وبوفرة برامجها ومسابقاتها ونجومها، وبسهراتٍ واحتفالات ودعم، من دون أدنى انتباه إلى انعدام أي أثر إيجابي على الصناعة السينمائية، باستثناء جعل الدعم إضافة مطلوبة لتنفيذ أفلامٍ. مهرجانات كهذه تفتخر بتمكّنها من دعوة كبار في السينما الغربيّة، وكثيرون يجهلون أنّ غالبية أولئك الكبار يُلبّون الدعوات لقاء مكافآت مالية، تبدأ بمصاريف السفر والإقامة، وتنتهي بمبالغ مدفوعة نقداً، كي يُشاركوا في حفلة افتتاح أو حفلة ختام، ويُلقون كلمات قليلة عن جمال البلد وحُسن الضيافة، وهؤلاء يُقيمون فيه ساعاتٍ معدودة فقط. الاستثناء حاصلٌ، فبعض المهرجانات يدعو سينمائيين وسينمائيات إلى ندوات ولقاءات و"ماستركلاس"، والمهتمّون الفعليون يتابعونها لاستفادة ثقافية ومهنية وتأمّلية بأحوال السينما وأساليب الاشتغال.
المأزق الأخطر ينعكس في سلوك نقّاد وصحافيين وإعلاميين، إذْ تصمت غالبيتهم الساحقة عن خلل وارتباك وأخطاء، وتنصرف إلى كتابةٍ عن أفلام، وإلى حوارات مع سينمائيين وسينمائيات، وهذا مهنيّ أيضاً، لكنّه يُغطي تهرّباً من قولٍ يتناول خللاً وارتباكاً وأخطاءً. هذا متأتٍ من كون معظم الدعوات الموجّهة إليهم مجانية، وبعضهم يخشى عدم الحصول على دعوة مقبلة، فالمهرجان بالنسبة إليه سفرٌ وسياحة ونزهة وتسوّق.
مهرجانات سينمائية عربية تُقام في مدنٍ غربيّة لا علاقة لها بمفهوم المهرجان، إذْ تميل أكثر إلى تظاهرة أو أسابيع احتفالية. قليلةٌ المهرجانات الجادة (مالمو للسينما العربية)، رغم أنْ بعضها عاجزٌ عن إيجاد جمهور مهتم بالسينما العربية، ومعظم المشاهدين المُقيمين في هذا البلد أو ذاك يُشاهد فيلماً من "بلده الأصلي" فقط. المأزق كامنٌ في أن سينمائيين وسينمائيات عرباً يُصدّقون أنّ تظاهرات متواضعة، تمنحهم جوائز، كفيلةٌ بتحسين السيرة الذاتية لهم ولهنّ ولأفلامهم وأفلامهنّ، علماً أنّ هذه مجرّد تظاهرات تدّعي أنّها مهرجانات. الطامة الكبرى أنّ بعض تلك الأفلام باهتٌ ومملّ وساذج.
كلامٌ كثير يُقال عن واقع المهرجانات السينمائية العربية. هذه ملاحظات للنقاش، في زمنٍ عربيّ يريد حاكمون فيه خنق كلّ إبداع في الثقافة والفنون والعلاقات، وقتل كلّ جمال في الاشتغالات، وتحويل السينما إلى غطاء لأفعالهم الجُرمية، والجُرم متنوّعٌ وكثيرٌ.