إن العارف بالخبايا الفنيَّة والعمرانيَّة لمدينة تونس العتيقة سيدرك أن صومعة الزَّيتونة التي أعيد بناؤها سنة 1894، أي قبل عشر سنوات من مجيء كاندينسكي، ستحتلُّ مركز النِّصف الثَّاني من مشهد اللوحة، وهي صومعة ذات لون بنيٍّ أصفر كانت تطلُّ ولا تزال على باب ورشة كاندينسكي نفسه.
في الدَّرب الرئيس للمدينة العتيقة بتونس المسمّى بنهج الباشا، أين تتقابل ببدايته زاويتا سيدي بن عروس وسيدي الكلاعي، وتتناظر فيه بشكل دقيق صومعتا جامع مراد باشا وجامع الزيَّتونة، مدَّت إليَّ الصُّدفة يدَهَا لاكتشاف ورشة كاندينسكي خلف باب أخضر كباب أولياء التّصوف، أين تنبعث روائح القهوة العربية المخلوطة بمذاق الهال وبعطور النَّراجيل المنبعثة من رواق الشّواشين وأين المطاعم تعرض لزبائنها الأطباق ذات النّكهة التّقليدية التّونسية.
يختبئ خلف هذه الورشة التي تتصدّرها لوحةٌ تخليديَّةٌ مصدرٌ مهمٌّ يسمح بتقديم فهم عميق لتأثيرات الثَّقافة المغاربيَّة على الفنِّ التَّجريدي الأوروبي الحديث عموما وبطرحِ تأويلٍ قريب من الواقع لهذه التأثيرات نفسها على تجربة كاندينسكي على وجه الخصوص، إذ يشيرُ النَّقد الغربي نسبياً إلى مساهمتها في تحويل هذا الأخير نحو هذا النوع من الفنِّ لاسيما بعد إقامته بتونس، كما هو الحال نفسه أيضا مع بول كلي منظِّر المكعَّبات وغيرهما.
ولد فاسيلي كاندينسكي في موسكو عام 1866، ينحدر من أصول منغوليَّة وسيبيريَّة، هاجر من روسيا لأسباب سياسية بعد أن سُلبت منه ثروته التي ورثها عن أبويه. وقرَّر في عمر الثَّلاثين أن يتفرَّغ للفنِّ بميونيخ التي استقرَّ فيها مع زوجته آنيا تشيمياكينا. عاش لفترة بين ميونيخ وباريس أين توفيَّ عام 1944.
ولقد سافر بتاريخ 25 ديسمبر 1904 برفقة الفنَّانة والمصوِّرة التَّعبيريَّة الألمانيَّة غابرييل ميتنر إلى تونس أين رسم الفنّانان، في ظرف ثلاثة أشهر، لوحاتهما بين دروب المدينة العتيقة وشوارعها، وأنشآ العديد منها على شواطئ حلق الواد وأعالي جبل المنار وبسوسة والقيروان قبل أن يعودا إلى ميونيخ.
ولقد شاءت الصُّدف بعد عودتي إلى باريس أن أزور معرضا فنيًّا في ذكرى تخليد هذا الفنَّان، وهو معرض نظَّمته مكتبة كاندينسكي بمركز بومبيدو بقلب باريس وقامت بنشره على شبكة النت بالتَّعاون مع محرك البحث گوگل؛ قسم فنون وثقافة تحت عنوان "في خصوصيَّات كاندينسكي الحميميَّة". وتعدُّ هذه التَّجربة الأولى من نوعها فيما له علاقة بعرض أعمال الرَّسَّام التَّشكيلي، الذي يمتد ما بين 10 فيفري 2021 إلى غاية 31 ديسمبر 2023.
يتناول هذا المعرض الرَّقمي بالاضافة إلى توفير أرشيف الرَّسَّام، (مراسلات، شهادات، وثائق إداريَّة وغيرها) نقاطا من سيرة حياته وأهم محطّاتها بالصُّور، عرضا للَّوحات في قاعة افتراضية، مداخلةً مع أنجيلا لامب وهي محافِظة مركز بومبيدو لأعمال الفنِّ الحديث، وجوانبَ أخرى يمكن اكتشافها من خلال "هذا الرابط".
ولقد تمَّ التَّركيز في هذا المعرض على ثنائية الرَّسم والموسيقى لديه، ففي حالته، يعتقد المختصّون أن المعنى الناشئ عن السّمع مرتبط عنده بالمعنى الناشئ عن النظر، فالأصوات والألوان متواشجة في روحه الفنيّة ومترابطة جدًّا. كان يستقبل في ظاهرة نورولوجية عصبيَّة لا إرادية معانٍ مختلفةً كما لو أنَّها معنى واحد، وهي ظاهرة تسمَّى عند علماء النَّفس بالسِّنيستيزيا (Synaesthesia)، حيث يميِّزُ فيها صاحبها الأصوات باللَّون والألوان بالصَّوت. كان بمقدور كاندينسكي رؤية الموسيقى والنَّظر إليها كما حدث له ذات مرَّة وهو يصغي لمعزوفة فاغنر المسماة لوهانگرا(Lohengrin de R. Wagner) ، فهل الفن التّجريدي هو حاصلٌ معرفي للتّشكيل بين عالمي الموسيقى والألوان؟
إنَّ التفسيرات التي يقدمها المختصُّون لا تبدو -من وجهة نظري- واضحة جدًّا عندما يتعلَّق الأمر بالفنِّ التّجريدي، لكونه فنًّا معقَّدًا ومفتوحًا في آنٍ معًا على التَّأويلات الذَّاتية والموضوعيَّة على حدٍّ سواء. وهو فنٌّ لا يمنع الاجتهاد في تقديم محتوى موضوعي لطابعه التَّجريدي، بقدر ما يجعلُ من مادَّة الأشكال والألوان رهينة تحليل مرتبط بطريقة توليدها فقط.
إلا أنَّ المعرض قدَّم في الواقع صورة كاملة عن كاندينسكي بطريقة علميَّةٍ تقريبًا واقترب كثيرا من طبيعة عمله الرَّائد. فمقاربة المعرض لأعماله ليست مقاربة بصريَّة فحسب، إنَّها مقاربة صوتيَّة ونفسيَّة وثقافيَّة وتاريخيَّة أيضًا. لقد تدخَّل المهتمُّون بكاندينسكي في هذا المعرض بصياغة نصٍّ وجيز وعميقٍ يختصر بدقَّة حياة الفنَّان، وقد اعتبروا مرحلة إقامته بتونس فرصة ليختبر كاندينسكي صفاءها اللَّوني وهندساتها المختلفة. إنَّ خليجِها المغطَّى بمثل هذا الضَّوء الخاص والألوان المبهرة ابتداءً من لون الأبواب الأزرق إلى لون الجدران البيضاء، يجعل من تونس تجسيدًا كاملا للشَّرق بالنِّسبة إليه. لقد اهتمَّ كاندينسكي فيها بالفنون التَّطبيقية وأُعْجِب بالتَّجريد الزُّخرفي للمدن القديمة الذي يتجلَّى في قرطاج وسوسة والقيروان أيضًا. على شاطئ البحر، رسم كاندينسكي مناظر بحرية مصغَّرة، كما رسم مناظر للشَّوارع التي تغمرها أشعة الشَّمس بنسيجٍ تتزايدُ كثافته بوضوح. لقد منحت الرِّحلة التونسيَّة كاندينسكي، في خطوة أساسية لمساره، فرصةً أجرى من خلالها تحوُّلاتٍ جريئةً لأسلوبه، لاسيما نحو التَّفكيك التَّدريجي للبناء الموضوعي وعلاقته بالرَّسم.
ولقد ركّز المعرض الافتراضي على أهمِّ لوحاته الفنيَّة التِّي تحمل عنوان -أصفر، أحمر، أزرق- أين ربط بعض المناطق فيها بمقاطع صوتيَّة وموسيقيَّة. وتسمح لنا افتراضية المعرض بسماع الألوان والخطوط من خلال التفاعل مع هذه الَّلَّوحة عن طريق الشاشة.
تنقسم هذه اللَّوحة إلى عالمين متناظرين، عالم من الألوان المائيّة الزَّرقاء الباردة ذات الأشكال المنحنية الدَّائريَّة المتداخلة، وعالم آخر من الألوان النّاريَّة السَّاخنة ذات الأشكال الهندسيَّة والمستقيمة الدَّقيقة. وتنقسم اللَّوحة أيضًا بحسب الطَّبائع إلى مناطق باردة ويابسة، ومناطق أخرى حارَّة وجافّة. يعبِّر النِّصف الأول من اللَّوحة عن العالم الغربي، فيما يبدو العالم الشَّرقي في النِّصف المقابل. ودون الخوض في العالم الغربي أين الصَّليب بلونه الأحمر القاني يحتلُّ مركزه، سنحاول تقديم تحليل موجز للعالم الشَّرقي الواقع جنوبا في المناطق السَّاخنة.
إن العارف بالخبايا الفنيَّة والعمرانيَّة لمدينة تونس العتيقة سيدرك أن صومعة الزَّيتونة التي أعيد بناؤها سنة 1894، أي قبل عشر سنوات من مجيء كاندينسكي، ستحتلُّ مركز النِّصف الثَّاني من مشهد اللوحة، وهي صومعة ذات لون بنيٍّ أصفر كانت تطلُّ ولا تزال على باب ورشة كاندينسكي نفسه.
ولا يمكن إغفال هذا النَّوع من الأشكال الصَّومعية المربَّعة القصيرة ذات التَّقليد المرابطي الموحِّدي ونحن نتأمَّل شكل أبواب البيوت التونسيَّة القديمة التي في معظمها تكون قصيرةً أيضًا. ويعود هذا التَّقليد العمراني إلى أصوله الممتزجة بين الثقافتين الأمازيغية والعربيَّة، ففي بني مزاب بغرداية مثلاً، تُنْشَأُ الأبواب في ارتفاعها بنصف طول الرَّجل، وكذلك في قصبة الجزائر وفاس ومراكش وفي سيدي بوسعيد كما هو واضح في الصُّورة التَّمثيليَّة الواردة بهذا المقال. ولقد رأيتُ في غرناطة منذ سنوات، بيوتًا بشوارع البيَّازين تحتفظ بهذا النَّوع العمراني القديم. وفي الواقع، فإنَّ هذا التَّقليد يمنع العابرين بالشَّارع استراقهم للنَّظر إلى الدَّاخل، ويجبرُ في الوقت نفسه الضُّيوف أوَّلا على إحناء رؤوسهم ثمَّ غَضِّ طرف أعينهم قبل ولوج البيت.
ولا غرابة أن تجلب هذه الصَّومعة، بصوت مؤذِّنها المتكرّر خمس مرَّات يوميًّا، كلَّ اهتمام كاندينسكي المرهف للصَّوت والمكتشف حينها للشّرق وألوانه. سيحيل هذا الصّوت كاندينسكي إلى استخدام الخطوط التي تتجلَّى في شكل متوازٍ أمام رأس الصَّومعة الأزرق السَّماوي الرُّوحي أين يتداخل الصّوت والخطُّ واللَّون معا. ولقد ربط المعرض اللَّون الأصفر -بناء على كتابات كاندينكسي نفسه- بآلة البوق، الأحمر بآلة الكمان والأزرق بآلة الأورغان التي تُستخدم في الصَّلوات الدِّينيَّة بالكنائس. وإذا ربطنا بين الأصفر وآلة البوق، فإنَّ الأصفر لا يعدو أن يكون في الواقع قريبًا من المكان الذي يصدر منه صوت الآذان عند المسلمين في هذه اللَّوحة، كأنَّه صوتٌ يصبحُ أقوى لارتفاعه بفضل عُلُوِّ المنارة على ورشة كاندينسكي والبنايات الأخرى.
يوضِّح الروبورتاج الذي أعدَّته قناة "آرتي" بعنوان "موسيقى الألوان عند كاندينسكي" بأنَّ النِّقاط والخطوط تملك محتوى إيقاعيًّا يشبه إيقاع الطُّبول، وهو ما جعل الملحِّن أنطوان بارتان (Antoine Bertin) يتأوَّل بعض مناطق لوحة كاندينسكي وفق موسيقى التِّكنو ذات الوقعات الصَّاخبة والايقاعات الحازمة. إلاَّ أنَّ مصدر إلهام كاندينسكي لا يُستبعد أن يكون سمفونيًّا وهو الذي تبدو آثاره على غنائيَّة رسوماته الغارقة في الحلم.
تتجلّى في اللّوحة، بالجانب الشّرقي منها دائمًا، أشكالٌ هندسيَّة شرقيَّة جدًّا كشكل الأقواس التي تحيط بفناء جامع الزَّيتونة، وبفناءات البيوت التَّقليدية الحفصية والعثمانية معا. وللتَّفريق بين العهدين، سيلجأ كاندينسكي إلى الاشارة باللَّونين الأسود والأبيض إلى الزَّمن العثماني الذي استخدم اللّونين في تزيين الأقواس كما هو الحال في المدرسة الباشيَّة الواقع أمام حمّام القشَّاشين خلف جامع الزَّيتونة. ويسمَّى هذا النَّوع من الجلِّيز بجناح خطيفة، حيث يُتَّخذ بعدا مربَّعًا يزيَّن به الدَّرجُ ومثلَّثيًّا أيضَا في حركيَّةٍ متماوجة تسمح بتزيين التُّربات وبلاط الأضرحة والمدافن.
ونجد هذين اللَّونين المتباينين أيضًا في أنواع أخرى من الزِّلِّيج، كما هو الحال في مربَّع عَفْسَة السِّيْد وهو الشَّكل الذي اُسْتُوحيَ ممَّا يتركه أثرُ وقعِ قدمِ الأسد على التراب. وعفسة السِّيد هي واحدة من أكثر القطع شيوعًا في تونس، حيث تأخذ شكل النَّخل وأوراق الأقنثة ذات اللَّون البرتقالي. ويستخدم كاندينسكي هذا الزِّليج لإثارة جانب من الألوان في لوحاته التَّجريديَّة. لنلاحظ مثلا، في اللَّوحة المعنيَّة بالنِّقاش، أنَّ الصّومعة تشقُّها أرجوانة أسفلها بألوان ثلاثة: الأبيض والأسود والبرتقالي.
وإذا كانت قراءَتُنا لهذه اللَّوحة انطباعيَّةً، فإنَّها تستوحِي آليَّة التَّأويل فيها من منطلق وجود كاندينسكي بتونس ومجاورته لأكثر الهندسات اِستقامةً وأحسنها رسمًا ونقصد في ذلك جامع الزَّيتونة، بالإضافة إلى تمركزه بين ضريحين يُحْدِثُ الزَّائرون فيهما يوميًّا ضوضاء غير منتظمة، وهي ضوضاءٌ إذا ما اختلطت بالأذان وجلبة السُّوق وضجيج المارَّة فإنَّه ستنبثقُ عنها ألوانٌ دافئة تقابلُ -إن لم نقل تغطِّي- مساحة البرودة العاطفيَّة التي كان يعاني منها بعد خروجه من موسكو واستقراره بميونيخ ثمَّ باريس، وهي برودَةٌ فضَّل تلوينها بالأزرق في مقابل جهة الشَّرق من اللَّوحة.