داود تلحمي: الكتاب جاء ليقدّم قراءةً أوسع نطاقاً من المتابعات اليومية للأحداث

2022-02-15 10:00:00

داود تلحمي: الكتاب جاء ليقدّم قراءةً أوسع نطاقاً من المتابعات اليومية للأحداث

بعد أكثر من ربع قرنٍ على اتفاق أوسلو، وبعد أكثر من نصف قرنٍ على عودة حضور الشعب الفلسطيني، وبعد أكثر من قرنٍ على بدء الغزوة الصهيونية لفلسطين، يبدو واضحاً أنّ مهمّة إنهاء الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني تحتاج لمزيدٍ من التضحيات ولمزيدٍ من الزمن، الذي لا يمكن التنبؤ بمداه. 

يحلُّ الكاتب والمفكر الفلسطيني داود تلحمي، المولود في مدينة الناصرة عام 1943. ضيفاً على مجلة "رمان الثقافية" للحديث بشكل موسع عن كتابه الموسوعي «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» (جزآن/1088 صفحة)، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ضيفنا، حصل على ماجستير هندسة وعلوم من جامعة باريس. وعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني، وفي مجلة "الحرية"، ومنابر بحثية وإعلامية أخرى. من إصداراته «اليسار والخيار الاشتراكي» (رام الله: "مواطن"، 2008)، والفصل الخاصّ بأميركا اللاتينية في مجلد «علاقات إسرائيل الدولية» (رام الله: "مدار" للدراسات الإسرائيلية، 2014). كان لنا معه هذا الحوار...

كيف يمكن أن نعرّف بداود تلحمي؟

من مواليد مدينة الناصرة عام 1943، لوالدٍ من شفاعمرو المجاورة، كان يعمل منذ مطلع الثلاثينيات في مدينة نابلس، ولوالدةٍ نصراوية. عشتُ في مدن نابلس وعمان ورام الله- القدس وأنهيت دراستي الثانوية في القدس (الشرقية). وأكملت دراساتي الجامعية في فرنسا في مجالي الهندسة والعلوم الفيزيائية، وانخرطت هناك في العمل النقابي (الطلابي) والوطني الفلسطيني. وفي أواخر العام 1972، انتقلت إلى بيروت وعملت في مركز الأبحاث الفلسطيني حتى العام 1974، ثم في دائرة الإعلام لمنظمة التحرير الفلسطينية لعامين آخرين، ثم في مجلة "الحرية" الأسبوعية، التي توليت رئاسة تحريرها والإشراف عليها منذ العام 1981 وحتى عودتي إلى الوطن في العام 1996، بصفتي عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (منذ العام 1977). 

وفي رام الله، التي عدت إليها بعد غيابٍ تجاوز الثلاثة عقود، شاركت في تأسيس صحيفةٍ دورية صدرت منذ مطلع 1997 وحتى آذار/مارس 2002، حين تعرّض مقرُّها، كما العديد من المقرّات في الضفة الغربية، للتخريب والنهب أبان هجمة جيش الإحتلال الإسرائيلي على مناطق "الحكم الذاتي"، فتحوّلت الصحيفة بعد ذلك للصدور الإلكتروني لبضعة أعوام. ومنذ العام 2006، تفرّغت للكتابة الخاصّة، فصدر لي في العام 2008 كتاب «اليسار والخيار الاشتراكي»، عن مؤسسة "مواطن" في رام الله، ثم كتاب «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» في العام 2017، ونشرت في هذه الأثناء مقالاتٍ ودراساتٍ في منابر ورقية وإلكترونية عدة. 

في الحديث عن كتابكم الأخير «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» (الجزء الأول والثاني)، نسألكم: كيف بدأت فكرة البحث من كونه فكرة إلى أن صار كتابًا؟ 

بعد صدور كتاب «اليسار والخيار الاشتراكي»، كثّفت القراءات المتعلّقة بتاريخ النضال الفلسطيني المعاصر، وتوصّلت في مطلع العام 2013 إلى اتفاقٍ مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية لنشر كتابٍ يتناول هذه المرحلة. واستغرقني العمل أكثر مما خطّطت له في البداية، ومع تزايد صفحات المخطوطة لتقترب من الألف صفحة، رأيت أن أتوقّف عند مطلع العام 2006، الذي شهد نهاية حقبة آريئيل شارون في إسرائيل، كما شهد الإنتخابات التشريعية في مناطق "الحكم الذاتي" الفلسطيني والتي أفرزت خارطةً سياسيةً جديدة.

بماذا تتمثّل الغاية الرئيسية من الكتاب بجزأيه؟ 

خلال قراءاتي للأدبيات المنشورة عن هذه الحقبة، باللغة العربية وبلغاتٍ أجنبية، لاحظت أنّ بعض الكتّاب، وخاصّةً الأجانب، لم يتمكّنوا دائماً من إدراك خلفيات بعض الأحداث والمواقف، وسياقاتها الأوسع، حتى وإن استندوا إلى وثائق، هامةٍ أحياناً، لم يسبق نشرها. فرأيت بأنّ من المفيد تسجيل قراءتي الخاصّة لهذه الأحداث والتطوّرات، التي واكبتها عن كثب. طبعاً، لا أدّعي أنني قمتُ بعملٍ غير مسبوق، ولكني أدليتُ بدلوي وقدّمت قراءتي الخاصّة للأحداث، لتُضافَ إلى كتاباتٍ كثيرةٍ غنية متوفّرة باللغة العربية وبلغات العالم الأخرى. وأيُّ باحثٍ جديد يقرّر ما هو مفيد لكتاباته اللاحقة في هذا البحر الواسع من المعلومات المنشورة في عصرنا، عصر ما بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، وعصر الصحافة المقروءة بلغتنا في القرنين الأخيرين، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية وعصر الإنترنت في القرن العشرين وما بعده. 

أرجو أن تحدّثنا عن أبرز مضامين الدراسة السياسية والظروف التي أحاطت بالفلسطينيين كل تلك الفترات. وما هي أبرز المصادر التاريخية والسياسية والفكرية والإعلامية التي اعتمدت عليها في توثيق الأحداث وتحليلها؟

تناولت بالأساس صعود الحضور الفلسطيني في المنطقة والعالم إثر عدوان 1967، بعد غيابٍ شبه كاملٍ خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات، خاصّةً خارج المنطقة العربية. وبالفعل، شهدت السنواتُ الأخيرة من الستينيات والأولى من السبعينيات الماضية "صعوداً هائلاً" للحركة الوطنية الفلسطينية، على حدّ تعبير المسؤول الكبير في الإدارة الأميركية آنذاك جوزف سيسكو (يوم 30/6/1970). لكن هذا الصعود لم يلبث أن اصطدم بعوائقَ كبيرةٍ ومتعدّدة، تمثّلت في حملات قمعٍ وحروبٍ متلاحقة استهدفت وقفَه ومنع ترجمته إلى إنجازاتٍ ملموسةٍ على الأرض. فقد تصاعد القمع الإسرائيلي في الأراضي التي احتُلت عام 1967، في قطاع غزة أولاً ثم في الضفة الغربية، وحدث انفجار "أيلول الأسود" عام 1970 في الأردن، واندلعت الحرب الأهلية/الإقليمية/الدولية في لبنان منذ أواسط السبعينيات، وقام الجيش الإسرائيلي بغزو لبنان في حزيران/يونيو 1982 بغرض توجيه ضربةٍ قاضية للحركة الوطنية الفلسطينية، كما تصاعدت محاولات تسعير التناقضات والصراعات الجانبية مع المحيط العربي والإقليمي، وفي ما بين أطرافه. 

وبدا واضحاً أن قوىً دوليةً وإقليمية، وفي المقدّمة الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تريد لشعوب منطقتنا أن تسيطر على قرارها ومصائرها. ودعم واشنطن للعدوان الإسرائيلي عام 1967 كان واضحاً للعيان، وهي سعت لإستثمار نتائج العدوان لتركيع المنطقة ومفاقمة انقساماتها وتغييب حقّ شعوبها في تقرير مصيرها وفي اختيار أنظمتها السياسية والاجتماعية. وهذه السياسات ما زالت ساريةً حتى يومنا. ومن هنا اخترتُ العنوان الثاني للكتاب «صعود الحضور الفلسطيني في زمن الإنتكاسات»، على اعتبار أن "نكسة" 1967 لم تكن سوى فاتحةٍ لسلسلةٍ متلاحقة من الإنتكاسات التي يتناولها الكتاب باستفاضة ليسجّل انعكاساتِها السلبية على المسيرة الفلسطينية الصعبة. أما المصادر فهي متنوّعة، وأوردت أهمّها في نهاية الكتاب. والمواكبة الشخصية لأحداث هذه الحقبة سمحت لي بتقدير أهمّية هذا المصدر أو ذاك. 

ما هي أبرز التحديات والصعوبات التي واجهتك فترة إنجاز هذه الدراسة الموسوعية؟

المشكلة الأكبر التي تواجه كل الدارسين لأوضاع منطقتنا تكمن في عدم قيام دولِنا ومؤسساتِنا الرسمية العربية بالإفراج عن الوثائق الداخلية بعد مضي سنواتٍ معيّنة عليها، كما تفعل دولٌ أخرى في العالم. ولذلك يعتمد الدارسون للماضي القريب إلى حدٍّ كبير على المصادر الأجنبية، الأميركية والأوروبية مثلاً، وحتى على المصادر الإسرائيلية، بالرغم من الرقابة المُحكمة التي تخضع لها. أما مصادر الباحث باللغة العربية فتقتصر، غالباً، على المواد المنشورة، بما في ذلك المذكّرات التي يكتبها بعض الساسة والناشطين العرب، أو أية مقابلات مباشرة يمكن أن يُجريها الباحث نفسه مع مواكبين للشأن العامّ. والشهادات الشفهية تحتاج، طبعاً، إلى تمحيص، سواء بسبب الإخفاقات المحتملة للذاكرة، أو بسبب النزعة البشرية لصبغ بعض الأحداث والمواقف الماضية بألوانٍ معينة، زاهية أو داكنة، لاعتباراتٍ ذاتية. وفي "عالمنا الثالث" الزاخر بالاستبداد والفساد وغياب الشرعية الشعبية، من غير المستغرب أن يلجأ بعض أصحاب القرار إلى حجب المعلومات عن شعوبهم، وإلى ليّ عنق الوقائع وتشويهها في ما يعلنونه. 

لماذا اخترتم هذا الموضوع "الإشكالي" إلى حدٍّ ما والمليء بالأسئلة؟

من حق الأجيال المتعاقبة في منطقتنا، وخارجها، معرفة حقيقة ما جرى في الماضي. وقراءة الماضي، بالطبع، أمرٌ ضروري لفهم الواقع الراهن ولمحاولة رسم طريق المستقبل. وقضية فلسطين قضيةٌ صعبةٌ ومعقّدة، ولكنها قضيةٌ تستحقّ التضحيات التي قدّمها شعبُها وشعوبُ المنطقة لكونها قضية شعبٍ كاملٍ تعرّض لظلمٍ هائلٍ، وقضية منطقةٍ أوسع عانت وتعاني من مفاعيل هذا العدوان المستمرّ، فالإسرائيليون وحلفاؤهم ما زالوا يسعون لحرمان شعوب المنطقة من حقّها في تقرير مصيرها وانتزاع حرياتها وحقوقها الأساسية وتحقيق تطوّرها الفعلي (وليس الظاهري، الاستهلاكي). إنها مسؤولية كلّ دارسٍ وكل من عمل في الشأن العامّ في منطقتنا أن يسجّل ما واكبه من أحداثٍ لاطّلاع ومعرفة الأجيال اللاحقة.

ماذا ترون أنه تحقّق في «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» أكثر من مؤلفاتك السياسية الأخرى؟ ومن بعد ما هي قيمة الكتاب في عصرنا الحديث؟

حاول هذا الكتاب تقديم صورة منسّقة لأحداث مرحلةٍ تاريخية من نضال الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المحيطة. ونظراً لكوني عملت لسنواتٍ طويلةٍ في المجال الصحافي، فإنّ الكتاب جاء ليقدّم قراءةً أوسع نطاقاً من المتابعات اليومية للأحداث. وبما أنّ العمل عليه استغرق، عملياً، أكثر من خمس سنوات، فإنه تجاوز، في الجهد المبذول، أية كتاباتٍ سابقة لي. وبالطبع، هناك الكثير من الكتابات الهامة التي صدرت عن مؤرّخين ودارسين عربٍ وأجانب تعالج جوانب متعدّدة من الحقبة التي تناولتها. 

ماذا عن ردود الفعل الفلسطينية الرسمية والشعبية تجاه ما ورد في هذا الكتاب الموسوعي؟

لم تصلني ردود فعلٍ فلسطينية رسمية حقيقية، ولكني لمست اهتماماً من بعض المتابعين، كما في الندوات التي عُقدت في عددٍ من مدن فلسطين. ووصلتني بعض التعليقات المشجّعة من أنحاء فلسطين وخارجها، بما في ذلك من أوساطٍ ثقافية وسياسية لدى أهلنا في مناطق 48. ولكن، بحكم حجم الكتاب، ربما نحتاج إلى زمنٍ أطول لسماع المزيد من الملاحظات والتعليقات. 

إلى أي مدى يمكنك كباحث وكاتب فلسطيني ملتزم بقضية شعبك أن تكون محايداً تجاه الموضوع الذي تشتغل عليه؟

الحياد ليس وارداً في أي موضوعٍ له علاقة بالبشر. فكل كاتبٍ له خلفياتُه الفكرية والسياسية التي لا يمكن أن تختفي خلال عملِه البحثي والدراسي، حيث عليه أن يختارَ ما يورده في كتابِه من المعلومات الكثيرة التي تتوفّر لديه. والمهمّ في أيّ عملٍ كهذا هو الصدق والأمانة، أيّ تجنُّب كل ما يمكن أن يكون، بشكلٍ أو بآخر، تزويراً للواقع. طبعاً، الكاتب الذي يتناول الماضي القريب، بمن في ذلك كاتبُ السيرة الذاتية، لا يكتب كلَّ ما يعرف، ويعمد أحياناً إلى تفادي ذكر بعض ما توصّل إليه من معلومات، ولكن المهمّ هو أن يكون ما يكتبه صحيحاً، ودقيقاً إلى أقصى حدٍّ ممكن، وألّا يؤثّر ما حجبه من معلوماتٍ على صحة الصورة العامّة التي يرسمها. 

ما النصائح التي يمكن توجيهها لمن يود الاشتغال في حقل الدراسات السياسية، خصوصًا من الشباب؟

الشيء الأهمّ هو القراءة والاطّلاع على أكبر قدرٍ ممكن من المصادر الجادة، باللغة العربية كما بلغاتٍ أخرى. ومن المهمّ، في هذا المجال، معرفة لغةٍ أجنبيةٍ ذات حضورٍ عالمي واسع، نظراً لوفرة الكتابة بلغاتٍ كهذه ووفرة الترجمة إليها من لغاتٍ أخرى، في حين لا تتوفّر، للأسف، ترجماتٌ كافية إلى لغتنا العربية مقارنةً بما يُترجم في بعض أهمّ هذه اللغات. وبالطبع، من المهمّ التدقيق في كل معلومة. فليس كل ما هو منشورٌ على الورق أو إلكترونياً، وأكثر من ذلك ما يُنقل شفهياً، صحيحاً بالضرورة. 

وفي الماضي كان يُقال: "إنّ التاريخ يكتبه المنتصرون"، وهذه المقولة يمكن أن تتطوّر في عصرنا، الذي تنتشر فيه وسائل الإعلام والاتصال المتنوّعة، لتشير إلى أنّ صياغة الوقائع يسيطر عليها، إلى حدٍّ كبير، وإن بشكلٍ غير مطلق، الأقوى والأثرى، حيث يعمل أصحاب السطوة السياسية والمالية على إغراق وسائل الإعلام والاتصال بـ "حقائقهم" التي تخدم مصالحَهم ومشاريعهم الخاصّة، ويحاولون حجب الحقائق المؤذية لهم. 

كيف ترون حلّ القضية الفلسطينية في المدى المنظور والبعيد بعد اتفاق أوسلو والاتفاقات اللاحقة، ومساعي الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة بعدها لتحجيم التطلّعات الفلسطينية وحصرها في إطار الحلّ الإسرائيلي القائم على إدامة "الحكم الذاتي" كحلّ نهائي، ومنع قيام حتى هذه "الدولة" الصغيرة التي طالب بها الشعب الفلسطيني؟

بعد أكثر من ربع قرنٍ على اتفاق أوسلو، وبعد أكثر من نصف قرنٍ على عودة حضور الشعب الفلسطيني، وبعد أكثر من قرنٍ على بدء الغزوة الصهيونية لفلسطين، يبدو واضحاً أنّ مهمّة إنهاء الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني تحتاج لمزيدٍ من التضحيات ولمزيدٍ من الزمن، الذي لا يمكن التنبؤ بمداه. 

وقد أوردتُ في الصفحات الأخيرة من «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» كلماتٍ لصحافيٍ أميركي (يهودي)، هو بنجامين شوارتز، من مجلة "ذي أتلانتيك"، حلّ في منطقتنا في أوائل العام 2005، أثناء ولاية آريئيل شارون وبعد هجمته الدموية على مناطق "الحكم الذاتي" في الضفة الغربية، وسجّل استغرابه لتكرار الحديث معه أثناء لقاءاته مع "إسرائيليين من اليسار واليمين (المعتدل) في المجالين الأكاديمي والعسكري وفي الحكومة والأجهزة الأمنية" عن أنه "كان علينا القبول بأوغندا"، على حدّ تعبيرهم، في إشارةٍ إلى العرض الذي قدّمته بريطانيا في مطلع القرن العشرين للحركة الصهيونية لإقامة الدولة اليهودية في شرق إفريقيا، وهو العرض الذي لم يرفضه مؤسّس الحركة الصهيونية السياسية تيودور هيرتسل، قبل أن تحسم المؤتمرات الصهيونية اللاحقة بالاتّجاه الآخر، باتّجاه فلسطين. ومن الواضح أنّ الحديث عن "أوغندا" من قبل أشخاصٍ نافذين في إسرائيل في مطلع العام 2005 يعكس ما أسميتُه في الكتاب بـ "القلق الإستراتيجي" المستحكم في الأوساط الصهيونية. 

وهذا "القلق" ما زال قائماً، بالرغم من "الإنجازات" العسكرية-القمعية، والإقتصادية-التكنولوجية. صحيح أنّ المجازر وأشكال البطش المتنوّعة، التي يسعى المستعمرون الإسرائيليون من خلالها لإدامة سيطرتهم على الأرض الفلسطينية وعلى أراضٍ عربية أخرى، تتواصل، كما يتواصل ويتعزّز دورهم "الإمبريالي الإقليمي" في المنطقة، خاصّةً مع صفقات التطبيع التي عقدتها بعض أنظمة منطقتنا معهم، لكن الأعوام الأخيرة شهدت كذلك تصاعداً ملحوظاً للوعي العالمي بحقيقة دور إسرائيل. فقامت مؤسساتٌ وشخصياتٌ عالمية ذات شأن بتصنيف إسرائيل دولة "أبارتهايد" (فصل عنصري)، وتنامت، حتى في الولايات المتحدة، الأصوات التقدّمية الناقدة لإسرائيل، بما في ذلك لدى الأميركيين اليهود، الذين بات زهاء رُبعهم يعتبرُها دولة "أبارتايد"، حسب أحد الاستطلاعات الحديثة. ولكن هذه المؤشّرات تحتاج إلى سنواتٍ لإنضاجها واتضاح تأثيرها العملي.

والعامل الخارجي مهمٌّ، بالطبع، ولكن العامل الذاتي ودور المحيط المباشر لهما أهمّيةٌ أكبر: ولا شكّ أن صمود الشعب الفلسطيني على أرضه في زمننا، بشكلٍ أفضل بكثير مما حصل في أواخر الأربعينيات الماضية، يشكّل عنصراً هامّاً في ضمان استمرارية هذا الجهد وإبقاء الأفق مفتوحاً للوصول في زمنٍ ما إلى إنهاءٍ لهذا الظلم، ولو على مراحل. ومع أنّ التطوّرات السلبية في منطقتنا العربية خلال العقود التي تلت هزيمة العام 1967، بما في ذلك خلال الأعوام الأخيرة، لا تبعث الكثير من الأمل على الأمد القصير، إلّا أنّ التاريخ، بالطبع، لا نهاية له. ولا نهاية لتطلّع الشعوب، بما فيها شعوبنا العربية، ومساعيها لاستعادة زمام أمورها والتحرّر من كل أشكال التحكّم الخارجي بمصائرها ومن تغييب حقّها في اختيار أنظمتها والدفاع عن مصالحها ومستقبلها.

أخيرًا، ماذا بعد «الفكرة... والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات»؟

بعد الانتهاء من صياغة الكتاب، انكببت على قراءاتٍ واسعة تتعلّق بـ "الحروب الصليبية"، في سعيٍ للبحث عن المشترك بينها وبين الهجمة الصهيونية المعاصرة، وهو كثيرٌ برأيي، رغم الهوة الزمنية. ووسّعت القراءات لتشملَ تجارب استعمارٍ استيطاني أخرى في القرون الأخيرة، وخاصّةً تجربتي جنوب إفريقيا والجزائر. وشاركت في ندواتٍ تناولت هذه المقارنات. ولكن مشروع الكتاب الذي كنت أفكّر فيه لم يَرَ النور. بالمقابل، عملت في مجال الترجمة إلى اللغة العربية، بما في ذلك لكتابٍ كامل، بالإنكليزية، يوثّق مشاريع سدّ الطريق على الدولة الفلسطينية في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وهو كتابٌ من المتوقع أن يصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في وقتٍ قريب. وهناك أيضاً بعض الأفكار الكتابية الأخرى التي ما زالت في مرحلة الإنضاج.