رغم أن المسلسل نفسه لم يتعمّد كل هذه التضمّنات، إلا أن ما تحوّل إليه المسلسل واقعيا هو أداة بروباغاندا واسعة النطاق، تستهوي الملايين وتستقطبهم إلى دولٍ وأسلوب حياة معولم، ولكننا طالما ندرك ذلك، فلا بأس من الاستمتاع بأجمل تحف التلفاز الحديث؛ مسلسل "فريندز" الذي نعشقه كلّنا.
هو مسلسل تلفزيوني من التسعينات دخل قلوب الملايين، وبعد أكثر من عقد من انتهائه، عادت صيحته بموجة أخرى من ملايين المشاهدين الذين يحفظون كل موقف ومشهد وحدث، يتْلون الجُمل مع الشخصيات كما لو أن النصّ بين أيديهم، ويكررون مشاهدة الحلقات في أوقات الفرح والمرارة. تتعامل شخصيات المسلسل مع مواقف الحياة التي تحصل في حياة الإنسان "العاديّ" بعفوية وبلاهة وجهل، لأول مرة، ويتعلمون من خلالها الحياة ونتعلم معهم. يروي المسلسل قصة عن ستة أصدقاء عشرينيين يعيشون في شقق مقاطعة "مانهاتن" وسط مدينة نيويورك، يكافحون للتقدم في مجالاتهم المختلفة، يخوضون تجارب عاطفية وعلاقات فاشلة في بحثهم عن الحب، يكابدون المشاكل العائلية وتوريطات الأقارب، ويتعلمون قيم الصداقة من خلال الحياة وما تجلب لهم من سراء وضراء.
حسب مجلة "فوربز" الاقتصادية، كانت تصل مشاهدات مسلسل "فريندز" في سنوات بثّه إلى 25 مليون مشاهد كل ليلة، حاصدا 1.4 مليار دولار للممثلين والمنتجين ومليارات أخرى لشركة الإنتاج حتى اليوم. وفي السنوات الماضية القليلة، تدفقت موجة رواج أخرى على المواقع الإجتماعية في العالم كله، واصلة حتى البلدان العربية. ما هو سبب هذا النجاح غير المقرون، إذن، وما سرّ شعبية هذا المسلسل العالمية؟ ما هو مدى واقعية الحياة التي نراها على الشاشة، وما هو تأثيرها النفسي والثقافي على جيل الشباب الحالي؟
محاكاة لحياة اجتماعية في غير المتناول
"ما هو أكثر ما يجذبك إلى المسلسل على الصعيد الشخصي، وما هو سرّ نجاحه الكاسح؟" كان سؤالاً وجهته لعدد من أصدقائي ولاقيت بالمقابل جواباً موحّداً قبل التفضيلات الشخصية المختلفة، وكان هذا الجواب هو أن المسلسل يقدم لنا جوّاً اجتماعياً في غير متناولنا، وليس بإمكاننا كجيل عاش أغلب حياته الاجتماعية على وسائل التواصل الإلكترونية أن نكون مثل الشخصيات تلك التي نحبها.
"أغلب المنشورات والتعليقات على مجموعات المعجبين بالمسلسل الافتراضية مختصرها: ليت لديّ أصدقاء كهؤلاء، أو ليس لدي رفاق أساساً وأولئك هم رفاقي، أو مثلاً حين أرى أحدا في الجامعة يرتدي كنزة مطبوع عليها شيء يخصّ "فريندز"، أتمنى لو أستطيع محادثته أو مصادقته"، تقول فتاة سورية.
"أظن أن سبب شعبيته الكبيرة في آخر بضع سنوات هو أن الحالة العائلية عندنا أصبحت مزرية؛ إنه يخلق لك جوّا عائلياً دون وجود عائلة، يعطيك أملاً بأن العائلة لا يشترط عليها أن تكون الأهل وهي ليست الجو العائلي الوحيد"، يقول شاب فلسطيني.
"أشاهده لأنه يذكرني بأيام الطفولة، فكنا نشاهده ونحن صغار. إنه يعرض لنا كل مواقف الصداقة، وأحببت فيه كيف أنهم لا يتخلون عن بعضهم البعض. وإلى جانب ذلك، فقد ساعدني على تعلّم مفردات بالإنجليزية وهذا شيء جيد"، قالت أخرى فلسطينية.
يحاكي المسلسل الحاجات الاجتماعية الطبيعية التي يتوق لها الإنسان، وشهرتُه المتصاعدة والكاسحة، رغم أنه يجمع مشاهديه في جوّ عائليّ موحّد وينجدهم في فترات حياتهم الهابطة أو المملة، هي انعكاس للجانب السلبي للتواصل الافتراضي، ومؤشر على قضايا أخرى ذات أبعاد أعمق.
منفَذ عاطفيّ لجيل مكبوت
من المواضيع المستمرة في خلال المسلسل كله، مثلما في الحياة، البحث عن العلاقات الغرامية وخوض التجارب العاطفية. تلتقي الشخصيات بمعارف جديدة باستمرار من خلال العمل والمناسبات الاجتماعية والأصدقاء وما إلى ذلك، يختبرون فيها الحبّ والجنس والعلاقات الثابتة والمتقلبة الواقعية التي من الممكن أن تحصل في حياة المشاهد.
إذا أخذنا في عين الاعتبار أن المجتمع الذي يشاهد هذه المحاكاة الحسيّة المتلفزة هو مجتمع ذو بنية فردية يحوز فيه المرء على حرية التجريب الجنسي والعاطفي، فإن الأحداث التي يشاهدها تملي عليه توقّعاته في الحياة الواقعية، ولا بأس في ذلك نظرا لأن تلك الأحداث واقعية ومستمدة من الواقع، ولكنها تملي نفس التوقعات والتجارب على الملايين من المشاهدين وهكذا يصبح الحدّ بين الواقع والمختلَق مبهم؛ هل الواقع هو الذي ألهم أحداث المسلسل، أم أن المسلسل هو الذي أصبح يلهم أفعال المجتمع؟
وتطرأ فرضية مختلفة تماماً لو أخذنا في عين الاعتبار الملايين الأخرى من المشاهدين التي تعيش في مجتمعات ذات بنية اجتماعية صلبة ومعقدة، وهو أن الواقع الافتراضي الذي يخلقه المسلسل يشكّل منفذاً عاطفياً لمشاهديه غير القادرين على عيش مثل هذه السيناريوهات، وغير قادرين حتى على محاولة تقليدها مثل في مثال المجتمع المذكور سابقا. في سياق أن الجميع يشاهدون هذه العلاقات العاطفية أو الجنسية، فإن هذا تواصل غير مباشر بمثابة لغة مشفرة للحديث عما لا يجوز الحديث فيه مع الطرف الآخر، وهي كمالية لا يمكن لجيل محاصر بالحدود والعيون أن يرفضها.
هل هذا العالم الذي نراه على الشاشة موجود في أي مكان واقعي؟
يقدّم لنا المسلسل مجموعة مترابطة من الأصدقاء يتشاركون الحياة بكل تكاليفها كعائلة ووحدة موحّدة، أشبه بمجتمع شرقي صغير وسط أكبر مدينة تجارية في العالم ومركز السوق العالمي. يبدأ كل منهم عشرينياته في وظيفة متواضعة أو مزرية، ويعمل بجدّ إلى أن تأتيه فرصة العمر، فتصل نادلة إلى أعلى مراكز شركات الأزياء، وينضم ممثل أخرق إلى مسلسل تلفزيوني عالمي، في حين تتملك طبّاخة مطعمها الخاص في مرحلة ما... أي بكلمات أخرى، يعيشون الحلم الأمريكي، ورغم أن المسلسل يظهر جانباً مريعاً من المجتمع الأمريكي (ويظهر هذا في سياق كوميديّ فقط) والمدن الكبرى، وهو ما قد يمنعنا من القول بأنه لا يعرض لنا نوعا من اليوتوبيا الرأسمالية، إلا أن هذا الجانب المريع هو في الواقع جزء من اليوتوبيا الرأسمالية.
إن أسلوب الحياة الذي يعرضه لنا المسلسل يقدّم لنا بصفته النظام الاجتماعي الممكن الوحيد، حتى لو لم تكن هذه هي النية الأولى، ومستوى رواج المسلسل يشير لنا بأن أسلوب الحياة هذا قد أصبح هو المبتغى في جزء كبير من العالم، إن لم يكن في كل العالم، وأي أسلوب آخر للعيش غير ممكن، أو الأسوأ من ذلك، غير موجود في الحسابات الذهنية؛ إن الجيل الجديد لا يتوقع أن هنالك أسلوب حياة آخر في الوجود، وهذه خطوة لا عودة منها.
ماذا يعني هذا لجيل الشباب؟
ما يلي ذلك هو أن المسلسل قد أصبح رمزاً لأسمى ما يمكن أن يصل له الإنسان في هذا الزمن: وظيفة وشقّة في المدينة وعلاقات متتالية وبعض الأصدقاء الأوفياء. لكن حتى لوحة الصداقة التي يرسمها لنا المسلسل تعارض النظام الذي يملي بأن المرء يجب أن يضع نفسه أوّلا، فالقيَم التي تروّج حتى في عنوان المسلسل من غير الواقعيّ أن تنتصر على المصالح الشخصية في سياق واقعيّ وغير مسرحيّ، أي بكلمات أخرى إن مجموعة شبيهة بشخصيات المسلسل غير موجودة في الواقع في مجتمعات تجارية، أما المسلسل فيأخذ الجانب الإيجابي فقط من كلا المجتمعين لصنع يوتوبيا خاصة به.
رغم ذلك، فإن صورة المسلسل تجتاح عقول الملايين الذين يحلمون بالسفر إلى تلك المجتمعات أو بخلق جوّ مماثل في مجتمع مختلف تماماً، وفي كلتا الحالتين هي محاولة تحمل نصف ما يحلمون به فقط، أما النصف الآخر فهو دائما في مكان آخر. ووجود هذه الصورة في عقول المتابعين تخلق نقصا مستمرا في نفوسهم، وأملا مستمرا في يوتوبيا ما، في يوم من الأيام. إن التجربة المبثوثة تحلّ محلّ التجربة الواقعية، وتتم المحاكاة باستمرار في حين أن العمر يمضي؛ لا يتحادث الشباب فيما بينهم واقعياً ويحلمون بحياة اجتماعية أمام التلفاز. لكن استنتاجنا هنا هو ليس إدانة الشباب، بل إن الاستعمار الذي يتفرّع إلى الاستعمار الثقافي من خلال الشاشات يفرض حرمانا على الأمم الخارجية ويغسل أدمغة الأمم المستعمرة لتستمر بتقديم طاقاتها للجهود الاستعمارية والنيو-كولونيالية، والاستعمار الجغرافي يحرم الأمم من حرية السفر ما بين المجتمعات ويربطهم ببيروقراطيته في مجتمعاتهم المحاصرة والمستهدفة، في حين أن الاستعمار السياسي يلوّث هذه المجتمعات لتصبح على صورة المجتمع المستعمِر، "فالمؤسسة لا تريدنا أن نمارس الجنس لأنهم يعرفون أنه يمدّنا بالسعادة، فإذا كان من الممكن أن نحصل على السعادة وحدنا فما حاجتنا للمؤسسة؟" يقول مسلسل آخر، وكلها وجوه ألطف للاستعمار العسكريّ على أرض الواقع.
رغم أن المسلسل نفسه لم يتعمّد كل هذه التضمّنات، إلا أن ما تحوّل إليه المسلسل واقعيا هو أداة بروباغاندا واسعة النطاق، تستهوي الملايين وتستقطبهم إلى دولٍ وأسلوب حياة معولم، ولكننا طالما ندرك ذلك، فلا بأس من الاستمتاع بأجمل تحف التلفاز الحديث؛ مسلسل "فريندز" الذي نعشقه كلّنا.