كمال بُلاّطه... قراءات بصرية متعددة الأوجه

2022-02-19 00:00:00

كمال بُلاّطه... قراءات بصرية متعددة الأوجه
كمال بلاطة. تحية الى سوفرونيوس. من سرّة الأرض، مجموعة من 12 عمل، 1997-1998. أكريليك على قماش. من مجموعة خالد شومان الخاصة، دارة الفنون - مؤسسة خالد شومان.

قرأ 46 مقالاً في تسعة أقسام، تتخللها لوحات الفنان المقدسي العالمي وفنانون آخرون يقدم نقداً لأعمالهم. الكتاب -كما يكشف هامش صغير فيه- يستوحي عنوانه من ليدة أو أغنية «الجوال» الألمانية للموسيقار فرانز شوبيرت، والتي استوحاها من قصيدة للشاعر الألماني جورج شميدت تحمل نفس العنوان.

كمال بُلاّطة الفائز بجائزة محمود درويش للإبداع للعام 2019، تميّز بجمعه بين الإبداع التشكيلي الذي جعله في مصاف كبار الرسامين الفلسطينيين والعرب وبين المشتغلين بالنقد والتأريخ الفني والبحث الجمالي، وكان في هذا الحقل من خيرة الباحثين في تاريخ الفن الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهو من أبرز الساعين إلى ترسيخ الذاكرة التشكيلية الفلسطينية في كتب وموسوعات تعد من أهم المراجع العلمية والتاريخية، لأنه ناقد متمكّن من تاريخ الفن الحديث بحركاته ونظرياته ومدارسه الفكرية، ومن الحركة الفنية في فلسطين والعالم العربي. 

«استحضار المكان: دراسات في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر» (2000)، وصفه الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز بـ"(الرحّال) الذي تعيش القدس دائماً في باله، والذي لا يريد التوطّن أو الاستقرار في أي بلدٍ في الوقت الذي لا تزال فيه بلاده محتلّة؛ لم يكتف بالرسم فقط، وذهب نحو إنجاز العديد من الأبحاث حول الفنون الإسلامية في المغرب وإسبانيا، وكذا حول الرسم في فلسطين ما بعد الحقبة البيزنطية".

تجربة المبدع الفلسطيني المتعدد المواهب نالت اهتمام النقاد والمؤرخين والبحاثة في حقل الفنون البصرية، من ذلك ما كتبه الناقد الأدبي المغربي عبد الكبير الخطيبي، في مقدمته لكتالوج معرض «سرّة الأرض»، الذي أقيم في دارة الفنون (عمّان، 1998): "خلف شغفه بعلم الهندسة يكمن تقليد رسم الأيقونات الذي طبع بداياته في التدريب الفني، وقد حافظ هذا التقليد على استمرارية بارزة بين الحقبة البيزنطية والحضارة العربية-الإسلامية. لكن بُلاّطة لا يكتفي باستكشاف هذا التقليد المزدوج، بل ينقله إلى إطار جديد بصفته فناناً ومتملكاً علم الجمال".

وكتب خوسيه ميغيل بويرتا فيلتشيز، وهو أستاذ إسباني في مادّة علم الجمال لدى العرب في جامعة غرناطة، في مقدمته لكتالوج معرض «بلقيس» الذي أقيم في غاليري ميم (دبي، 2014): "أُنجزت هذه الأعمال التي تحظى بالتقدير الدولي عبر اختيار مجموعة من الأمثال والأقوال المأثورة العربية المأخوذة من الكتب المقدسة والمصادر الصوفية... تمزج تركيبة النماذج الهندسية بين الشفهي والبصري في فن عربي خالص، حديث بطريقة ممتعة".

فيما كتب الناقد الفني البريطاني جان فيشر، في مقدمته لكتالوج معرض «... وكان هناك ضوء»، الذي أقيم في غاليري برلوني (لندن، 2015): "يعكس نتاج بُلاّطه الكامل من الناحية الجمالية، سواءً البصري أو النصّي، مسار حياته الذي كرّسه ليقاوم، عن طريق وسائل متقنة غير عنفية إنما راسخة العزيمة، القوى التي تسعى إلى إطفاء الروح الفلسطينية وقدرتها على الفرح...".

ورأت الناقدة جين فيشر في مراجعتها لكتابه «الفن الفلسطيني: من 1850 إلى الحاضر» (2009)، أنّ من بين "أكثر رؤى بُلاّطه إدهاشاً رؤيته أن بوتقة الحداثة الفلسطينية يجب العثور عليها في تعريب وتجنيس فن الأيقونات البيزنطي". ولكن بُلُاّطه نفسه لم يتبع هذا المسار، بحسب الناقدة الإنكليزية إليزابث كي فاودن، التي أضافت: "وبدلاً من ذلك، حرّضته الأيقونة الأرثوذكسية على الرحيل على طريق يؤدي إلى منوعات التجريد بعيداً عن تزايد تجنيس الفن التشخيصي، إلى تقطير المنظور غير الخطي الماثل في صميم وجود فن الأيقونات الأرثوذكسي، لخلق تعبير فنّي حديث مختلف اختلافاً راديكالياً عن تعبير الفنانين الفلسطينيين الذين يحلّل أعمالهم في كتابه. فلماذا سلك طريقاً مختلفاً مثل هذا؟".

الأستاذة في جامعة كامبريدج، بينت أنّ "أعمال بُلاّطة الفنية تتيح لنا رؤية من زاوية أرثوذكسية التبصر في لغته الفنية، ليس في سياق الفن الفلسطيني والعربي فقط، كما هي الحالة المعتادة، بل كمساهمة في التجارب الراهنة على مستوى العالم، ومبعثها الأزمات السياسية والصدامات الثقافية التي أطلقت شرارة الفن التجريدي في أوائل القرن العشرين، وفي موسكو قبل أي مكان آخر، حيث حفّز منظور الأيقونة غير الخطي، على إحداث تغيير إبداعي جذري". مضيفة: "تكمن الصلة الأقوى بين بُلاّطه وفناني أوائل القرن العشرين في إصرارهم على تعدد المستويات في اللوحة، وتمسكهم بتعدد المراكز، ونبذهم للمنظور الأحادي والثبات، وكلاهما يُفرض فرضاً على المشاهد بصرياً وروحياً". 

في كتاب حرّره وقدمه الباحث في الفن فنبار باري فلود، تحت عنوان «There Where You Are Not»، ونشر بعد أربعة أشهر من وفاة بُلاّطة، نقرأ 46 مقالاً في تسعة أقسام، تتخللها لوحات الفنان المقدسي العالمي وفنانون آخرون يقدم نقداً لأعمالهم. الكتاب -كما يكشف هامش صغير فيه- يستوحي عنوانه من ليدة أو أغنية «الجوال» الألمانية للموسيقار فرانز شوبيرت، والتي استوحاها من قصيدة للشاعر الألماني جورج شميدت تحمل نفس العنوان.

وبُلاّطة وفقاً لناصر الرباط، مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإنّ "في فن كمال بُلّاطه، بل وفي سيرورته في العالم، وعي كبير وواضح بالهامشية المضاعفة التي ألقاها الدهر على عاتقه: هامشية "الآخر" وهامشية الفن كـ"آخر". فهو خبير قديم بالوطأة الوجودية لـ "الآخر"، وبشكل خاص الآخر المنفيّ عن بلده بقوة غاشمة، الذي تاه في الأرض لا ليستقر في مرفأ آمن ولكن لكي يصوغ من كل المتناقضات والثغرات التي شكّلت حياته في القدس وخارجها كلاً تعبيرياً متكاملاً يشهره في وجه العالم كجوابٍ معبرٍ عن مأساته الشخصية والوطنية، وطبعاً -بما أننا نتكلم عن كمال- الإنسانية.

أمّا هامشية الفن كآخر فهي نتاج الحالة التاريخية التي وجد كمال الفن فيها في الثقافة العربية، هامشياً بالنسبة إلى مجالات الإبداع الأخرى كالشعر والموسيٍقى، وكذلك الحالة التاريخية التي واجهها الفن الفلسطيني، والعربي بشكل عام، هامشياً في مواجهة الثقافة الفنية العالمية. وهو قد تعامل مع كلا التحديين بحكمة وحنكة ونفس طويل، متسلّحاً بفهم عميق للتنظير المعاصر الذي ساعده على فهم نفسه وعلى قولبة موقع كينوني لفنّه على هامش الهامش ظاهراً (فهو يغرّد خارج السرب منذ سنوات إن فلسطينياً أو عربياً أو عالمياً) ولكن في قلب انزياح فرضه على المركز، هوياتياً وتجريدياً. وأصبح جَرّاءه في الآن نفسه نسيج وحده، وواحداً من أولئك القلائل الذين يخلقون للفن المعاصر حقله المعرفي وأدواته التعبيرية... وياله من إنجاز".

ويشير الشاعر والمترجم التونسي خالد النجار، أنّ بُلّاطه "يجمع في أعماله بين الصرامة الهندسية والشاعرية العميقة وهو، كما تقول العرب، مَركب صعب. فنّان متجذّر في ميراثه الكنعاني والعربي المسيحي والإسلامي، فنان مأخوذ بالدقة الرياضية مع التأمُّل اللغوي... كل الناس التي لم يسعفها الحظ لمشاهدة معارضه لا بدّ أنها رأت بعضاً من أعماله الحروفية في كتب عبد الوهاب المسيري وفي المجلات وعلى أغلفة مجلات "مواقف" و"شؤون فلسطينية" و"الكرمل"، وعبر ملصقاته التي أنجزها لـ"المؤسسة الثقافية العربية الأميركية" في واشنطن التي كان أحد مؤسّسيها و"غاليري ألف" التابع لها، وغيرها من المؤسسات. كما كان بُلّاطه يجمع بين الحدس الفني والحس الرياضي بالأشكال، كما لو كان يردّد مع بول كلي ترى بعين وبالأخرى تشعر بالأشياء... كان له اطّلاع موسوعي على عوالم اللغة والتاريخ العربيين".

 

جميع اللوحات المرفقة بالملف من مجموعة "سُرّة الأرض" (١٩٩٨، دارة الفنون) وهي متوالية أعمال مؤلفة من اثنتي عشرة لوحة، تم إنتاجها باهتمام من الفنانة سهى شومان وزوجها الراحل خالد شومان. قدّمت لنا الصور "دارة الفنون" مساهمةً منها في الملف.