تعقب الباحث والمفكر الكبير أنيس صايغ، يجعل الأمور أسهل للفهم، كما أنه يعقدها، مع النظر إلى تاريخ الثورة الفلسطينية المشرق بالنضال والبطولات، وليس إلى النتائج التي نعاينها هذه الأيام، فالرجل كتب في مجلة "الناقد" مراجعا نفسه على استقالته من إدارة مركز الأبحاث الفلسطيني،
على مرّ أعوام النضال الفلسطيني، ظل سؤال الثقافة والسياسة محيراً، ودائراً بين التبعية والاستقلالية، ويسهل لدى بعض الكتاب الانتهاء إلى إجابة واحدة تفيد بتبعية المثقف للسياسي، ولهذه الإجابة مبرراتها وسياقاتها الجوهرية، في المقابل لدى كتاب آخرين رأي باستقلالية الثقافي عن السياسي، ولهذا الرأي أيضا مبرراته وسياقاته.
تأسست منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٤، وكان من أولى قرارات لجنتها التنفيذية الأولى برئاسة السيد أحمد الشقيري، إنشاء مركز الأبحاث الفلسطيني في ٢٨ شباط ١٩٦٥ في بيروت، لتغطية الصراع العربي - الصهيوني من خلال إصدار الكتب وعقد الندوات والمؤتمرات وأرشفة الوثائق والمخطوطات التي تهدف إلى تحقيق هذا الغرض. رأى الشقيري في تأسيس المركز ضرورة كبيرة، وعرف عنه قوله "لقد أنشأت فيكم كفلسطيني أمرين، أولهما عقل المنظمة وهو مركز الأبحاث، وعضلات المقاومة وهو جيش التحرير".
تولى شؤون المركز عند تأسيسه فايز صايغ، الذي حل مكانه شقيقه أنيس في صيف ١٩٦٦، الذي وصف المركز حين استلامه، في مذكراته بأنه كان "يحتل شقة متوسطة الحجم في شارع السادات في بيروت، ويضم مكتبة في ثلاث أو أربع خزائن، وصدر عنه خمسة كتب فقط"(1)، تطور المركز خلال سنوات إدارة الراحل أنيس صايغ، فانتقل مكانيا إلى بناية في شارع كولمباني، وشغل منها ستا من طبقاتها الواسعة، لتحتل المكتبة طبقتين كاملتين، فاحتوت مع الوقت على عشرين ألف مجلد، وألف ملف وعشرات الخزائن من الوثائق. وكانت منشورات المركز قد تجاوزت الثلاثمائة بعدة لغات، فضلا عن مجلة "شؤون فلسطينية" ونشرة الرصد التي كانت تصدر مرتين في اليوم. كما وصل عدد الباحثين في المركز إلى أربعين، والإداريين والمحررين إلى عشرين، ويؤكد في هذا الجانب، أن نمو المركز في مشاريعه، وفي نقل رسالته إلى العالم كله، هو الذي "نصبّ مركز الأبحاث على عرش الثقافة الفلسطينية المؤسسية في السبعينيات من القرن العشرين" (2). وسرعان ما تمكن مركز الأبحاث الفلسطيني من تجسيد المقولة المهملة آنذاك حسب تعبير صايغ بأن "المعركة الثقافية هي جزء أساسي وساحة رئيسية في صراعنا مع العدود الصهيوني الذي لم يهمل سلاح الثقافة في أي جولة من جولاته المتتالية ضد شعبنا في مائة عام".
يذكر صايغ في مذكراته، بأنه يدين في نجاح المركز الذي يصفه بالفريد من نوعه، إلى ثلاثة، هم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، وشقيقه فايز صايغ مؤسس المركز، وإلى المثقفين العرب. بالعودة إلى الشقيري الذي يصفه بأنه بقي "حتى أيامه الأخيرة، الصديق الوفي للمركز"، يبدو أن كلمة الصديق، تستحق الانتباه، إذ أنها تفيد على ما يبدو بأن الرجل لم يكن يتدخل بعمل المركز، ولا بإنتاجاته المعرفية والتحليلية، بل إن أنيس صايغ يقول إنه كان "يستفسر ويسأل ويستشير ويقرأ ويعلق ويشجع"(3) في المقابل، الرئيس الراحل ياسر عرفات "أخذ يبدي اعتراضه على استقلالية المركز، من جهة، ويحاول السيطرة عليه بوسيلة أو بأخرى من الجهة الثانية"(4). تلك الجملة من المذكرات، واحدة ضمن قسم كامل حمل عنوان "في العلاقات مع السيد ياسر عرفات" أفرده صايغ في كتابه، ليتناول تلك العلاقة المضطربة في معظم الأوقات بين الرجلين، رجل السياسة والقيادة، ورجل الثقافة والفكر.
ومن المهم التوقف هنا لمعرفة موقف المركز وأنيس صايغ على رأسه، اتجاه القوى والفصائل الفلسطينية، الذي بين أنه كان يحرص على إقامة علاقات واحدة متساوية مع كل الجماعات والمؤسسات والفصائل والمنظمات العسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها. إذ كان يعتبر كما يورد أن المركز لفلسطين وليس لجماعة ما. لكن هذا الشكل من العلاقة لم يكن يرق لكثير من قادة القوى الفلسطينية كما ذكر صايغ في كتابه، إذ يذكر العديد من القصص التي حصلت معه، والتي كان من شأن أصحابها، حرف المركز عن مساره نحو هذا الفصيل أو ذاك، وهذا ما حارب أنيس صايغ طويلا، ضده. فمثلا، كان أبو عمار، حسب صايغ، يعاتب، لأنه سمع أن ليس بين العاملين في المركز أو كتّاب المجلة باحثون ينتمون لفتح. علما أن معيار العمل والكتابة في المركز كما يوضح، لم يكن تنظيميا، ويوضح أنه ربما يصل عدد الفتحاويين بين الباحثين، نحو ربع المنتسبين إلى فصائل.
يذكر صايغ العديد من الحوادث بينه وبين أبو عمار، بعضها طريف، وبعضها يحزن، وبعضها يساعد على فهم العلاقة التي كانت قائمة بين السياسة والثقافة في الثورة الفلسطينية، وثمة من سيجد أن صايغ قد بالغ، أو أن هناك جوانب لم يذكرها، منها، ما قد يكون قد أخطأ فيها هو مثلا، ولا سيما بعد الهدنة التي عرضها على أبو عمار بأن يتحمل واحدهما الآخر، ليفوتا على العدو أن يزعم أن "المناضل الفلسطيني يهرب من المعركة إذا أصيب، وأن المثقف الفلسطيني يهترئ بسرعة"(5) تلك الهدنة بين الرجلين حصلت بعد محاولة اغتيال صايغ في ١٩ تموز/يوليو ١٩٧٢، والتي خسر فيها معظم النظر والسمع، لم تدم هدنتهما طويلا، فما هي إلا أسابيع حتى عادت المعارك بينهما لتحتدم من جديد، ولكن صايغ ظل على تعهده كما يقول حتى ربيع ١٩٧٦، ويذكر صايغ الحادثة التي يصفها "بالقشة التي قصمت ظهر الجمل"، والوساطات التي جرت من أجل عودته عن استقالته، وصولا إلى الاتصال الشهير الذي جرى بينه وبين عرفات، بترتيب من العقيد محمود أبو مرزوق، والذي أنهاه صايغ بإغلاق السماعة في وجه أبو عمار. ومع ذلك، يقول صايغ أنه يشعر بخجل من تلك الواقعة، ولكنه يشعر أيضا بأنه لم يظلم عرفات في ردة فعله الغاضبة. وعلى كل حال، رغم النهاية الأولى بينهما، إلا أن أبو عمار لم يعين على مدى عام بديلا عن أنيس صايغ، إلى أن أصدر صايغ نفسه في ربيع ١٩٧٧، قرارا بتعيين محمود درويش، الذي كان نائب المدير، مديرا عاما أصيلا ورئيسا لتحرير المجلة، وأرسل حينها قراره لأبو عمار، يرجوه بأن يتصل بالبنك العربي، حيث حسابات المركز، لتخويل المدير الجديد بالصلاحيات المالية التي ظلت بيده خلال عام الاعتكاف.
تعقب الباحث والمفكر الكبير أنيس صايغ، يجعل الأمور أسهل للفهم، كما أنه يعقدها، مع النظر إلى تاريخ الثورة الفلسطينية المشرق بالنضال والبطولات، وليس إلى النتائج التي نعاينها هذه الأيام، فالرجل كتب في مجلة "الناقد" مراجعا نفسه على استقالته من إدارة مركز الأبحاث الفلسطيني، ولاحقا الموسوعة الفلسطينية، فيقول "أن تعارض ثم تنسحب وتنزوي شيء وأن تعارض ثم تنسحب وتنزوي شيء وأن تقاوم وتصمد إلى النهاية وتحشد الصفوف وتقيم المؤسسة التي تعمل جماعيا وعلى نطاق واسع وتستمر في رفض الكبت والتفرد والأنانية والجهل والتخلف شيء آخر [...] والآن أعترف بأن الانزواء كان خطأ وأن القرف هرب وليس حلاً."(6) بهذا الكلام يعاتب صايغ نفسه على تركه المجال للسياسيين الفلسطينيين على التفرد، كما لبعض المثقفين أن يصبحوا جزءا من السلطة ومن المطبلين لها، إذ يعتبر في المقالة ذاتها التي يصنف فيها جمهور المثقفين الفلسطينيين إلى أصناف متعددة فيها الكثير من السخرية (البلطجي والحربجي والحكومجي والعرضلجي والمكوجي والخزمتجي وغيرهم) فيعتبر أن هؤلاء أخذوا تصنيفاتهم بعد أن لاحت تباشير مدريد، ولاحقا صاروا من مثقفي السلطة، ويتبعون الامتيازات التي من الممكن أن يتحصلوا عليها من السياسيين، ليقتصر دورهم على التبرير والتنظيف والترويج لرجال السياسة والحكم.
وفي مجلة الآداب، نشر صايغ رسالة وجهها إلى الشهيد غسان كنفاني، بدا فيها، كأنه يحسد غسان، لأنه رحل عن هذا العالم، ولم يعاين ما يحصل للقضية الفلسطينية التي دفع حياته ثمنا لها، "بعد عشرين من اقتراف هاتين الجريمتين (اغتيال غسان ومحاولة اغتيال أنيس) أغبطك وأغبط مصيرك ولا أغبط مصيري"(7)، ويضيف في رسالته إلى غسان "كنت ستسمع أن الصهيونية ليست حركة عنصرية استيطانية معادية، بل هي حركة سياسية تقف في وجه حركة سياسية مقابلة [...] وكنت ستسمع أن 'إسرائيل' بلد مثل سائر البلدان، له حقوقه وأمنه وحدوده ووجوده ومصاله. وما علينا إلا أن نعترف له بذلك حتى يكف عن التعدي علينا. فـ 'إسرائيل' أصبحت 'جارا' ولم تعد عدوا [...] وكنت ستسمع أن القضية الفلسطينية هي قضية ما سقط عام ١٩٦٧ من أرض فلسطين، وأن استعطاء حكم ذاتي يجعلنا أحرارا في شؤون الصحة وجمع القمامة وفتح الدكاكين وتعليق اليافطات ويغينيا عن المطالبة بتحرير محبوبتك عكا والعودة إلى محبوبتي طبريا [...] وكنت ستسمع أن التفاهم بالحسنى، أو الاتفاق بالتراضي، هو شرف 'ثورة حتى النصر' وأن شرف الجلوس مع مندوبي العدو في هذا البلد الأوروبي أو الأميركي أو الآسيوي أو ذاك، في ظل الرعاية الأميركية 'الصديقة'، هو النصر بحد ذاته". ويلمح أنيس صايغ إلى بعض الأشخاص كما في مذكراته من دون ذكرهم، أولئك الذين يرى أنهم انحرفوا عن المسار الوطني فيقول "لو كنت لا تزال حيا يا غسان لكنت تشاهد وتسمع أصدقاء مشتركين لك ولي (وبعضهم أصابته قنابل العدو مثلما أصابتك وأصابتني) يقولون هذا الكلام وأكثر. ويسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية"
تبدو رسالة أنيس صايغ إلى غسان كنفاني، رسالة رجل متعب، أرهقه مآل السياسة الفلسطينية، ومن نافل القول، التأكيد أنه كان يرى، فما أنتجه الرجل، وما صاغه في كتبه ومقالاته، يؤكد أن ما وصلنا إليه، كنا نذهب إليه بأرجلنا، ولكن الأعين أغلقت، أو أشاحت عن الواقع، حتى دخلت به، وصار أصحابها شركاء في الدفاع عن المكتسبات الكثيرة، والتي ليس من ضمنها الوطن أو الدولة على الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧.
هوامش