إن ما يؤلم أن كُتاب هذه التعليقات والمنشورات ليسوا مراهقين إسلاميين فقط أي من جيل الشباب الإسلاموي، بل من الناس العاديين أيضًا، الطيبين، كيف غدت هذه النوايا المسيسة والنزعات اللاإنسانية بديلًا عن قلوبهم الطيبة البسيطة.
لقد حطموا حزني على شيرين، نعم الحزن بإمكانه أن يتحطم أيضًا وليس الفرح فقط، لقد كنت أعيش حالة من التأمل مع هذا الحزن على موت شيرين أبو عاقلة، أتذكر كل تلك السنوات من عملها، ذلك اللطف الجم، والدقة اللامتناهية في العمل الصحافي، والتواضع في التواصل، والصوت الصافي.
كنت أحزن بصدق حين دمروا حزني، وأغضبوني وراح شفيف التأمل إلى ضباب التضليل والتزمت اللذين غرقت بظلهما، بمجرد أن رأيت الناس تعبر عن جواز الترحم على شيرين ويردون على من يحرّمه.
لم أكن بعد رأيت من يحرم الترحم على شيرين كونها مسيحية إلى أن رأيت من يهاجم هذا التحريم، فأحيانا نحن نصنع دعاية للأفكار السخيفة والتافهة بكثرة الحديث عنها ورفضها، بل نشجعها بهذه الطريقة لتنمو، إنها الدعاية السلبية.
كان بالإمكان عدم الدفاع عن الأمر وستذوي هذه الأصوات لكن ضخمناها، وغدت تملأ وسائل التواصل، فضاعت منا جريمة الاحتلال، وضاعت منا الأيقونة التي قضت عمرها وشبابها في خدمة فلسطين، لنختصر حياة إنسانة عاشت كشعب كامل في وصف مسيحية أو مسلمة.
لقد ضحكت داخلي حين رأيت مجموعة من الجهلة يحملون راية التفقه في الدين ويخوضون فيها بالتعليقات والمنشورات، ويبدأون أحاديثهم بـ "هذا نص صريح في الشريعة"، وأنه "لا يجوز الترحم على من دون أمة محمد"، فلم أرَ عنصرية كما في هذه التعليقات، إنها أشد وطأة من عنصرية المصابين بالإسلاموفوبيا هنا في فرنسا.
يا إلهي أتخيل كم الاحتلال سعيد بجهلنا، في أشد اللحظات عارًا عليه بعد اغتيال شيرين برصاصات جنوده، وتناقض تصريحاته وتخبطه، فنحن شغلنا أنفسنا عن التحشيد ضده، وبدأنا نسأل في الجنة أم النار؟ ونسينا أن الفقه ليس الدين بل أحد علومه حمالة الأوجه، وأن نبي الإسلام هو "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" .
أشعر بالذنب أنني يجب أن أشرح، لأنه ليس هناك بديهي كما الترحم على الشهداء وخاصة شيرين أبو عاقلة.
الوطن قبل الدين، وقد تراجعت قضيتنا في كل العالم حين خرجت أجيال تقول لنا الدين قبل الوطن، لذلك أصبح من الطبيعي التركيز على ديانة شيرين قبل جريمة الاحتلال.
كتبت لي صديقة جزائرية تعليقًا على مقطع فيديو تقتل فيه شيرين "يلعن ربهم" في إشارة إلى الاستعمار، ووجدت رسائل وتعليقات تتهمها بالبذاءة، وتلومني على إبقاء التعليق، لقد حزنوا على شتم رب الاستعمار، ولم يحزنوا على كمية المنشورات التي تستنكر الترحم على شيرين لأن ربها ليس ربنا، بل أجدهم يعلقون على استحياء على تلك المنشورات، وكأن الأصل في الدين التطرف، بينما الإنسانية استثناء.
ولن ينتبه كثيرون أنك إذا أردت أن تتعصب في دينك مهما كان هذا الدين فلا حدود لذلك، بينما إذا أردت أن تعيش داخله تنويريًا ومتحررًا ستُضع لك على الدوام القيود والمحرمات والخطوط الحمراء، على الرغم من أن المعنى الفلسفي للدين هو عكس ذلك تمامًا.
لقد دمر قضية فلسطين التطرف، وأصبح فيها ما يكفي من متطرفين، ولسنا بحاجة لمزيد منهم، حتى لو كانوا يرتدون قناع اللطف، لسنا بحاجة لدواعش جدد، يشغل بهم الاحتلال النقاشات فنبعد عن إدانته واستقصاء جرائمه.
لك أن ترفض شتم رب الاستعمار، باعتبار قناعتك أن الربوبية واحدة، لكن دافع أيضًا عن رب شيرين أبو عاقلة، ولا تدع مجموعة من عملاء الاحتلال يحرفون مسار القضية والحق، لقتل امرأة ضحت بحياتها من أجل فلسطين، نعم ضحت بحذافير الكلمة؛ شيرين لم تر والداها بشكل كافي قبل موتهما، لم تجلس مع شقيقها الوحيد الوقت الكافي في زياراته المتباعدة إلى فلسطين، لم تتزوج، لم تصبح يومًا أمًا، لماذا؟ لأنها تخلت عن كل ذلك من أجلك وأجلي وأجل الحقيقة التي غدت جزءًا من حياتها حتى تماهت معها بموتها، وليس لأنها ترف وشعارات وشغل مكاتب.
هي تخلت عن كل ذلك كي تفهم موقعك القانوني والجغرافي التاريخي، وتبني وعيك، وأنت اليوم تتنصل منها.
إن ما يؤلم أن كُتاب هذه التعليقات والمنشورات ليسوا مراهقين إسلاميين فقط أي من جيل الشباب الإسلاموي، بل من الناس العاديين أيضًا، الطيبين، كيف غدت هذه النوايا المسيسة والنزعات اللاإنسانية بديلًا عن قلوبهم الطيبة البسيطة.
لكن هذا ليس بجديد، إنها ليست آفة جاءت مع الإسلاميين كما يعتقد البعض، بل هي آفة جاءت مع المتدينين الذين فهموا أن الدين تعسف، و عبارة "الدين تيسير وليس تعسير" نكتة، بينما عبارة "الرب رب قلوب" دخيلة، واقتنع أن المسلم سيدخل الجنة مهما فعل، ربما يعاقب في النار قليلًا لكنه سيعود إلى الجنة، إلا أن المسيحي مهما كان طيبًا وعلى خلق فسيدخل النار.
أتذكر قبل خمسة وعشرين عامًا، وتحديدًا في المرحلة الثانوية في رفح، كان لدينا أستاذ دين، كنت أحب حصصه جدًا وطريقة شرحه، وفي مرة وددت أن أعطيه هدية جلبها أحد أفراد العائلة من الحج، أعتقد مسبحة، وكنت سعيدة جدًا وأنا أعطيه إياها، على عكسه فقد أخذها مني على مضض، وحين ابتعدت قليلًا وجدته يقول شيء بمعنى أن هذه البنت عديمة الأخلاق تعطيني هدية من الحج. لقد صُدمت بما يحمله من اعتقاد عني، لم أتوقع أنه مثل الآخرين يحاكمني من المظهر. لقد نزل إلى مستوى العامة والعادات، ولم يرَ قلبي يومًا كما اعتقدت أنه يبصره كما تفعل أمي وفعلت جدتي من قبلها.
إن هذا التطرف يناقض الإنسانية، يبعد عنا لغة القلوب التي تجعلنا مباشرة نترحم على شيرين، ونقدّر الرجال والنساء بغض النظر عن مظاهرهم وعباداتهم، ودينهم. إنهم استبدال لطيبة الناس، باللؤم، كيف عرف هؤلاء أنهم على حق؟ من أين للمتدين غروره، وركونه إلى أنه مرضي عنه وقادر على تحديد مصائر البشر.
سعيدة أنك يا شيرين لا تدركين ماذا يُقال، فأنت التي لم تشيري يومًا إلى دينك في أي من تلك السنوات الـ25، تحملت أن تكوني مجهولة الهوية، لا نعرف أبوك أو دينك، حتى أن البعض صدم اليوم حين عرف بكونك مسيحية، لأن كل هذا لم يهمك، ماذا سيهم؟ إذ كان يكفي أنك فلسطينية ثم صحافية.
وداعًا شيرين، أريد أن أصفي حزني عليك من جديد، فكيف للتاريخ الحي أن يصبح من الماضي، اللحظة الآن تصبح بعد ثانية لحظة فائتة، وكيف للقلب الممتلئ حب، أن ييبس، ولا يعود يعرف الرحمة.