تتوّزع بيئات الأعمال المختارة بين النموذج الأوروبي (الحضري)، كما في روايتي "جانبا" و"مخيمان"، والغيتو اليهودي المحافظ كما في روايتي "خلف السياج" و"ابنة الحاخام"، والمستعمرات اليهودية في فلسطين كما في رواية "بين ماء وماء"، وأخيراً بيئة الأصلانيين الفلسطينيين في رواية إسحاق الشامي "جمعة الأهبل".
صدر حديثاً، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) كتاب بعنوان "مختارات من الأدب العبري المؤسس.. قصص وروايات قصيرة (1890 – 1948)"، موزعة زمنياً وجغرافياً، وهو يقع في 386 صفحة، ومن إعداد وتحرير الباحثة هنيدة غانم، والباحث مالك سمارة، والباحث والناقد الأدبي أنطوان شلحت، وتقديم الباحث والكاتب الدكتور باسيليوس بواردي، وهو نتاج جهد مشترك لمجموعة من المترجمين والروائيين والباحثين الفلسطينيين، وهم (وفق ترتيب فصول الكتاب) علاء حليحل ومالك سمارة وريم غنايم ووسام جبران وحسن خضر.
توّزع بيئات الأعمال المختارة وتعدد مشاغلها
في هذا الكتاب المشترك الجديد، حاول المساهمون فيه تفكيك ظاهرة الأدب العبري الحديث وما تخفيه، برصدهم تتبع هذا الأدب بخاصة بين القرنين التاسع عشر والعشرين لفهم التطوّرات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على الهويّة اليهودية التي رسخها هذا الإنتاج الأدبي في بداياته على أنها أوروبية، باثاً بين ثناياه نظرة كولونيالية استعلائية سرعان ما بدأت تتغيّر مع انتشار الاستيطان في فلسطين لتخلق أسئلة جديدة حول الهويّة التائهة.
يرصد الكتاب سمات الأدب العبري الحديث، مضيئاً على أسئلة هويّاتية واجتماعية متوترة في أوساط اليهود، ويشهد على تفاعلات سياسية حاسمة، تطوّرت إلى مشروع "إحياء قومي" بمواصفات كولونيالية، قادت الهجرات الاستيطانية إلى فلسطين، وتحوّل إلى ناظم لطبيعة العلاقة معها ومع أصحابها الأصليين. والأدب العبري الحديث هو ذلك الأدب الذي كُتب بالعبرية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وتميّز بنزعته العلمانية التي هدفت بالأساس إلى تثقيف الجماعات اليهودية في أوروبا ومن ثم تشابه شكلاً ومضموناً مع الآداب الأوروبية. ولعل أهم ما يميّز هذا الأدب هو أنه يعكس أبعاد الفكر الصهيوني وما بعد الصهيوني، كما تجسدت في نماذج من الأدبيات العبرية الحديثة، كاشفة أنّ الأدب العبري الحديث، خاصة في مراحله الأولى، يرصد التغيّرات الاجتماعية والتطوّرات الأدبية التي حدثت في المجتمعات الأوروبية التي عاش بها اليهود قبل استيطان فلسطين، فجاءت موضوعاته وأنماطه تتماشى مع معايير الآداب الأوروبية ومفاهيمها.
يضمّ الكتاب ثماني روايات قصيرة وقصصاً لكتّاب مؤثّرين في الأدب العبري الحديث، هي: "ابنة الحاخام" ليعقوب شتاينبرغ، "جانبا" لأوري نيسان جينسين، "مخيمان" لميخا يوسف برديتشفسكي، "خلف السياج" لحاييم نحمان بياليك، "بين ماء وماء" ليوسف حاييم برينر، "المعوج يصير مستقيما" لشموئيل يوسف عجنون، و"شفراه" لدفوراه بارون، إلى جانب رواية "جمعة الأهبل" لإسحاق الشامي الذي يعد حالة لها خصوصيتها، إذ اختار العبرية لغة لرواياته رغم أنّ سياقاتها وشخوصها وحبكاتها متصلة بالبيئة الفلسطينية حصراً.
تتوّزع بيئات الأعمال المختارة بين النموذج الأوروبي (الحضري)، كما في روايتي "جانبا" و"مخيمان"، والغيتو اليهودي المحافظ كما في روايتي "خلف السياج" و"ابنة الحاخام"، والمستعمرات اليهودية في فلسطين كما في رواية "بين ماء وماء"، وأخيراً بيئة الأصلانيين الفلسطينيين في رواية إسحاق الشامي "جمعة الأهبل".
كما تتعدد مشاغل هذه الأعمال، فيجد القرّاء إضاءات على وضعية (الغيتو) بعيون نسوية في قصتي دفوراه بارون ويعقوب شتاينبرغ، وسبراً لسوسيولوجيا بيئة الاستيطان في فلسطين وهواجس المستوطنين الأوائل في رواية يوسف حاييم برينر، ومحاكاة أدبية لبيئة الاقتصاد السياسي لمجتمع يهود شرق أوروبا في رواية لشموئيل يوسف عجنون، وإيغالاً في خبايا الذات اليهودية التائهة كما في روايتي أوري نيسان جينسين وميخا يوسف برديتشفسكي، ومعاينة للبيئة البدوية الفلسطينية، بعيني إسحاق الشامي وبوعيه المركب من ذاكرة فلسطينية وتعاليم يهودية عبرية وواقع ما زال يتغيّر بشكل متسارع تحت ظرف الصهيونية.
في مقدّمة الكتاب الموسومة بـ "محطات في تطوّر الأدب العبريّ: من الإنسانيّ إلى القوميّ"، يذكر د. باسيليوس بواردي، أنّ "الإيمان بإمكانية وجود أدب يهودي حديث وموحد، يتجاوز الاختلافات في اللغة والمكان، ويتجاوز كذلك العلاقة بينه وبين أي ثقافة وأدب قومي غير يهودي، لم يكن موجوداً على الإطلاق حتى بداية القرن العشرين. كان من الواضح للأدباء اليهود، سواء أولئك الذين ألّفوا باللغات اليهودية (العبرية، اليديش، اللادينو، إلخ) وأولئك الذين ألّفوا باللغات الأجنبية (الألمانية، الروسية، الفرنسية، الإنجليزية، العربية، إلخ) أنهم يعملون ضمن أطر أدبية مختلفة. آمن المؤلّفون بالعبرية بوجود "أدب عبري جديد" خاص ومستقل، بيمنا عمل المؤلّفون بلغة اليديش على تأسيس مكانة ثقافية حديثة ومستقلة لهذه اللغة، بينما رأى المؤلفون اليهود الذين كتبوا باللغات الأوروبية أنفسهم ضمن سلسلة متصلة من الآداب الوطنية التي تم إنشاؤها بلغتهم الإبداعية". مبرزاً أنه "بدأ بالفعل في أواخر فترة التنوير اليهودي (هسكلاه) وفي فترة (محبّي صهيون) التي أعقبتها، الجدلُ حول بداية الأدب العبري الجديد. جدل مبدئي ناشئ عن التجديد التي حصل على الأدب العبري الجديد، لأنه إذا كان جديداً حقاً، فإنه يختلف عن الأدب القديم الذي سبقه، وفهمُ جوهر التجديد مرتبط بتحديد نقطة بدايته، والتي من خلالها يمكن الإشارة إلى الحد الفاصل بين القديم والجديد". مع تأكيده أنه "يمكننا الإشارة في فترة التنوير وفترة (محبّي صهيون)، إلى ثلاثة توجّهات ضمن هذا الجدل؛ الأولى: توجّه الفئة التنويرية اليهودية المثقفة الراديكالية، التي رأت أن الجزء الأكبر من التجديد يكمن في نقطة التحوّل التي أحدثتها ثورة التنوير الأوروبية في الثقافة العبرية، والتي اخترقت أيضاً الحياة اليهودية عندما بدأت جدران الحي اليهودي (الغيتو) بالانهيار. الثانية: موقف فئة التنوير اليهودي المعتدل التي لا تعتبر الأدب العبري الجديد منفصلاً تماماً عن التقليد الشعري العبري في العصور السابقة، وإنما تؤمن بالربط بين أدب وشعر التنوير العبري وشعر الحاخام موشيه حاييم لزاتو. الثالثة: النهج القومي الذي حدد بداية الأدب الجديد بفهم وتفعيل جديدين للمحتوى القومي للأدب العبري. تعاظم تأثير هذا النهج الأخير في أيام (محبّي صهيون)، لكن جذوره كانت متجذرة بعمق في بدايات فترة التنوير اليهودي الأولى وبفهم الحركة الصهيونية اللغة َالعبرية على أنها رصيد وطني سياسي: وعلى أنها (الناجي الوحيد) المتبقي من الاستقلال الوطني القديم".
صورة حقيقية للمتخيّل الأدبي العبري
لمزيد من التفاصيل حول هذا الكتاب والرؤية التي تم الاشتغال عليها. تحدثت "رمان" مع د. بواردي، فقال: "هذا الكتاب محاولة للتعريف بالأدب العبري الحديث الذي تمّت صياغته في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أو الأدب العبري الحديث المؤسس الذي خرج عن مسار الخطاب اليهودي الديني نحو علمانية أسّست للفكر الصهيوني ولمشروع الاستيطان".
وبسؤاله عن مساهمته في هذا المنجز الأدبي، أجابنا: "ساهمتُ في كتابة مقدّمة الكتاب، حيث تناولت هذه المقدّمة الملامح العامة لتطوّر الأدب العبري أو اليهودي من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وحتى خمسينيات القرن العشرين، وهي تؤطّر بذلك تعاقب النصوص المترجمة في هذه الأنطولوجيا، بمضامينها ونظرتها نحو دور الأدب العبري واليهودي ومن ثم الإسرائيلي". وأردف: "تشير هذه المقدّمة أيضاً، إلى التحوّلات العميقة التي مرّ بها هذا الأدب، بدءاً، من تعامله المبكر مع مجمل قضايا المساواة وحقوق الإنسان للأقليات اليهودية في أوروبا والقضايا الاجتماعية العلمانية أمام النزعات الدينية التقليدية، مروراً باصطباغه بالنزعات القومية مع نشوء الحركة الصهيونية. كذلك سنرى كيف تحوّل هذا الأدب من أدب يتنازع في عصر التنوير اليهودي (الهسكلاه) بين اللغة العبرية ولغة اليديش ولغة اللادينيو في بدايته لتبرز فيه لاحقاً اللغة العبرية كلغة قومية غالبة ومسيطرة".
وعن أهمية هذا الكتاب، بيّن بواردي أنها "تكمن في الكشف عن الأسئلة الجذرية التي صاغت هذا المشروع الأدبي والعوامل الأيديولوجية التي وقفت وراء الكتابة بالعبرية الحديثة كأداة أساسية في الفكر العقائدي الصهيوني. إنه الصورة الحقيقية للمتخيّل الأدبي العبري الذي عكس التوترات الضدية بين المجموعات العبرية المختلفة. وإجمالا يمكِّن هذا الكتاب رؤية الأدب العبري بعد تبلور طموحات الحركة الصهيونية معبِّراً عن رؤيا (أرض الحليب والعسل)، وهي إحدى الصور المركزية للوفرة التي ارتبطت بأرض فلسطين من بداية الهجرة اليهودية. إنّ النزعات الإنسانية العامة التي ميّزت الأدب العبري مع نهاية القرن التاسع عشر تحوّلت إلى نزعات قومية ضيقة حتى قيام الدولة الإسرائيلية. لقد عمل هذا الأدب بمضمونه العام ضمن المفاهيم الاستعمارية القائمة على مفهوم الوفرة الصهيوني وما يتضمنه من نظرات استعلائية ونفي لكينونة المحلي الأصلاني الفلسطيني الموجود فعلياً والمغيَّب عمداً عن نصوص هذا الأدب".
فتح نوافذ أمام مقاربات سوسيولوجية وسيكولوجية
من جهته يجيبنا الكاتب والمترجم مالك سمارة، أحد المساهمين في ترجمة بعض نصوص الكتاب المنتقاة، عن سؤالنا: كيف تقرّب القارئ الفلسطيني والعربي من هذا الكتاب؟ وما هو الهدف الذي يسعى إليه هذا العمل؟ بالقول: "العودة إلى البدايات أساس كل بحث؛ وهذا الكتاب يعود بنا إلى البدايات- إلى السياقات التي اكتمنت فيها فكرة الصهيونية حتى تجسّدت مشروعاً كولونيالياً، وإلى الواقع الذي اصطدمت به في فلسطين حدّ التناقض والانكشاف، وإلى الأسئلة الوجودية وهواجس المستقبل التي لازمتها منذ اللحظة الأولى، وإلى التردد القلِق بين المنفى والهويّة الجمعيّة المتخيّلة. باختصار، في المختارات تكثيف للعوالم -الحسيّة والذهنية واللاواعية- ليهود تلك الحقبة. وحقيقةُ أنّ العبرية كانت في حينها تنبثُّ كلغة إحياء قومي، وكأوّل دعائم إعادة اختراع "الشعب اليهودي"، تقدّم أسباباً إضافية للقراءة. كل تلك مجالاتُ استشكال ودراسة، وهي تتعدّى البحث الأدبي لتفتح نوافذ أمام مقاربات سوسيولوجية وسيكولوجية لبيئات اليهود والصهيونية في تلك الفترة التحوّلية. ولأنّ الأدب مرآة المجتمعات إجمالاً، ولأنّ الأدب اليهودي/العبري الحديث -كالصهيونية- هو سليل أوروبا الحديثة، وتَبيع الأدب الواقعي الروسي تحديداً، فسنجد في الكتاب نصوصاً أقلّ تجريداً وأكثر قرباً من يوميات الحياة اليهودية في المسرحين الرئيسيين للروايات: فلسطين وأوروبا. ربّما قرأنا عن الفيتو كثيراً، عن المنفى والمدينة الأوروبية، عن الحسيدية والأصولية اليهودية، وعن "الييشوف" و"العمل العبري" و"احتلال الأرض"، لكننا لم ننفذ إليها بعيون شخوصها اليوميين، وهذا ما قد يضيفه الكتاب".
يضيف سمارة: "هناك استثناء واحد، لا يقلّ إشكالية أو أهمية، يتمثّل في قصة "جمعة الأهبل" لإسحاق الشامي، الذي عاش بيننا، في حارات الخليل القديمة، وانطبع بثقافة البلاد كسائر أصلانييها قبل أن تصادره الصهيونية -باعتقادي- كما صادرت أي رمز ثقافي فلسطيني، وكما سلبت سائر يهود الشرق من امتدادهم الحضاري العربي. اختار الشامي أن يكتب بالعبرية -التي تعلّمها في المدرسة الدينية- لكن عن المجتمع الفلسطيني. وفي القصة يظهر كيف يحاكي البيئة بكل مدارك الفلاح الذي لا تخطئ عينه نبتةً ولا حجراً، وهذا ما فرض تحدّياً إضافياً في الترجمة، واضطرني أحياناً للعودة إلى كبار السن لأسأل عن أسماء أشياء بعينها من ذاكرتهم الشعبية".
تسأل "رمان": هل تعتقد أنكم نجحتم في الوصول بكتابكم هذا إلى أجيال جديدة من القرّاء الفلسطينيين؟ فيقول: "بمعزل عن الحقبة الزمنيّة التي نتحدّث عنها، الأدب يبقى قريباً إلى كل الأجيال إجمالاً، وربّما يكون أقرب إلى الأجيال الجديدة من سائر المعارف، وهذا يجعل الإطار الزمني غير ذي صلة نسبيّاً إن كان هو محور السؤال. الأهمّ أنّه يبقى مرجعاً للجميع، بمن في ذلك طلاب الجامعات في مختلف الدرجات الأكاديمية. أنا خرّيج أوّل دفعة من "برنامج ماجستير الدراسات الإسرائيلية" في جامعة بيرزيت، وكان الأدب الإسرائيلي أحد اهتماماتي أثناء الدراسة، وهذا ما أوصلني إلى هنا. اليوم لا يزال البرنامج يخرّج ويضمّ طلّاباً في كل عام بغاية تأهيلهم كباحثين في الشأن الإسرائيلي؛ هناك أيضاً برنامج دراسات إسرائيلية في جامعة أبو ديس، وهذا الكتاب قد يوفّر مرجعاً إضافياً لهم عن حقبة تندر الترجمات حولها إجمالاً".
وبسؤاله عن تقييم تجربته مع هذا الكتاب؟ يجيبنا مالك سمارة: "هذه أوّل تجربة لي مع الكتب. أكتب وأترجم في الزاوية الأدبية في مجلة قضايا إسرائيلية منذ نحو سنتين، من الشعر والأدب الإسرائيلي عموماً، لكن أشعر أنّ الخبرة التي اكتسبتها من العمل على هذا الكتاب تقدّر بالسنوات؛ ليس فقط لكثافة العمل، بل لنوعيّته؛ مثلاً: لم يكن الجهد ترجميّاً خالصاً إذ لم نفوّت التأطير النقدي، وكان عندنا على القدر ذاته من الأهمية، كما أنّ اللغة في النصوص ليست كالعبرية التي نقرؤها اليوم، وفيها خليط من الآرامية واليديشية واللادينو، وهذا أيضاً فرض بحثاً إضافياً. في المحصّلة، يمكنني أن أقول إنني خرجت من هذه التجربة بقاموس أكثر زخماً، وأفكار لمشاريع بحث مستقبلية، وآمل أن يخرج القارئ بشيء من ذلك أو أكثر".