وحين رأيت صور الفتاة القتيلة المحجبة، تساءلت ماذا كان سيقول مبروك عطية، الذي يرى مفاتن القتيلات ولا يرى دماءهن، هل سيقول "لو لبستي النقاب يا بنتي ما حدش حيقرب ناحيتك"؟
مبروك عطية ليس وحده من يلوم نيرة على قتلها، نعم يلوم القتيلة على كونها قُتلت، بل الآلاف فكروا مثله حين شاهدوا مقطع فيديو لفتاة تذبح في الشارع، فالجسد الأنثوي المسفوح بالشارع دون حجاب وغطاء يستحق القتل والذبح، بل وجسد جميل يصبح الاستحقاق مضاعف للقتل في نفوسنا الخمِجة، أما إذا كان الحب مُبرّر ذلك فحينها يصبح مغفورًا للجريمة في نظر كثيرين "يا حرام كان بحبها"، أو كما قالت شقيقة القاتل "كان بعبد التراب تحت رجليها".
السفور والجمال والحب، قيم مرفوضة في مجتمعنا، بل ويسبقها الاتّهام، وحولها دومًا دوائر الشك، تخيلوا ما عانته نيرة أشرف قبل مماتها بسبب هذه الثلاثية، وما عانته خلال مماتها، فهي جميلة وسافرة وتنتظر الحب، كلها تهم تستحق القتل، لا بل والذبح بالشارع.
كانت تحاول جاهدة التمسك بالحياة وهي تدفع بساقيها السكين ذات النصل الطويل عنها، والجميع يتفرج.. يتمتع مجتمعنا في قتل السفور والجمال معًا وإذا ما كان باسم الحب، تكتمل الأسطورة فيفرغون أفواههم ينظرون إلى الجمال الذي تهتك على أسفلت الشارع، والشعر الحريري الذي توزع على رصيف قذر، تحت شمس حارة.
تتلقى طعنات حاقد مريض ذهان. لا يتذكر أحد أن يوقفه إلا بعد أن ذبحها أمام الجميع، وكأنه خلّصهم من هم فتاة قوية وبريئة وجميلة، استطاعت قول لا، لتبقى لهم النماذج الحية العاجزة العادية التبعية التي تشبههم/ن.
بل يتمتع المجتمع في تفسير ذلك وإلقاء التهم والتعاطف مع القاتل، وينسى الحقوق وينسى بشاعة القتل، وينسى الإنسانية وأبسط نتائج المنطق أن القاتل مريض نفسي بالتأكيد، وأن الأمن مُقصر، وأن المجتمعات ذات قيم عوجاء وعاجزة، وينسى أن الحب لا يكون بالقتل، وأن الجمال والسفور لا يستحقان الدفن، وينسى الآية الكريمة "وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُودَةُ سُئِلَتۡ".
مبروك عطية، ليس بداعية، انتهى زمن الدعاة، الدين ملك للفرد لا يحتاج أحد للدعوة إليه، عطية هو مجرد شخص عليل النفس والروح، لديه كاميرا في منزله يخرج ليقول آرائه الأبوية.
ومثله كثيرون يعتقدون أن الدين يميل للذكور، ويكره النساء، ويريد تغطيتهن، فأن يقوم عطية بتبرير ما حدث لفتاة جامعة المنصورة التي ذبحت بالشارع بكونها غير محجبة، لهي وقاحة وتعدي على حق مظلومة في حياتها ومماتها، إنسان ليس لديه حساسية للحق الإنساني، أبسطه حق العيش، لا يفقه في الدين سوى ما يريد، لم يسمع من قبل بالآية "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
وهذا ليس مستغربًا حين يتعاطى مع تفسير النصوص بشكلٍ هزلي، فهو ليس علّامة أو حتى اقترب ليكون كذلك، هو شخص يحب خلط النكات بالآراء الدينية، وهذا لا يقلل من شأن تصريحاته الأخيرة بخصوص نيرة، فلم يجد تصفيقًا سوى عند مؤيديه، ومن يشبهه، حتى إن مبرر التحرش الأكبر باسم الدين عبدالله رشدي، المتأنق تحت ستار الدعوة أيضًا لم ينبس ببنت شفة، خاف من الغضب هذه المرة ليأكله، ولكن سيأتيه الدور، فمهما كانت مجتمعاتنا رجعية إلا أنها لا تزال تملك المنطق وتتعرف على الشيطان.
هذا العقل الذكوري في التعاطي مع التفسيرات الدينية، ليس عند مبروك ورشدي وحدهما، فكثير من النساء تحمل هذه السردية الدينية في عقلها، أنّ الذنب ذنب المرأة، في ميل واضح لشباب القاتل الذي سيذهب هدرًا في السجن أو على مقصلة الإعدام.
إن موت النساء رخيص عند الشعوب العربية، وأذكر في مراحل بحياتي منذ الانتفاضة الأولى حتى الحرب الأخيرة التي عايشتها في 2014 كنت أرى في بعض عائلات حين تستشهد المرأة لم يكن يتم الاحتفاء بها كما الرجل، بل يتم كل شيء بصمت، لدرجة أحيانًا لا يمكن أن تعرف اسم الشهيدة، وكأن الشهادة فخر أعلى من المرأة، ونبقى نتذكر صورتها بوردة وليست ملامحها الحقيقية على عكس الشهداء الرجال التي تملأ صورهم الشوارع بل إن الشوارع تحمل أسماءهم.
إن هذا الخلط بين العار وجسد المرأة ليؤرقني بشدة منذ أن قُتلت نيرة، وأتساءل بقسوة وبحق متى ستتساوى أجساد النساء مع الرجال؟ ألا تثير فينا الأفكار والأقاويل والإغواء والتبخيس والغيرة، وكلفة عمليات التجميل، وفتاوى الدين، متى سيكون جسدًا فانيًا وكفى؟
حين تقترن الحرية بالجمال، يصبح هذا الكيان "بعبع" لرجال الدين ونسائه والمجتمع عمومًا، فيريدونك جميلة لكن بعقلٍ رجعي ذكوري أو حرة لكن دون أن تكوني جميلة، كي لا يتمنوك مثلهم، بل يطلقون عليك النكات العنصرية، وكانت نيرة جميلة وحرة، ومستقلة رغم صغر سنها، ورفضت شابًا يطاردها باسم الحب وهي لا تريده، وهنا استحقت العقاب، فنحن نريد نساء عبيدًا. أما إذا ما كانت سافرة، فماذا يضير "ارتداء البكيني إذا وضعت خلخال الجواري في عقلك". وهنا تواردت على رأسي صور الفتيات اللواتي قُتلن في أراضي الداخل المحتل خلال أعمال عنف منظمة وكان يجمع بينهن الاستقلال والحرية والجمال.
نيرة أشرف لم يرها كثيرون كإنسانة مغدورة، وملاك مهدور على الإسفلت، فقد بكيت عليها قلة، في مقدمتهم والدتها ووالدها، أما البقية نصفهم نعاها من أجل جمالها وتعاطف معها بسبب ذلك، والنصف الآخر نظر باعتبارها كان يجب أن تتحجب وتتغطى لتحمي نفسها من مجنون، لتختصر نيرة في كونها جسد، على الرغم أن هذا الجسد ميت بعد انفجار الرئتين وذبح الوريد. أين مظلومية نيرة، وحقها وحق كل امرأة عربية على الدولة والقانون ورجال الأمن؟ لماذا نتعاطف مع شاب مجرم مهزوم، والذي ليس شرطًا أن يكون فاسدًا أخلاقيًا أو فاشل بالجامعة كي يفعل ذلك بل يكفي أن يكون مريضًا؟!
نيرة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وبمجرد أن انتشر تساؤل "يا ترى على مين الدور بكرة؟" سمعنا أخبار جديدة، عن قتل الفتاة الجامعية إيمان إرشيد بست رصاصات وسط جامعتها في العاصمة عمان من قبل مجنون آخر.
نعم فكونك امرأة تقول لا، يعتبر ذنب، تستحقي التعنيف والقتل من أجله، أعرف أن هناك رجال أيضًا يعانون من الاضطهاد في المجتمع، وأعرف أن الإنسان العربي عمومًا حطام أنظمة وفقر وأحلام ضائعة، لكن ما يحدث الآن واقع من طرف يُمارس العنف على طرف آخر أكثر بكثير من بقية فئات المجتمع، وباسم الحب والارتباط والحرص والجمال.
حين سمعت خبر أنه أُطلق النار على الطالبة الأردنية، فكرت أن الجرائم العلنية المروعة تشجع الناس على ارتكاب ما يشبهها، والانتقام بنفس الصورة خاصة حين يروا أن دماء البريئات رخيصة في بيوتنا، ويتحول الموت بهذه الطريقة إلى وصمة للقتيلة وليس القاتل.
وحين رأيت صور الفتاة القتيلة المحجبة، تساءلت ماذا كان سيقول مبروك عطية، الذي يرى مفاتن القتيلات ولا يرى دماءهن، هل سيقول "لو لبستي النقاب يا بنتي ما حدش حيقرب ناحيتك"؟
أتمنى يومًا ما أن يخرج عطية من أمام كاميرته في منزله ويسافر ليرى النساء في العالم يرتدين ما يردن ويبلغن من الجمال مبلغه ولا يقترب أحد منهن. هل فكر يومًا أن يدعو إلى سيادة القانون، وعقاب المتحرشين؟ هل دعا إلى حسن تربية الأبناء يومًا بدل من أن يتحول عالمهم إلى مفسدة نعيشها؟ وبدلًا من أن يدعو إلى إخفاء النساء أحياء وأموات، وأن تذبح القبيلة القتيلة، ثم "تستجوب القبيلة القتيلة".