«رهوان»: أغنيات تستعيد المكان... بين اللوز والفتنة والذاكرة

2022-07-06 10:00:00

«رهوان»: أغنيات تستعيد المكان... بين اللوز والفتنة والذاكرة

إلا أن المقطوعة تعيد تذكيرنا بالحدود المحيطة بنا وعلاقتها بالذاكرة، فنحن مجتمع تم إخضاعه بفرض حدود جغرافية رافقتها إبتكارات لعادات وتقاليد مستوردة أو مستحدثة من أجل تسهيل الهيمنة على فكرنا النقدي، ومع ذلك فالجيل الحديث لم ينس وهنالك شروق فكري آت على الرغم من كل هذا الاضطهاد الفكري.

ماشيات لبنيات

على بلادي آتيات

خبر عادي في سماي

...

حاملات لبنيات

أحلامي وناسيات

أحلامهن في سماي
 

نساء تمشي، وفوقهن سموات وأحلام بلا حدود، هكذا تستهل المغنية والملحنة والمؤلفة الفلسطينية هيا زعاترة ألبومها الأول "رهوان" والذي صدر هذا الربيع، حاملا في طياته أفكارا ومفاهيم متعددة ومتقاطعة من حيث الموسيقى والكلمات المغناة. وقد عادت هيا إلى إسم عائلة جدة جّدها "نظيرة رهوان" والتي ولدت في دمشق عام 1890، لتكون بذلك آخر فرد من عائلة هيا زعاترة تولد ولديها الحرية الكاملة بالتنقل عبر بلاد الشام.

تأتي إحدى حفيدات نظيرة رهوان، هيا زعاترة المولودة في الناصرة، بعد أكثر من 100 عام بمجموعة أغان تتحدث عن حرية التفكير، حرية الحركة، حرية العبور فكريا، ونفسيا، وجسديا، وعاطفيا، وجغرافيا في زمن حازت فيها النساء على حريات أكبر بكثير مما كان عليه زمن الاستعمار العثماني، إلا أنهن فقدن القدرة على الوصول ضمن منطقة كانت متشابكة ومترابطة، إستُبدل فيها إستعمارٌ بإستعمارٍ أقسى بكثير، إن كان بالإمكان المقارنة بين المستعمرين.
 


يتألف ألبوم هيا زعاترة من تسع تراكات تصب الواحدة في الأخرى عاكسة بذلك المواسم المزاجية التي تتخلل الألبوم والتي رتبتها هيا بمهارة المهندسة المبصرة لجميع زوايا وجدران الألبوم. فأغنية الافتتاح "رهوان" مبنية على نمط الأغاني الفلسطينية الفولكلورية إلا أن الموسيقى تستهل بالجيتار الإلكتروني والدرون المرافقين لصوت هيا المخملي المنساب فوق الأنغام كنبع عذب من الغناء، لتنضم إليه الإيقاعات المختلفة وجيتارات إلكترونية مرافقة. تتخللها أغنية "قالولي" والتي تتناول القيم الاجتماعية التي يحاول مجتمعنا الأبوي الذكوري المقموع نتيجة الاستعمارات المتلاحقة فرضها علينا كنساء لتربطها بحدود البلاد والذاكرة قائلة:

قالولي إنه الحب بعدين بيجي

قالوا الدموع بتنشف والوقت بشفيكي

همنا بس حكي الناس ورايهن فيكي

عاداتك انسيها، بالبيت خليها

عاداتك انسيها (هيا)، بالبيت خليها 

إلا أن المقطوعة تعيد تذكيرنا بالحدود المحيطة بنا وعلاقتها بالذاكرة، فنحن مجتمع تم إخضاعه بفرض حدود جغرافية رافقتها إبتكارات لعادات وتقاليد مستوردة أو مستحدثة من أجل تسهيل الهيمنة على فكرنا النقدي، ومع ذلك فالجيل الحديث لم ينس وهنالك شروق فكري آت على الرغم من كل هذا الاضطهاد الفكري.

وتقول هيا بأنها فتنت بحكاية جدة جدها نظيرة والتي كانت قد توفيت في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت قادرة على أن تتنقل بحرية من دمشق، إلى حيفا، لتستقر في الناصرة. بدت هذه الفكرة وكأنها وحي من الخيال في يومنا هذا وأمر يصعب مناله خاصة على الفلسطينيين/ات الباقين/ات.

وهذه الفجوة ما بين الحرية التي كانت لدى جدتها، والحدود المفروضة عليها ذاتها، حيث يصعب عبور حتى حدود الـ 48، هي التي ألهمت هيا بتأليف ألبوم في وصفها "يسد هذه الهوة الشاسعة من الحرية ما بيني وبين جدة جدي."

ويتابع الألبوم في ثيمة الحدود ليأخذ المستمعين/ات إلى الجولان من خلال أغنية "رياح الجولان"، المنطقة الجغرافية التي تم تسجيل جزء كبير من الألبوم فيها، وذلك في ستوديو 67 والأقرب إلى دمشق، حيث تربط صلة رحم بين ثلاثة أجيال من النساء اللاتي سبقن هيا. موسيقياً تضمنت هذه الأغنية في الكورس بالذات إيقاعات الملفوف الشمال إفريقية والمستوحاة من موسيقى الشعوب الناطقة بالعربية لتضفي روحاً من السعادة بإيقاعات 2/4.

وليس الجولان وحده موثقاً صوتاً وكلاماً في هذا الألبوم، بل إن هيا تقول إن الألبوم تم تسجيله "في مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، وبما أن جدتي كانت سورية كان يهمني بأن يتم تسجيل الألبوم هناك. إلا أن مراجعاتنا كانت في حيفا وعبلين، وسجلنا "لبنيات" في الناصرة، أما العزف على الترامبيت فقد تم في رام الله".

تتغير أنغام وألحان الألبوم في الأغاني التالية ليبلغ أوجه في منتصف الألبوم بأغنية "فتنة وياسمين" والتي تحول مسار الألبوم لتجعله أكثر جرأة وصراحة دون رغبة في تقديم أية اعتذارات لا داعي لها.

كتبت هيا "فتنة وياسمين" لتخلد ذكرى جدتها باسمة برغوت نمر التي توفيت قبل بدء العمل على هذا الألبوم بأشهر قليلة. وبإمكان المستمعين/ات سماع صوت أساور الذهب التي كانت تخص جدتها، لتحمل الخشخشات الصوتية ذكرى من كانوا ولم يعودوا معنا على أنغام بيانو هادئ وحزين يذكر بصلاة حزينة للغائبين/ات الحاضرين/ات. 

من الغياب والموت تحملنا الأمواج الصوتية إلى النصف الثاني من الألبوم والذي يعود ليضع المرأة والمجتمع، بهندسة ذكية في أغان مثل "طابولا راسا" أو "عشتار". ففي الأخيرة، تعيد هيا إحياء الآلهة عشتار، والتي كانت في حضارتَي بلاد النهرين والشام إلهة الحب والجمال والحرب والتضحية. إلا أنها في هذه الأغنية تتخذ صورة عصرية، لإمرأة لا كائن يملكها ولا طبيعة تقيدها، لتخلق هيا زعاترة آلهة متجددة من الإلاهة القديمة لا يحبسها الزمن ولا تحاصرها قيود، إن كانت اجتماعية أم جندرية أم زمنية، فهي، أي عشتار، تعشق حريتها، والحرية كفراشة، إن أمسكنا بها تفنى.

ينتهي الألبوم بكلمات الأغنية الأولى التي كتبتها ولحنتها هيا لتأتي هذه المرة بطابع فولكلوري، لكنها حديثة تماماً، وتحت عنوان جديد وهو "لبنيات"، تغنيه مجموعة نساء اختارتهن ليسجلن الأغنية في الناصرة، يصفقن معاً ويقرعن الدفوف في تسجيل تم على طريقة الأنالوج القديمة، وتمت هندسته صوتياً حيث يبدو بعيداً بعض الشي، يشوبه غشاء صوتي ينقل الصوت زمنياً إلى الماضي، وينهي الألبوم بزغاريت وغناء يحمل المستمعات/ين إلى ما قد تكون نهاية ألبوم، إلا أنها في ذات الوقت، النقطة التي تغلق الحلقة الدائرية للأغاني التي تدور في فلك الألبوم.

في حديثها عن إنهاء العمل على الألبوم تقول هيا: "في نهاية المسار وعند إنهاء عملية إنتاج الألبوم بدأ ينتابني شعور من الحزن العميق والذي أتى من إدراكي بأن جدتي، التي أشاركها بكل شيء، لن تستطيع أن تستمع إلى هذا الألبوم. وكان من الصعب ألا تكون موجودة أثناء العمل عليه، إلا أنها كانت جزءاً لا يتجزأ منه". هنا بدأت هيا تفكر بكيفية تجلي جدتها في العمل إذ أنها كانت ترغب بتصويرها عن طريق الصوت، "وهنا" تقول هيا "قررت أن أسجل البنيات في حاكورة جدتي".

وقد عمل فريق كامل من العازفين/ات على تحقيق الألبوم ليخرج على ما هو عليه الآن، فقد شكلت هيا فرقتها مع نزار مطر وهو عازف موسيقي يعزف عدة آلات في الألبوم من ضمنها السينث والبيانو إضافة إلى جميل مطر فهو عازف إيقاع محترف وموسيقي موهوب جداً. وبما أن هيا لم تتعلم الموسيقى بشكل مؤسساتي في صغرها، فإنها قامت بتعليم نفسها العزف على الجيتار، ما جعلها تبني مع نزار وجميل لغة موسيقية مستحدثة للتعبير عما ترغب في تحويله أو عزفه لحنياً؛ "طورنا لغتنا الخاصة بما أنني لا أستطيع أن أترجم لغتي الموسيقية، وهم يفهمونني بشكل جيد و يترجمون ما أتحدث عنه إلى الموسيقى التي أريد".

ويعتمد هذا التواصل الموسيقي بين الفرقة على السمع والإصغاء بشكل أساسي، حيث أنهم يبنون على النهج الموسيقي الشرقي، الذي يتم فيه التعليم والتعليم عن طريق السمع، على عكس النهج الموسيقي الغربي، حيث على متعلمي الموسيقى تعلم قرائتها وتنفيذها بحذافيرها كما هي موجودة على الورق.   

وقامت هيا زعاترة بتأليف الألبوم وإنتاجه، وكتابة كلماته، بينما عمل معها بشر كنج من ستوديو 67 على إنتاج الألبوم ، إلى جانب استضافة باسم صفدي ليعزف على البيس والجيتار في "عواصف الصيف" و"طابولا راسا"، كما أضافت عازفة البوق هند سبانخ مهاراتها في العزف إلى معزوفتي "قالولي" و"رياح الجولان" وختمته نائلة لبّس، نبيلة أبو شقارة، عبير أبو سنة هويدا  نمر زعاترة بأصواتهن وغنائهن، ليكون "رهوان" صرحاً موسيقياً يحكي عن نساء فلسطين وبلاد الشام بإيقاعات وألحان لا يحصرها المكان المحاصر بالجدران، بل يجوب بحرية في آذان مستعمين/ات أينما كانوا/كن في هذا الفضاء الشاسع.