هذا صوت إبراهيم النابلسي... هذا كفّه

2022-09-19 10:00:00

هذا صوت إبراهيم النابلسي... هذا كفّه
تيسير بركات، بحر بلا شطآن.

كفّ إبراهيمَ المقبوضة تخرج من  إسار الشهيد، تداني العلم المسجّى على الجسد المسجّى. تحيط به أكفّ المشيعين أكاليلَ  تتسابق للَمس الجسد الشهيد، لربما ليتأكدوا أنه كأجسادهم، من لحمٍ ودم، أو ربما ليمسّوا فيه ما هو كامن فيهم، ليوقظوه. ليقولوا وداعًا، ربما أخرى. لكنّها حتمًا تتسابق لكفّ الشهيد المقبوضة، كليّة القدرة، وكأنّها مبتعثة من قوة إلهية عظيمة وسرمدية، وكأنّ الطبيعي الذي في قدرتها، انحال إلى معجزة، في زمن طارئ، دخيل، يُحال فيه الصراع البديهي على الضروري إلى فعلٍ أسطورة. 

لا خوفَ يتوهُ في الكلمة ولا ريبَ في ما يقولُ. واضحُ المخارج والحروف، قصيرُ الزفراتِ في الرسالة، طويلُ النفس في ساحِ الحرب، يتركه للمواجهة الطويلة. هادئٌ إذ يقول، حاسمٌ في التقرير، سبّابته على فمِ الزناد، وعينُه للأمام شاخصة. لا يرى الشهيد ما نراه، لا يحنُّ لما نحِنّ.

على طول ساعده يتكئ الرشاش، إبراهيم النابُلسي، كما يحبّ لفظ اسمه، وليست تسمع أذنيْه أزيزَ الرصاصِ الذي نسمعُ، ولا الصواريخَ المحمولة على الكتف.كان يرسلُ رسائله الأخيرة، التي سنسمعها عشراتِ المرات ونسهبُ في الحديث عنها ووصفها، نحن الذين نسمعُه وقد نجونا. يخبرنا بذلك، يرسلُ لنا من عالم الأحياء عنده، لعالم الموتى الذي عندنا، رسالةً إلهية، كتابَ الفدائيين الضاغطين على زناد الأفئدة، وسواعد البنادق، وشرايين الرقبة والصدر.

أنا "استشهدت"، كم مرة استمع أبو فتحي إبراهيمُ، لـ حدّاء الثورة أبو عرب، إبراهيمَ أيضًا وهو يغنّي على لسان ابنه الشهيد: "أنا استشهدت يا رفاقي احملوني، وعلى خشاب البارودة اسندوني، " وكم مرة نادى أخته كما ناداها أبو عرب محاكيًا فقد ابنه: "أنا ماشي يا أختي ودّعيني. امسحي بارودتي ويللا هاتيها". وكم مرة رآى إبراهيم نفسه فاديًا ومفدّى في هذين الاغنيتين وغيرهما، وكم مرة ناجى أمّه وأخته خلالها! وكم مرة تخيّل مصيره، واختاره، وهيأه!

**

لا يمكن أن نلمس الصوت، ولا أن نقايسه طولًا وارتفاعًا، لكن ذبذباته في حارة الحبلة في البلدة القديمة في نابلس كلها، مكان المعركة أو الواقعة، تستألف المكان وتستألف الأصوات الساكنة فيه من معارك سبقت ولم تمضِ حتى الآن. فهذا صوته، يختلط بصوت إسلام صبوح، رفيق الاشتباك. وهذا صوت  المرأة التي كشفت من شباك بيتها القديم، القوةَ الغازية فصاحت منبهّةً أهالي الحي والشهيدين... وهذا أيضًا، صوت "الأنيرجا" التي ستسقط على البيت وتدكّه. 
 


كفّ إبراهيمَ المقبوضة تخرج من  إسار الشهيد، تداني العلم المسجّى على الجسد المسجّى. تحيط به أكفّ المشيعين أكاليلَ  تتسابق للَمس الجسد الشهيد، لربما ليتأكدوا أنه كأجسادهم، من لحمٍ ودم، أو ربما ليمسّوا فيه ما هو كامن فيهم، ليوقظوه. ليقولوا وداعًا، ربما أخرى. لكنّها حتمًا تتسابق لكفّ الشهيد المقبوضة، كليّة القدرة، وكأنّها مبتعثة من قوة إلهية عظيمة وسرمدية، وكأنّ الطبيعي الذي في قدرتها، انحال إلى معجزة، في زمن طارئ، دخيل، يُحال فيه الصراع البديهي على الضروري إلى فعلٍ أسطورة. 

ليس هنا ابراهيمُ يحيّي أكفّهم! وهذه يده، وهذا إصبعه الجريح المنحني في القبضة التي لم تسلّم، ولربما هذه ضغطة مؤجلة على الزناد. وهذه عينه الناعسة، التي لم تغمض بعدُ، تلمع تحت شمس التشييع حين تقترب أخته وأمه… تمشي على قلبها وتشيّعه. هذه جموعُ ابراهيمَ  خلف أمه، وهذا رأسه، وهذه طاقية الرأس المدمّى، والعنق الموشوم بالرصاص، وقلائد الجلّنار تسيل منه... هكذا نراه يحمل نعشه معها، وخيالَ الخيّال لم يترجل حتّى. 

"هكذا" كان كفّ إبراهيم، بخمسة أصابع، وجرح غائِر في السبابة، وبارودة غائبة مرّت على الجسد، والجسد قد ارتحل صاحبه. هذه كفّ إبراهيم، و"هكذا" أكفّ شهدائنا مقبوضة ليست تصفح وليست تصافح. "هكذا" خطّت لنا نهجًا، نحن الفلسطينيين، جماعةُ الكف الأسود في العام 1937 في نضالها ضد الاستعمارين البريطاني والصهيوني. و"هكذا" فجّرت، بالديناميت، كفُّ سرحان حسين العلي، من عرب الصقر، "التي كانت تعرف الأرض كالكفّ"، ماسورةَ البترول (خطّ أنابيب النفط) قرب تل الحارثية في ثورة العام 1936 والذي كان ممتدًا من الموصل إلى حيفا وكان يزود بريطانيا بالنفط حينها. وهكذا أيضًا  رفضت كف الشهيد يوسف ريحان "أبو جندل" وهو في ردائه العسكريّ، مصافحة العسكريّ الآخر في جيش العدو، في انتفاضة العام 2000، وهي تمتد ليده. و"هكذا" أيضًا كف الشهيد محمد العزيزي "أبو صالح" مسؤول مجموعة "عرين الأسود" في البلدة القديمة في نابلس، حين الركعة الشريفة، في حارة الياسمينة، امتدت على جذع المسدس، وانبسطت على الأرض. و"هكذا" بترت كف وذراع الشهيد فادي قفيشة، الذي عرف بتصنيع وزراعة العبوات الناسفة، إثر مواجهات مع العدو الصهيوني في العام 2004. وهكذا، والاحتساب يطول، كف الشهيد جمال الزبدة وهو يهندس المنايا للعدو.

"هكذا" كف إبراهيم، وهكذا قبضات فدائيينا، في وجه مائير كاهانا، مؤسس حزب "كاخ" الصهيوني الدموي في العام 1971، الذي يعني بالعربية "هكذا"، وقد اتخذ رمز القبضة  المشدود كوسيلة وحيدة لطرد الفلسطينيين من أرضهم، وهو أيضًا يحال إلى شعار عصابة الإتسيل الصهيونية التي أنشئت في العام 1931 و التي قتلت وطردت الفلسطينيين قبل العام 1948 والتي شكلت لاحقًا جزءًا هامًا من مكوّنات جيش العدو الصهيوني.

 وكاخ حزب صهيوني يدعو لأمرين مترابطين استعماريين، أحدهما سياسي والآخر ديني، ففي الأول يسعى لترحيل الفلسطينيين لئلا يصبحوا أغلبيةً (في بلادهم) ويضعوا حدًا لوجود "دولة اليهود"، وتدعو كذلك للاستيطان غير المحدود، وإعلان السيادة اليهودية على كل الأرض. وفي الشقّ الديني يهدف لإقامة دولة اليهود التوراتية بموجب "الشريعة اليهودية"، كيفما شاؤوا ليّ عنقها وتفسيرها. وقام أحد أعضائه وهو الإرهابي المجرم باروخ جولدشتاين بمجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل في العام 1994 تجاه المصلين أثناء صلاتهم، وارتقى على إثرها 29 مصليًا وجرح 150 آخرين.*

كاخ، كحزب صهيوني استعماري، وبنهج سياسي دموي، لا تماثل قبضته قبضة الفدائي الشهيد التي تنقبض على حفنة من دم أو حفنة من تراب الأرض أو على مشط البارودة. و"هكذا" بمعناها الفلسطيني البحت، تداوي النار بالنار، والقبضة الحديدية بالقبضة الحديدية،  وهكذا تبدت قبضات إبراهيم النابلسي ورفاقه في وجه السيادة "اليهودية" في محيط ما يسمى بقبر يوسف، الذي يقتحمه على الدوام مئات المستوطنين وبحماية الجيش الصهيوني شرقي نابلس، وفي كل مكان في محيطها. ومن  شهادة أصحابها ومن شراسة مواجهة العدو لهذه القبضات الفدائية، حدّ الدفع بالقوات الخاصة كاليمام ودوفدوفان، لاغتيال الشباب في جنين ونابلس على وجه الخصوص، حيثما نشطت كتيبة نابلس وكتيبة جنين في العام الأخير، من شهادة أصحابها يتبدى أنّ أفعالها المقاومة كانت موجعة ومكلفة للعدو. 

وليست هذه مقاربة بين نهج المستعمِر الصهيوني والمستعمَر الفدائي الفلسطيني ولا محاولة لها، فإبراهيم النابلسي، كغيره من رفاقه، كان يسمي نفسه مطارِدًا للعدو وليس مطارَدًا، في نزع كامل للفاعلية عن العدو وفي إعادة تصويب النحو في الجملة الفلسطينية. أي على الفلسطيني أن يكون فاعلًا ومرفوعًا وعلى الفلسطيني أن يحدّد ويسيّر للعدو مهامه، وألا يترك له الأمر لينشغل بالأصل في الكيفية التي سيكمل استعماره لفلسطين والتخطيط المستقبلي في ذلك، بل عليه أن ينهمك انشغالًا في الكيفية التي عليه أن يكفّ فيها يد الفلسطيني الفلسطيني الفدائي/ المقاوم عنه، أي عليه أن ينشغل في الآن، والهنا، بأمر الفلسطيني وبفعله، وليس بالتفكير بمستقبله الاستعماري هنا… فهو لا يملكه.

وهكذا، لعلها من الصدف العزيزة، أو تياسير القدر الذي يصنعه أصحابه، أن قبضة إبراهيم لم تنبسط إثر استشهاده، إذ بقيت قابضة على ما قبضت عليه، وبقيت كذلك ظاهرة أثناء تشييعه في إعلانِ للنهج الوحيد الذي على الفلسطيني أن يسيره عليه... هكذا، وهكذا فقط وكما حددت ألسن الشهداء المقدسة" اللي بدخل القبر، بنقبر" والكف سوف تلاطم المخرز.

 

"موسوعة المصطلحات: كاخ"، استرجع بتاريخ 31 آب، 2022.