"فلسطين... حياة بعيون المصور خليل رعد": الذاكرة في عدسة الزمن

2022-09-22 04:00:00

خاص

قبل 20 عام من النكبة، التقط "خليل رعد" هذه الصورة لرجل يركب حصانه، يلتفت إلى الخلف بهدوء وكأنه يتأمل بحذر بنظرته الأخيرة للمكان، بينما يصعد الخيل بحزن وكأنه مطمئن لحالة السكون التي تغلف الصورة، السهل الممتد حتى آخره يصعد فجأة على جبل "جرزيم" الذي يقع جنوب مدينة نابلس في فلسطين،

"ما الذي كنّا نستخدمه بدلاً من الصورة الفوتوغرافيّة قبل اختراع آلة التصوير؟ الجواب المتوقّع هو: الحفر والرسم والتصوير الزّيتي. ولعلّ الجواب الأكثر إفصاحاً هو: الذّاكرة."

جون برجر 

 

يمكننا أن نبدأ من فصاحة كلمة الذاكرة بمعناها العميق لنا، وما تصوره من تداخلات معقدة يمكن أن تفسح لنا المجال لندرك حدود عالمنا، وتعيد صياغة الماضي والحاضر كونه سلسلة متماسكة من الأحداث، نحن نرى إذاً نحن قادرون على التخيل، وهذا الخيال الذي تخلقه الصور يراكم خبرات حول قدرة الصور الفوتوغرافية على استعادة المكان، ليس كونه هاجساً من المتخيل بقدر ما هو حقيقة يمكننا أن نصدقها وأن نتأملها لنفهم حاضرنا أكثر وندرك علاقتنا مع المكان. 

لذلك تحديداً يبدو معرض مؤسسة الدراسات الفلسطينية  "فلسطين.. حياة بعيون المصور خليل رعد.. (معرض تكريمي)" والذي أقيم ضمن فعاليات مهرجان بيروت للصورة 2022، رحلة للتأمل في صياغة الحياة العامة التي سجلتها الكاميرا، وكيف استطاعت أن تكَّون قدرة رهيبة على الوعي، لتشكل نافذة تتجاوز الذاكرة الجماعية في تسجيلها وتوثيقها للتفاصيل، لنفهم المعنى العميق لجملة سوزان سونتاغ " الصور الفوتوغرافية لا تبدو بيانات عن العالم أكثر منها قطعاً منه". إن هذه القطع الحية التي يعرضها المعرض عن حياة فلسطين والمدن الفلسطينية قبل النكبة، والتغيرات السياسية بين فترتي الاحتلال العثماني والانتداب البريطاني، تختبر إدراكنا في فهم الماضي والوصول إلى الحاضر، بهذا التداخل بين الكلمتين الكبيرتين، سوف تمدنا صور المعرض بالبراهين لفهم مضمون الذاكرة في استمرارها ليس كدليل فقط، بل كونها مساحة للمواجهة أيضاً، خاصة أن العصابات الصهيونية منذ عام 1948 لم تواجه الإنسان والمكان فقط، بل أدركت أهمية الذاكرة وعملت على طمس معالمها، من خلال إتلاف صور وكتب الفلسطينين، منعاً لقيام أرشيف وطني فلسطيني في المستقبل، لذلك يمكننا أن ندرك في المعرض المعنى العميق لكلمة الذاكرة، وهي تختزل مفهوم الزمن، وعن أهمية الدور الذي يمثله التصوير في القبض على المكان، كونه يفتح مساحات للتأويل والاستعادة، فنحن عندما نرى الصور المعروضة في المعرض اليوم، لا نجيب على سؤال كيف كانت فلسطين قبل النكبة فقط، بل نصل إلى سؤال أكثر دقة وهو كيف يجب أن نرى فلسطين الآن؟

يضم المعرض 64 صورة من مجموعة المصور "خليل رعد" المكونة من 3000 صورة، التي حفظت في قسم الأرشيف والتوثيق في مكتبة قسطنطين زريق في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وحملت الصور المعروضة في المعرض أربعة عناوين رئيسية، فلسطين/الحياة، مناظر طبيعية، مشاهد ممسرحة، فلسطين/الاحتلال، كل عنوان يحمل سياقاً مختلفاً، يضمن نقطة تقاطع والتقاء لمقاربات عدة، وعلاقات وارتباطات سياسية وشخصية وتاريخية ومشهديّة ويومية، وجميعها تدخل في تفاصيل الحياة بمعناها الواسع، وتستعيد هامشاً حياً لعلاقة متينة مع قدرتنا على التأمل، وتساعدنا على فهم الحياة التي عاشها المصور "خليل رعد"، وكيف صار مشروعه الفوتوغرافي يعكس وجهاً جديداً مختلفاً عن الوجه الذي كان يكرسه المصورون الأجانب في تلك الفترة، كما جاءت صورة بديلاً عن الوجه الاستعماري، لتعكس الوجود الفلسطيني ليس كدليل ولا كهامش، بل كسياق حي يكثف الوجود ويختزل الحياة، ولد المصور "خليل رعد" لعائلة من "بحمدون" في جبل لبنان عام 1854، ثم انتقل إلى القدس التي نشأ فيها، وتتلمذ على يد المصور الأرمني غرابيد كريكوريان الذي افتتح أول استديو تصوير في القدس عام 1885، ثم سافر إلى بازل في سويسرا لتعلم فن التصوير بدقة أعلى، ليعود إلى القدس مجدداً ويكون من أوائل العرب الذين يفتتحون استديو تصوير في القدس أطلق عليه اسمه، ولكن التجربة الحقيقة لخليل رعد في التصوير نسجتها العلاقات أيضاً، حيث كان قبل النكبة وفي فترتي الانتداب البريطاني والحكم العثماني، مصوراً رسمياً للحكومة العثمانية وله علاقات مباشرة مع المسؤولين العثمانين، كما أوضح المؤرخ سليم تماري، أنه كان له علاقة مباشرة مع "جمال باشا" الذي كان بقيادته في جبل الزيتون، كما التقط صوراً لمعارك محتدمة بين الحلفاء والجيش العثماني في عدة مواقع منها بئر السبع وقناة السويس وسينا وغزة، كما صور المباني العثمانية وصوراً دعائية للجيش العثماني، التي عندما اكتشفها الجيش البريطاني بعد اقتحام استديو "رعد" قاموا باعتقاله وسجنه، وتعبر هذه التجربة الغنية على قدرة الكاميرا على انتزاع المشهد في ظروف مختلفة، وما تمثله من انتزاع الحدث من مساره الزمني، وإعادته لإطار أوسع يمكننا من خلاله فهم السياق العام للحياة، ولربما بهذا الترابط بين العناوين التي يطرحها معرض مؤسسة الدراسات يمكننا أن ندرك تفاصيل كل صورة من خلال السياق العام الذي تمثله، وما تنطوي عليها من اختزال للوقت.

قبل 20 عام من النكبة، التقط "خليل رعد" هذه الصورة لرجل يركب حصانه، يلتفت إلى الخلف بهدوء وكأنه يتأمل بحذر بنظرته الأخيرة للمكان، بينما يصعد الخيل بحزن وكأنه مطمئن لحالة السكون التي تغلف الصورة، السهل الممتد حتى آخره يصعد فجأة على جبل "جرزيم" الذي يقع جنوب مدينة نابلس في فلسطين، والذي سكنته الطائفة السامرية والتي تعتبر هذا الجبل قبلة لصلاتهم، والتي أقامت دولة الاحتلال على الطرف الجنوبي الشرقي منه مستعمرة "هار براخا الإسرائيلية"، ما تفعله صورة "خليل رعد" هو تنبيهنا، بأنه هناك دائماً وقت للتذكر، وللتعامل مع الصورة كونها أداة لاستعادة الممكن من الأرض، وفهم سياق الزمن وحدوده وقدرته على التبدل، وإن الوقت مناسب دائماً لاكتشاف أفق جديد للرؤية، طالما هناك قدرة على القبض على الزمن واختزاله في صورة. 

وأخيراً يستمر معرض مؤسسة الدراسات حتى 30 أيلول / سبتمبر، من أيام الإثنين حتى الجمعة، من الساعة 8:00 صباحاً ولغاية 4:00 بعد الظهر، والجدير بالذكر أن المعرض يقام مع عدة معارض أخرى ضمن "مهرجان بيروت للصورة"، وجميعها تركز على الربط بين الماضي والحاضر، وعن علاقات الزمن في الأحداث السياسية والاجتماعية والفضاءات العامة، كما تصيغ المدن من جديد من خلال صور تعكس احتمالات الواقع والتغييرات التي طرأت على الأمكنة، لمصورين عدة يحاولون أن يضيئوا على تجارب يمكن من خلالها إدراك فهمنا للذاكرة، وعلاقتنا الشخصية مع ما يحدث يومياً، وكيف يجب أن نعيد قراءة الصورة في سياقات تحدد فهمنا لأنفسنا وللعالم.