النموذج المعروض في السكاكيني، يعكس مدى عمق قيمة استخدام الفن، بالتزامن مع استحضار معرفة مغيبة عن الجمهور، وذلك بالتزامن مع إظهار لمقتنيات فنية، وفي ذلك دلالة على أهمية استحضار وإظهار ما هو دفين، مع الحفاظ على التكامل والتناغم، الذي كان يشهده الوطن العربي سابقاً،
هناك قصص ، قصصنا نحن، التي تعيد الحياة من خلال الماضي، لنا ولِأولئك المنسيين، لذا وعلى الرغم من تفتت هذا الماضي، إلا أن نوافذ المعرفة والتذكر المتعددة في عالم اليوم، تعطينا الفرصة، لاستحضاره، بغض النظر عما تغفل عنه آلة العصر التكنولوجية. ومثال ذلك، المعارض الفنية التي تعكس قصصاً تُحكى عن ماضٍ يحاول الاستعمار بهيمنة تفتيته. وذلك يظهر، مثلاً في معرض "المعرض"، الذي افتتح في مركز خليل السكاكيني في 2022.08.10، بما تضمنه من، مقتنيات معرضين أقيما في القدس في العام 1933 و 1934، وذلك على ما يبدو، محاولة من المركز، والقيم، القائم على المعرض، ندي أبو سعادة، استحضار ماضي المعارض، في فلسطين، والتي كان لها دور كبير، في إظهار دور القدس، في النهضة الثقافية، والاقتصادية العربية، في عشرينات القرن المنصرم، من جهة، ومن جهة اخرى، محاولة استخدام المعارض الفنية لإعادة إحياء معرفة، من الماضي.
اشتمل المعرض في مركز خليل السكاكيني، على مجموعة من الأعمال الفنية، والحرفية، وبعض المواد التاريخية، التي تم تجميعها، من بعض الأرشيفات المتناثرة في أرجاء فلسطين، والخاصة بحدثي المعرضين اللذين أقيما في القدس، بالإضافة إلى بعض المجموعات، الخاصة، لمقتني الآثار والأعمال الفنية، في فلسطين، مثل جورج الأعمى، ومجموعة أمجد غنام. وقد تم التركيز في المعرض، على استحضار فكرة المعرضين اللذين أقيما لعدة أسباب، أهمها، الرد على التمثيل الهش، أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، في المعارض العالمية، والاستعمارية، مقابل المستعمرات الأخرى التي تم تمثيلها بقوة، في معارض، باريس وبريطانيا ونيويورك، حيث اعتبرت فلسطين آنذاك كمستعمرة للبريطانين. وعزز من ظهور الفكرة، زيارة الصحفي الفلسطيني، عيسى العيسى لمعرض الصناعي والتجاري في بغداد 1932، والتي جاءت بعد زيارته لمعرض باريس الاستعماري. ونتاجاً لما شاهده، من اضطهاد للفلسطيني في المعارض الغربية، ومن نموذج معرضي في العراق، هذه المشاعر المتناقضة بين الغضب والأمل، دفعت العيسى إلى قام طرح فكرته، لإقامة معرض عربي في القدس، من خلال مقالة نشرها، في جريدة فلسطين، التي كانت تصدر للمرة الأولى في يافا 1932. وتزامن النشر أيضاً، مع ظهور حدث معرض الشرق، في تل أبيب، 1932، والذي أثار مشاعر من الغضب، والإحساس بالتهديد، والذي تم عكسه، من خلال، إعلان في جريدة الجامعة العربية يقول: أيها العربي، أيها المسلم، قاطع معرض تل أبيب، الصهيوني؛ لأنه ضار، بقوميتك ووطنك، هذا الإعلان عكس حالة الوعي المبكر للخطر الذي يتهدد الوطنية والقومية العربية. لتتسارع الخطوات بعد ذلك، لتشكيل وعقد مجلس إدارة المعارض، والذي تشكل من عبد الحميد شومان، أحمد حلمي باشا، نبيه العظمة، عبد الباري أفندي، جميل أفندي، حمدي النابلسي، عيسى العيسى، وقد ظهرت إحدى الصور الفوتوغرافية في معرض "المعرض" موضحة ذلك.
تدفقت بعدها الإجراءات المتعلقة بتيسر هذا المعرض وفق الخطة التي أجمع عليها مجلس الإدارة، خاصة الإعلانات والدعاية الكبيرة، التي حظي بها، في الصحف الفلسطينية، والعربية. وأقيم المعرضين على فترتين وقعتا بين ثورتين، ثورة البراق 1929، والثورة الكبرى 1936، وقد شهدت المنطقة العربية، في هذه الفترة بالذات مرحلة انتقالية حادة، لكن ذلك لم يقف حائل بين إقامة المعرضين، وقد تم طرحهما، بما تضمناه من مزيج، الحرف، الصناعات، والأعمال الفنية، التي لم تقتصر على فلسطين، كونها البلد الحاضنة، بل تخطاه ليشمل مشاركات، من مختلف أنحاء الوطن العربي، وقد اجتمعوا جميعاً بأعمالهم وصناعاتهم في فندق البالاس في القدس، والخاضع لسيطرة المستعمر في وقتنا الحالي.
حمل المعرضان شعارين تم تصميمهما من قبل الفنان توفيق جوهرية، تضمن الشعار أعلاماً ورموزاً متعددة، مثل النجوم التي ظهرت في معرض خليل السكاكيني، بالإضافة الى صورة لفندق البلاس والحشد الكبير حوله، وتعود الصورة إلى العام 1934، ويظهر جلياً عنوانا المعرضين "المعرض العربي، الأول، والمعرض العربي الثاني"، اللذان تضمنا، حسب المخطط المطروح، عدة فضاءات، وكل فضاء لمنتج أو عمل فني. كما علقت قصاصات و نصوص وإعلانات، وصور هذين المعرضين وأجزاء من الصحف المتنوعة التي تعكس أعمال المعرض، وحملة الترويج له وقصاصات من صحف تظهر فعل المقارنة الذي جرى بين المعرض العربي والصهيوني، كنوع ربما من المنافسة غير عادلة بين مستعمر وضحية، بحيث يظهرهما كندّين والواقع غير ذلك.
وفي عمل آخر ظهر، في "المعرض" بقايا أحجار مزخرفة للنافورة التي كانت في الفندق، بالإضافة الى بعض أدوات المطعم، من مجموعة أمجد غنام، التي بقيت شاهدة على تاريخ هذا الفندق قبل أن يتعرض جزء منه للهدم والتفتيت والاستحواذ الاستعماري، والذي انعكس في "المعرض"، من خلال الوثيقة، التي تأمر بتحويل ملكية الفندق إلى المستعمر البريطاني، وانتقلت بعده للمستعمر الصهيوني.
جميع الأعمال التي ذكرتها أو وردت في "المعرض" ولم أذكرها، طرحت بأسلوب فني، قد لا نستطيع الادعاء بفنيته المحضة، لكنها تقف شاهدة على الشكل الثوري الناعم الذي كان يستخدم لعكس الغضب في تلك المرحلة. وقد نستطيع الادعاء أن ثمة حالة مقاومة تبلورت من خلال المعرضين، سواء اعتبرناهما تجاريين أو صناعيين أو فنيين، فقد استخدما، كأداة للرد على هيمنة المستعمر، وكدليل على الوحدة العربية، و كوسيلة لحماية القومية، والوطنية، على الرغم من التغيرات الجذرية لطبيعة المدينة بفعل الهيمنة العثمانية، ثم البريطانية، ثم الصهيونية، والتي توجت خلال فترة المعرضين، وأضيف إلى هذا التغير، أثر المعماريين العرب الذين كان لهم دور في تغير هذه المعالم. ويضاف إلى كل ذلك أن المعرضين أعطيا الفرصة لرواد الحركة الفنية، والفنانين لعرض أعمالهم والتفاعل فيما بينهما.
النموذج المعروض في السكاكيني، يعكس مدى عمق قيمة استخدام الفن، بالتزامن مع استحضار معرفة مغيبة عن الجمهور، وذلك بالتزامن مع إظهار لمقتنيات فنية، وفي ذلك دلالة على أهمية استحضار وإظهار ما هو دفين، مع الحفاظ على التكامل والتناغم، الذي كان يشهده الوطن العربي سابقاً، وقد يكون في ذلك، محاولة لتخيل مستقبل، أو حاضر متكامل، بعيداً عن الشرخ في العلاقة بين فلسطين والوطن العربي، والذي بالإمكان تكراره والبناء عليه.