أنور حامد: المهمة الأساسية للأدب النفاذ إلى ما خلف الأقنعة

2022-10-26 12:00:00

أنور حامد: المهمة الأساسية للأدب النفاذ إلى ما خلف الأقنعة

أظن أنني تأثرت إلى حد بعيد بأسلوب كتاب أوروبا الشرقية (عشت ٢٢ سنة من حياتي في بودابست)، خاصة أنني بدأت الكتابة الروائية والنشر باللغة المجرية. ما يميّز هذه الكتابة الصوت السردي الهادئ، البعد عن الانفعال، والنظر إلى المشهد الروائي الذي أصوغه من مسافة آمنة لا تجعلني أمارس أحكاماً على شخصياتي. أحاول أن أتركها تتحرك بحرية وبمعزل عني.

في روايته التاسعة«غريب»، الصادرة مؤخراً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، و"مكتبة كل شيء- ناشرون" في حيفا المحتلة، يواصل الروائي الفلسطيني أنور حامد، الكتابة عن فلسطين شعباً وعادات وتقاليد وجغرافية ومقاومة وقضية، من خارج المكان/الوطن (فلسطين)، فهو يعيش منذ ما يزيد على أربعين عاماً في أوروبا. في حوارنا مع صاحب «والتيه والزيتون»، ذو التجربة الفريدة والخاصة في الكتابة الروائية في المشهد الأدبي الفلسطيني، يكتشف قراء "رمان الثقافية" بعض تفاصيل تجربته الإبداعية منذ بواكير كتابته في الجرائد المقدسية في مرحلة دراسته الثانوية، بعد أن يدخلنا إلى عوالم روايته الجديدة «غريب».

 

لتكن بداية حوارنا، بسؤالك عن آخر أعمالك الروائية "غريب"، التي ترتكز منذ عنوانها على موضوع «الغربة»، لماذا هذا الموضوع خاصة؟ وكيف تقرّبها لقراء "رمان"؟

"الغربة" أو "الاغتراب" بما هو شرخ بين الفرد والمجتمع، الفرد والبيئة المباشرة، صوت الفرد والصوت الجمعي، ثيمة متكررة في رواياتي، طبعاً بمعالجات مختلفة وبتوجهات مختلفة وبتفاصيل مختلفة. ربما رد فعل لتسيّد الصوت الجمعي في الواقع الفلسطيني: الواقع السياسي، الاجتماعي، الثقافي. نعيش مرحلة "النمط الجمعي" لم يكن الوضع كذلك دائماً، المشهد بتفاصيله الكثيرة يحيل على "التشابه"، ابتداءً من الزي المفروض على النساء إلى الفكر الذي يفرض على الفرد بشكل تعسفي نافياً فردانيته. هذه أزمة سياسية، فكرية، إبداعية نعيشها منذ عقود، وتشغلني، لذلك من الطبيعي أن تكون حاضرة في رواياتي.

تدور أحداث الرواية، خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، متحركة بين عنتبا وطولكرم ونابلس ورام الله وبيرزيت، ويعيش بطل الرواية (غريب) في وطنه وبين أهله، حالة أشد قسوة من الغربة وهي "الاغتراب" عن الذات وانقطاعاً عن الواقع، والإحساس بعدم الانتماء للمكان والمجتمع الأبوي الخاضع للمسلّمات والموروثات. هذا كله يدعوني لأسألك: إلى أي مدى يعتمد الروائي على السيرة الذاتية في بناء روايته، خاصة أنّ نقاداً يرون أنه ما من رواية إلّا وتحمل في طياتها جوانب من سيرة كاتبها؟

اعتماد السيرة الذاتية أساساً للعمل الروائي كان شائعاً دائماً، وهذا مجرد تفصيل تقني لا أهمية له. المهم أن يدرك المتلقي والناقد أنه مشروع وأنه يبقى خيالاً مهما اقتربت ملامحه من الواقع، ولا يعني، كما يحلو لبعض المتفذلكين تصنيفه، بأنه انتفاخ الإيغو (الأنا) عند الكاتب. كما نعرف فإنّ الروائية الفرنسية آني إيرنو، الفائزة بجائزة نوبل للأدب لهذا العام تستقي أعمالها الروائية من سيرتها الذاتية، ولم يكن هذا حجر عثرة حتى في طريق حصولها على نوبل. كما قلت هو خيار تقني يخص الكاتب ولا حق لأحد فرض قيود أو محظورات عليه.

"التمرد، أحد المعالم المُعرّفة لأدبي.. ولا أعترف بخطوط حمراء دينية أو أخلاقية ولا جمالية.. والكتابة بالنسبة لي هي فعل شغب"، -كما قلت في حوارات سابقة-. أليس لديك سقفاً للحريات في الحياة وفي الكتابة الإبداعية؟ وماذا عن سلطة الرقيب الداخلي أثناء الكتابة؟

أحاول التحرر من الرقابة (أخلاقية أو سياسية) سواء كانت داخلية أو خارجية. أواجه مشاكل أحياناً، فقد طلب ناشري استبدال بعض التعابير "السوقية" كما صنفها من حديث شخصيات أحدث رواياتي، هذا واقع محزن. لا ينبغي إقحام المحظورات أيا كانت على الإبداع، بأي من إشكاله. أنا مع الحرية المطلقة للكاتب، وللمتلقي مطلق الحرية في اتخاذ موقف، أخلاقي أو أيديولوجي أو مقاطعة نتاج الكاتب نهائياً، لكن الطلب من الكاتب أو إجباره على الالتزام بمعايير أياً كانت مرفوض من وجهة نظري.

برأيك؛ هل من واجب الروائي أن يخترق الأمكنة المظلمة والمشوّهة في مجتمعاتنا العربية التي يعمل السواد الأعظم من أفرادها على دفن قصص كثيرة، وكذلك أن يثير أسئلة لا يجرؤ كثيرون منا على طرحها علانية باعتبارها من المحرّمات أو المسلّمات والأعراف الاجتماعية؟

نعم، في رأيي هذه هي المهمة الأساسية للفن/الأدب: النفاذ إلى ما خلف الأقنعة، وقشط طبقات من التراكمات على سطح وعي الكاتب، أياً كانت طبيعة تلك التراكمات. 

بالعودة إلى بداياتك، حدّثنا عن المحطة الأساسية، أو التحوّل الرئيسي، في حياتك التي كان لها الأثر الكبير في مسار تجربتك الكتابية الإبداعية؟

حصل تحوّل جذري في شخصيتي وتفكيري في سن المراهقة، لكنه لم يكن التحوّل المعتاد في تلك السن. كان نتاج سنوات تأمل وقراءة وتفكير لا تغيرات هرمونية. لقد بقيت ملامحه الرئيسية ترافقني حتى الآن.

ما أبرز السّمات التي شكّلت شخصيتك الكتابية؟ وما هو مفهومك اليوم للكتابة الروائية؛ ومن بعد ما الذي يميّز مشروعك الروائي؟

أظن أنني تأثرت إلى حد بعيد بأسلوب كتاب أوروبا الشرقية (عشت ٢٢ سنة من حياتي في بودابست)، خاصة أنني بدأت الكتابة الروائية والنشر باللغة المجرية. ما يميّز هذه الكتابة الصوت السردي الهادئ، البعد عن الانفعال، والنظر إلى المشهد الروائي الذي أصوغه من مسافة آمنة لا تجعلني أمارس أحكاماً على شخصياتي. أحاول أن أتركها تتحرك بحرية وبمعزل عني.

يلاحظ المتتبع لمسارك الروائي، أنّ الذاكرة من أهم مصادر كتاباتك. فهل توافق الرأي القائل: إنّ "الكتابة هي مخاض ذاكرة عمر معين من الحياة أو قراءة رؤية موازية للواقع وتجلياته وناسه وحروبه"؟

نعم أتفق، وبالنسبة لي هناك ظرف موضوعي يدفع بهذا الاتجاه: الكثير من أعمالي الروائية تعالج حياة شخصيات فلسطينية في الوطن في حقبات زمنية مختلفة، وأنا أعيش بعيداً عن وطني، لذلك ألجأ إلى الذاكرة أحياناً لبناء مشاهد الماضي، بالإضافة إلى الأبحاث طبعاً.

كتبت الكثير من الأشعار والمقالات النقدية، وحاصل على شهادة عليا في نظرية الأدب. أتعد نفسك صاحب مشروع شعري، وتمتلك أيضاً مشروعاً نقدياً؟

لست صاحب مشروع شعري، لذلك فإنني لا أعتبر نفسي شاعراً، أكتب الأشعار بين فترة وأخرى، لكن لا مشروع لدي، لذلك فلا أظنني أستحق صفة "شاعر". بالنسبة للنقد أنا أحمل درجة أكاديمية عليا في نظرية الأدب، لذلك يمكن أن أصنف نفسي ناقداً دون تأنيب ضميري المهني.

بعد أن صرت في سن الخامسة والستين، وأصدرت تسع روايات باللغة العربية حتى الآن، غير تلك الروايات الأولى التي كتبتها باللغة المجرية، بالإضافة لما كتبته من أشعار ومسرحيات، ونصوص أدبية ساخرة، وعشرات المقالات النقدية. أسألك عن طموحك من الكتابة يوم كنت في مطالع شبابك، والآن؟

الكتابة كانت بالنسبة لي منذ البداية "حياة موازية"، مجازياً وواقعياً. واقعياً كنت دائماً أشغل وظيفة بدوام كامل وأكتب في وقت فراغي. ومجازياً لأنني أرى في الكتابة الروائية عملية تشكيل أو خلق إن شئت، إعادة تشكيل جزئيات الواقع. لماذا نفعل هذا؟ على سبيل اللعب من جهة، نعم اللعب، يلعب النحات بالإزميل، ويلعب آخرون بالطين أو بالألوان، والكاتب يلعب بالأخيلة واللغة. لماذا نفعل ذلك؟ ربما نطمح لإعادة تشكيل العجينة التي هي حياتنا، ربما نعيش حالة اغتراب عنها فنحاول تشكيل بدل، أو، من يدري؟ كثير من الفلاسفة حاول الإجابة على هذا السؤال، وأنا مجرد طفل عابث، لا فيلسوف ولا منظر، بل شخص يعبث بطين الكلام محاولاً تشكيله وفقاً لروية ما.

رغم أنك بدأت نشاطك الإبداعي أثناء المرحلة الثانوية، ونشرت قصائدك وقصصك القصيرة الأولى في جريدتي "القدس" و"الفجر" المقدسيتين، إلّا أنك نشرت ‏أولى رواياتك «حجارة الألم» باللغة المجرية في بودابست. لماذا ارتأيت نشر أول عمل أدبي لك بلغة غير لغتك الأم؟ وماذا كان يعني لك التوجه للقارئ المجري؟

لأنني انخرطت في الحياة الاجتماعية والثقافية في المجر، تعلمت اللغة بشكل جيد، شاكست الواقع، وأحسست أنني أريد مخاطبة أبناء ذلك البلد بلغتهم، كان لدي ما أردت قوله لهم.

ككاتب، ما الذي أعطاك إياه الفضاء المجري- الأوروبي؟

أعطاني الكثير: أهم شيء إمكانية النظر لصورتنا عن بعد. حين تكون جزءاً من الصورة، منخرطاً فيها، من الصعب أن تراها بتجرد، وأنا أومن بضرورة التجرد لإنتاج الفن، بدون القدرة على النظرة الشمولية يبقى الفنان حبيس جدران ضيقة، بلا أجنحة. بالإضافة طبعاً إلى أنه منحني روية ثرية لمفهوم الفن، ابتداءً من نظريات جورج لوكاتش إلى فلسفة ومنظور الفن لدى مبدعي أوروبا الشرقية.

وصلت روايتك "يافا تعد قهوة الصباح" للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر، عام 2013. بعدها أعلنت أنك توقفت عن ترشيح رواياتك للتنافس على البوكر أو أي جائزة أدبية أخرى. ما هي أسباب ومبررات قرارك هذا؟

كما ذكرت أنا صاحب صوت خفيض في السرد، لست معنياً بكتابة الملاحم الدرامية. أحاول أن أغري القارئ بالتأمل أكثر من محاولتي جره للصراخ بحماس أو التصفيق. رواياتي في العادة تستفز قراءها، يخرجون منها مشوشين، وبعضهم يسخر مني أو يشتمني. عندها أحس أنّ صوت وصل إلى مستوى ما من وعي قارئي، وهذا يفرحني. الجوائز الأدبية العربية، كلها بلا استثناء، تبحث عن الصوت السردي الذي يعلن عن نفسه، عن مسوغات احتفالية لمنح المبدع جائزة، عن أشخاص وأعمال قابلة للنجومية. وأنا، كما قلت، رجل الصوت الخفيض، الإضاءة الخافتة، التأمل بعيداً عن الأضواء والاستعراض، وهذه سمة ما أكتب أيضاً. إلى ذلك، وصل اثنان من أعمالي إلى القائمة الطويلة لجائزة عربية وبريطانية على التوالي.

في ختام حوارنا؛ سؤالي: ما هي رواية أنور حامد المؤجّلة، ومتى سترى النور؟

لا رواية مؤجّلة لدي، أكتب على الدوام. حالياً أنا مشغول بكتابة روايتي العاشرة بالعربية، والتي آمل أن أتمكن من وضعها بين يدي ناشري خلال شهور.