في كلتا الروايتين يحضر التحدي الأدبي في التعبير عن التجربة الجسدية سواء تلك المتعلقة بالتجربة العشقية، الإيروتيكية والجنسية في رواية "شغف بسيط"، أو تلك التجربة بالحبل غير المرغوب، بنمو كائن غير مرغوب فيه داخل الجسد، بآلام الجسد العلاجية وعملية الإجهاض في رواية "الحدث".
إن متابعة روايتي الكاتبة الفرنسية آني إرنو "شغف بسيط، 1991" و "الحدث، 2000" في تحولهما إلى فيلمين سينمائيين بنفس العنوان، الأول من إخراج دانييل عربيد، 2020، والثاني من إخراج أودري ديوان، 2021 تكشف للعين النقدية عن كيفية التعبير الأدبي والفني عن مجموعة من الموضوعات والتجارب الحسية والذهنية بين تقنيات الأسلوب الأدبي وتقنيات الفيلم السينمائي.
الحكاية الروائية والسينمائية بين الشغف الجنسي والإجهاض
الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها ولعل الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحول جسدي وحواسي وأفكاري إلى كتابة، أي إلى شيء ما واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم.
"الحدث"
في رواية "شغف بسيط" تقدم الكاتبة آني إرنو قصة علاقة غرامية عابرة، بمعنى وبرغم كل الشغف الذي كانت تعيشه الكاتبة تجاه الرجل الذي يحمل اسمأ إلا أنها كانت علاقة محكومة بنهاية حتمية. لكن رواية إرنو ومشاعرها يركزان على التغير الذي يعيشه الفرد خلال العلاقة بأكثر مما هو مصير الاستقرار أو التملك في العلاقة العاطفية. إن فكرة الحكاية هو التغني بالشغف الحاصل بين شخصين، حتى وإن كانا عابرين، بما يحمله من استكشاف في الجنسانية ووعي الذات والجسد: "حين كنت طفلة كان الترف بالنسبة إلي، معاطف الفرو، الأثواب الطويلة، والفيلات على شاطئ البحر. فيما بعد، اعتقد أنه يتمثل في عيش حياة ثقافية. يتراءى لي الآن أنه القدرة على عيش شغف لرجل أو لامرأة". أما الحكاية في رواية "الحدث" تروي عن تجربة الحمل والإجهاض التي عاشتها الكاتبة في أعوام الستينيات في فرنسا حين كانت في العشرينيات من عمرها في المرحلة الجامعية. حيث كان القانون الفرنسي يعتبر الإجهاض جريمة يعاقب عليها بنص قانوني كل المشاركين /ات فيها، ويحرم الأطباء والطبيبات من مزاولة المهنة في حال الإقدام على إجراء عملية إجهاض. حكاية تجربة ذاتية، عينة نسوية عن صعوبة العيش مع جسد ينمو بداخله مصيراً للذات لا تريده، وصعوبة النضال في تحقيق الفتاة المراهقة مستقبلها في الأدب والكتابة على عكس احتمالات الجنين الذي يكبر في بطنها، وكذلك عن العالم الخارج عن القانون الذي تختبره الفتاة الجامعية في تجارب جسدها للوصول إلى الإجهاض، وعن ردود الفعل العائلية الاجتماعية على تجربة الحمل والإجهاض في تلك الفترة من تاريخ فرنسا: "أشعر أن الحكاية تجذبني وتفرض علي، من دون، وعي مني، معنى ما، هو معنى الشقاء في سيره الحتمي. أجبر نفسي على مقاومة رغبة تكوير الأيام والأسابيع، عازمة بكل الوسائل على حفظ البطء اللانهائي لزمن كان يتجمد مثل زمن الأحلام، كالبحث عن التفاصيل وكتابتها، واستعمال الزمن غير المكتمل وتحليل الأحداث".
الشخصية الذات النسوية الواحدة بين التأليف والإخراج السينمائي
ما من كتابة في العمق، سوى كتابة هذه الأنا التي تتشظى والتي نحاول اكتشافها عبر الكلمات التي تكتبها.
"شغف بسيط".
رغم أن شخصية الروايتين مختلفتان، فالأولى هي فتاة جامعية في فترة المراهقة العاطفية والتجريب الجسدي، والثانية أم أربعينية في تجربة عشقية عابرة، إلا أن الذات الواحدة العليا تجمع بينهما، هي ذات الكاتبة نفسها آني إرنو، التي يعرف أسلوبها الأدبي بالتخييل الذاتي، وهو ذلك الذي يجعل من السيرة الذاتية مادة العمل الأدبي، فالإجهاض العشريني أو العشق الأربعيني هو مستمد من تجربة الكاتبة الذاتية في كلتا الروايتين، كما في كل روايات الأديبة. وكذلك، تمتد هذه الذات النسوية إلى كلا الفيلمين، عبر التماهي بين شخصيات الفيلم والمخرجين، فكل من دانييال عربيد وأودري ديوان تشكلان معادلة متكاملة في تناول الجسد والشهوة والمرأة في الذات الفيلمية. فالشخصية الممتدة عبر الرواية والفيلم، هي الشخصية النسوية إن كانت تسأل أسئلة الشغف أو أسئلة الإجهاض والقانون والحقوق. وفي كلا الروايتان تتشاركان في غياب الآخر الحبيب أو الأب، الآخر الحبيب الغامض في رواية "شغف بسيط"، والآخر الشريك الجنسي اللامبالي في "الحدث". فنتابع الذات النسائية في وحدتها الفاعلة باتجاه عيش التجربة، تورد الكاتبة في رواية "شغف بسيط": "يستمر هذا الرجل بالعيش في العالم. لا يمكنني أن أصفه أكثر، مخافة أن أقدم عنه إشارات يمكن لها أن تكشف هويته. لقد صنع حياته بحزم. لا يجيز لي أن أكشف عن شخصيته. لم يختر أن يظهر في كتابي، بل فقط في وجودي".
صحيح أن الحكاية في الروايتين مغرقة في الذاتية وتتناول السيرة الذاتية للمؤلفة نفسها، إلا أن الروائية آني إرنو تربط في أسلوبها بين الحدث الذاتي والحدث الجمعي التاريخي، فتربط بين حدث العشق والحدث السياسي العالمي تارةً: "كان من المستحيل أن أربط كتابة صفحة معينة بالمطر الهاطل أو بواحد من الأحداث التي شهدها العالم منذ خمسة أشهر، كسقوط جدار برلين وإعدام تشاو سيسكو. لا علاقة أبداً لزمن الكتابة بزمن العشق"، أو تربط بين الكتابة الذاتية والحدث الإنساني الأشمل تارةً أخرى: "وأنا اكتب حاول اللاجئون من كوسوفو الدخول بشكل غير شرعي إلى إنجلترا عبر كالي. يطلب المهربون مبالغ طائلة، ثم يختفون أحياناً قبل العبور. لكن لا شيء يمكن أن يوقف سكان كوسوفو، ولا كل اللاجئين المهاجرين من البلدان الفقيرة: لم يكن لديهم أي سبيل آخر للخلاص". أو في موضع آخر: "ما بين اللحظة التي توقفت فيها عن الكتابة، في أيار الماضي، والآن 6 شباط 1991، انفجرت الأزمة بين العراق والتحالف الدولي. إنها حرب نظيفة وفق البروباغندا؟"
وبالإضافة إلى اعتبارها موضوعة، فإن الذاتية أيضاً أسلوباً يتجسد في الكتابة الروائية أو الإخراج السينمائي، وإن كان النص الروائي يحمل ذاتيته بالبوح وبالسرد، فإن المخرجتان ابتكرتا الحلول السينمائية التي تجسد معادلاً موضوعياً للمونولوجات الذاتية التي تملأ النص. في فيلم "شغف بسيط" تصور كاميرا الفيلم اللحظات الذاتية حيث ترافق الكاميرا الشخصية تسير في عزلة شوارع المدينة، تنقل العالم الذاتي الجواني، بالمقابل يختار فيلم "الحدث" أن يقدم مشاهد للشخصية الرئيسية وهي تعوم فوق الماء بما يشكل الشعور بمساحات الوحدة الداخلية، الشوارع الفارغة المنارة بأضواء جانبية والمساحات المائية التي يعوم فيها الجسد وحيداً، هي معادلات سينمائية للمشاعر الجوانية للشخصية الرئيسية في كلتا الحكايتين.
الشهوة والعشق بين التعابير الأدبية والكاميرا السينمائية
في كلتا الروايتين يحضر التحدي الأدبي في التعبير عن التجربة الجسدية سواء تلك المتعلقة بالتجربة العشقية، الإيروتيكية والجنسية في رواية "شغف بسيط"، أو تلك التجربة بالحبل غير المرغوب، بنمو كائن غير مرغوب فيه داخل الجسد، بآلام الجسد العلاجية وعملية الإجهاض في رواية "الحدث".
في التعبير عن الشهوة والرغبة والتجربة الجنسية تقول آني إرنو: "يتراءى لي أن على الكتابة أن تميل إلى الانطباع الذي يولده المشهد الجنسي، إلى هذا القلق وإلى هذه الدهشة، إلى تعليق الحكم الأخلاقي. شغف بسيط رواية تسأل العلاقة بالآخر، بالجنس، وحتى بكتابة هذه القضية الجنسية، التي تسيطر على غريزة الإنسان والتي هي المحرك الأكبر للكثير من دوافعه". في هذه الرواية تصف الكاتبة تجربتها الأولى في مشاهد فيلم بورنو مشفر: "مشاهدة أول فيلم X مشفر على قناة كانال بلوس، وصف عبر الصورة المشوشة، عضو المرأة وانتصاب العضو الذكورية: "أظهرت عملية الولوج والخروج للعضوين، من شتى الزوايا. عاد العضو الذكوري ليظهر في يد الرجل، بينما انتشر المني على بطن المرأة. لا بد أن نعتاد على هذه الرؤية"، وكذلك تحضر الأدبيات الإيروتيكية في وصف العلاقة بين الشخصيتين: " في المتاحف، لم أكن أرى إلا تمثلات الحب. كنت أنجذب إلى تماثيل الرجال العراة. ففيها أجد شكل كتفي أ.، بطنه، عضوه، وبخاصة الثنية الخفية التي تلي الانحناءة الداخلية لردفيه وصولاً إلى قعر الحالب. لم أنجح في الابتعاد عن تمثال دافيد لمايكل أنجلو". وتحتل اللغة الجنسية واحدة من اكتشافات الشخصية في التجربة الحكائية التي تقدمها الرواية: "بالنسبة لي الكلمات الفاضحة موجودة في لغته، في قطار الأنفاق، في السوبرماركت، كنت اسمع صوته هامساً "داعبي لي عضوي بفمك".
تجارب الجنس الحمل والإجهاض بين الكلمة والصورة
بينما تتركز المفاهيم الأدبية والأساليب السينمائية في "الحدث" على تجسيد تجربة الحمل بدون إرادة، وعيش تجربة الإجهاض، فتصف الرواية ويصور الفيلم نمو الكائن الجنين في رحم الفتاة المراهقة، وتركز كاميرا الفيلم ارتعاشات الجسد وآلامه، واللحظات الواقعية لمحاولات الإجهاض الفردية بالأدوات المعدنية، وكذلك تحتل عملية الإجهاض بتفاصيلها العضوية مساحة مشهدين كبيرين من مشاهد الفيلم: "لم أكن أتخيل أنني أحمل مثل هذا الشيء في داخلي، الشيء الذي يجب أن أسير به حتى غرفتي. أمسكت بإحدى يدي، كان ذا ثقل غريب، وسرت في الرواق حاضنة إياه بين فخذي، صرت شبيهة بوحش. فتناولت أو مقصاً ونحن نجهل في أي موضع يجب أن نقطعه. لكنها فعلت ذلك في النهاية. أخذنا ننظر إلى الجسد الصغير برأسه الكبير. جلست أو على المقعد. انفجرت باكية وشاركتها البكاء في صمت. إنه مشهد بلا اسم، الحياة والموت في آن معاً. مشهد تضحية". تحضر أيضاً في الرواية والفيلم كل التجارب الحسية والجسدية المتعلقة بتجربة الجنس المراهق فالحمل والإجهاض، بآثارها النفسية والذهنية: "في الليلة الماضية، حلمت أنني كنت أعيش وضع سنة 1963، وأنني بصدد البحث عن وسيلة للإجهاض. عندما استفقت، اعتقدت أن الحلم أشعرني مجدداً بالإرهاق والعجز اللذين كنت غارقة فيهما. ولكن عبارة "أنا أتذكر" تتمثل في تخليد هذه اللحظة التي ينتابني فيها شعور بانضمامي إلى الحياة الأخرى، الحياة الماضية والضائعة، وهو شعور كانت تترجمه عبارة: "كما لو أنني ما زالت هناك" على نحو بليغ جداً".
دور الكتابة في وعي الحدث/الحكاية بين النص والفيلم
تحضر في كل روايات آني إرنو موضوعة الكتابة ودورها في وعي الحدث على مستوى السيرة الذاتية، أو إعادة تشكيله في العيش اللحظي، وهكذا بجدلية متواصلة تؤثر الحياة على الكتابة الأديبة وتشكل الكتابة الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، بينما لا تحضر هذه الموضوعة في كلا الفيلمين. في رواية "شغف بسيط" يتماهى عيش الشغف مع الكتابة عنه وفعل العشق مع فعل التأليف: "غالباً ما شعرت بأنني أعيش هذا الشغف كما لو آني أكتب كتابا، الحاجة عينها للنجاح في كل مشهد، الهم عينه في جميع التفاصيل". ويصبح الحضور والغياب في واقع الكتابة كما هو في واقع التجربة المعاشة: "لا اكتب سرد علاقة، لا أروي قصة يهرب نصفها مني بتراتبية محددة، لم تكن لي قصة في هذه العلاقة، لم أكن أعرف الحضور أو الغياب". وتتداخل الكاتبة والشخصية في وعيها بين الواقع والمتخيل: "فكرت بأنني كنت هنا ذات يوم. كنت أبحث عن الاختلاف ما بين هذا الواقع وما بين المتخيل، ربما ببساطة، عن هذا الشعور بالجحود، بأنني كنت هنا ذات يوم، وهو إحساس لم أشعر به تجاه أي شخصية روائية". ويصبح سؤال الأسلوب الأدبي هو سؤال الوعي في علاقته مع الذاكرة والزمن: "أتخلى عن الماضي الناقص، عما كان – لكن إلام؟ - لصالح الحاضر – لكن منذ متى؟ - إذ يشكل أفضل الحلول لأنني لا أستطيع الانتباه على التحول الدقيق لشغفي تجاه أز، يوماً بعد يوم، فقط أستطيع أن أتوقف عند الصور، المعزولة من إشارات الواقع حيث إن تاريخ ظهورها – كما عند تاريخ حدوثها العام – لا يمكن تحديدها بيقين".
وتفتتح الكاتبة رواية "الحدث" باقتباس عن العلاقة بين الحدث الواقعي والكتابة من الكاتب ميشيل ليريس: "أمنيتي المزدوجة أن يصبح الحدث مكتوباً وأن يصبح المكتوب حدثاً". ويركز النص الروائي على حاجة الشخصية على كتابة الحدث كجزء من إعادة التفكير فيه: "بدأت كتابة هذه القصة منذ أسبوع من دون أي يقين بمتابعتها. كنت أريد فقط أن أتأكد من رغبتي في كتابة هذا الحدث. وذات ليلة، حلمت أنني أمسك بين يدي كتاباً ألفته حول إجهاضي، إلا أنه يصعب العثور عليه في أي مكتبة، ولا ترد له أي إشارة في أي دليل". وتلعب الروائية على التداخل بين مجريات الكتاب وبين مصير الشخصية في السيرة الذاتية: "أعتقد أنني سألقى نفس المصير عندما ينتهي هذا الكتاب. إصراري، جهودي، كل هذا العمل السري، بل واللاشرعي، بما أن لا أحد يشك في أنني أكتب حول هذا الموضوع، ستضمحل فجأة، ولن تكون لي أي سلطة على نصي الذي سيُعرض كما عُرض جسدي في المستشفى". ومع اقتراب رواية "الحدث" من نهايتها تتشكل التجربة الجسدية عبر كلمات النص الروائي: "انتهيت من تجسيد ما بدا لي شبيهاً بتجربة إنسانية كاملة، تجربة الحياة والموت، تجربة الزمن والأخلاق والممنوع والقانون، تجربة عشتها من أولها إلى آخرها عبر الجسد، عبر الكلمات".