"رسائل حب إلى الشرق الأوسط": التقاط المناطق المضطربة

2023-03-03 11:00:00

ضم المعرض ثلاث صور فلسطينية، اثنتين من القدس وواحدة من مخيم برج البراجنة في بيروت، تركز الصور بشكل أساسي على المواجهة المستمرة مع الاحتلال خاصة في صور القدس، لربما هذا النقيض الذي يمثله المعرض نراه في صور فلسطين، خاصة في الإشارة للقسوة التي يمثلها غياب الأمان،

 "قرأت في مكانٍ مّا أن الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نفعله لكي نناهض عدم واقعيّة العالم، هو أن نروي تاريخنا الخاص." 

ألبرتو مانغويل

 

جملة ألبرتو مانغويل واسعة وتمتلك أوجه كثيرة لما نرويه، ولكن في الجانب الآخر تضيف حميمية لما يمكن أن يمثلنا كأفراد وما نستعيده من ذكريات، مهما بدت روايتنا ناقصة أو متناقضة أو غير كافية، لكنها بالفعل تناهض عدم الواقعية والتخبط الذي يملكه العالم، خاصة في ترددنا لما نرويه من تجارب سياسية واجتماعية، مهما كان مضمون هذه الاستعادة يعني البراءة في علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين، ولكنها أيضاً تعني استعادة السياق العام في مجمل حياة الأفراد والجماعات التي ننتمي لها، مهما احتوت الفكرة على مثالية لا تكفي دائماً للعمل عليها، ولكن ما كان يعنيه مانغويل تحديداً هو قدرة الفن على الكلام، كونه مكاناً مفتوحاً للسرد وفيه متسع لاستعادة ما يمثلنا دائماً، فعلياً لم يكن التصوير الفوتوغرافي بعيداً عن هذه الثيمة الواسعة التي تتسع لكل احتمالات التأويل، ويمكن أن نستعيد من خلالها هامشاً واسعاً من التذكر واستعادة علاقة الشخصي بالعام وما يمثله من اشتباك يومي مع الأبعاد السياسية للعالم والحميمية الشخصية للمجتمع، فحين تمنح الصور الفوتوغرافية الناس استحواذاً مستمراً للزمن، فهي أيضاً تعيد تشكيل المكان الذي ينتمون إليه، وتعيد أيضاً بناء تصورات متخيلة للظروف التي كانت تحيط حياة الأفراد.

 

افتتح "دار المصور" في بيروت معرض تصوير فوتوغرافي بعنوان "رسائل حب للشرق الأوسط" (2-14 شباط/فبراير) للمصورة كورتني بونو، يتضمن المعرض صوراً التقطتها المصورة في لبنان والعراق وإيران وفلسطين، وهي عبارة عن تجسيد الإنسانية والجمال في أماكن شبه منسية ومهملة ومفقودة، يضم المعرض 27 صورة فوتوغرافية، تحاول من خلالها كورتني أن تستعيد انتباهنا لقدرتها على التقاط البراءة والعنف وما يمثلنا كأفراد، وما يمكن أن نستعيده من أحلام، كما تحاول أن تكسر جزءاً من النمطية عن التصورات التي يمتلكها العالم عن الشرق الأوسط من خلال استعادة اليقين باحتمالات الحياة التي لطالما امتلكها الناس.
 


في هذا الجوهر هناك ما يتجاوز الحب الذي تحاول إيصاله إلى الشرق الأوسط، لربما هو الإيمان بقدرة الكاميرا على تجاوز توقعاتنا في رصد ما فاتنا من انتباه، هذا القبض المستمر على المشهد دون إخفاء هشاشته، هو ما يميز كورتني بونو، خاصة في اختيار الصور التي عرضتها في بيروت ضمن معرض دار المصور، حاولت أن تقبض على الحاضر وتؤكد أنه ضمن نطاق أوسع من المستقبل على الرغم من علاقته المتوترة مع الماضي، هذه العلاقة مع الزمن تبدو واضحة في إظهار المدن والوجوه، في صورة إيران التي تم التقاطها عام 2022، لسيدتين تسمتعان في البازار بتناول المثلجات قبل دقائق من انطلاق مظاهرة سوف يستخدم فيها الجيش الرصاص الحي، الفرحة في الوجوه تمدنا بالبراهين لما يتجاوز الشك، حتى في هشاشة الوضع السياسي، ولكن هناك ما يجعلنا ندرك كيف يمكن أن يكون المشروع الأعظم للفوتوغراف هو قدرته على دفعنا على استعياب العالم في لقطة واحدة، لذلك في صور كورتني؛ الطمأنينة هي المعادل القوي للحب، حتى لو كانت قبل دقائق من انطلاق مظاهرة قد تكون خاتمتها الموت، لذلك ليس غريباً أن تكون جميع الصور التي يضمها المعرض، تتحدث عن التفاصيل المهمة في منطقتنا بحد أدنى من التفخيم، دون أن تكسر حاجز التأويل، وأن تدفعنا للذهاب بعيداً في قدرة المصورة على جمع الكسور والصمت حتى في الوجوه التي حاولت تصويرها، أنها لا لتقول لنا كل شيء دفعه واحدة، بل تجمع الأجزاء المتناثرة من تجربتنا، حتى فيما هو شخصي جداً.
 


إن مشاعرنا اتجاه ما نتذكره وما نحاول أن نقوله ونعيد صاغته يتمحور حول الحقيقة، مهما بدت الكلمة كبيرة، ولكن جدوى العلاقة العاطفية مع الصور بشكل عام يكمن في القصة التي نحاول أن نرويها، ترى كورتني بونو في حديث خاص مع رمان الثقافية: "إن المشاعر الإنسانية مترابطة بشكل قوي مع الصور، بالنسبة لي التصوير الفوتوغرافي هو الوسيلة الفنية الوحيدة التي لها القدرة على تحريك دموعي، لذلك نعم الصور تقول الحقيقة، لا يمكن إنكار الصور، لأنها تحكي لنا القصص، وغالباً ما يمتلك الناس مشاعر عميقة عندما يتأملون الصور"، وهذا نلمسه بهدوء بصور مدينة بيروت، كيف تصير الحقيقة وجهاً من وجوه البكاء، ليس لنصدق ما نشاهده بل لنستعيد المدينة من خلال أهلها، على الرغم من التنوع الكبير في المدن التي يضمها المعرض، ولكنه قدم حكاية كاملة لمدن لا يمكن استعادتها إلا من خلال الرغبة بالبحث عن الحقيقة. 

ضم المعرض ثلاث صور فلسطينية، اثنتين من القدس وواحدة من مخيم برج البراجنة في بيروت، تركز الصور بشكل أساسي على المواجهة المستمرة مع الاحتلال خاصة في صور القدس، لربما هذا النقيض الذي يمثله المعرض نراه في صور فلسطين، خاصة في الإشارة للقسوة التي يمثلها غياب الأمان، وكأن التاريخ لا يحتاج لأكثر من دليل لفهم جوهر الحياة، بقدر ما يحتاج أيضاً لمعادل قوي لرغبة الوجود، من هنا ترى كورتني بونو فلسطين مساحة لشرح الشر، وكيف يتحول الفن فيها كوسيلة للتوثيق والتذكر، لأن ما يمثله النسيان في مساحات الصراع بالنسبة لها، هو فقدان الأمل، لذلك غالباً ما نرى أن الحلم هو الكلمة المناسبة لرؤية ما تبحث عنه غالباً في عيون الفلسطينيين، حتى في عيونها وهي تعرض صورة مضطربة وغير واضحة، تداخل الألوان فيها يؤكد لنا أن جودة الصورة الرديئة تحمل معنى أعمق مما نظنه، مع أنها تستحق المحو، ولكن قررت كورتني الاحتفاظ بها وعرضها والتحدث عنها لرمان الثقافية " هذه الصورة كانت عند باب العامود عام 2017 وكانت في "يوم القدس" الذي يحتفل به المستوطنون بضم القدس، تم إغلاق الطرقات للسماح لموكب المتطرفين بالمرور إلى باب العامود وهم يهتفون "الموت للعرب" بمجرد وصولهم قاموا بتدمير الحي العربي في المدينة القديمة واعتدوا على الفلسطينيين، ولقد تعرضت للضرب على وجهي أثناء توثيق ذلك اليوم، غالباً ما أرمي مثل هذه الصور، ولكن قررت الاحتفاظ بها، إنها بمثابة تذكير بوحشية ذلك اليوم، وأن الإرهاب الذي يحدث في ذلك اليوم، هو إرهاب دولاتي مسموح به من قبل الدولة". 

ما يميز مشروع كورنتي بونو الفوتوغرافي هو تجاوز ما هو ملموس للبحث عن الحب والمواجهة واللامبالاة في منطقة مضطربة، ولربما لهذا نحتاج إلى الكاميرا في قدرتها على جمع الأجزاء المتناثرة، وهذا الجمع للصور لم تجد له كورنتي معادلاً إلا في الحب، حب الشرق الأوسط وأهله، حتى في المسافة الواسعة والفروق الكبيرة بين المدن، ولكن نستطيع أن نجمع معنى واحداً لكل ما يمكن أن نراه وهو القدرة الدائمة على التذكّر. 

 

المصورة