يرى لوكاش أنه لكي تواجَه الفاشية في ألمانيا، لا بدّ من "الثورة ضد الفاشيّة الألمانية ثم العمل على إزالة التراث الليبرالي". وفي ما يخصّ الشّق الأول من مشروعه المناهض للنازية (أي الثورة ضد الفاشيّة الألمانية)،
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب حسام الدين علي مجيد "التشيؤ بوصفه مدخلًا إلى الفاشية: قراءة مقارنة بين جورج لوكاش وماكس هوركهايمر". يقع في 263 صفحة. ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يعالج الكتاب طبيعة العلاقة بين ظاهرتَي التشيّؤ والفاشية في الأدبيات الماركسية والليبرالية، عبر توجيه إضاءاتٍ إلى تساؤلٍ مركزي: هل التشيّؤ أمرٌ عَرَضي أم هو ظاهرة أصيلة ذات آثار واسعة تحتوي على ثقافة المجتمع ومؤسساته؟ للإجابة عن هذا السؤال، جاء الكتاب موزعًا في ثلاثة فصول: يُعنى الأول بمنظور جورج لوكاش وتطويره مفهوم التشيّؤ وأوجه اختلافه وتشابهه مع كارل ماركس. ثم يَلِج في قراءة ماكس هوركهايمر للتشيّؤ وكيفية تمخّض التطرف الفكري في بيئته الاجتماعية، ومدى اختلافه عن ماركس ولوكاش. ويتناول الفصل الثاني خصوصية الألمان الثقافية وهاجسهم بشأن كيان الدولة، وأسباب تبلور الحركة الفاشية بعامة والنازية بخاصة، والوقوف على ماهيّة الرباط بين التشيؤ، بوصفه ظاهرة اجتماعية، والتطرف الفكري، فضلًا عن الخوض في منظوراتٍ أخرى ليبرالية واشتراكية، مثل منظورَي إرنست نولته وفرانز نويمان. أما الفصل الثالث فيعالج انتقادات الماركسيين والليبراليين لنظرية لوكاش، ويتخذ من أكسل هونيت نموذجًا لقراءة أوجه الغموض في النظرية وأبعاد توسعته المعاصرة لدائرة التشيّؤ وكيفية اجتثاثه في سياق بناء المجتمع العادل.
التشيؤ المجتمعي
يجعل هوركهايمر التنوير بأسره موضع تشكيك ومساءلة حادّة، من زاوية أنّه لم يستطع تخليص الناس من الخوف والخرافة، ولم يصبح الفرد في ظلّه مالِكًا لإرادته ورغباته الذاتية؛ فما آل إليه التنوير البرجوازي هو أنّ عقل الإنسان الغربي تحوّل إلى قوة شمولية Totalitarian على نحو لا يستطيع أيّ شيء اعتراض سبيله والوقوف في مواجهته، ما يؤكّد فكرة أنّ الجاني (العقل) تقمّص دور المَجني عليه (الأسطورة)، ليحلّ بذلك العقل الأسطوري محلّ عقل التنوير الذي أراد التخلص من الأسطورة في بداية عصر التنوير، أي إنّ هذا العقل أضحى مندمجًا مع نقيضه المتمثل في "الأسطورة"، على نحو جعل "الأسطورة" هي العقل نفسه. كما أنّ الطبيعة أصبحت موضوعًا ماديًا ومجردًا يشمل كل ما هو إنساني وغير إنساني على حدٍّ سواء. وبذلك يعاني الناس بوجه عام الاغتراب الكلي عن الموضوعات والأشياء التي تقع أساسًا تحت هيمنتهم وسيطرتهم الملموسة، ويصبح الجانب اللاعقلاني من الإيمان والمعتقدات بمكانة المصدر الرئيس للعقلانية، فيستقي منه "المتنوِّرون" أفكارهم وطروحاتهم ليقودوا المجتمع إلى البربرية والجنون السياسي، أي الأنظمة الاستبدادية والشمولية، ولا سيّما الفاشيّة والنازيّة في القرن العشرين، على الرغم من انتهاج التنوير البرجوازي وممارسته الحرية الفردية والإخاء، والمساواة والعقلانية.
توصَّل هوركهايمر إلى هذه النتيجة في ضوء قراءته كيفية انحراف التنوير البرجوازي عن مقاصده الرئيسة. وهي تختلف عن محصلة ظاهرة التشيّؤ لدى لوكاش، في ضوء قراءته نصوص ماركس ذات الصلة بتطور الرأسمالية الصناعية؛ فلوكاش يعتقد أصلًا أن الفرد في المجتمع المتشيّئ يصبح خاضعًا تمامًا لإرادة الرأسماليين، وهؤلاء ينتظرون أصلًا وقوع الأزمات الاقتصادية، بغية الاستيلاء على مصالح أقرانهم من رجال الأعمال والمستثمرين. ومن ثمّ، تصبح أغلبية الناس والرأسماليين المفلسين من المتشيئين في حالة انتظار للمصير المحتوم.
وهؤلاء جميعًا هم البروليتاريا، ويكونون أشبه بالأنعام التي "تنتظر قرار ذَبْحها بإرادة مالكها"، فهم يَحيون حياة لاإنسانية، أضاع فيها الإنسان نفسه وأجبره البؤس على الخضوع لإرادة النظام الاقتصادي وقوانينه. ويشكّل ذلك الدافع الجوهري للبروليتاريا لتثور ضد ظروف الحياة الإنسانية هذه، "وبسبب ذلك تستطيع تحرير ذاتها"، أي إنّ ظاهرة التشيّؤ تؤدي إلى ثورة البروليتاريا من منظور لوكاش وماركس معًا، من أجل أن يستعيد الإنسان إنسانيته ويتخلص من الاغتراب والتشيّؤ بوصفهما من النتائج العرَضية غير الطبيعية للرأسمالية، ثم إعادة العلاقات الاجتماعية إلى مسارها الطبيعي الإنساني، بحيث لا تشتمل على عبودية للسلطة ولا للآلة، وإنّما تكون محكومةً بسيادة الإنسان على سائر الموجودات.
مواجهة الفاشية
يرى لوكاش أنه لكي تواجَه الفاشية في ألمانيا، لا بدّ من "الثورة ضد الفاشيّة الألمانية ثم العمل على إزالة التراث الليبرالي". وفي ما يخصّ الشّق الأول من مشروعه المناهض للنازية (أي الثورة ضد الفاشيّة الألمانية)، نجده منسجِمًا مع دعاة مدرسة فرانكفورت بصورة عامّة في ما يتعلق بأن "الاضطهاد الفاشي والبربرية الفاشيّة لا يمكن الإطاحة بها إلا حين يتكتّل كل الشعب الشّغيل في ألمانيا [...] إنّ الفاشيّة لا يتم الإطاحة بها عبر تبدلاتٍ ’سياسية واقعية‘، بل عبر ثورةٍ ديمقراطية يقوم بها الشعب الألماني نفسه". ويكمن السبب المركزي لدعوة لوكاش إلى "إزالة التراث الليبرالي" في أن الليبرالية البرجوازية تنظر إلى التعبئة الثورية للجماهير من زاوية أنّها "الخطر الأعظم ونهاية التقدّم والحضارة، وهو ما يحتِّم على الليبرالية أن تذهب إلى هؤلاء الشركاء [أي النازيين] لتستجدي مساوماتٍ من أولئك الذين لا يميلون إلى التفاوض معها أبدًا"، ما يَشي بفكرة أن الليبرالية البرجوازية تشتمل، بفعل ظاهرة التشيؤ ورسوخها فكرًا وممارسة، على القابلية الذاتية للتحالف مع خصومها الأيديولوجيين، بل مع أيّ مشروع فكري لاعقلاني، وذلك لمجرد استمرارية النظام الرأسمالي وبقائه على قيد الحياة مهما كان الثمن، ومن ثمّ الوقوف على الضدّ من الاشتراكية ومشروعها التغييري، وهو ما أدركته تنظيمات الفاشيّة الكلاسيكية في ألمانيا وإيطاليا بصورة خاصة، في سياق تحالفاتها السياسية إبّان فترة بين الحربين الأولى والثانية، كما تدركه الأحزاب الفاشية الجديدة والشعبوية في يومنا الراهن.
على أيّ حال، إنّ اعتقاد لوكاش بأهمية دور العقلانية في مواجهة اللاعقلانية، أي دور الاشتراكية في مواجهة النازية، وضرورة التخلص منها، ثم الأخذ بمبدأ نقد الذات ومعرفتها لتكون جزءًا رئيسًا من دور المثقفين في الحياة الإنسانية، سواء أكان على صعيد التثقيف والتوعية المجتمعية أم على صعيد القيادة السياسية والفكرية للدولة، يكشف عن مساعيه الفكرية في إصلاح مسار عملية بناء الدولة ومؤسساتها من زاوية النظرية الاشتراكية، بيد أنها اشتراكية أوروبية تأخذ في الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية لكل دولة على حدة، وهي في الوقت عينه اشتراكية إصلاحية، بمعنى أنّها تحاول إصلاح النظرية الماركسية نفسها من زاوية تطعيمها بالديمقراطية، وحرية التفكير، والاستقلال الذاتي للفرد، بما يخدم المشروع الاشتراكي في خاتمة المسار. وربّما ساهم إطار لوكاش الفكري والمفاهيمي هذا بفاعلية في تشكيل الإرهاصات الأولى للمشروع الفرانكفورتي المتمثّل في النظرية الاجتماعية النقدية.
الاعتراف في مواجهة التشيؤ
إنّ الاعتراف الاجتماعي عند هونيت سبيل رئيس لوضع حدٍّ للصراعات الاجتماعية القائمة على الهيمنة والظلم؛ فهو يمكِّن الفرد من تحقيق ذاته وبناء هويته عبر الإقرار بخصوصياته بصورة إيجابية ضمن إطارٍ من العلاقات التذاوتية Intersubjectivity، بحيث تتبلور الذات ووجودها السَويّ في ضوء ثلاثة نماذج معيارية للاعتراف: الحب والحق والتضامن؛ فهي تغطي ثلاثة أبعاد جوهرية من العلاقات الإنسانية تتمثل، على الترتيب، في: مجال العلاقات العاطفية، ثم مجال المواطَنة والانتماء المدني؛ إذ يجري فيه الاعتراف بمكانة المواطَنة وحقوق الإنسان الأساسية. يَليهما المجال الاجتماعي الأوسع، جنبًا إلى جنب مع علاقات العمل المتصلة بتوزيع مختلف أشكال التقدير الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
الاعتراف بالآخر هو السبيل العقلاني لبناء المجتمع العادل لدى هونيت، وعلى النقيض منه، فإنّ المجتمع المتشيّئ لا يشتمل على الاعتراف بوجهٍ عام، بل إنّه مصاب بظاهرة اجتماعية مرَضية في مستوياته الثلاثة: الذاتية والتذاوتية والاجتماعية، لكون هذا المجتمع يقوم على تجاهل "الآخر" عند لوكاش، لا على المستوى الاقتصادي فحسب، بل يتعدّاه ربّما ليشمل احتقار الذات، وإنكار الاعتراف الاجتماعي بين مكوّناته الاجتماعية، نتيجة سياسات الإكراه والاندماج القسري، بما ينسجم مع هوية الطبقة المهيمنة؛ فالإكراه الكلي الممارس من الدولة تجاه الأفراد أو بعض الجماعات، بهدف تحقيق الاندماج والتضامن قسرًا، ثم الإكراه الممارَس من الطبقة المهيمنة على السلطة السياسية عبر فرض قيمها الأخلاقية وهويتها على الجماعات الأخرى، يعنيان بالضرورة تهميش الأخيرة سياسيًا واجتماعيًا على نحو يُولِّد الإكراه والاحتقار المتبادلَين، سواء على الصعيد الذاتي، أي بين الذات ونفسها، أو على صعيد علاقات الأفراد وتعاملات بعضهم مع بعض، أو العلاقات الجماعية بين مكوّنات المجتمع الواحد، من قبيل عدم اكتساب صفة المواطَنة رغم استيفاء شروطها الشكلية والموضوعية، أو أنّ اكتساب الصفة القانونية لا يَتْبعه التمتع بكامل الحقوق والحريات أسوةً بالآخرين، بل يمارس حيال الفرد سياسة التمييز ضمنًا إذا ما رام شغل مركزٍ وظيفي، بسبب اعتباراتٍ مناطقية أو إثنية أو جنسية، أو غيرها من الاعتبارات التي تحكم المجتمعات المتخلفة التي لا تزال تعيش مرحلة ما قبل التنوير.