"وثائقيات العربي" في الذكرى الـ 75 للنكبة: نقض موثّق للسردية الإسرائيلية

2023-06-06 12:00:00

ويُبرز الوثائقي "يافا في بطن الحوت" كيف أنّ أحداث النكبة حاولت تغيير الجغرافيا السياسية ليافا، إلّا أنها فشلت في تحويل واقعها المكاني، حيث تتوسط هذه المدينة كلاً من بيروت ودمشق وعمان والإسكندرية والعقبة، ما يدعم عمقها العربي. غير أنّ عزل الاحتلال، أوقف التطوّر الذي عاشته تاريخياً، لتبقى شاهدة على هويّة فلسطينية الباقية رغم كلّ محاولات الطمس.

تواصل "شبكة التلفزيون العربي" بث السلسلة الوثائقية الموسومة بـ "أرشيف النكبة"، حصرياً على "قناة التلفزيون العربي الإخبارية" ومنصّاته، وذلك ضمن تخصيصها برامج لإحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية.

السلسلة الوثائقية الجديدة، تأتي بأربع حلقات وأربعة ضيوف. الحلقة الأولى منها تناولت سؤال التقسيم من خلال استضافة المستشرقة الإنجليزية ليلى بارسونز، أستاذة التاريخ في جامعة مكغيل. فيما تتناول الحلقتين الثانية والثالثة مسألتي الحرب والتهجير من خلال استضافة الباحثين الأكاديميين في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بلال شلش ومحمود محارب، فيما خصّصت الحلقة الرابعة والأخيرة لسؤال الحكم العسكري من خلال استضافة عالم الاجتماع الفلسطيني البروفيسور أحمد سعدي.

وقد سعت الحلقة الأولى إلى فتح الأرشيف المتعلّق بسؤال النكبة على مصراعيه للمشاهد العربي، عبر تناول وثائق من الأرشيفات المختلفة لأبرز المحطّات التي أدّت إلى لحظة النكبة واستمراريّتها على أرض فلسطين، الهدف منها كشف خيوط المؤامرة التي تعرّضت لها فلسطين وأصحابها الأصليين، وذلك استناداً إلى وثائق سرّية أخفيت لمدّة تجاوزت الثمانية عقود.

وكان أن سلّطت ضيفة هذه الحلقة، المستشرقة الإنجليزية ليلى بارسونز، الأضواء على الوثائق أو المحاضر وعموم المصادر الأوّلية التي تبرز الدور البريطاني في قمع الثورة العربية الكبرى (1936-1939) في عموم البلاد ووقوع النكبة في منتصف أيّار/ مايو 1948، عبر تحليل وثائق أرشيفية تُعرض للمرّة الأولى. وكذلك تقديم قراءة جديدة وتعميق الإحاطة بالدور الاستعماري في السيطرة على فلسطين إبّان نكبة عام 1948، والإضاءة على جوانب لم تكن معروفة سابقاً، وعرضها بشكلٍ موضوعي للمشاهد العربي، بجهود باحثين ومؤرّخين وشهود عيان فلسطينيين.

رسم الخريطة الأولى لنكبة شعب فلسطين

سؤال تقسيم فلسطين كان المحور الرئيس في الحلقة الأولى من سلسلة "أرشيف النكبة" الوثائقية، من خلال إعادة النظر في محاضر "لجنة بيل" (Peel Commission) وتعرف رسمياً بـ "اللجنة الملكية لفلسطين"، التي جرى إرسالها إلى فلسطين نهاية عام 1936 للنظر في الثورة الفلسطينية وتقديم مقترحات لسلطات الاستعمار البريطاني، وكيف اقتصرت المعلومات المتاحة على التقرير الرسمي الذي نُشر عام 1937، في حين تمّ إخفاء محاضر الجلسات السرّية لمدّة تجاوزت الثمانية عقود، إلى غاية الإفراج عنها في عام 2017 بعد مطالبات حثيثة من المهتمّين بالقضية الفلسطينية. ليتمّ ترحيلها من التخزين السري في وزارة الخارجية البريطانية إلى الأرشيف الوطني. كذلك تطرّقت الحلقة بالتفصيل عبر الوثائق إلى شرارة انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى وما تبعها من تعزيز للاستعمار البريطاني لقواته لقمعها، ثمّ السعي إلى تجريدها من أدواتها عبر إنشاء "لجنة بيل"، التي ترأسها اللورد روبرت بيل، عضو المجلس الخاص للمملكة المتحدة، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الهند سابقاً، للبحث في طريقة لتعزيز تواجده.

في هذه الحلقة الموسومة بـ "أرشيف النكبة وبداية تقسيم فلسطين.. الكشف وثائق لجنة بيل السرّية"، التي عُرضت في 20 أيّار/ مايو الماضي، يتعرّف المشاهد العربي على ثلاثة بريطانيين وضعوا الأسس الأولى لتقسيم فلسطين وبداية النكبة، حينما اجتمعوا ضمن لجنة واحدة، رسمت الخريطة الأولى لكلّ ما حصل. وهم "أكاديمي صارم، وضابط متوسط الرتبة، وحاكم محلّي متغطرس". بحسب ضيفة الحلقة، ليلى بارسونز، أستاذة التاريخ في جامعة مكغيل.

لقد بدأ كلّ ذلك قبل النكبة بعشر سنوات، حينما أرسلت بريطانيا المستعمِرَة، لجنة للتحقيق في أسباب ثورة فلسطين الكبرى عُرفت باسم "لجنة بيل". وتسابق حينها أفراد هذه اللجنة لنيل رضا رؤسائهم وقدّموا ما اعتبروه حلاً ناجعاً لذلك الصداع الذي لا ينتهي، لتظهر أوّل خريطة قسّمت فلسطين التاريخية إلى دولتين. وتكشف إحدى وثائق محاضر جلسات اللجنة السرّية، التي ظلّت حبيسة الأرشيف البريطاني لأكثر من 81 عاماً، حقائق جديدة حول تقسيم فلسطين وتلقي الضوء على نكبتها. ولأنّ لكلّ شيء بداية، فالبداية الفعلية لهذه الوثيقة ترجع إلى الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939).

المستشرقة الإنجليزية ليلى بارسونز، المتخصّصة في تلك الفترة الزمنية، في حديثها إلى "العربي"، تقول: "هناك فئة من الوثائق عن العالم الاستعماري تعتبر حساسة لدرجة أنها لم تُطرح في نظام الأرشفة، واحتفظ بها سرّا في مكتب وزارة الخارجية. مبيّنة كيف حصلت على تلك الوثائق السرّية من خلال "باحث ما بعد الدكتوراه" كان يعمل في الأرشيف الوطني، فرأى ملّفاً جديداً بدا له شيقاً فوجد أنّ الشهادات السرّية موجودة بداخله، وأرسل لها نسخة منها.

واعتبرت المستشرقة الإنجليزية أنّ "لجان التحقيق كانت جزءاً في غاية الأهمية من بنية الحكم الاستعماري البريطاني، وكانت أداة رئيسية للتعامل مع الأزمات. وفي هذه الحالة كانت الأزمة هي الثورة الفلسطينية عام 1936". ونراها تقول: "كان أخطر تحدٍ يواجهه الحكم البريطاني منذ بدء الانتداب. لذا وكعادة البريطانيين فقد قاموا بإرسال لجنة في محاولة لتهدئة الأمور ومنح فرصة للجيش".

وتلفت بارسونز، إلى أنّ "مقرّ الوكالة اليهودية في لندن كان يستقبل عدداً من المسؤولين والمنظمات الصهيونية التي كانت تمارس ضغوطاً قوية لتنظيم هذه اللجان". وقد أدّت الضغوط إلى مشاركة بعض أعضاء تلك المنظمات في اللجنة المذكورة للاطّلاع على ما يحصل في التحقيقات. وبلغ عدد الشهادات العلنية 260 شهادة والسرّية 61، لكن الأخيرة جاءت أطول بكثير من تلك العلنية. بحسب ضيفة الحلقة، التي رأت أنّ قبول الفلسطينيين بالمشاركة في تلك الشهادات السرّية كان سيعتبر تخلّياً عن الوقوف مع الثورة، كما قد يتّهمون بالتعاون مع البريطانيين. مستبعدة أن تكون مشاركة العرب في الشهادات السرّية قد تُحدث فرقاً آنذاك، "لأنّ كلّ شيء كان قد خطط في الأساس ضدّهم". وبحسب الوثائق التي شاهدناها في هذه الحلقة، فالرجال الثلاثة هم: الضابط البريطاني دوغلاس هاريس، وحاكم لواء الجليل لويس أندروز، والأكاديمي ريجنالد كوبلاند المختصّ في التاريخ الاستعماري بجامعة أكسفورد.

كان دوغلاس هاريس الضابط البريطاني ذو الرتبة المتوسطة عاملاً في القوة الاستعمارية، وكان من أشدّ المتحمسين لقرار التقسيم، حتى إنّ حجم شهادته السرّية أمام اللجنة أكبر بخمس مرّات من شهادات الآخرين. وقدّم خرائط استُخدمت للوصول إلى خريطة التقسيم النهائية كما ترجح الدراسات.

الرجل الثاني، هو لويس أندروز، حاكم لواء الجليل، الذي ناصب العرب العداء طوال فترة توليه السلطة في فلسطين، كان يرى في التقسيم حلاً ناجعاً للقضاء على الفوضى ولإخلاء مسؤولية الاستعمار ورجاله تجاه ما يحدث. وقد قُتل بعد أسابيع فقط من تقديم اللورد بيل تقريره النهائي. وبحسب بارسونز، فإنّ أندروز "لعب دوراً هداماً في هذه الجلسات السرّية، لأنه أخذ دور المتحدّث الرسمي عن وجهة النظر العربية، لكنّه كان يدفع اللجنة نحو قرار التقسيم".

أمّا الرجل الثالث والأكثر حضوراً في صفحات الشهادات السرّية، فهو ريجنالد كوبلاند، وهو أكاديمي صارم مختص في التاريخ الاستعماري وقادم من أوكسفورد. وعمل الأخير بمهمّات عدّة تتعلّق بالمستعمرة البريطانية قبل أن يشارك في "لجنة بيل". وهو الرجل الذي ألمح لحاييم وايزمان خلال استجوابه من قِبل اللجنة أن يطالب بـ "تقسيم أرض فلسطين رسمياً". وتبيّن أستاذة التاريخ الإنجليزية ليلى بارسونز، أنّ اللجنة لم تكن تعرف الكثير عن فلسطين وكانت تتعلّم من خلال التجربة.

وتحدّثت بارسونز إلى "العربي"، عن دور الشهادات البريطانية التي شكّلت رقماً كبيراً من مجمل الشهادات في قرار اللجنة. وتوضّح في سياق حديثها أنها تعتقد أنه "ليس من الصواب القول إنّ الصهيونية لم تفكر على الإطلاق في التقسيم قبل أن تأتي "لجنة بيل" إلى فلسطين، وبالتأكيد لدينا دليل على أنّ وايزمان قد فكر في الأمر وناقشه مع زملائه، لكن من المؤكّد أنّ كوبلاند هو من كان المحرّض الفعلي". ولقد عكست اللغة التي كُتبت فيها توصيات تقرير لجنة بيل جهلاً حقيقياً للذين كتبوها بما يجري في فلسطين، وهو ما بدى في التعبيرات الحتمية والحاسمة التي استُخدمت.

كما اعتبرت بارسونز، أنّ "لجنة بيل" كانت بالنسبة للفلسطينيين كارثة حيث كانت التوصية بالتقسيم أسوأ ما قد يحدث للفلسطينيين، وقد أدّى ذلك إلى تصاعد الثورة الفلسطينية وتكثيف الوحشية البريطانية في قمعها. وبحلول عام 1939 عندما سحق البريطانيون الثورة، قاموا بنفي أو سجن كلّ القادة الفلسطينيين، ما أدّى لإضعاف القيادة السياسية الفلسطينية مع دخولها تلك السنوات الحاسمة التي سبقت عام 1948. وعلى الجانب الصهيوني، رأى الصهاينة أنّ البريطانيين لأوّل مرّة كانوا مستعدين في سياسة رسمية لدعم دولة يهودية ذات سيادة في فلسطين، وبدأوا في التخطيط على أساس تلك الخريطة. 
 

 

دور الحامية اليافاوية وفعلها المؤثّر في حرب النكبة

الحلقة الثانية من سلسلة "أرشيف النكبة"، التي شاهدها جمهور "قناة تلفزيون العربي الإخبارية" ومنصّاته، في 27 من الشهر الماضي، كانت بعنوان "وثائق حامية يافا المنهوبة.. صوت مقاوم في حرب النكبة يدحض رواية الصهاينة"، واستضافت الأكاديمي الفلسطيني بلال شلش، الباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ضمن مشروع بحث القضية الفلسطينية وتوثيقها، سلّطت الأضواء على الأداء العربي في حرب عام 1948 من خلال "وثائق حامية يافا" التي نُهبت من أرشيف "الهيئة العربية العليا" في مدينة القدس ولم يكشف عنها إلّا في عام 2016.

يُحدّثنا صاحب كتاب "يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري – دراسة ووثائق" (جزئين)، الصادر عن "المركز العربي"، في آذار/ مارس 2019، عن كيفية ترويج الصهاينة طويلاً لادّعاء أنّ العرب في حرب النكبة فرّوا من بيوتهم وأراضيهم وبلداتهم العامرة دون أدنى مقاومة، نافياً ما أعاده وكرّره الساسة الصهاينة من أنّ العرب لم يرفعوا في وجههم سلاحاً، وأنهم تركوا الأرض كلّها لهم فدخلوها دون قتال. لكنّ شلش في بحثه الدؤوب المتعلّق بـ "وثائق حامية يافا"، يعيد ترتيب أحداث التاريخ، حيث تحكي وثائق الحامية اليافاوية بالتفصيل عن مقاومة المحاربين الشرسة خلال حرب النكبة؛ التكتيكات والمدافع والقناصة والكمائن، والأحداث التي لن يتمّ العثور على صدى كثير لها في وثائق الصهاينة وأدبياتهم.

ووفقاً للباحث الفلسطيني فإنه في عام 2016، قرّرت إحدى الأرشيفات الصهيونية المركزية إتاحة مواد رقمية، كان من أبرزها تلك التي نهبت خلال الحرب. مبيّناً أنّ من المواد المنهوبة ما يتعلّق بـ "الهيئة العربية العليا"، وكانت قد نُهبت من القدس. وأنه خلال تصفحها وقع على ملّف متعلّق بحامية يافا، ليقود الملّف بعد ذلك إلى ملّفات، ثمّ إلى سلسلة متتالية من الملّفات، التي تبرز، عبر ما يقارب الثلاثة آلاف وثيقة، صوت مقاتل فلسطيني ظلّ مغيباً لسنوات طويلة. وتوقّع شلش وجود ملّفات أخرى مخفاة في الأرشيف الإسرائيلي حول مناطق أخرى غير يافا.

ولعل أهمّ ما تقدّمه "وثائق حامية يافا المنهوبة.."، هو ترتيب أحداث التاريخ، حيث تكشف للمشاهد العربي كيف تمكّنت المقاومة الفلسطينية الفاعلة على مدار أشهر الحرب من تحقيق إنجازات كثيرة، وتقدّمت عسكرياً في عدد من المناطق. وكذلك، كيف شهدت مدينة يافا قتالاً طويلاً منذ الشهر الأخير من عام 1947، وحتى انسحاب مقاتلي حاميتها في شهر أيّار/ مايو من عام 1948. وفي التفاصيل؛ نشاهد ما أظهرته معارك الحامية ومعارك المناطق الأخرى من مقاومة أهل البلاد والعون العربي أيضاً، الذي شكّل إضافة نتج عنها حفظ ما تبقى من فلسطين آنذاك.  وأيضاً، قرار "الهيئة العربية العليا" مع اقتراب الخطر الصهيوني المتوقّع في ظلّ الحديث عن جلاء بريطانيا عن البلاد، القاضي بتأليف لجان قومية تدير شؤون المدن الفلسطينية.

ووفقاً للباحث الفلسطيني في "المركز العربي"، المختصّ بالقضية الفلسطينية وتوثيقها، فإنّ سنوات الحرب العالمية الثانية كانت سنوات قمع في فلسطين، لا سيما وأنها تزامنت مع ثورة البلاد الكبرى. وأنه في الوقت الذي كانت فيه الثورة فرصة لإعداد الكوادر العسكرية، ساهم العنف الذي رافقها في نفي وقتل مئات الكوادر النضالية. لكنّ ذلك لم يلغ مساعي تأسيس تنظيمات مقاومة سرّية في يافا، كانت بمثابة الجهود الأولى لظهور تشكيلات عُرفت باسم "الجهاد المقدس" أو "جيش حماة الأقصى"، وانتشرت لاحقاً في عموم فلسطين.

وكشفت الوثائق عن دور قوات "الهاغاناه" الصهيونية في عمليات تهجير السكّان، وتصاعد الاعتداءات على سكّان يافا. وكيف كانت القوات الاستعمارية البريطانية تتدخّل في كلّ مرّة لصالح الصهاينة، الذين تمّ تدريبهم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على الاستعداد للحظة الحرب هذه. ونتعرّف في هذه الحلقة التوثيقة، كيف عمل شلش بعد الوقوع على المواد، التي عرف عبر التصفح الأوّلي لها أنّ فهرستها لم تكن سليمة ما منع المؤرشف الصهيوني من معرفة محتوياتها، على تتبع الوثائق المختلفة ومحاولة استخراج ما توفّر منها.

ويروي لنا، ضيف الحلقة، كيف تمكن في مراحل لاحقة من الحصول على معظم الوثائق التي توثّق سجلّات الحملة من شباط/ فبراير إلى نيسان/ أبريل 1948. ليعمل إثر ذلك على تحليل المادة الأوّلية ومقارنتها بمادة صهيونية للخروج بالنصّ الذي كتبه. ويُخبرنا، كيف تحوّلت حامية يافا في تلك المرحلة بسرعة إلى قوة عسكرية منظمة، ذات هيكل قيادي وقدرات قتال نوعية. وكيف تنوّعت مظاهر المواجهة بين العرب والصهاينة من اشتباكات مسلّحة متقطعة كانت تحدث بشكلٍ شبه يومي إلى عمليات القنص، التي كانت الحدث الأبرز خلال أسابيع المعارك الأولى. متوقّفاً عند وثيقة قام بدراستها، يعود تاريخها إلى 10 شباط/ فبراير 1948، تتحدّث عن شراء الصهاينة للأسلحة، حيث يؤكّد أنهم قاموا بتحضيرات مسبقة لا سيما خلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويتطرّق شلش إلى أهمية يافا بالنسبة للمنظمات الصهيونية، فيقول: إنّ المدينة ذات مكانة رمزية، مذكّراً بأنّ "تل أبيب، رمز المشروع الاستعماري الصهيوني، هي المدينة التي بُنيت على أرض يافا، ومن ثمّ توسّعت على حساب جوار يافا وحاصرتها". ويبيّن أنّ "الرمزية الأخرى للمدينة ترتبط بخشية جزء أساسي من الحركة الصهيونية من أن تتحوّل يافا إلى سكين في خاصرة الحركة ومشروعها". لافتاً، إلى أنّ عدد المقاتلين الصهاينة الذين حُشدوا لحصار مدينة يافا وجوارها، وعددهم نحو 5000 مقاتل تقريباً من أصل 23000 كانوا مجندين لكلّ معارك الحركة الصهيونية في المناطق المختلفة، وهو ما يُعدُّ مؤشراً على إدراك الصهاينة لخطورة يافا وقيمتها وأهميتها.

ويرى الباحث الفلسطيني، أنّ حامية يافا كانت تسعى لتعزيز تسليحها، يقول: "إنّ هذا الأمر يعني، في ظلّ عدم توفّر مصادر خارجية والوجود البريطاني في فلسطين، الاعتماد على الذات ومحاولة الاستفادة من الخبرات المحلّية في التصنيع، بالإضافة إلى خبرات بعض المتطوّعين". مضيفاً، أنّ مدفع يافا بنسخه المتعدّدة، استخدم في غير موضع على ما تظهر تقارير الحامية، وبعضها انفجر أثناء عمليات التجريب التي كانت تنفذ مباشرة على مستوطنة بات يام على سبيل المثال. لافتاً، إلى أنّ صناعة هذه الصواريخ أشرف عليها - كما يتّضح - عدّة أشخاص، قائلاً: إنّ "بعضهم استشهد خلال عمليات التصنيع". وبالإضافة إلى وجود المقاتلين العرب، يقول شلش: إنّ "آذاريين وأتراكاً وألمانيين ويوغوسلافيين شاركوا في المعارك بيافا". موضّحاً أنّ أدوار هؤلاء اختلفت وكذلك رتبهم العسكرية، ويشير إلى أنّ جزءاً أساسياً منهم اكتسب خبرته في الحرب العالمية الثانية.

وعن دوافعهم في القتال إلى جانب العرب ضدّ الصهاينة يؤكّد شلش أنها تتباين، قائلاً: إنّ "بعضهم أتى إلى يافا لنصرة القضية الإسلامية العامّة التي كان الحاج أمين الحسيني أحد رموزها، وآخرين هم من الخبراء الذين استقطبتهم "الهيئة العربية العليا" أو "اللجنة العسكرية العليا" لتقديم خبرتهم الاستشارية في العمليات العسكرية". ويتحدّث أيضاً عن أناس ناصروا القضية الفلسطينية باختلاف دينهم. وتتكشّف للمشاهد العربي في هذه الحلقة، الكثير من الحوادث التي شهدتها فلسطين في شهر نيسان/ أبريل من عام 1948، والتي أدّت إلى التأثير في مسار المعارك.

من ذلك -كما نرى- انطلاق مرحلة جديدة من الهجمات الصهيونية مع قرب الانسحاب البريطاني. إذ انطلقت "عملية نحشون" الصهيونية كأولى مراحل الخطة "دالت"، والتي أدّت إلى سقوط قرى عربية على الطريق الواصل بين المناطق الساحلية والقدس. وقد تلت سقوط القرى "عملية الإيتسل" في المنشية، وهجوم منظمة "الهاغاناه" الصهيونية على جوار يافا وفرض حصار عليها من خلال السيطرة على محيطها، ومعركة "تل الريش" التي استرجع خلالها العرب هذا التل رغم القوة العسكرية التي دَفعَ بها الصهاينة إلى تلك المنطقة.

وشدّد الباحث الفلسطيني بلال شلش في نهاية الحلقة الثانية "وثائق حامية يافا المنهوبة.. صوت مقاوم في حرب النكبة يدحض رواية الصهاينة"، من السلسلة الوثائقية "أرشيف النكبة"، على أنّ يافا لم تقاتل دفاعاً عن نفسها فقط، وإنما قاتلت باعتبارها جزءاً من معركة كاملة كانت تجري في كلّ فلسطين. وأشار إلى أنّ تأخر سقوط يافا وصمودها كلّ هذه المدّة أثمر في النهاية حفظاً لبعض بقية فلسطين، الذي استمرّ حتى عام 1967. وأضاف: "صحيح أنّ هذه المناطق سقطت في العام 1967، لكننا نرى اليوم أنّ أهل فلسطين ما زالوا على أرض فلسطين، وما زال القتال مستمرّاً حتى اللحظة".

يافا... نموذجاً للأمل الفلسطيني 

من "وثائقيات العربي" التي تقدّمها "شبكة التلفزيون العربي" أيضاً، في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية، برؤية رصينة وشيّقة لدحض السردية الإسرائيلية المهيمنة، الوثائقي "يافا في بطن الحوت"، الذي عرض حصرياً على "قناة تلفزيون العربي الإخبارية" ومنصّاته، في 23 من الشهر الماضي، وفيه يرى المشاهد العربي كيف تطلُّ مدينة يافا المحتلّة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حاملة معها ذكريات عن عذابات ومعاناة الفلسطينيين منذ النكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا. ونرى كيف تمكّن الفلسطينيون الذين صمدوا في المدينة من الاحتفاظ بذكريات أجدادهم وثقافتهم وعاداتهم، ليكونوا تجسيداً حيّاً لهُويّة يافا، رغم تشويه الاحتلال الإسرائيلي للتاريخ.

تتجوّل كاميرا "العربي" في أحياء المدينة برفقة الأكاديمي والسياسي الفلسطيني سامي أبو شحادة، عارضة الغنى الثقافي والتاريخي والفني لأحيائها. ويشرح أبو شحادة بداية، أنّ سبب تعلّقه بيافا نابع من كونها نموذجاً للأمل وإعادة النهوض من تحت الركام، حيث تعرّضت تاريخياً لعدد من الحروب، إلّا أنها عادت وانتفضت من جديد وازدهرت أكثر. ونراه يؤكّد أنّ "المعركة اليوم تكمن في الرواية التاريخية". ويجول الأكاديمي الفلسطيني برفقة المحامية والناشطة يارا منصور في أحياء المدينة القديمة، ويمرّ بالقرب من ساحة الساعة التي بناها العثمانيون، يقول: "عاشت يافا تاريخاً مزدهراً ولعبت دوراً مهماً في نهوض فلسطين".

وتوسّعت البلدة القديمة نهاية القرن التاسع عشر، لتضمّ في ما بعد أسواقاً وسرايا جديدة، إضافة لخمسة مصارف وسينما ومسارح، ما يدل على النشاط الثقافي فيها. وتغيّرت ملامح السوق القديم الذي بات يفتقر للتجار الفلسطينيين اليوم، وسط تحوّل ديمغرافي بدأ منذ النكبة وما زال مستمرّاً إلى الآن. ويرى سامي أبو شحادة أنّ "أهمية هذه الأمكنة التاريخية تكمن في حفاظها على الذاكرة الفلسطينية وتناقلها عبر الأجيال بمبادرات فردية نظراً لغياب أي نشاط رسمي".

ويعرّفنا خلال جولته في أحياء المدينة، رفقة عدد من أهالي يافا ممن بقي فيها بعد عام النكبة، على معالم المدينة التاريخية والحضارية، بدءاً من الطريق القديم التاريخي الذي يتجاوز عمره الألفي عام، والذي أُنشئ في الأساس ليكون صلة وصل بين ميناء يافا ومدينة القدس. وبالقرب من هذا المكان، يتواجد المسجد الكبير، الذي كان ثالث أضخم جامع في فلسطين قبل النكبة، بعد المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي، إلّا أنه أغلق عام 1948 ليُفتتح من جديد بعد ترميمه في سبعينيات القرن المنصرم.

كذلك، يتعرّف المشاهد العربي على ميناء يافا، والمبنى التاريخي الذي يقبع بجواره، والذي يجسّد مسرح المدينة، الذي تمّ ترميمه عام 1998 ليصبح مسرحاً للمبدعين الفلسطينيين لإصدار الإنتاجات الثقافية نحو العالم. وعلى المدرسة الأرثوذكسية التي درسها فيها "حكيم الثورة" جورج حبش، وعلى مبنى "سينما الحمرا" الذي تمّ بناؤه من قِبل عمال من سوريا ولبنان، وهو ما يؤكّد على عمق يافا العربي، قبل أن يتمّ افتتاحها بفيلم لأم كلثوم عام 1935.

ويُبرز الوثائقي "يافا في بطن الحوت" كيف أنّ أحداث النكبة حاولت تغيير الجغرافيا السياسية ليافا، إلّا أنها فشلت في تحويل واقعها المكاني، حيث تتوسط هذه المدينة كلاً من بيروت ودمشق وعمان والإسكندرية والعقبة، ما يدعم عمقها العربي. غير أنّ عزل الاحتلال، أوقف التطوّر الذي عاشته تاريخياً، لتبقى شاهدة على هويّة فلسطينية الباقية رغم كلّ محاولات الطمس.

كذلك عرضت "قناة تلفزيون العربي الإخبارية"، في 15 أيّار/ مايو الماضي، ضمن "وثائقيات العربي"، فيلماً بعنوان "حيفا بقاء وعودة"، الذي تناول مدينة حيفا والتغيّرات التي طرأت عليها منذ النكبة عام 1948، وأملاك أهاليها الذين هجّروا منها عن سبق إصرار من قبل العصابات الصهيونية، إذ يرسم ضيف الحلقة، الكاتب والمؤرّخ الحيفاوي جوني منصور، خريطة المدينة من معالمها وشفاه سكّانها وشهودها الذين لايزالون على قيد الحياة..