من تخاطب هذه النصوص؟ هل من مستَمع؟ هل يُمكن الوصولُ إلى العالم من خلال هذه النصوص؟ باللغتين الإنجليزية والعربية، تخاطب هذه الوصايا كلّ أولئك الذين لم يكونوا حاضرين هناك، أولئك المتواطئين وأولئك الذين وُضِعوا في حالة حداد.
كُتبت هذه الوصايا المروّعة في غمرة حزن لا طاقة على احتماله وترقّبٍ للموت، في مذبحة أودت بحياة أولئك الذين يحبونهم وأولئك الذين بالكاد يعرفونهم. كل فعل كتابة هنا يوجّه إلينا السؤال التالي: أين نحن، القراء، أولئك الذين يعيشون ليقرأوا هذه الكلمات. هل استجبنا؟ هل عرفنا؟ هل يمكننا أن نتعايش مع أنفسنا في مواجهة الاعتداء الفتاك على الشعب الفلسطيني؟ هل يمكننا حتى أن نرى أنفسنا نتصرف وكأننا لا نرى ولا نعرف؟ كل كلمة من هذه الكلمات تطالبنا بالقراءة، بالإصغاء، وفقًا لشروطها، أو عبر ترجمتها، حتى يصير لا محال بأن نعرف ما عاناه الفلسطينيون تحت وطأة بطش القاذفات والقتلة الإسرائيليين. كلّ كلمة تطالبنا بالقراءة، بأن نركز انتباهنا على هذا الموت، هؤلاء الذين يعيشون على شبه يقين بالموت، أو الذين لم يعودوا يفهمون الآن ما يعنيه أن يكونوا على قيد الحياة في مواجهة عمليات القتل الوحشية التي تنثر أشلاء الأبرياء على أرض فلسطين. هذه كلمات موجهة للعالم، وكقراء، نحن نقف إلى جانب هذا العالم وواجبنا الوحيد هو أن نقرأ ونفهم، وأن نتدخل لوقف القتل، وأن نقف إلى جانب فلسطين في سعيِها إلى تحقيق العدالة والحرية.
تكتب أمل أبو عاصي اليازجي: "إياكم أن تنظروا إلى مراياكم، لأنكم إذا فعلتم فسترون دماءنا على وجوهكم، وأشلاءنا بين أيديكم، وصراخنا في ملامحكم، وأصواتنا دخانًا ينقش خارطة فلسطين على صدوركم". إنها ترسم مسار اختفائها المستقبلي، وتنظر إلى الوراء من الجانب البعيد لحياتها الفانية. إنها حياتها هي التي ستُقهر، وتاريخ النضال الفلسطيني كذلك لأنها تدرك أن الإبادة الجماعية تسعى إلى محو كلّ أثر. أمل تشعر بالغضب منا، نحن القراء، دون أن تعرفنا، وهي محقة في ذلك: "حين نرحل؛ مزقوا كتب التاريخ، ولا تخبروا أولادكم أنه كان هنا شعبٌ قاوم خمسة وسبعين عامًا دون أن يفقد الأمل، قبل أن يقتله الأمل".
يروي علي أبو ياسين كيف تحمل كلّ لحظة معها خطر الموت العنيف، ولا وقت للحديث السطحي. في مواجهة الموت المؤكد الوشيك، يدرك المرء " قيمة الأشياء والتي كانت بين يديك أو تمارسها دون وعي". النهاية التي تحققت، في الواقع، لبعض هؤلاء الكتاب، تصبح نوعًا من الرغبة في الحياة تحت القصف المتواصل الذي مزّق الحيوات، وهو يحوّلهم إلى أشلاء، فأيّ حياة هذه؟
أما حسام معروف فيترك أمنية أخيرة لـ"كل المنازل في غزة" أن تخبئ قصص أصحابها في الشقوق"، "احتفظوا بروائحهم، فالرائحة ستقول للتاريخ بأن أناسًا عاشوا هنا، اسأل عنهم لتعرف حقيقة هجرتهم". أن تترك وصية يعني أن تتخيّل المستقبل الذي ستقرأ فيه هذه الوصية، ولكن ماذا لو كان هذا المستقبل غير موجود؟ تكتب نعمة حسن: "نسيت ما كنت سأقوله عن وصيتي .. أريد فقط أن أجرب الحياة أنا وأطفالي أريد أن أعرف كيف يعيش الآخرون دون خوف من الغد ..ولكن الغد أسير والحرب تقتله كلما رفع رأسه".
يصبح الموت في نظر الكاتب سعيد محمد الكحلوت شخصية ساخرة وقاسية تتبع كل حركة، كل قنبلة يفرّ منها المرء: "كان الموت أحيانًا يقف على رأس الطريق يلوح لي ساخرًا أرجع ثم أتقدم، وأحيانا يجلس كسكير على جانب الطريق بعد منتصف الليل بينما أركض أنا وأطفالي هرباً من قصف مجاور فيقف هو ويتحقق من هويتنا قبل أن يوجهنا ساخراً لمحطة لجوء جديدة".
ومع ذلك، نجد في هذه المجموعة رغبة كاملة في الحياة نفسها. يقول يوسف القدرة: "وأعلم أنني سأشرق بين الابتسامات طفلا يعض على الحياة كأنها الأبد". وتكتب هناء الأحمد: "أريد أن أنجو”! ويتخيل آخرون المقاهي، وحرية السير دون خوف، والمغازلة، واللعب. البعض يكتب، والبعض الآخر يرى أن الكتابة مستحيلة، وما يقدمونه من كلمات ما هو إلا بقايا الكاتب. يقول لنا ناصر رباح: "أنت لم تعد شاعراً، ولا حتى إنساناً حين تحمل أولادك من بيت لأخر مثل قطة مذعورة، تطاردك أصوات الرعب وصرخات الصغار وفتات القذائف. تلك الفتات الحديدية البشعة التي امتلأ بها الشارع، والتي ستجن حين يصبح جمعها هواية أطفالك الجديدة. أنت لست من لحم ودم حيت تبصر أشلاء جيرانك موزعة كلوحة إعلانات على الرصيف، وتستمر في خطوك بدواعي: أنها الحياة".
ومع ذلك، ثمة تصميم وإصرار وصمود جامح وبسالة في التفكير واحتضان المستحيل. يسري الغول يحلم بقوة مستحيلة:
"فكرت أن أجمع شتاتي، ألتحم مع الجدران المدمرة، الأبنية المنهارة على رؤوس ساكنيها، أتضخم مع الحديد الذي اخترق أجساد الأطفال والنساء، وأصير ذلك العملاق، ربما أعظم من الهولك الأخضر، وأقوى من الأيرون مان، أتحول إلى مخلوق يكبر كلما سار في الطرقات التي تنتشر فيها رائحة الدم والصواريخ والدمار الهائل، تلتصق بجسدي كتل الباطون والاسمنت والحجارة حتى أصير مثل عمالقة أفلام هوليود تماماً، كي أقضي على الدبابات التي قنصت ابن خالتي ودمرت بيت أخي، ولألتهم الطائرات المغيرة على الأبرياء كل دقيقة".
قصيدة رفعت العرعير، التي صارت معروفة الآن، هي جزء من هذه المجموعة، حيث انضمت إلى نصوص آخرين سعوا إلى كتابة طريقهم إلى ما بعد الموت أو ضده، أو في وسطه. "إذا كان الموتُ لزامًا عليّ، فليأتِ بأملٍ وليأتِ بحكاية". طلب من أولئك الذين سيعيشون بعده أن يرووا حكاية موته، وهي حكاية من بين الحكايات التي ستعيش بعد وفاته ولكنها لا تخص أصدقائه وطلابه وأسرته فحسب، بل للعالم. قد تكون مثل هذه "الحكاية" هي الرواية الصحفية لكيفية تدمير الغارة الجوية لمنزل أخته وقتله مع بقية أفراد الأسرة الذين يعيشون هناك. لكن الحكاية تحتاج إلى أكثر من مجرد تأريخ ذلك الحدث: يجب أن تنقل الحياة، وتصبح قصة معاناة ورغبة، وتعاون وصمود.
"إذا كان الموت لزاما علي" كانت القصيدة التي كتبها العرعير قبل أيام قليلة من موته، قصيدة اقتضت حكاية - انتقال قصة حياة وموت إلى حياة أخرى. أصبح الآن ضمير المخاطب "أنا" في تلك القصيدة هو الصدى الحي لصوت العرعير المفقود. أولئك الذين بدأوا الكتابة عنه الآن يروون الحكاية للحفاظ على الوعد الذي طلبه من الأحياء، أي ألا تصبح قصته رقمًا، بل إبقاؤها حية كذكرى مكتوبة ومسرودة تُروى كحكاية تحث على الحياة والصمود.
تردد صدى هذا البيت الشعري في 12 لغة على الأقل في الأسابيع التي تلت وفاته، ويعكس التزامه طويل الأمد تجاه الكتاب الفلسطينيين الشباب لإظهار قوة الكتابة، وإظهار ضرورة قيام الكتاب الفلسطينيين برواية قصة تتجاوز حدود الرقمي لتوصيل نسيج الحزن والحب والغضب والأمل. في مؤلفه الصادر عام 2014 تحت عنوان "غزة ترد"، في أعقاب عملية الرصاص المصبوب التي أودت بحياة أكثر من 1400 فلسطيني، كتب: "كفلسطيني، نشأت على القصص ورواية القصص. من الأنانية والخيانة أن تحتفظ بقصة لنفسك، فالقصص من المفترض أن تُحكى ويُعاد سردها. إذا سمحتُ لقصة ما أن تتوقف، فإنني بذلك أخون تراثي وأمي وجدتي وبلدي. بالنسبة لي، رواية القصص هي أحد مكونات الصمود الفلسطيني"، ويروي العرعير كيف علّم الطلاب في دروس الكتابة: "عشنا لسبب ما، لنروي حكايات الخسارة والبقاء والأمل"، في أعقاب هذا الفقدان الكارثيّ. يروي الإنسان القصة لأولئك الذين سينقلونها، والذين يعتبر البقاء بالنسبة لهم، في حد ذاته أمرًا غير مؤكد أو صعبًا أو مستحيلا. تتحقق الحكاية عبر سردها؛ تهبنا الوصية والشهادة مقاطع من الحياة وهي تسبر غور مستقبلها من الحياة غير المعاشة؛ تسأل الوصية عما تبقى من الرغبة، أو ما تبقى من الرغبات في مواجهة الدمار الشامل. كل هذه النصوص، المكتوبة في وجه الموت، فرديًا وجماعيًا، تبني رابطة إذ تترك آثار زوالها، وبذلك تصبح جزءًا من نسيج التضامن المحبوك بين الأحياء والأموات.