ورغم الإرهاصات والتجليات المتعددة للمصطلح، حيث يلاحظ تفسيره واستخدامه وتوظيفه أو تطويعه في بعض الأحيان لخدمة سرديات وسيناريوهات مختلفة، إلا أنه من الضروري التوضيح أن مركزية القضية الفلسطينية لا يمكن لها أن تشير بأي شكل من الأشكال إلى دعوة المواطن العربي للتخلي عن قضاياه الوطنية المحلية وما يتصل بها من مساع تنموية وتطويرية تؤكد حقه في الاستقرار والعيش بحرية وكرامة،
في ظل الأزمة الحالية، عادت "القضية الفلسطينية" لتلقي بظلالها وزخم حضورها مجددا على الساحة الدولية باعتبارها أحد أبرز المواضيع الحيوية والهامة ليس فقط في الشرق الأوسط، بل على مستوى العالم، ذلك رغم بعض الادعاءات والدعوات التي نادت بتحويل البوصلة والنظر إلى فلسطين باعتبارها شأنا خاصا للفلسطينيين وحدهم. ومما لا شك فيه أن جذور المسألة المتصلة بما يمكن أن تحيل إليه لفظة "القضية الفلسطينية" ضاربة في عمق الواقع السياسي المتعلق بنشأة الدول العربية في منطقة حوض المتوسط والخليج العربي وانفكاكها من سلطة الوجود الاستعماري المباشر على أرضها -في الوقت الذي استمر فيه خضوع فلسطين لحالة فريدة من الاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي يعتبر الأطول من نوعه في التاريخ الحديث. وبصرف النظر عن الأسباب والدوافع المباشرة التي قادت إلى الأحداث الدامية التي نشهدها اليوم في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وموقف الجهات والأطراف الإقليمية والدولية المختلفة من ذلك وطريقة تعاملها مع هذه المسألة، إلا أنها منحت مقولة "مركزية" القضية الفلسطينية حضورا راسخاً وصدى متجدداً بصفة عامة. ورغم السجالات والتصورات المختلفة بشأن موقع ومكانة القضية الفلسطينية وتراجع ما يمكن وصفه بالاهتمام العربي بها، سواء لجهة ارتباطات مصلحية وتمرير سياسات وأجندات خاصة أو لحساب قضايا وطنية محلية، إلا أن هذا لا يحيل بالضرورة إلى نفي أو تحييد مركزية القضية الفلسطينية من المشهد النضالي والسياسي العام أو إلى عدم إدراك السياقات العلائقية التي تضع القضية في مسارها وموقعها الصحيحين.
ويظهر أن مركزية القضية الفلسطينية وحضورها الذي ظل يتأرجح ارتباطاً بتقلب المواقف السياسية وتوتر العلاقات الثنائية لم تكن يوماً ذات إشكالية واضحة ظاهرياً على مستوى الخطاب العربي الرسمي، بالحد الأدنى، والذي كثيرا ما كان يصر على استدامة حضورها وضرورة بقائها باعتبارها مسألة أساسية وضرورة لازمة. هذا بمعزل عن النوايا والدوافع أو بواعث استخدام القضية واستغلالها لأغراض وغايات معينة لطالما كانت وثيقة الصلة بالمحطات والمنعطفات التاريخية المفصلية التي عصفت بالعالم العربي بدءاً بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والحرب العراقية-الإيرانية، والاقتتال الداخلي وتوتر الوضع السياسي على الساحة اللبنانية، والاجتياح العراقي للكويت، وما تلا ذلك من اتفاقيات ومبادرات سلام منفردة أو مشتركة -لعل أبرزها اتفاقية أوسلو التي قامت إثرها كيانية السلطة الفلسطينية في خطوة اعتبرها البعض في حينه باعثا للتخلص من شرط حضور القضية الفلسطينية المستمر وإغلاق ملفها بصفة دائمة. الأمر الذي تبعه دخول معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية حيز التنفيذ، ذلك قبل أن نشهد مؤخراً العديد من المحاولات والمساعي الدولية والإقليمية المتصلة بتمرير مخططات صفقة القرن والتهافت على تطبيع العلاقات الثنائية من المحيط إلى الخليج والهرولة للحاق بموكب ما يعرف بالاتفاقيات "الإبراهيمية."
وقد يكون مناسباً في هذه الظروف أن نقوم بمقاربة مفاهيمية لمصطلح "مركزية القضية" وأن نتلمس تقلبات النقاش الفكري بين الأيديولوجيات السياسية والتيارات الفكرية بشأن القضية الفلسطينية، إضافة إلى معالجة جوانب من التصورات المختلفة حول مركزية هذه القضية، وطرح تساؤلات من قبيل كيف نستطيع تفسير صدارتها في الوضع الراهن؟ وهل هي قضية ذات بعد دولي وإقليمي، أم مسألة مرتبطة بخصوصية محلية وعربية؟ لا سيما في خضم السجالات الرسمية وغير الرسمية والتصورات المتعارضة حول موقع ومكانة القضية الفلسطينية من العرب، ودور الفلسطينيين تجاه قضايا العرب -بين الدعوات إلى عدم التدخل وبين من يطالبهم بالتدخل وأخذ موقف واضح، إلى جانب التغيرات البنيوية في النظام الإقليمي العربي والتي أثارت تصورات أو توجهات مفادها أن قضية فلسطين لم تعد تحظى بالمركزية التي تميزت بها تاريخياً حيث حلت محلها قضايا مركزية محلية وإقليمية أخرى، خصوصاً في ظل تحول العلاقة المعلنة بإسرائيل وانتقالها من موقع "عدو" الجميع إلى نطاق "حليف" البعض، حيث بات الواقع السياسي العربي الحالي رغم، كل تعقيداته وتفاقماته، يشير إلى أن التعامل مع القضية الفلسطينية يتم وفق أسلوب لا يعدو في كثير من الأحوال كونه مشهداً متكرراً وخيطاً متصلاً لمنطق إدارة الأزمة ولا يتضمن حلولاً نهائية وشاملة.
ورغم الإرهاصات والتجليات المتعددة للمصطلح، حيث يلاحظ تفسيره واستخدامه وتوظيفه أو تطويعه في بعض الأحيان لخدمة سرديات وسيناريوهات مختلفة، إلا أنه من الضروري التوضيح أن مركزية القضية الفلسطينية لا يمكن لها أن تشير بأي شكل من الأشكال إلى دعوة المواطن العربي للتخلي عن قضاياه الوطنية المحلية وما يتصل بها من مساع تنموية وتطويرية تؤكد حقه في الاستقرار والعيش بحرية وكرامة، وليست مطالبة بخيانة القضايا الوطنية وتقديم الولاء عوضاً عن ذلك للقضية الفلسطينية وإعطائها أولوية على حساب مصالح وأولويات الدول العربية كما يرى البعض ممن ينادي بالتخلي عنها كقضية محورية أو مركزية. بل إن من الضرورة بمكان، وهو ما تستوجبه وتقتضيه مركزية القضية الفلسطينية، ألا يتسم المواطن العربي بالضعف وألا يعاني من أي شكل من أشكال الضعف أو القمع والاضطهاد، ذلك أنه سيصبح بخلاف هذا مثقلا بالهموم ولاهثاً للحاق عبثا بركب الحرية والازدهار والتطور، بل إنه قد يصير، إذا ما كان مفتقداً للحرية والكرامة والإنسانية في وطنه، عبئاً على القضية الفلسطينية بدل أن يكون داعماً حقيقيا لها ويفقد كل اهتمام محتمل بأهمية عدالتها أو اعتقاد بمركزيتها. ويبدو أن "المركزية" ضمن هذا الإطار لا تحمل في ثناياها صفة التفضيل بقدر ما تشير إلى ما يمكن تسميته التزاماً عربياً بالعمل على توفير مختلف أشكال الدعم المطلوب لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية دون المساس بأولوياتهم وثوابتهم المحلية والوطنية أو على حسابها.
وفي سياق البحث عن إجابة على السؤال حول إذا ما كانت القضية الفلسطينية لا تزال تمثل قضية العرب المركزية، لا سيما في هذه المرحلة التي بدأت تظهر فيها أصوات بعض الخبراء والسياسيين أو التوجهات الفكرية التي تنادي بفك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، يمكن الاستعانة بآراء المستجيبين الواردة في نتائج استطلاع "المؤشر العربي" التي أعلنها المركز العربي مطلع العام 2023 -حيث أظهرت النتائج وجود حالة من شبه الإجماع في الرأي العامّ العربي على أن سياسات إسرائيل تهدّد أمن المنطقة واستقرارها. كذلك فإن النتائج تبين، بنسبة 76%، أن المجتمعات العربية ما زالت تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب جميعًا وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. ومن الجدير بالذكر أن نتائج الاستطلاع أظهرت أنّ 84% من مواطني المنطقة العربية يرفضون الاعتراف بإسرائيل. ويظهر الاستطلاع أنّ آراء المواطنين الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل لا تنطلق من مواقف ثقافية أو دينية، ويرجع ذلك إلى عددٍ من العوامل والأسباب التي ارتبط معظمها بطبيعة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والتوسعية والإرهابية، حيث أن الاعتراف بإسرائيل بالنسبة لهم يعتبر نوعاً من الإلغاء للفلسطينيين وحقوقهم والتسليم بشرعية ما فعلته السلطة الاستعمارية بالشعب الفلسطيني وما تمارسه بحقه من تشتيت واضطهاد وقتل.
ومما لا شك فيه أنه بات الآن ممكناً رصد التحولات الواضحة التي لحقت بحراك وتوجهات كثير من الشعوب وملاحظة التغيرات في بنية العديد من الأنظمة العربية والإقليمية والدولية وموقفها من القضية الفلسطينية إثر الحرب الدائرة في غزة. ويصعب الحديث في الوضع الراهن عن إمكانية وجود تراجع جوهري أو كبير في حضور القضية الفلسطينية -رغم ما قد يثيره البعض في محافل محدودة- بل إن هناك تأكيداً على مركزية القضية الفلسطينية على المستويين الشعبي والرسمي، الأمر الذي نجده واضحاً في حراك الكثير من الشعوب وتظاهرها دعماً وإسناداً للفلسطينيين وقضيتهم العادلة، ومضمناً أيضاً في الخطاب الرسمي للعديد من الدول العربية التي حاولت بناء موقف عربي مشترك كالأردن وعُمان وقطر التي أكدت أن فلسطين ستظل القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، هذا إلى جانب بعض الدول الغربية التي جسدت موقفها من القضية في صورة اعتراف بالدولة الفلسطينية مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج. ويبدو أن منعطف السابع من أكتوبر قد ساهم في تحييد كثير من المسارات المختلفة والمتفاوتة وأعاد ملف القضية الفلسطينية إلى السطح مجدداً واضعاً المجتمع الدولي بأسره في حالة يمكن وصفها بالحرج الشديد إزاء كل تعامل مع القضية الفلسطينية والتعاطي معها باعتبارها قضية الفلسطينيين وحدهم. ولا يخفى على أحد أن القضية الفلسطينية باتت تجسد اليوم رأياً عاماً عالمياً حاضراً من خلال العديد من المواقف المناصرة للقضية في القارات المختلفة، وقائمة الشواهد على ذلك ممتدة وعديدة بدءاً بالبيانات الرسمية وحراك العديد من فصائل المقاومة والشعوب العربية ومظاهرات طلبة الجامعات الغربية، وانتهاءً بمواقف وقرارات الأمم المتحدة وتصريحات أمينها العام الذي ذكر أن شرارة هذا الصراع لم تأت من فراغ، بل نتيجة لاحتلال خانق نشأ منذ عقود مبيناً أن الأحداث الجارية لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة.