الحب والحرب جناس ناقص

2024-08-09 02:00:00

الحب والحرب جناس ناقص
Friedensreich Hundertwasser, THE WINDOWS ARE GOING HOME, 1979

في منطقتنا يقولون "فلان يدقّ على القصبة"، أي على الناي، ولا ضير لو قالوا على الناية، ذلك لأن كلّ ما يقبل التأنيث خير من التذكير. ولهذا  أجدني أميل إلى استخدام لفظة النافذة بدلاً من الشباّك، والليلة بدلاً من الليل، والفرشة بدلاً من الفِراش، والرقبة بدلاً من العنق، والسنة بدلاً من العام، والخمرة بدلاً من الخمر.. إلخ. 

كثيرون يرددون ببغائياً ما سمعوه أو حفظوه أو قرؤوه عن أن اللغة العربية تتضمن 12.3 مليون كلمة.

قليلون هم من يعرفون أن من أعطى هذا الرقم هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، وفقاً لمنطق رياضي نظري، يعتمد على مبدأ تقليبات حروف الكلمات، أو ما يسمى بالاشتقاق الكبير، أي تقليب حروف الكلمة على كافة وجوهها، فإن كانت من ثلاثة حروف نتج عنها ستة تقليبات كفعل صَهَل على سبيل المثال (صهَل، صلَهَ، هلص، هصَلَ، لصَهَ، لهَصَ) أو (جبر، جرب، برج، بجر، ربج، رجب)، وإن كانت من أربعة أحرف تُضرَب في الوجوه الستة للثلاثي الصحيح، فينتج عنها أربعة وعشرون تقليباً، وإذا كانت من خمسة أحرف تعطي مئة وعشرين تقليباً، ومن البديهي أن أغلب تلك التقليبات بدون معنى ولا تستعمله العرب.

ثم لو أخذنا على سبيل المثال قاموس لسان العرب، وهو من أشمل وأوسع القواميس، لوجدنا أن عدد كلماته لا يتجاوز في أعلى الإحصاءات 160 ألف كلمة، إذن أين نجد الـ 12 مليون و140 ألف كلمة الباقية ما دامت غير موجودة في قاموس لسان العرب؟

هذه الحقيقة ستكركب كثيرين من المتنفّجين قومياً أو دينياً، بل سيحاربون الفكرة من حيث المبدأ حتى لو لم يكن لديهم مثقال ذرة من المنطق في مواجهتها، وقد يفقد كثيرون صوابهم ويخرجون عن طورهم لو قلتَ لهم إن اللغة الإنكليزية تتفوَّق على العربية في عدد الكلمات على الأقل، فالنسخة الثانية من قاموس أوكسفورد بمجلداته العشرين تحتوي على ما يزيد عن 171 مئة وواحد وسبعين ألف كلمة في الاستخدام الحالي، وأكثر من 47 سبع وأربعين ألف كلمة قديمة، إضافة إلي 9500 كلمة مشتقة ومضافة ككلمات فرعية.

*   *   *

البغي والباغي والبغاء في العربية من جذر لغوي واحد، وتفسيرات متعددة. وكذلك هو الأمر مع القائد والقَوَّاد، فهما من نفس الجذر، إلا أن القائد اسم فاعل، والقَوَّادٌ صيغة مبالغة من اسم الفاعل، وتعني قَوِيُّ القِيَادَة، لكن مع الزمن رسا المجتمع على وصف سِمْسار الفاحِشة أو البِغاء بالقَوَّاد، وعلى وصف المسؤول والزعيم والرمز الاجتماعي بالقائد. وقد أعطانا الواقع أمثلة لا تحصى على عدم الفرق بين القائد والقوّاد.

*   *   *

"مُكرَهٌ أخاك لا بطل"، حقّها إعرابياً أن تكون "مكره أخوك"، ولكننا هنا لا نتبع قواعد اللغة بل ما قاله القدماء. كأنه حلال أن يخطئ أجدادنا القدامى بلغتهم، وحرام أن لا نتبعهم حتى في أخطائهم. 

مساكين أولئك الذين يريدون الحافر على الحافر، والخُفَّ على الخفّ، والعقل على العقل.

*   *   *

الحُبُّ والحرب جناسٌ ناقص، لا يكتمل إلا إذا ألحق أحدهما الهزيمة بالآخر.

والقمع ثلثا القمح، والعكس صحيح أيضاً، غير أن الأول سلبٌ واعتداء، والثاني إيجابٌ وعطاء. الحروف ليست هي المسؤولة عن المعاني، بل هو الكلام.

*   *   *

الأمثال والتعبيرات المجازية في ثقافتنا، لها قبول وأحياناً تسليم واحترام خاص، حتى لو خالفت العقل والمنطق. كثيراً ما نسمع مثلاً  أنَّ فلاناً "حربوق" أو "مقطَّع موصَّل"، يأخذك إلى البحر ويعيدك عطشان. 

لقد انتبه أصحاب المَثَل إلى البحر كمجمَّع مائي ضخم، وغفلوا عن ملوحة مياهه، التي لا بد أن تعود عطشان إذا لم تشربها، فإن شربتها فستعود أكثر عطشاً. 

لو قالوا الساقية أو النهر بدل البحر لاستقام كل شيء، ولكنه داء المبالغة.

*   *   *

تقول المراجع وبعض القواميس أن أصل تسمية الآلة الموسيقية "الناي"، يعود إلى اللّغة الفارسية، وترجمتها "القصب أو القصبة". لكن هل هو/هي مذكر أم مؤنث، فتلك مسألة لا طائل من البحث عنها، إذ رغم حرص القواميس العربية على تحديد المذكر والمؤنث، إلا أن الناي بقيت بدون تحديد. ولهذا نجد عدداً كبيراً من الضليعين في اللغة يستخدمونها بوصفها اسماً مذكَّراً. أمّا منطقي، وإن شئتم ذائقتي أو سليقتي، فلا تقبلها إلا مؤنثة، أي لا يصحّ فيها الوجهان، وعلى من لا يتفق معي أن يخترع للناي جمعاً آخر غير نايات.

في منطقتنا يقولون "فلان يدقّ على القصبة"، أي على الناي، ولا ضير لو قالوا على الناية، ذلك لأن كلّ ما يقبل التأنيث خير من التذكير. ولهذا  أجدني أميل إلى استخدام لفظة النافذة بدلاً من الشباّك، والليلة بدلاً من الليل، والفرشة بدلاً من الفِراش، والرقبة بدلاً من العنق، والسنة بدلاً من العام، والخمرة بدلاً من الخمر.. إلخ.