أحسست هنا بأن الفلسطيني مؤمن في الفعل السياسي والاجتماعي من خلال "الشلّة"، بمعنى لا يوجد سلاسة عمل ونشاط بحرية، يوجد تقييدات، حواجز، وعوائق كثيرة ليست مرئية. المتعب في ذلك هو أنني لم أتوقع أن أجد بنية الفعل التنظيمي ذاتها من حيفا إلى دبلن، وأعتقد أن الكثير بامكانهم التماهي مع تجربتي.
قبل عام تقريبًا سافرتُ لدراسة برنامج "ماجستير" تخصص العرق والهجرة ودراسات نزع الاستعمار، في جامعة كوليدج دبلن كما تسمى "University College Dublin" والإسم يدل على الموروث الاستعماري الأنجليزي الذي حاول جاهدًا تحويل دبلن إلى لندن الصغيرة إذ أن جامعة كوليدج لندن تأسست منذ بدايات القرن التاسع عشر في مدينة لندن، وليس ذلك فقط بل تخطيط البلد بأكمله، مثلًا الطابع المعماري للبنايات والمؤسسات مثل البرلمان والقضاء وأيضًا الجامعة الأكثر عراقةً في دبلن وهي جامعة الثالوث "ترينتي كوليدج" تعتبر جزء من الموروث الاستعماري المهيمن ثقافيًا على المدينة وناهيك عن سيطرة اللغة الأنجليزية، وإبادة اللغة الأصلانية "جايليك" (Irish Gaelic) منذ منتصف القرن التاسع، حملات شديدة بريطانية على اللغة الأصلانية، إلى يومنا هذا ما زالت مهمشة.
بدأت ألتفت لجميع هذه العوامل والمؤشرات خلال الأشهر الأولى من الجولات المنظمة في المدينة التي شاركت في كثير منها وتعلمت التاريخ الثقافة وأيضًا الأطراف السياسية، واللقاءات مع الأصدقاء العرب والفلسطينيين في المدينة وأيرلندا عمومًا، أتذكر مرافقتي لأحد الأصدقاء الذي زارني في الأسبوع الأول عرض أمامي مقتطفات تاريخ البلاد منذ ثورة عام 1916، والحرب الأهلية والاستقلال والخلافات السياسية بعد تأسيس الجمهورية، العلاقة مع بريطانيا تجدد الثورة في سبعينيات القرن الماضي. وأخيرًا الأصدقاء الأيرلنديين قدموا لي تاريخيًا أكثر اجتماعيًا حول البارات، المقاهي، الشوارع والشعراء والأدباء المؤثرين على مجريات الثورة، تذكرت مباشرةً جولة أعدها خليل غرة في مدينة القدس تحديدًا القطمون إبان النكبة والمقاومة والمعارك التي جرت بقيادة إبراهيم أبو دية. هكذا بدأت تتكون صورة أمامي عن أيرلندا باعتبارها جمهورية كافحت من أجل حريتها مرات عدة، وما زالت في أحيان. والسؤال المطروح أمامي ما هي علاقتها مع حرية العرب، الفلسطينيين، متى بدأت؟ وهل يوجد علاقة اليوم، وما هي إمكانيات تنظيم الجماهير الأيرلندية، الدولة من أجل تحرر الشعب الفلسطيني.
فلسطين حاضرة دائمًا
بعد مرور شهرين للانتقال، توجهت لمكتب الهجرة التابع للوزارة بهدف استكمال تأشيرات "السكن الدائم" لأهداف التعليم والدراسة، تبين للموظف الأيرلندي، خلال حديثنا بأنني عربي فلسطيني مع مواطنة إسرائيلية، أدرك مباشرةً حساسية المسألة، وطلب مني بلطف وكلمات اعتذارية على أنه مضطر لتسجيل "إسرائيلي" في خانة القومية. علمت حينها أنني أقف لأول مرة أمام موظف وهو يمثل شعب كامل واعي جدًا لقضيتنا ومأساتنا ويعتذر على أنه مشاركٌ في الظلم في أبسط الأمور البيروقراطية. وبالتأكيد يوجد دول أخرى ما زلنا نطالبها في اعتذار على مشاركتها الكاملة في تمكين النكبة الفلسطينية، بدءًا من بريطانيا.
لا يوجد شكّ بأن عاصمة الجمهورية الأيرلندية، دبلن، هي ليست كباقي عواصم أوروبا من حيث استيعابها وحبّها لفلسطين رموزًا ثقافةً وقضيةً سياسية، ستشعر فعلًا في البيت، الاحتضان الشعبي للفلسطينيين مؤثر وبارز جدًا في البارات، في المطاعم، في المراكز التجارية الحيوية. إذ تجد أكشاك عديدة تنظمها "حملة التضامن الأيرلندية الفلسطينية" (IPSC) من أجل دعم فلسطين، توزيع مناشير حول مستحدثات القضية والحملة والفعاليات القادمة. كما أن الحملة تنظم فعاليات، مظاهرات، واحتجاجات في جميع الوسائل المتاحة القانونية. كما أنني رأيت العديد من الفعاليات الفنية الفلسطينية، مثل فرق الدبكة والغناء وشاركت في واحدة، أتذكرها جيدًا في بار شهير "نادي ووركمانز" (Workman's Club) من إسمه تعلم أنك في مساحة تقدمية أو لنقل تمجد العمّال، بدأ العرض في "موطني" ودبكة فلسطينية ولكن بلمسة حداثية، لم تكن الدبكة التي نعرفها، بل مزج شرقي-غربي، وتلا العرض فرقة موسيقية أيرلندية تقوم بغناء موسيقى فولكورية. كان لذلك أثر عاطفي على نفسي وازدياد ارتباطي في البلد، لأنه يتعامل مع فلسطين جزء من موروثه فهي ليست قضية خارجية يدعمها فقط، بل يعيد بناء التضامن من خلال تحويلها إلى جزء من السهرات الاعتيادية، من موروثه وموسيقاه وأغنيته الشعبية، لمست رابطًا أصيلًا بين الثقافة الشعبية الفلسطينية والأيرلندية مع ابتعاد الجغرافيا واختلاف التاريخ واللغة.
كما أنني خلال الدراسة تعرفت على الكادر الماركسي الشبابي، تحت إسم "كونلي يوث" (Connolly Youth) على اسم الثوري الماركسي الاشتراكي جايمس كونلي، وهو أحد قيادات الثورة عام 1916 التي ساهمت في استقلال غالبية الأرض الأيرلندية، عدا عن ستة محافظات لم تنسحب منها بريطانيا وما زالت تحكمها حتى يومنا هذا. شاركت في اجتماعات خاصة بهدف الانضمام، تعرفت على أجنداتهم المحلية الأيرلندية التي تقف إلى جانب تحرير جميع الأراضي الأيرلندية وأيضًا المواقف الدولية ضد الامبريالية والولايات المتحدة والناتو، أما من جهة فلسطين وقفوا ضد حل الدولتين، وإلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته دون اقتراح حل عينيّ، إنما تأييد الفلسطينيين ومناصرتهم لتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني. وانضممت بشكل أولي إلى مجموعات القراءة والدراسة ولكن لم أشارك حقًا، أعتقد لم أستطع الاندماج أو لم أتمكن في ترتيب برنامجي للدراسة والأصدقاء والعمل البحثي الخاص. واحتكاكي مع الكتلة الماركسية، أدركت أن فلسطين هي موضوع حيّ وغير قابل للنقاش، ولكن يوجد مواضيع أخرى نوقشت أتذكر في اجتماعي الأول تحدثنا عن موضوع النقابة الطلابية، التي لم تقبل في انضمام الكتلة الماركسية إلى النقابة وتمتع في الكثير من الامتيازات، لسبب سطحيّ على أنها لا تقبل "كتل طلابية سياسية وتابعة لأحزاب"، لأنها ترى في الكتلة الماركسية تابعة للحزب الشيوعي الأيرلنديّ، وهذا نقاش دار بين الرفاق وعلاقتهم في الحزب الشيوعي. بالمقابل النقابة هي بنفسها تنظم أحداث سياسية بشكل جماعيّ، كما أنها رتبت الفعاليات من أجل فلسطين، منها عرض فيلم، ندوة وحوار. مما يلفت لنا إلى أن القضية الفلسطينية ليست مسألة للتداول والنقاش السياسي، بل هي محسومة لصالح الشعب الفلسطيني، لا يوجد تسامح مع الصهيونية، والاستعمار الاستيطاني في الجامعة.
"الشلّة" كبنية للفعل
تواصلتُ مع أحد الشخصيات المسؤولة والنشطة في الحملة، بهدف التطوع، لم ألقى من هذه الشخصية ردود مرحبة مع العلم أنها فلسطينية، بل ردًا جافًا كأنني متطفل على الحملة هكذا شعرت عند الاحتكاك الأول. قدمت نفسي على أنني طالب ماجستير، لعام واحد فقط ولدي خبرة في العمل الطلابي والتنظيمي، أسست منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب، وهو إلى اليوم ما زال فاعلًا ونشطًا مع العلم أن المؤسسين جميعهم أصبحوا خارج الإطار. أخبرتها في رغبتي بالتطوع والتنسيق مع الكتل الطلابية في الجامعة التي أدرس فيها، بهدف توسيع وزيادة النشاط الفلسطيني في الجامعات الأيرلندية، إذ أن أكبر الجامعات في دبلن خالية من الكتل الطلابية النشطة من أجل الحقوق الفلسطينية، أو أية عمل متواصل ومستدام فلسطيني. ويبدو أن العمل الطلابي لم يكن دائمًا في هذا الحال، خلال تفقدي وحديثي مع بعض الأساتذة والأصدقاء، تبين أن العمل الطلابي ونشاط حركة المقاطعة مرت عليهِ فترات صعود وركود، ونستطيع أن نرى أثاره في الجامعة، أو في صفحات التواصل الاجتماعي.
بالتالي هناك حاجة ماسة للتنسيق بين الكتل الطلابية والحملة "IPSC"، أجابتني الشخصية المسؤولة، "أرسل لي بريدًا لنشاطات تود أن تُنظم عمومًا؟" لم تكن هذه الإجابة التي توقعتها، بالرغم من ذلك أرسلت قائمة فعاليات، لإبداء حسن النية والجدية، وفي حال تتوقعون أني لم أحصل على رد، بالضبط لم أتلقى أية رد. علمت حينها أن الحملة من الناحية التنظيمية معطوبة، غير قادرة على استيعاب متطوعين شباب وطلبة، ولا تملك أية أهداف متعلقة في اتساع النشاط واستقطاب وجوه جديدة أكاديمية.
بعد فترة تلقيت دعوة لحضور "وقفة الأعلام الفلسطينية عيد الميلاد" عند نهر ليفي، لم يكن بعيدًا عن بيتي توجهت إلى هناك في الحافلة، أتذكر أن موجات فرح وحماس غمرتني حينما نظرت إلى عشرات الشباب والشابات بأعلام فلسطينية كثيفة، عند نهر ليفي، تحديدًا "جسر هآبيني" (Ha’Penny Bridge). توجهت نحوهم، تعرفت على الشخصيات النشطة المسؤولة، بالتأكيد العديد منهم أيرلنديون، كما أن غالبيتهم أفراد مسنين، وهذا مؤشر مهم على أن الشباب ليسوا منخرطين في هذه التحركات هذا أحد أسباب العطب التنظيمي، وعدم استثمار الفرص التضامنية للتغير الجذري ليس فقط على مستوى أيرلندا بل القارة الأوروبية. من السهل جدًا إلقاء اللوم على الجيل الشابّ بأنهم ليسوا معنيين وفي حال يوجد بعضًا من الحقيقة في ذلك، ولكن الجزء الباقي من الحقيقة هو أن الشخصيات المسؤولة لا تثق ولا تقبل قيادة شابة وتريد أن تبقى في موقع المسؤولية والسيطرة على كل المبادرات والتحركات والتنظيم داخل الحملة. خلال تواجدي هناك لم أجد أية ترحاب حقيقي تنظيمي، واهتمام، واستعداد لقبولي كمتطوع ومنظم خصوصًا أنني طالب في جامعة مهمة، وهي تعتبر الجامعة الأكثر قبولًا للطلبة الدوليين ومهتمة جدًا في التعددية الطلابية وحقوق الإنسان، مما يساعدنا في توسيع عمل الحملة. كأن الحملة تكتفي بما لديها، ومحدودة الفعل والعمل والسقف، بالرغم من وجودها في أكثر مدينة أوروبية محبّة للفلسطينيين وقضيتهم، ربما تنافسها في ذلك المدينة الأيرلندية المحتلة، في الجانب الشماليّ، بلفاست. تحدثت قليلًا إلى أحد المنظِّمات الأيرلنديات كبيرة في العمر، مهتمة كثيرًا في قضايا العدالة وفلسطين، قضت عمرًا طويلًا في المناصرة والتضامن، كما أنها دعتني ورحبت بي في مجموعة "واتسب" إذ أنني عبرت عن إرادتي بالانضمام فترة دراستي في دبلن. إلا أن هذه المبادرة لم تكتمل، من جهة الحملة.
أحسست هنا بأن الفلسطيني مؤمن في الفعل السياسي والاجتماعي من خلال "الشلّة"، بمعنى لا يوجد سلاسة عمل ونشاط بحرية، يوجد تقييدات، حواجز، وعوائق كثيرة ليست مرئية. المتعب في ذلك هو أنني لم أتوقع أن أجد بنية الفعل التنظيمي ذاتها من حيفا إلى دبلن، وأعتقد أن الكثير بامكانهم التماهي مع تجربتي. أنا لم أحزن على عدم قبولي بقدر ما حزنت على الفرص الضائعة، للتطوع والتوسّع وتحشيد الجامعات والمجتمع المدني الأيرلندي من أجل فلسطين، ليشكل قوة ضغط أقوى على الحكومة والأحزاب. الطموح يجب أن يكون أن تصبح أيرلندا رافعة لقضايا فلسطين في الاتحاد الأوروبي، وتساهم في محاكمة إسرائيل، فرض عقوبات ومقاطعتها. التنظيم في دبلن مشتت، ومتفرق، وبدون استراتيجية وهذا قد ينطبق على أيرلندا وبريطانيا. خلال زيارتي لعاصمة إسكتلندا، إدنبرة، وجدت نمطًا مشابهًا من العمل، الظروف مختلفة أيضًا، ولكن ما يجب التعويل عليهِ هو التنسيق مع الطلبة والجامعات، والاستثمار في الطلبة الفلسطينيين والعرب القادمين لعام أو عامين للدراسة، هؤلاء هم عمود صلب للحركة التضامنية في الخارج، كما أنه ليس من الصعب إيجاد المهتمين وأصحاب الوعي السياسيّ وهؤلاء هم الغالبية في شريحة المهاجرين من أجل التعليم. وهذا أخبرني به صديقي فلسطيني، حول تجربته المشابهة مع الحملة، ونبهني من الأمر ذاته، عدم إتاحة فرص وقبول للتطوع والتنسيق.
ختام
عدت إلى البلاد في نهايات أيار 2023، وبدأت الحرب بعد أربعة أشهر تحديدًا، وشهدت أيرلندا تظاهرات ومسيرات كبرى مهمة في دبلن، حضرها آلاف منذ نهايات أكتوبر، وهي مستمرة بدرجات متفاوتة. ولكني أقولها بصراحة هذه المظاهرات لا تعكس لنا الإمكانيات والمشاعر الثورية في أيرلندا إزاء فلسطين، مع التأكيد على أهميتها وتأثيرها.
ولكنّي شهدت خلال تواجدي في دبلن مسيرات كبرى حول موضوع "اعتداء على مجموعات مهاجرين" في شباط 2023. إذ أن القصة بدأت بعدما اعتدت عصابات يمينية متطرفة، على مجموعات من المهاجرين، ثم نظّم المجتمع المدني الأيرلندي مسيرة كبرى من أجل الدفاع عن حقوق المهاجرين القادمين إلى أيرلندا بالفعل المسيرة ساهمت في تعزيز القيم التعددية، كما أن فلسطين بالتأكيد كانت حاضرة. وبالتالي نستنتج على أن أيرلندا لم تتفاعل مع الإبادة في غزة بما يتلائم مع القدرة الكامنة بما يشكل ضغط على الحكومة لاتخاذ قرارات غير مسبوقة.
ويجب إعادة النظر في نشاط الحملة وعدم القدرة على تجنيد وتحشيد الجامعات، وهذا نتيجة ضعف العلاقات والتنسيق لأعوام طويلة مع الحركات الشبابية الأيرلندية. ومن المهم بالتأكيد تقدير حجم التضامن الجاري، وأيضًا في الجامعات الأيرلندية حيث شاركت بقوة أيضًا في التخييم داخل ساحات الجامعة ودفع ملفات وأجندات فلسطينية للتفاوض، حيث حققت مثلًا جامعة كوليدج دبلن إنجازًا في صفقة مع الجامعة لإنهاء التخييم على أساس الاستحقاقات التالية مثل: 1- دعم الطلبة الفلسطينيين وتخصيص منح، 2- استقطاب الطلبة في خطر من الجامعات الفلسطينية تحت الاحتلال والإبادة، 3- مراقبة وفحص استثمارات الجامعة وغير ذلك. هذا النضال الطلابي، برز بدون تنظيم حقيقيّ وبنية تحتية سابقة، بل نستطيع اعتبار هذا النضال هو البنية التحتية للتضامن الأيرلندي، وعدم تضييع إمكانيات وفرص هائلة عند الشعب الأيرلندي.