النكبة المحدقة وكيفية مواجهتها

2024-09-12 09:00:00

النكبة المحدقة وكيفية مواجهتها
Composition 8, Wassily Kandinsky, 1923

وحصيلة القول إن مواجهة المحنة التي تعيث بشعبنا، وتفادي النكبة الجديدة المحدقة به، وكذلك التصدّي للمهام التحريرية التاريخية، كلّها أمور تحتّم النهوض بالمشروع اليساري الثوري من الكبوة التي أصابته منذ سنين عديدة والوصول به الى مرتبة قيادة المواجهة بعد إخفاق التيارين القومي والديني. وبغير تحقيق هذا الشرط التاريخي سيبقى الخيار المحتوم والأوحد هو الخيار بين النكبة والاستسلام.

في ربيع عام 2009، طلب مني الرفيق والصديق غازي الصوراني المساهمة في عدد خاص لمجلة "الحياة الجديدة" التي تصدرها الدائرة الثقافية المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قطاع غزة، بمناسبة الذكرى 61 للنكبة. كان ذلك إثر العدوان الذي شنّته الدولة الصهيونية على القطاع بين 27 كانون الأول 2008 و18 كانون الثاني 2009، والذي كان أعنف عدوان تعرّض له الشعب الفلسطيني حتى ذلك الحين.
ج. ا.

 

بعد مرور ستين عاماً على النكبة، ها أن شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية يقفان أمام خطر نكبة ثانية – أو ثالثة بالأحرى، نظراً لكوننا لم نقبل قط بوصف الهزيمة العربية في يونيو 1967 بالنكسة. والنكبة الثالثة التي تهددنا هي في الحقيقة استكمال للنكبتين السابقتين حيث إنها تتعلق بالترحيل القسري للفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء على الأراضي التي احتلتها الحركة الصهيونية في عام 1948 والذين يشكل سلخهم القسري عن الكيان الصهيوني برنامجاً ينادي به جهراً الحزب الثالث من حيث حجم التمثيل في الكنيست الإسرائيلي، حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعمّه وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي. كما تتعلّق النكبة الثالثة المحدقة بخطر القضاء قتلاً وترهيباً وترحيلاً على فلسطينيي الضفة والقطاع، أي الأراضي المحتلة سنة 1967، إذا لم يرضوا بدويلة تابعة على طريقة كيانات البانتوستان التي رعاها نظام التفرقة العنصرية البائد في أفريقيا الجنوبية. 

والحال أن المجتمع الإسرائيلي ما زال يواصل انزلاقه نحو أقصى اليمين الذي بدأ بعد الأزمة التي لحقت، إثر حرب أكتوبر 1973، بجناح الحركة الصهيونية المسمى زوراً بالعمّالي والذي أشرف على اغتصاب الأرض الفلسطينية وتأسيس الدولة الصهيونية. فقد مُني هذا الجناح بأول هزيمة تاريخية له في عام 1977 عندما فاز بانتخابات الكنيست عدوُّه اللدود من صميم الحركة الصهيونية ذاتها، حزب الليكود الذي ينتمي الى التيّار الصهيوني "المُراجع" الذي سبق لبن غوريون نفسه، وهو أهم مؤسسي الدولة الصهيونية، أن نعَته بالفاشي! وها أننا اليوم أمام وضع بات فيه الحزبان الأولان في الكنيست وريثين للتيار "المُراجع": الليكود عينه من جهة، ومن الجهة الأخرى كاديما (أو بالأحرى "قدماً" حسب معنى التسمية العبرية) الذي نجم عن انشقاق من الليكود بزعامة الرجل الذي طالما عُرف بأنه أكثر زعماء الليكود تطرفاً، ألا وهو آرييل شارون سيء الذكر. ويأتي في المرتبة الثالثة حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يرى فيه الحزبان المذكوران توّاً حزباً متطرّفاً في عنصريته (أو بالأحرى في المجاهرة بها علانية بخلاف تستّر الآخرين). أما حزب المشرفين الأولين على اغتصاب فلسطين فبات في المرتبة الرابعة، يقوده رجل هاجسه الأكبر هو أن يقود آلة القتل الجماعي والتدمير التي يُطلق عليها اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وقد رضي بأن يتولّى وزارة "الدفاع" في حكومة خصميه نتنياهو وليبرمان.

ومن حسن الحظّ أن هذه الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ الدولة الصهيونية لم تعاصر الإدارة الأكثر يمينية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، ألا وهي إدارة بوش. كان هذا الامتياز الرجعي من نصيب حكومة شارون التي كانت هي الأكثر تطرفاً في التاريخ الصهيوني قبل مجيء الحكومة الحالية، فوصل شارون الى السلطة في فبراير 2001 بعد شهر واحد من تولّي بوش الرئاسة في واشنطن. وقد استفاد شارون من الضوء الأخضر الأميركي ليعيد احتلال الأراضي المسكونة التي سبق أن تم إجلاء الجيش الإسرائيلي عنها بموجب اتفاقيات أوسلو. وشارون من التطرف إلى حد أن الاستسلام العرَفاتي الذي تكرّس في أوسلو لم يكن بالكافي في نظره. وقد تذرّع بفشل أوسلو لكي يفرض رؤيته للحل "النهائي" القائم على الفصل من جانب واحد، فأجلى الاحتلال من قطاع غزة، الذي رأى أن كلفة السيطرة المباشرة عليه تفوق فائدتها، وأحاط القطاع بسياج خانق جاعلاً منه معسكر اعتقال عظيم الحجم. وشرع في بناء جدار الفصل العنصري على الضفة الغربية بحيث يضم الى الدولة الصهيونية ما يراه مناسباً ويخيّر أراضي الكثافة السكانية الفلسطينية الباقية ما بين حالة البانتوستان وحالة معسكرات الاعتقال، والفرق بين الحالتين أن البانتوستان تحكمه جماعة يقبل المحتل بمنحها لقب "السلطة الشرعية"، لا بل "المستقلة".

ونحن اليوم أمام الفشل المحتوم للصيغة الشارونية: فبعد تعذّر تحقيق مشروع أوسلو البانتوستاني بسبب الرفض الشعبي ورفض ياسر عرفات نفسه أن يمضي قدماً بهذا المشروع لمّا تبيّن له أن حلمه بقبول إسرائيل بمنحه "دولة مستقلة" ما كان الاّ حلماً ساذجاً وضاراً، كما لم ينفك معارضو أوسلو من التأكيد عليه، فشلت بدورها المحاولة الشارونية لفرض البانتوستان على الشعب الفلسطيني حيث رفضت غالبيته البانتوستان العبّاسي في انتخابات يناير 2006 التشريعية، كما رفض الشعب الفلسطيني الخضوع أمام الإرهاب الصهيوني فأبى سكان غزة أن يرضخوا أمام أوحش عدوان صهيوني على شعب فلسطين في تاريخ الحروب الإسرائيلية. 

ومثلما أدّى إخفاق أوسلو الى سقوط أبطاله الإسرائيليين، أرباب حزب العمل الصهيوني، وحلول شارون محلهم، أفضى إخفاق المشروع الشاروني الى سقوط أصحابه، جماعة حزب كاديما الذي أسسه شارون، فحلّ محلهم ائتلاف اليمين الليكودي والدعاة العلنيين للتطهير العرقي. ولا شك في أن قناعتهم المشتركة هي أن ليس هناك من تعايش ممكن مع الفلسطينيين، وأن أمان إسرائيل لا يستتب بغير "تطهير" محيط الإسرائيليين، بمن فيهم المستعمرون على أراضي الضفة الغربية، من معظم الفلسطينيين وذلك بترحيل غالبيتهم ما وراء نهر الأردن وصحراء سيناء بعد إبادة قسم منهم ترهيباً لتلك الغاية. بكلام آخر، إن ما يلوح في الأفق ويهدد من بقي من الفلسطينيين على أرض فلسطين لهو نكبة جديدة لا بد، إن حلّت، أن تكون أعظم بكثير قتلاً ودماراً من النكبة الأولى، نكبة 1948.

وإزاء هذه الكارثة المحدقة، لا بد من مراجعة جذرية للإستراتيجية التحريرية الفلسطينية وذلك بالعودة إلى ما كان في الأمس من المسلّمات البديهية، عندما كانت الهيمنة السياسية للحركة القومية العربية بوجه عام والناصرية بوجه خاص على نطاق الأمة العربية. الحقيقة البديهية المنسية منذ ذلك الزمان هي أن النضال الفلسطيني لا يمكن أن يظفر بالانعزال عن العمق العربي وأن لا آفاق له سوى في أن يكون رأس حربة النضال التحرري العربي بأسره.

طبعاً، جاءت نكبة 1967 لتُفقد إستراتيجية الطوق القومي العربي كل اعتبار بعد أن مُنيت الأنظمة القومية بأُم الهزائم العسكرية. ولوهلة قصيرة أدركت الطليعة الفلسطينية المتجذّرة أن الذي سقط بلا رجعة ليس الإستراتيجية الإقليمية/القومية بحد ذاتها، بل قيادة الحركة القومية "البورجوازية الصغيرة" لها. وربمّا كان التعبير الأدق لذلك الوعي، الفكرة التي عبّر عنها الدكتور جورج حبش في زمن الصراع في الأردن، وهي أنه لا بدّ للثورة الفلسطينية من هانوي على غرار ما تَوفّر للثورة الفيتنامية في كفاحها البطولي من أجل تحرير جنوب الوطن الفيتنامي المحتل. ومن هذا المنظار، لا بدّ من العمل على تحويل جميع عواصم المحيط العربي لفلسطين الى هانويات، بمعنى خلق شروط الوحدة العربية التحررية والتحريرية التي أخفقت الحركة القومية في تحقيقها. 

ولمّا كان ذلك الجزء من الانتداب على فلسطين الواقع على الضفة الشرقية من نهر الأردن والذي خلق فيه الاستعمار البريطاني مملكة تابعة أطلق عليها اسم إمارة شرق الأردن، لمّا كان ذلك الجزء في الأساس هو شرق فلسطين ليس إلّا، وهو في تواصل وثيق مع غربها، أي مع الضفة الغربية لنهر الأردن، وهو تواصل عزّزه الدمج بين الضفتين في سنوات ما بين النكبتين الأولى والثانية، رأى "الحكيم" أنه يتوجب البدء بتحويل عمّان الى هانوي عربية كي يجد الكفاح من أجل تحرير غرب فلسطين عمقه الضروري. ولم تسقط تلك الإستراتيجية اليسارية الثورية أسوة بسابقتها القومية بعد تجريبها، بل لم تجرَّب إذ حال دون تحقيقها تضافر جهود المملكة الهاشمية القمعية الدموية وجهود اليمين الفلسطيني الإحباطية والاستسلامية.

وعلى العكس، فإن إستراتيجية اليمين الفلسطيني هي التي سقطت الآن سقوطاً ما بعده سقوط. وتبقى إستراتيجية اليسار الثوري هي الوحيدة العقلانية: فالإستراتيجية العقلانية تتطلب تحديد العدو الأساسي بدقة وتحديد نقاط الضعف لديه. وأما العدو الأساسي فكان جلياً منذ أيام عبد الناصر أنه لا يقتصر على الكيان الصهيوني، بل يشمل الإمبريالية الأميركية راعيته والأنظمة العربية التابعة لتلك الإمبريالية. وفي الطوق العربي-الإسرائيلي المفروض على شعب فلسطين، يشكّل النظام الأردني الحلقة الأضعف نظراً للتركيب السكاني للمملكة الهاشمية حيث توجد غالبية من الفلسطينيين، ناهيكم بأن غالبية "الشرق أردنيين" تتغلب لديها المشاعر القومية المضادة للصهيونية وللإمبريالية على النعرات القطرية الضيّقة التي يرعاها النظام الملكي. فإن تحويل عمّان الى هانوي عربية شرط لا بدّ منه لكي يجدي الكفاح من أجل جعل أكبر قسم ممكن من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 أراضٍ محررة. أما طالما بقيت تلك الأراضي واقعة بين فكّي كمّاشة كما هي الآن فأي تفكير بجعلها أراضٍ محررة لا يعدو كونه حلماً ساذجاً هو أيضاً، بمثابة الحلم العرَفاتي.

أما الشق الثاني البعيد المدى للإستراتيجية التحريرية، الشق المتعلق بالنكبة الأولى لسنة 1948 وآثارها الوخيمة، فإنه مرتهن بما أدركه عبد الناصر نفسه بعد هزيمة يونيو في آخر حرب سبقت التثبّت من تحوّل الدولة الصهيونية الى قوة نووية. فإن المراهنة على القضاء على الدولة الصهيونية بالقوة العسكرية من الخارج إنما هو كذلك حلم ساذج أو جنون انتحاري بالأحرى، حيث لا شك في أن الدولة الصهيونية لن تتردد في اللجوء الى سلاحها النووي إذا ما شعرت بأنها مهددة بانهزام عسكري – هذا لو افترضنا أن محيطها العربي قادر على التفوّق عليها بالسلاح التقليدي، وهو أمر شبه مستحيل طالما وقفت الإمبريالية الأميركية وراء إسرائيل، نظراً لطبيعة أرض المعركة وكون الاستعمار الصهيوني استعماراً استيطانياً. 

هذا يعني أن لا إستراتيجية عقلانية في مواجهة الدولة الصهيونية ممكنة بغير الاستناد الى تضافر الكفاح الفلسطيني والعربي مع العمل على شقّ المجتمع اليهودي الإسرائيلي من داخله. وهذه الغاية الأخيرة تتطلّب أن تكون لدى القوى التحررية الفلسطينية والعربية قدرة على مخاطبة الإسرائيليين اليهود وسلخ قسم هام منهم عن المنطق الصهيوني. وهنا يظهر الى أي حدّ تتعارض طبيعة الحركة السلفية الدينية مع متطلّبات التحرير. فقد أدّى صعود تلك الحركة في المجالين الفلسطيني والعربي الى رصّ صفوف اليهود الإسرائيليين خلف أكثر قياداتهم رجعية بما فاق أي مرحلة سابقة من تاريخ منطقتنا. وهنا أيضاً فلا الحركة الدينية ولا الحركة القومية قادرتان على تلبية هذا الشرط الإستراتيجي الأساسي في المدى البعيد، ولا يستطيع تلبيته سوى يسار ثوري مسلّح بمنظور علماني وأممي.

وحصيلة القول إن مواجهة المحنة التي تعيث بشعبنا، وتفادي النكبة الجديدة المحدقة به، وكذلك التصدّي للمهام التحريرية التاريخية، كلّها أمور تحتّم النهوض بالمشروع اليساري الثوري من الكبوة التي أصابته منذ سنين عديدة والوصول به الى مرتبة قيادة المواجهة بعد إخفاق التيارين القومي والديني. وبغير تحقيق هذا الشرط التاريخي سيبقى الخيار المحتوم والأوحد هو الخيار بين النكبة والاستسلام.