جديد | من النهر إلى البحر: فلسطين وإسرائيل في ظل "السلام"

2024-09-23 02:00:00

جديد | من النهر إلى البحر: فلسطين وإسرائيل في ظل

ما كان مشروع هذه الدراسة لينجح، وإن كان مموَّلًا بمنحتَين، لولا عمل مؤلِّفي فصول الكتاب بدأب علمي - بحثي فريد على سبر غور العمليات التاريخية والاتجاهات الحديثة، كلٌّ في ما يخص موضوع دراسته، فضلًا عن الأشخاص الذين شاركوا في ورش العمل الخاصة به على مدى سنوات أو قدموا النقد البنّاء خلال مناقشة مسوّدات الكتاب،

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "من النهر إلى البحر: فلسطين وإسرائيل في ظل "السلام""، ويضمّ إحدى عشرة دراسة لأحد عشر باحثًا وباحثة عربًا وأجانب، حائزين شهادات من أرقى الجامعات العربية والغربية في اختصاصات التنمية وعلم الاجتماع وحقوق الإنسان والمفاوضات والاقتصاد والاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية والأنثروبولوجيا السياسية والعلوم السياسية وسوسيولوجيا اللغة. وهو مؤلف من تمهيد ومقدمة وأحد عشر فصلًا. حررت مادته الباحثة ماندي تيرنر، وترجمته إلى العربية حنين يوسف المصري. ويقع الكتاب في 448 صفحة، شاملة ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

ما كان مشروع هذه الدراسة لينجح، وإن كان مموَّلًا بمنحتَين، لولا عمل مؤلِّفي فصول الكتاب بدأب علمي - بحثي فريد على سبر غور العمليات التاريخية والاتجاهات الحديثة، كلٌّ في ما يخص موضوع دراسته، فضلًا عن الأشخاص الذين شاركوا في ورش العمل الخاصة به على مدى سنوات أو قدموا النقد البنّاء خلال مناقشة مسوّدات الكتاب، وآخرين قيّموا الكتاب وراجعوه. أما المنحتان، فمن الأكاديمية البريطانية ومن مركز أبحاث الشرق الأوسط للعلوم السياسية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

دراسة معمقة لواقع ما بعد "أوسلو"

خلال السنوات الأخيرة، فُرِّغ "الوعد" بالسلام من مضمونه أكثر فأكثر، وذلك مع انهيار المفاوضات لإقامة دولة ذات سيادة للفلسطينيين، وارتفاع حدة الاتهامات المتبادَلة مع إسرائيل حتى عادت إلى مستوى ما كانت عليه في التسعينيات قبل اتفاق أوسلو، وربما أكثر حدّة، مع تصاعد الخطاب الصهيوني الجديد حول "حق" اليهود في أرض فلسطين بوعد من الكتاب المقدّس. أضف إلى ذلك تكريسهم "أمرًا واقعًا" على الأرض يخالف كلّ القرارات والقوانين الدولية، حتى ألحقت إسرائيل ومن يدعمها من دول الغرب الأذى الشخصي والمهني بمؤيّدي الحق الفلسطيني في دولهم والمتجرّئين على الحديث علنًا عن ممارسات إسرائيل، أما التهمة "القديمة - الحديثة" فجاهزة: "معاداة الساميّة". فدبّ الخوف في نفوس كثيرة، حتى تعدى الأمرُ الأفرادَ إلى الهيئات والمنظمات والأحزاب، كتجريم إسرائيل الحملة الدولية، حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوباتBoycott, Divestment and Sanctions Movement التي أنشئت في يوليو/ تموز 2005 بنداء من 171 منظمة فلسطينية غير حكومية لمقاطعة إسرائيل اقتصاديًّا. ومارست أيضًا ضغوطًا لدى الدول لمنع الطلاب المقبولين على قائمة موقع "كناري ميشن" Canary Mission (الذي يرسل أسماء الطلبة إلى أرباب العمل بهدف توظيفهم) من دخولها؛ لأنه مؤيد لقضية فلسطين. يضاف إلى ذلك محاولاتها المكثفة لإجبار الأحزاب السياسية الغربية على إدخال انتقاد إسرائيل ضمن "معاداة الساميّة" في مناهجها. فكان أول من طبق هذا المملكة المتحدة التي فرضت الرقابة على المتحدثين في الجامعات، ومنعت بعضهم من الحديث، وعلى الخصوص رئيس حزب العمال البريطاني جيريمي كوربن.

الموضوعية مع التحيّز

إن البحث موضوع الدراسة موضوعي لكنه غير محايد؛ فكيف لكاتب أن يتّبع الحياد في صراع شهدت السنوات الخمس والعشرون الماضية منه فرض سلام ينتصر لإسرائيل ويحرم الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والإنسانية تحت ستار ما سمَّوه زورًا "عملية السلام"؟ إن السبب في هذا الوضع الشاذ واستمراره ليس جهل الناس بالحقائق، بل إن اضطهاد حقوق الفلسطينيين وإلحاق جميع أشكال العنف والموت بهم بات مُجازًا وممكَّنًا من البيئة الدولية، من دون أي أمارة من الدول بالتراجع عن ذلك، وحتى إنْ وُجدت هذه الإرادة فسوف تظل ضمن إطار الدعم غير المشروط لإسرائيل بصرف النظر عما تفعله.

إن مواصلة البحث والكتابة والكلام في هذا الوضع الشاذ كفيلة بتغييره، وإحداث نقلة في إدراك الرأي العام الدولي، وإذكاء الأنشطة الداعمة للحقوق الفلسطينية. ذلك أنه على الرغم من تباين الناس الأحرار فكريًّا، فإنهم لا شك يتفقون على اعتبار وضع الفلسطينيين الراهن استعمارًا ظالمًا وعنيفًا، لا بد من توثيقه ومعارضته.

استشفاف مبكر يشبه النبوءة

بعد شهر واحد من اتفاق أوسلو، نشر إدوارد سعيد في لندنريفيو أوف بوكس London Review of Books مقالًا بعنوان "الصباح التالي"، هاجم فيه الاتفاق بعنف ووصفه بـ "صك الاستسلام" و"معاهدة فرساي الفلسطينية"، في وقتٍ ساد الفرح لدى كثيرين باعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، آملين نهاية 26 عامًا من الاحتلال. وكلمات سعيد وإن بدت وقتَها غير واقعية، فإنها تبدو اليوم كأنها نبوءة؛ فالسلام الموعود لم يحلّ، وفشلَ "إعلان المبادئ" في إنهاء هيمنة إسرائيل على الموارد الطبيعية ومناحي حياة الفلسطينيين كافة، وتغوّلت إسرائيل في ممارساتها الاستيطانية على كامل أراضي فلسطين التاريخية، بتأييد ودعم وتمويل من المجتمع الدولي. ومن ثمّ بات الأمر كأنه ليس إلا تنفيذًا لخطة وزير العمل الإسرائيلي عام 1967، إيغال ألون، القاضية بضم القدس الشرقية ومعظم أراضي غور الأردن، مع بقاء مناطق الضفة المكتظة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية أو الأردن. ويرى آخرون أن "إعلان المبادئ" كان فرصة حقيقية لحل الدولتين أجهضها اغتيال إسحاق رابين.

أدى قبول منظمة التحرير بتأخير جميع القضايا المصيرية إلى مفاوضات الوضع الدائم، بسبب عزلتها عن محيطها العربي ووقف المساعدات المالية والسياسية الخليجية لتأييدها الغزو العراقي للكويت عام 1990، إلى انقطاع التواصل بين فلسطينيي الضفة وغزة وفلسطينيي الـ 48 والقدس الشرقية، الذي تبعه انقطاع بين الضفة وغزة، ليليَ ذلك تجزيء الضفة نفسها من الداخل بمناطق "أ" و"ب" و"ج". وأدى ذلك أيضًا إلى أشكال مختلفة من الاقتصاد الفلسطيني: جيوب صغيرة من الرخاء في الضفة، واقتصاد متفكك ومعزول ومهمش عن الضفة في القدس الشرقية، واقتصاد خاضع لحصار خانق في غزة، وإرادة فلسطينية مشلولة أمام القضم الإسرائيلي الممنهج والتدريجي لأراضي الفلسطينيين لمصلحة المستوطنات، التي توسعت إلى درجة أن لكلٍّ من قاطنيها قريبًا إسرائيليًّا خارجها. أما اجتماعيًّا، فقد منع قانونٌ إسرائيلي لمَّ شمل أفراد الأسر التي تقطن القدس وأراضي الـ 48 من العيش مع عائلاتهم في الضفة وغزة، لكن الفلسطينيين ابتكروا أشكالًا غير متوقعة من الحفاظ على لُحمتهم. وفي حين صبَّ الاتفاق في مصلحة إسرائيل التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا وفتحت آفاقًا من التعاون الدولي، بقي الاقتصاد الفلسطيني ملحقًا بها؛ فاستغلت سيطرتها على الموارد الطبيعية والمياه والأراضي الخصبة الفلسطينية، لزيادة تصدير منتجاتها التي صُنعت بأيادٍ عاملة فلسطينية رخيصة.

سياسيًّا، واصلت إسرائيل استراتيجية تسعير الصراع مع الفلسطينيين، وبدلًا من أن يؤدي نص "إعلان المبادئ" إلى السلام المزعوم، فقد أثّر هيكليًّا وأيديولوجيًّا في كيانات الفلسطينيين الأربعة: في الضفة وغزة والقدس وأراضي الـ 48، كما أثر أيضًا في لاجئي الأردن وفي الإسرائيليين أنفسهم. ويحلل الكتاب هذا التأثير وتباينه بين هذه الكيانات من توقيع الاتفاق إلى عام 2018، وكيفية تعامل الفلسطينيين مع عمليات التجزئة وإعادة توحيد المناطق والشكل الذي تطور إليه مشروع حل الدولتين خلال العقدين ونصف العقد الماضيين، في ظل الطابع الصهيوني لدولة إسرائيل وقانون الدولة القومية لليهود المُقَرّ في 2018 وينص على حق الشعب اليهودي فقط في تقرير المصير القومي، ويعتبر الاستيطان "قيمة قومية". وقد وصفه مردخاي كريمنيتسر، في هآرتس، بـأنه "خطوة أخرى على طريق ضم الأراضي".

وفي الكتاب، تحليل واقعي ومعمّق لتطوّر القومية الفلسطينية تاريخيًّا، من منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية، ورد فعل الفصائل الرئيسة على اتفاق أوسلو، وسياسات الدول المانحة وتأثيرها. وكل ذلك استنادًا إلى مقابلات معمّقة، وأبحاث أرشيفية توثيقية، وأعمال خبراء، ودراسات عميقة للمجتمعات قيد الدراسة.