الصعود إلى المنفى الأول... فصل من "كأن تكون فلسطينيا" لفيصل دراج

2024-09-24 02:00:00

الصعود إلى المنفى الأول... فصل من

تعلّمت من عبد القادر الحسيني أن اللقب العلمي لا يصنع وحده مثقفاً، وأن لا ثقافة في الكلام الفصيح، ولا في أهازيج الحروف المختارة، وأن الثقافة فعل أخلاقي مسؤول، لا يقترن بمثقف ضيّق الشهرة أو عريضها، يستبضعها سعيداً ويبضع ذاته بها وقد غدا أكثر سعادة. اغترب عبد القادر عن زمنه، آثر تراب الوطن ولم يرحل غريباً.

فصل من كتاب "كأن تكون فلسطينيًّا: شذرات من سيرة ذاتيّة" الصادر قريباً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
 

كان صباحاً بارداً يدفعني إلى الخارج ولا أفهم ما يقول. أذكر أماً تغلق باب الدار بمفتاح كبير، تخرج صامتة وتعود إلى الباب تفتحه وتدخل الدار لحظات، تعود وتغلق الباب وتندفع إلى الأمام، تخفي عينيها بحجاب من ضباب.

وأذكر شاحنة رمادية مخلّعة الصوت ومطراً وهدوءاً كساه البرد، أتبع خطوات أمي ولا من أسئلة.

أذكر شاحنة وطريقاً نحو الشمال غائم الملامح وهواء قارساً كأن له صوت، وأتذكّر نفسي صبياً يسافر مع عائلته إلى موقع قريب، لا يعرف اسم المكان الذي غادره ولا المكان الذي يتوجّه إليه، صبياً دثّرته أمه بملابس كثيرة. وأذكر جاراً ضريراً افترش التراب، يلوّح بصوت يعلن الوداع، كما لو كان صوته الدامع عيناً تودّع الراحلين.

حين رفع الصبي رأسه المبتل، وقد تكدّس فوق أهله كحقيبة صغيرة، رأى خلاء واسعاً، تسكنه خيمة سوداء يتصاعد منها الدخان، وأطياف امرأة تتقي المطر، وتصوّر أن الدخان يرتجف ويتطاير في الهواء. أمعن النظر في ما يرى، فوقع على حصان غاص في العشب الأخضر، قائمتاه في الهواء، يحرّك رأسه ولا يستطيع الوقوف. تنفّس الصبي المطر والهواء المبتل، ولم ينتبه إلى بلل ملابسه، وحطّت عيناه من جديد على الحصان الكسير.

كان ذلك في شهر نيسان من عام 1948، وكانت الطريق تمتد بين مدينة القنيطرة، التي لم تكن مدينة، وقرية «جويزة» الواقعة في هضبة الجولان السورية التي احتلها الإسرائيليون عام 1967، وكان الصبي يعرف اسمه ولا يعرف أسماء الأمكنة، يشدّ ملابسه المبتلة على جسمه، ويطيل النظر إلى أمه الشاردة.

حين اندفعت الشاحنة شرقاً، محمّلة بالانتظار والأرواح المهاجرة، التفت الصبي وراءه، داعبت عيناه صورة الحصان، تخيّل عينين مفتوحتين يسقط فيهما المطر، ترتعشان ارتعاشة أخيرة. سأل حينها أمه: متى نرجع إلى البيت؟ كان عمره بين الخامسة والسادسة.

وأذكر من الطريق سائقاً يلف رأسه «بحطّة فلسطينية»، يغمغم كلاماً مبهماً، يحرق سجائر كثيرة، يطلق صوتاً كأنه غناء، يعاتب أختاً آثرت البقاء في الوطن، يناجيها بكلمات موجعة، ويسأل عن موعد اللقاء. وأذكر أن غناء السائق كان يختلف عن غناء أمي في بيتنا، يحمل أسئلة ناقصة الكلمات، تعرف أمي إجابتها، ولا أعرف ما تعرفه أمي ولا ما تنطق به من إجابات.

بعد غناء كأنه بكاء وبكاء لا صوت له، مال السائق إلى جانب الطريق وتوقف في بقعة موحلة، إلى جانب عمود حديدي تعلوه لوحة صفراء كتب عليها شيء ما. لاحظ الصبي أن العمود يهزّه الهواء ويقترب من السقوط، وأن اللوحة مغطاة بوحل الطريق استقرت فوقها جملة تقول: «جويْزة ترحب بكم»، كما سيعرف بعد حين.

كان ربيعاً يطارده الشتاء أو شتاء يحاصره الربيع، وعائلة أسلمت قيادها إلى طريق لا تعرف نهايته. كشف المتكوّمون في الشّاحنة عن رؤوسهم محاذرين مطراً انقلب إلى رذاذ لم تغادره البرودة. قال السائق بصوت كساه الجفاف: أخيراً وصلنا. ظنّ المتكوّمون أن الوصول إقامة مؤقتة، قبل أن يعرفوا أن مؤقّت اللاجئين لا تعريف له، وأن مؤقت الإقامة المؤقتة يتكاثر مرتاحاً ولا يقول شيئاً، أوصد أبوابه بانتظار لا رحمة فيه.

كان إلى جانب اللوحة الحديدية الصفراء، الآيلة إلى السقوط، كوخ خشبي يتصاعد منه الدخان، كما لو كان خيمة أخرى من خشب عَلَته خضرة تميل إلى السواد، افتقدت طيف امرأة تتقي المطر. صُفّت أمام باب الكوخ، حجارة متجاورة على عجل مغطاة بالوحول. يذكر الصبي فتاة ملفعة بالرذاذ والسواد، لم ينتبه إن كانت حافية أو انتعلت وحلاً أعاق سيرها، دخلت الكوخ وخرجت مسرعة بيدها كيس صغير، تعثّرت وسقط الكيس من يدها، مسحته، ونظرت إلى السماء وتابعت طريقها الموحل من جديد. بدت الفتاة عالية القامة، ولم يعرف الصبي إن كانت في مقتبل العمر، أو ما جاوزه.

انبثق من الكوخ الرمادي شاب أخضر العينين، كثيف الشعر ولون الوجه شاحب، يرتدي معطفاً حائل اللون كأن به خضرة تميل إلى السواد، يلف عنقه بغطاء صوفي، يتوكأ على عصا، يختلط لهاثه بسعاله. سيعرف الصبي بعد حين أن معطف الرجل مما يلبسه العسكريون، وأنه قبل سعاله اللاهث كان عسكرياً، وأن مرضه دفعه إلى كوخ رمادي على قارعة الطريق. اقترب الرجل الذي كان جندياً وقال مرحباً بنبرة واضحة الحرارة: «لاجئون، لاجئون من فلسطين، أهلا وسهلاً، الدكان دافئ، استريحوا، أهلاً....».

سيكون عليّ لاحقاً، أن أرى وجوهاً غير التي كنت أعرفها، ولهجات جديدة في الكلام، وأمكنة تغاير ما كنت فيه، وأن أتعلّم، بلا شرح، كلمتين مفاجئتين. فإلى جانب اسمي في بيتي القديم أضاف إليّ المكان الجديد اسمين: لاجئ، لم أكن أفهم معناه، في البداية، وفلسطيني، لم أعِ معناه دفعة واحدة. كان الاسمان يأتيان متصلين مرة ومنفصلين مرة أخرى، وإن كان الحدس أخبرني أنه لا اختلاف بينهما. كان ما يثير فضولي الحزين أنهما لا يطلقان على غيري، وأن تلفّظ الآخرون بهما يرافقه شيء من الشفقة، ومن الاستنكار أحياناً. بعد أن علّمتني الكتب، بعد عقدين وأكثر، تعبير: «رواية التعلّم» التي ترصد حياة صبي يصعد إلى فوق، أدركت أن الكتب لا تعلّم كل شيء، وأن لحياة اللاجئين كتباً خاصة بها مستقلة عن الطباعة ودور النشر، وأن هذه الكتب تستهل «بصفتنا»: الغريب الفلسطيني.

الرجل الطويل القامة المتكئ على عصا أدخلنا كوخه الرمادي، طرد عنا البرد وسقانا شاياً ساخناً حلو المذاق وقال لأمي: أهلاً يا أختي، وشعرنا بالراحة. كان لكوخه جزء داخلي ضيق، فيه مدفأة حطب وسرير معدني، وما يشبه طاولة فوقها إبريق شاي وآثار طعام، وجزء خارجي يفصله عن الداخلي لوح خشبي فيه ميزان وما يباع من حاجات فقيرة، وكتب تحاذي نافذة زجاجية، ووراء الميزان صورتان متجاورتان، إحداهما بالأسود والأبيض وثانيتهما تبدو، أو بدت لي، مفروشة بالألوان. صورتان أثارتا فضول «الصبي اللاجئ»، الذي أشعره لطف صاحب المكان أن كوخه واسع المساحة والدفء معاً. لا يزال هذا الدفء يلازمني إلى اليوم، ينفذ إلى قلبي كلما تذكّرت: عيسى. كما لو كان عيسى إنساناً من لطف وسعال وحياة قصيرة وفضيلة.

نظر الصبي إلى الصورة الأولى، وسينظر إليها لاحقاً. رجل معتدل القامة على رأسه كوفية وعقال، يتدلّى من عنقة منظار، مطمئن الوجه ينظر إلى البعيد، ينظر مفكراً أو يفكّر بعينيه، هكذا بدا لي، خصره مطوّق بمسدس وبحزام من الطلقات، تساعده على التفكير، ربما، لباسه خاص به كأنه أبيض. كُتب تحت الصورة، كما سأعرف لاحقاً: شهيد القدس البطل عبد القادر الحسيني. سأكتب عنه في قادم الأيام دراسة بعنوان: المثقف المختلف، يوحّد بين النظر والممارسة، يشتق الممارسة من الصدق والنظر من الحقيقة.

صديق الفلاحين الذي لبس ما أراد وترك لعائلته الحسيبة ـ الحسيني، رداءها الأبيض، درس الكيمياء في الجامعة الأمريكية في بيروت، وزَجَرَ عميدها حين تطاول عليه وانتقل إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، ألقى الشهادة في السنة الأخيرة في وجه العميد وقال: أخذتُ من العلم ما ينفع بلادي، وهذا يكفي. ذهب إلى ألمانيا وتعلّم «صناعة المتفجّرات»، شكّلت قوام عتاده حين دافع عن القدس مع قلة من الرجال. كان عبد القادر في بيروت والقاهرة وبرلين تلميذاً مقاتلاً. زاوج بين التعلّم والواجب الوطني، وكان في دمشق، حين زارها في السادس من آذار عام 1948، قائداً عسكرياً، سخر من «قادة عرب عسكريين واسعي الألقاب»، لا يقربون الصلاة ولا الجهاد المبارك، واجهوه «بجيش الإنقاذ»، الذي لم ينقذه سلاحه ولم ينقذ سلاحه، وجابههم بسلاح الشرف الوطني الواضح الكلام. تحدّث معه «عسكريو جيش الإنقاذ المتوهّم» عن الماء والهواء والسماء والفضاء، حاورهم في معنى الوطن والعروبة والشرف والقتال، ومشى إلى القدس، يردّد شعراً صوفياً، أفرغ ما في جيبه من الطلقات والأسى، واستشهد في الثامن من آذار على أسوار القدس. رفض الملجأ «الأمين» في بغداد، كما اقترح «العسكريون الكبار» مدركاً أن أرضاً عربية لا يحرسها أحد لا تعطي الأمان لأحد.

تعلّمت من عبد القادر الحسيني أن اللقب العلمي لا يصنع وحده مثقفاً، وأن لا ثقافة في الكلام الفصيح، ولا في أهازيج الحروف المختارة، وأن الثقافة فعل أخلاقي مسؤول، لا يقترن بمثقف ضيّق الشهرة أو عريضها، يستبضعها سعيداً ويبضع ذاته بها وقد غدا أكثر سعادة. اغترب عبد القادر عن زمنه، آثر تراب الوطن ولم يرحل غريباً.

الصورة الثانية التي وقف الصبي أمامها كانت زاهية الألوان، هكذا بدت، يطفو فوقها وجه صارم الملامح، شارباه كثيفان، على معطف يختلف عن لباس عبد القادر، عيناه نافذتان فيهما ألق صعب الترجمة. سأل الصبي صاحب الدكّان: هذا أبوك؟ أجاب الرجل مبتسما: «إنه أب الجميع»، ولم أفهم ما قال. سأعرف، لاحقاً، أن صاحب الشاربين هو القائد الشيوعي السوفييتي: جوزيف ستالين، رسمه الشهير بيكاسو بمجموعة من الأقلام الملوّنة، وأهداها «لأنصار حركة السلام» بعد انتصار «الجيش الأحمر» على النازية في الحرب العالمية الثانية. داعبت تلك الأسماء ذاكرتي في فترة أيقظت فيها خيالات وأكثر من وميض، تداعت بعد زمن، صاحب التداعي ضجيج مكتبة هائلة سقطت في الهزيع الأخير من الليل على جمع من الأطفال. ماتت الستالينية منذ  زمن وخلّفت وراءها حقائق سوداء وأحلاماً كسيرة واسعة. لو أن الإنسان استخفّ بتلك الأسماء في زمن المراهقة،، لبدا قريباً من الحماقة، وإن احتفظ بها، بلا محاكمة، في زمن الكهولة، سقط في قلب الحماقة. مع ذلك، ربما كان في دفء الرجل المصدور الطويل القامة ما ثبّت في مخيلتي صورة ستالين الملوّنة، خالية من الشوائب. تأمّلت لاحقاً الفرق بين تناقضات الفكر المرهقة وبلادة الخواء المريح. كل إنسان فيه من القضية التي يدافع عنها، أكان أب ذاته أم أباً للجميع، وكان ستالين مدافعاً عن قضية عظيمة.

تقع «جويزة»، قرية «الإقامة المؤقتة»، على مرتفع من الأرض يواجه تلاً من العنب يدعى: «الفِزارة»، يصنع الإسرائيليون من عنبه اليوم نبيذاً فاخراً، بعد أن احتلوه، نبيذاً «إسرائيلي الأصل والصناعة». قرية مقسومة إلى حي شركسي بيوته مزنّرة بالورود ـ هكذا حفظتها الذاكرة ـ، لفتياته رقص جميل في المناسبات يصاحبها «الأكورديون». كان للشركس في حيّهم الشرقي بئر ماء نظيف حسنة الحراسة، تعقبها بساتين أشجار مثمرة، ولهم قطعان من الأبقار ترعى خارج القرية. يقابلها حي التركمان، بياضه من بساطة أهله وحكاياتهم الفقيرة، لهم بئر ماء مكشوفة وقطعان أغنام وبيوت ملفعة بالسواد.

كان لكل حي لغة أهله، شركسية لطرف وتركمانية لطرف آخر، بينهما لغة عربية يحادثان بها الغرباء ومعلم المدرسة الغريب، والمدرسة يتقاسمها الطرفان، ولكل طرف «مقبرته»، كما لو كان الأموات يتحدثون لغتين مختلفتين. كان أهل القرية يعرفون أن الفلسطينيين الغرباء  مسلمون، يشربون الماء ويأكلون الخبز كبقية البشر، لا أبقار لديهم ولا يرفضون تناول «الألبان». ليس لهم بياض الشراكسة ولا عيون التركمان المائلة، أصلهم غامض وعاداتهم مجهولة، وهم أربع عائلات انتسب أبناؤها إلى المدرسة الابتدائية الوحيدة.

ما زلتُ أذكر صبيّاً تركمانياً طويلاً ناحلاً، فقير القامة لا يذهب إلى المدرسة، ولا يخشى الاقتراب من اللاجئين، ويتكلّم معهم بلغة عربية مكسّرة. اقترب «حلّبرام» ـ هذا اسمه ـ من أمي ذات مرة وبيده سمكة وقال: «أنتَ بتعرف شو هدا في بلدك؟» أجابته متعابثة: «نعرفه كثيراً، نزرعه في الأرض مثل البصل ونقطفه في الشتاء ونحتفظ به لرمضان ولا نأكله إلا مع اللبن..». أعجبه الجواب وأعجب باللاجئين. وسألها من جديد: «إنتَ تعرف كمان الدبس؟». أجابته: «نشربه بدلاً عن الماء كل العام. نضيف إليه اللبن في الشتاء والسكر في الصيف». أطربه الجواب وصرخ راضياً: «من لا يحب الدبس لا يحب الله». صار يأتينا كل أسبوع بصحن من الدبس «مساعدة للاجئين»، وغدا صاحباً للعائلة.

التركماني الذي اكتشف أننا نعرف، مثله، السمك والدبس تبرّع أن يرشدنا إلى غرف جيدة الإضاءة رخيصة الإيجار، إنه «الكفيل الصادق» المزوّد بالبرهان. ساقنا إلى امرأة شركسية لا عمر لها، تتوّجه إلينا بكلمات عربية مهشّمة في ساعات الرضا، وتلتحف بلغتها الشركسية إن ساورها الغضب، فإن امتدّ وتمادى سحبت أمي من يدها وواجهتها بصورة صغيرة مذهبة الإطار وقالت: «هذا راح فلسطين وما بيرجع. ليش؟». كانت صورة قريب لها بلباسه العسكري، وسيم الوجه في الثلاثين من عمره، كتب تحتها كما سأعرف: «المقدّم الشهيد إحسان كمال ماز». حين رميت دجاجتها الوحيدة بحجر، انطفأ وجهها الثلاثيني وأخذ مكانه وجه عجوز في الستين وصرخت بأعلى صوتها: «إنتَ بيحمل أغراضك وبروح. إحسان بروح وأنتَ هون في جويزة، ليش». كان على التركماني الذي لا يخشى الاقتراب من اللاجئين أن يعثر لنا على سكن جديد. لم يقتنع بحجة المرأة، عزا الأمر إلى وحدتها، ففي ساعات غضب تخالطه المرارة كانت تطارد دجاجتها بجملة ثابتة: «إنتِ بدّك جوز، أنا عندي جوز ما في»، ثم تجهش في البكاء.

كنا نكتشف طبائع غيرنا ونكتشف صورنا في طبائع الآخرين، ونتوقف أمام فرق لم نختره ولا نستطيع تجاوزه. كشف لنا المريض عيسى صورة اللاجئ المصاب بمرض آخر، فقد وطنه واستحق عطف غيره، وأظهرت لنا الشركسية المتقلبة المزاج أننا صورة عن «ضيف لا تنقصه الوقاحة يأتي، بلا استئذان، إلى بلد هي فيه، فيما ذهب «ابنه الوسيم» إلى فلسطين ولم يرجع». الاعتراف المشار إليه كان مزيجاً من المأساة والسخرية، فغالباً ما ظن «المضيف» أننا قصدناه طواعيه، وأننا ندين له باختبار لا هرب منه، نخرج منه خاسرين. خرجنا ظافرين من اختبار الصبي التركماني «حلّبرام» بفضل الدبس، برهنا به أننا نشبهه، وأننا مثله نحب الله والدبس. جاء ذلك من كرم بساطته، قبل أن يسأل غيره إن كانت أجسامنا سوية، بلا إضافات غريبة.

التركماني الأربعيني «آدم»، الذي قادنا الصبي التركماني إليه، نصحنا بتعلّم «صيد الأفاعي»، فهو يحمي من الأذى والجوع. وجهه جاف بلسان أكثر جفافاً متكسّر اللغة، سمعنا منه جملاً قليلة وجّهها إلى أمي: «إنتَ لازم يعرف يصيد كل شيء، وكل شيء يمكن أن يصيد إنتَ». كان إذا استغرقه النظر إلى السماء، سالت من عينيه الدموع وبقي صامتاً. ذلك التركماني الذي جمع بين وجه جاف وقدرة على البكاء، كائن من طيبة وصمت وغرابة وعزلة، يعيش وحيداً، يخرج صباحاً إلى الغابة المجاورة، يعود ومعه «أفعى» مقطوعة الرأس، يشويها على نار هادئة يأكلها ببطء، في انتظار يوم لاحق وأفعى تالية.

الغرفة التي استأجرناها من «آدم» واسعة، بيضاء الجدران، كثيرة النوافذ، تتردّد عليها عصافير تثير التفاؤل: «زيارة العصافير علامة خير»، تقول أمي، كما لو عهدت برغباتها الفلسطينية إلى طيور لا تحمل البنادق ولا تنطق بوعود عابثة، لا علاقة لها «بجيش الانقاذ العربي»، الذي نصح مرة الفلاحين بالخروج من قراهم، «ليدافع عنهم طليق الحركة». اعتبر جيش الانقاذ خروجهم «المحدود» مدخلاً لخروج غير محدود، اعترف به قبل خروجه إلى معركة لن يخوضها، صار فعل أنقذ، لاحقاً، مادة لسخرية متداولة لا ينقصها التأسّي.

الغرفة البيضاء المسقوفة بالعصافير أقيمت فوق مرتفع يطلُّ على طريق قرية الجاعونة ـ قريتنا ـ وبلدة صفد، القريبتين من الحدود السورية. وكثيراً ما كانت أمي تسرّح نظرها صباحاً وتقتفي آثار طريق لن يعود بنا، عرفت تفاصيله وحفظت منه «طَلعة صفد»، يتلوها أريج البلدة ودرب يفضي إلى ضياع. عندها كان «آدم» يفرج عن ملامح  وجهه، ويفرج عن دموع تشاركه صمته ووحدته.

في تلك القرية ـ جويزة ـ دخلت إلى الصف الأول في مدرستي الابتدائية الأولى. تقع في الحي الشركسي. خمسة صفوف للذكور والإناث، حديثة البناء فوقها علم، يتلو تلاميذها نشيداً في الصباح. وللصفوف الخمسة معلم يقوم بدور المدير، يصرف ما تبقى من جهده في العناية بمظهر المدرسة و«تربية الناشئة» وتعويض التلاميذ عما فقدوه في غيابه. كان يترك المدرسة يوم الأربعاء عصراً، ويعود إليها يوم الأحد ظهراً. وكنا، نحن التلاميذ، نصفّق فرحاً لغيابه الطويل. تعلّمت من «عيسى» في كوخه الرمادي أنني لاجئ. وتعلّمت في المدرسة أن التلميذ الفلسطيني يختلف عن غيره من التلاميذ. المعلم الخمسيني المُطَرْبَشْ الدمشقي الأصول، قال في يوم الدوام الأول: «كل تلميذ فلسطيني في الصف يرفع أصبعه». شعرت بالاتهام ومسّني شيء من الخوف. رفعت أصبعي في ذاك النهار الخريفي، وظل مرفوعاً في العقود اللاجئة اللاحقة. هوّن من خوفي ثلاثة تلاميذ فلسطينيون آخرون، دون أن أقع على طمأنينة مرتاحة، ذلك أن بعضاً من الصف أوغل في الضحك بلا سبب.

المعلم المطربَش المسؤول عن «نظافة المدرسة» ـ بعد الدوام ـ كان ينادي على الفلسطينيين الأربعة في «الاستراحة» ويقول بنبرة مهيبة: عليكم قراءة تاريخ أجدادكم العرب، الذين لا يقبلون بالضيم والمذلّة. يمر على اسم «هتلر» ولا نفهم منه شيئاً، ويتبسّط ويتحدث عن «عنترة العبسي»، الذي كان سيفه يفرّق الجموع، ويتابع الكلام إلى أن يصل إلى «خالد بن الوليد»، ويسأل في النهاية: هل تعرفون غرضي من هذا الشرح؟ نرتبك ولا نقول شيئاً، يسارع فيمحو ارتباكنا قائلاً: أنتم جيل المستقبل ويجب أن لا تنسوا وطنكم فلسطين، هذه الأرض المقدسة، فنزداد ارتباكاً. حين قرأت بعد زمن: «على المعلم النجيب أن ينجب تلاميذ نجباء»، تساءلت سريعاً: من أين يأتي المعلّم النجيب؟ هل يأتي من الثناء على هتلر الذي لم نكن نعرف اسمه، أم من شجاعة عنترة، أو من سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وكيف نستعيد بالسيوف الطريق الممتد من الجاعونة إلى صفد؟ وما  العلاقة بين الأسماء الثلاثة وتلاميذ لم يتعلّموا بعد الأبجدية الأولى؟

عرفت، لاحقاً، بثبات قلق، أن التاريخ البعيد هو الحاضر، وأن معلّم التاريخ ينشر عجزه بلغة شاردة، وأن معنى التاريخ من الحاضر الذي يحيل عليه، يبدأ عاجز الأسئلة ويرتاح إلى نهاية أكثر عجزاً. لكأن المدرسة الرسمية أقامت بيني وبين كلمة التاريخ جفاء واسع المدى ، فسّرت ما يجب تفسيره، بحكايات تضع هتلر إلى جانب «سيف الله المسلول»، وتنسب الطرفين إلى زمن موحّد، يبعث على الحكايات.

علّمني الملعم المطربَش ثلاث سنوات في القرية التي سطا عليها الإسرائيليون في حرب 1967، ودعيت «حرب الأيام الستة»، صدمته سيارة عسكرية مسرعة وهو عائد إلى مدرسته متأخراً في يوم «أحد» مطير. أشفقت على مآله وعلى تلاميذ انتظروا وصول بديله أسابيع طويلة. معلم عجوز ثقيل الخطو تآلفنا مع طربوشه، وحفظنا لون «بدلته» الحائلة اللون، وكانت وحيدة.

في إقامتنا المؤقتة في «جويزة» عرفتُ غرفاً مؤقتة كثيرة، نغادرها لرطوبتها، أو تغادرنا لأن صاحبها التركماني يريد أن يزوّج ابنه، وقد نتركها لقربها من «غابة» معمورة بالسنديان وشجر البطم وحيوانات كاسرة، وبأفاع تتمدّد بلا حراك، صيفاً، كأنها سيوف قاطعة. كانت كل غرفة تحتفظ بذكرى سابقتها وتضيف إليها جديداً، وكانت الغرف جميعاً سجلاً نقرأ فيه غربتنا، واختلاف حكاياتنا عن حكايات الشركس والتركمان، ونذكر الفرق بين بيتنا القديم وغرف جديدها كقديمها، لا نعرف زمنها ولا تعترف بزمننا الفلسطيني، المشرّع على رحيل لا يتقادم، وإقامات بلا إقامة، وحيرة مستقرة.

يقال: يتعرّف الإنسان على ذاته حين يعرف من أين جاء. القول صحيح فقير الأطراف: فقد أتيت من الجليل، جليل فلسطين الأعلى، ماراً بجنوب لبنان، ثم وسطه، ذاهباً إلى شمال لبنان ومنه إلى حوران في سوريا. مُبتدأ غُربتي قرية يتقاسمها التركمان والشركس، تناثرت على جوانب الطرق المؤدية إليها خيم ودخان وبشر طيبون، تدهسهم سيارات مسرعة، وذكريات صادمة وأسئلة مؤجلة الإجابة، وحصان مختلج العينين يحتضر تحت المطر.

ما يأتي به زمن يأخذه غيره، يصالح بينهما اللجوء الفلسطيني المشبع بالتناقضات. عجوز تركمانية حريصة على ثمر شجرة توت هائلة افترش الأرض صرخت في وجهي محذرّة: «إذا كان يهودي بيطردك أنا ما بريدك كمان». لم أعرف كيف تسلّلت كلمة اليهودي إلى لسان عجوز لا تغادر بيتها، ومعلم بريء النوايا انتهى قتيلاً على قارعة الطريق حرّض صبية فلسطينيين أربعة على «إعمال السيف في رقاب العدا»، وتركماني ناشف القامة نصح أمي بتعلّم صيد الأفاعي، وصبي لا يذهب إلى المدرسة اعتبر أكل الدبس فضيلة إلهية. حجب العليل «عيسى» أمراض القرية ورحل مبكراً وشيّعته حفنة من البشر، ذات مساء، إلى مقبرة لم أدرِ إن كانت شركسية أم تركمانية. ترسبّت صورته في ذاكرتي تحت طبقات من البرد والأسى، علمتني أن بين الأحياء أموات وبين الأموات هتافات عالية الصدى.

علمتنّي قرية «جويزة» السورية مبادئ القراءة والكتابة، وأن البشر لا وجود لهم في صيغة المفرد، وأن الغربة نهج عنيف في الحياة. الغريب يكون مع الآخرين ولا يكون منهم، لهم الإقامة المستقرة وله إقامة مؤقتة، يرفع إصبعه دليل اختلافه، ويرى في اختلافه ظلماً لا تبدّده الكتب ولا أناشيد الصباح المدرسية.

لا ينتبه الطفل إلى أمه كأنثى إلا إذا اقترب منها رجل غريب. هكذا قال بريشت، مواجهاً المألوف بغير المألوف. انتبه الصبي الفلسطيني إلى غربته حين عاشر غرباء عنه لم يسقطوا في الغربة، وأدرك: أن معنى الوطن مشتق من قاموس الغربة.

ربما كان في تلك الغربة ما جعل الصبي يرى في أمه صورة عن الوطن. أم وعتها ذاكرته البعيدة وهي تنثر الحب للحمام والدجاج في دار واسعة الأرجاء، لن يراها ثانية.