رياض كامل - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/374rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:43:07 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png رياض كامل - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/374rommanmag-com 32 32 تفاصيل صغيرة ودلالات كبرى في “سبع رسائل إلى أم كلثوم” https://rommanmag.com/archives/21339 Sat, 07 Oct 2023 15:08:25 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%b5%d9%8a%d9%84-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%88%d8%af%d9%84%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d8%b1%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%84/ مقدمة يولد العمل الأدبي ويخرج إلى النور بعد أن يختمر في فكر الكاتب، وللكتابة الفنية أصول تتفاوت مستوياتها بين مؤلِّف وآخر، وبين كتاب وآخر، وذلك منوط بقدرة المبدع على توظيف التقنيّات والوسائل الفنية التي تجعل النص بعيدا عن المباشرة، ولا يتأتّى ذلك إلا بلغة ثرّة غنية بدلالاتها، قادرةٍ على إشغال المتلقي وتثوير خياله. لا أحد […]

The post تفاصيل صغيرة ودلالات كبرى في “سبع رسائل إلى أم كلثوم” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

مقدمة

يولد العمل الأدبي ويخرج إلى النور بعد أن يختمر في فكر الكاتب، وللكتابة الفنية أصول تتفاوت مستوياتها بين مؤلِّف وآخر، وبين كتاب وآخر، وذلك منوط بقدرة المبدع على توظيف التقنيّات والوسائل الفنية التي تجعل النص بعيدا عن المباشرة، ولا يتأتّى ذلك إلا بلغة ثرّة غنية بدلالاتها، قادرةٍ على إشغال المتلقي وتثوير خياله. لا أحد يعرف متى ولدت اللغة وكيف ولدت، ولكن الكل يجيد التعبير عن ذاته باللغة دون أن يجيد أسرارها ويدرس أصولها وقواعدها. أما دراسة لغة الخطاب الأدبي فعليها أن تبحث عن الانزياحات اللغوية وعن العلامات التي ترسلها وعن دلالاتها التي يجب أن يجيد المبدع في خلقها.

إن إحدى النقاط المهمة في عملية الكتابة الإبداعية هي تحويل حدث صغير إلى حدث لافت ومثير، بحيث يصبح مدار اهتمام القراء. هذا أكثرُ ما راودني وأنا أقرأ رواية “سبع رسائل إلى أم كلثوم” للروائي علاء حليحل (2023). وكان ذلك يلح عليّ كلما غصت أكثر في صفحاتها؛ كيف يمكن أن تصبح عملية تثبيت أنتينا التلفزيون حدثا هاما في رواية فنية؟ وكيف يمكن أن يصبح موضوع تربية كلب في بيت قضيةً تقودنا إلى ما هو أوسع وأعمق؟ بالأحرى كيف ينجح الروائي في استغلال حدث صغير ليجعل منه حدثا يحمل دلالات كبرى؟

سنقوم بالرد على هذه التساؤلات وعلى غيرها من خلال قراءة النص قراءة أولى وأخرى متأنّية. ولقد كان لدعوة أ. ج. كريماس إلى ضرورة عودة الناقد إلى النص، في ستينيات القرن المنصرم، صدى واسعٌ، باعتباره مستودعا للدلالات ومرجعَه الأهم. لكنّ التنظير الأدبي لا يبقى على حاله أبدا، إذ هناك دائما ما هو جديد، أو ما يضاف إلى الأقدم منه، فالانطلاق من النص وحده لم يعد بكاف لفك أسراره، فهناك إضافة إلى النص مؤلِّف له وقارئ يعمل على تأويله.

الموضوع الرئيسي/ الفكرة المركزية

اعتدنا أن نسأل وأن نتساءل حول الفكرة المركزية للنص لأن الكتابة لا تنمو إلا بعد أن تراود المؤلفَ وتلحّ عليه أفكار معينة. وبقدر ما لهذا التساؤل من أهمية بقدر ما يبدو ذلك سخيفا عند الانشغال بالإجابة التقليدية التي تحدّ النص وتقيّده بالتعامل مع الرواية كوثيقة أيديولوجية أو كوثيقة اجتماعية، لأن الأفكار، كما قيل، ملقاة على قارعة الطريق تنتظر من يلتقطها. وتصبح هذه الأفكار أكثر أهمية حين يحسن الروائي صياغتها بحيث تستفز القارئ وتثيره فيتفاعل معها؛ يتأثّر بها ويؤثّر فيها كما يقول إيزر.

إنّ عملية فهمِ الذات، وفهمِ الآخر هي من أكثر القضايا صعوبة في حياتنا اليومية، يقضي الإنسان عمره وهو يبحث عن كنه ذاته؛ كيف نبلور أفكارنا إزاء قضايا حياتية؟ كيف نربي الأبناء؟ كيف نكسب الأصدقاء؟ ماذا علينا أن نفعل كي نرضي ضمائرنا؟ ما معنى الكرامة والصدق والشجاعة؟ وما تعريف الخير والشر؟ هذه مجموعة من التساؤلات التي تتقافز في فكر القارئ أثناء القراءة الأولى للرواية، وتنبثق من جديد، وبشكل أعمق، بعد القراءة المتأنية الثانية التي ترافق عملية التأويل والبحث والتمحيص في السرد والوصف والحوار، وفي تصرفات الشخصيات، وفي حيثيات الأحداث وفي عملية الدمج بين الاجتماعي والسياسي.

تحاول هذه الرواية أن تعالج قضية الوجود الإنساني للفرد بكل مركباته وتعقيداته، وفي حقه بالحياة كما يليق به دون التعدي على حرية الآخرين، بعيدا عن التنظيرات والفلسفات قريبا من الواقع وتفاصيله اليومية البسيطة. وتظل قضية علاقة الرجل والمرأة إحدى القضايا التي تشغل الناس عامة وقد أخذت حيّزا من فكر الفلاسفة والأنبياء، فتتباين المواقف بين شعب وآخر وبين إنسان وآخر تجاهها. 

لا تميز هذه الرواية بين التحرّر من نير المحتلّ والتحرّر من ظلم الرجال للنساء من حيث المبدأ، فمن يتحرّر فكره من أغلال الظلم يرفض القبول بالمس بمبدأ العدل والعدالة. وتشرئب قضايا أخرى من خلال هذه الرؤى المتناقضة والمتصارعة، وتصبح المواقف أكثر حدة وأكثر تحديا؛ مع الحرية أو ضدَّها، مع الكرامة والشجاعة والعنفوان أو ضدَّها في كل المواقف؟ فالذي يرضى بظلم المرأة يرضى بظلم السلطة، ومن يُخفض جناحه للاحتلال يغضّ الطرف عن ضيم الضعيف والفقير. تتسرب هذه الصراعات وتدخل البيت الواحد، وتأخذ أبعادا شتى ودلالات أكبر وأوسع من مجرد خلاف بين رجل وزوجته، بل تتسع لتشمل الخلاف بين الأخ وأخيه وما يعنيه ذلك من معان وأبعاد، وما يحمل من دلالات وإشارات إلى تفكك شعب بأكمله من خلال تبني مواقف متباينة، متناحرة، متضادة ومتصارعة. وبالتالي يصبح الحدث الصغير في الرواية ليس مجرد حدث عابر بل هو رمز ودلالة إلى ما هو أكبر وأوسع. إنه خلاف في الرؤية، أعمق وأوسع من معنى الحدث المباشر، هو صراع فكري ورؤيوي، بين التخلف والتطوّر، بين الجبن والشجاعة، بين الاستسلام والتمرد، وبين الخنوع والثورة.

قد يعترض المؤلِّف وبعض القراء على مثل هذه التأويلات وذلك حقهم، ولكن أي تأويل لأي حدث يحتاج إلى قرائن، فكيف نفسر إذن موقفَ الزوجة هاجر من الاحتلال والانتفاضة، وتناقضَه مع موقف الزوج مصطفى؟ لقد كان ذلك بمثابة إشارة واضحة إلى اختلاف في المواقف وإلى خلافات تجلّت بوضوح في انقسام العائلة الداخلي وفي طريقة التعامل. ونحن إذ نتحدث عن القرائن إنما نعني قراءة النص وما وراء النص. 

الإشارات والرموز الشفافة

تقع على الناقد والدارس مَهمَّةُ “سد الفجوات” وإنارةُ النص من داخله، ولن يتأتى ذلك إلا إذا كان النص محملا بالإشارات والتلميحات والدلالات، حتى لو لم يكن المؤلف يعيها تماما، فقد يكون الكاتب الضمني أو “الأنا الثانية”، كما يسميها وين بوث، هي التي تقف وراء ذلك، ثم إن الحقيقة الوحيدة في عملية الكتابة هي ما ينتج عن التخييل، فلا يتعامل القارئ إلا معه، ولا يبحث في العمل الفني الروائي عما يحاكي الواقع، بل عما يأخذ منه دون أن يكون طبق الأصل عنه. ولنا على ذلك أمثلة متعددة: عاد الطفلان الأخَوان من المدرسة في أحد الأيام وكانت يد الأصغر، نور، متورّمة إثر ضرب مبرّح قامت به المعلمة روز، عقابا له على فعل “غير أخلاقي”، وكان الاثنان في غاية الحزن والغضب، “أزاح يزن بصره نحو الجهة الأخرى وراقب مجموعة من الشباب الذين كانوا يعلّقون على عمود الكهرباء الخشبي ورقة كبيرةً رسم عليها قبضةٌ تحمل حجرا.” (ص70)

تحمل الفقرة أعلاه إشارتين: الأولى تحفيز على الثورة ضد الظلم، وبالتالي فإن قبضة الطفل التي تورّمت بفعل ضربات المعلمة روز “التربوية” لن تستطيع حملَ الحجر والتصديَ للظالمين، كما أنّ مثل هذه “التربية” تسبب ألما جسديا ونفسيا يرافقان الطفل مدى الحياة، وقد تخلق منه رجلا خنوعا. أما الثانية فإشارة إلى أن الأحداث تدور في زمن انتفاضة الحجر التي جعلت أطفالا في مثل سن هذين الطفلين يتواجهون مع جنود والاحتلال دون خوف أو وجل. هذا المشهد الذي عرضه الراوي كان أشبه بمشهد سينمائي جانبي لافت للمشاهدين/ القراء، وبالتالي للطفل الذي ما زال يشتعل غضبا وغيظا من فعلة المربية، فبدا كأنه عملية إسقاط لما يمور في داخله. 

لا نرى أن الرواية تقوم بمعالجة انتفاضة الحجر، لكن الروائي فتح الأبواب والشبابيك على مصاريعها كي تدخل الأحداث عبرها إلى الحياة اليومية للفلسطيني هنا وهناك. وحين تتسرب روح الانتفاضة عبر هذه الفتحات فإن روح التحدي سوف تشحن الطفل ضد معلمته إذا كانت ظالمة، وتشحن الزوجة ضد زوجها إذا كان ظالما، والفقيرَ المستغَلّ ضد القويّ المتجبّر. 

لقد دمج الروائي علاء حليحل بين السياسي والاجتماعي في روايته، لكن القارئ المتأنّي قادر على التمييز بين دور كل منهما، فقد كان الجانب الاجتماعي هو الأبرز فيما فُتح الباب الخلفي لتدخل منه السياسة بسلاسة بعيدا عن الوعظ والخطابة اللذين ميزا الكثير من الأعمال الأدبية الفلسطينية. وبالرغم من أن الانتفاضة (1987) كانت الحدث الأبرز في التاريخ الفلسطيني بعد النكبة والنكسة إلا أن الروائي حافظ على الهدوء والتروي بعيدا عن التشنج والحماسة وجعل روح الانتفاضة تدخل البيوت وناسها وأزقة القرية وشوارعها.

لا يعمل الروائي على الإغراق في التلميح والإشارات والدلالات، بل نرى أنه يحافظ على مسافة جمالية من القارئ لا ترهقه أثناء عملية التأويل، لكنها في اجتماعها، معا، لها سحرها وتأثيرها نظرا لقربها من الواقع بحيث يجد القارئ نفسه جزءا من بعض هذه الأحداث، لأنها تذكّره بمواقف مشابهة، فيتماهى مع الطفل حينا ومع غيره حينا آخر. 

يقوم الراوي بعرض حادثة صغيرة هنا وأخرى هناك، ما يدعو القارئ إلى التنبّه واليقظة والاستثارة والتفكير لاستيعاب ما يجري وإدراكه بعمق، لأن الكاتب يدفع الراوي للعمل بحذر على لملمة حكايات، تبدو صغيرة وعابرة وعادية، لكنّ هذه الأحداث تتحول، حين تتراكم في ذاكرة القارئ، إلى حوافز منبِّهة للتفكير، وتشير إلى أن هناك صراعا واختلافات عميقة في فهم جوهر الحياة، من ناحية، وتعمل على كشف ما خفي من مشاعر وأحاسيس وآراء لدى أشخاص تتباين آراؤهم إزاء مواقف معينة، من ناحية أخرى. ولنا على ذلك أمثلة عدة نكتفي بالمشهد التالي: 

تقوم الأم هاجر بوصف طريقة نوم كل من ولديها نور ويزن: “استدار (نور) إلى الجهة اليسرى كما يفعل حين يهُم إلى النوم ولف يديه وذراعيه حول جسمه، واندفع ببطء نحو غفوته اللذيذة”.  وجاء في وصفها طريقةَ نوم يزن: “… لكنه لا يحتضن نفسه وقت النوم كما يفعل نور، بل ينام مثل والده: يستلقي على ظهره ويطوي رجله اليمنى إلى الأعلى ويدُه اليسرى فوق صدره”، وتضيف “أجلس على حافة السرير وأرفع اللِحاف الشتوي الثقيل حتى أعلى صدره. أود لو أسأله: لماذا تنام مثله؟ (تقصد زوجها) لماذا لا تنام مثلي كما يفعل نور؟”. (ص66) قد يتساءل بعضهم وبحق هل هذا ما يلفِت نظر القارئ الناقد؟ ما أهمية وصف هذه الأمور الصغيرة؟ ماذا تحمل هذه التفاصيل في طياتها؟ 

تتمنى الأم، كما تصرح في رسالتها الثانية إلى أم كلثوم، أنها ترغب بأن ينام ابنها يزن أيضا بنفس طريقة ابنها نور، ما يشير إلى أن هناك ليس مجرد اختلاف سطحي وشكلي، بل هو خلاف وصراع بين الزوجين لا بد أن يتكشّف وأن ينفجر في لحظة ما. ما هذه الإيماءة البسيطة سوى دلالة وجب على القارئ أن يلتقطها وأن يقوم بمتابعتها فيما يلي من السرد. 

من حق القارئ الذي يقوم الآن بمتابعة ما أعرضه من أمثلة عن هذه الإشارات أن يعترض على أسلوب “الكتابة المباشرة” لدى الكاتب! إننا نرى أن نجاح الروائي تتجلى في قدرته على التقاط هذه الصور وهذه المشاهد التي تنمّ عن حساسية مرهفة، لأن الحياة بقدر ما هي معقدة هي بسيطة أيضا، ويكمن عمقها في اجتماع هذين الضدين.

تحدث ولفجانج إيزر عن أهمية التفاعل بين القارئ والنص، وتحدث آخرون عن “أفق التوقعات”، وعن ملء الفراغات. إن ما ورد أعلاه من تأويل لهو إثبات على التفاعل بين سلطة القارئ وسلطة النص، من خلال تأثير النص في القارئ، وبالتالي تأثير القارئ في النص وإضاءته من الداخل.  إن مثل هذا التلميح لهو لبنة صغيرة من لبنات بناء النص، وبالتالي لها دورها في رسم الشخصيات وبنائها والتعرف عليها من الداخل. إذ لا يمكن للمؤلف أن يقوم ببناء الأحداث دون بناء الشخصيات في زمان ومكان معينين. فالمؤلف المبدع لا يكشف كل أوراقه مرة واحدة، بل يعمل بهدوء ورويّة وفق تخطيط مسبّق لكشف أوراقه بشكل تدريجي، فكل ورقة تميط اللثام عن زاوية معينة قد تثير القارئ وتفتح شهيته على متابعة القراءة. تفضي كل خطوة يقوم بها الراوي، الذي يحركه الروائي بالخفاء، إلى خطوة أخرى يجب أن تكون ذكية وملائمة لما يسبقها ولما يلحقها، فيتشابه المؤلف والمخرج في هذا الدور. وهكذا يمكن للقارئ أن يرسم خطين بيانين يرصد من خلالهما التحوّلات في شخصية كل من هاجر وزوجها مصطفى، وسيكتشف أن الزوجة كانت أسرع منه في تبديل رؤاها الحياتية على المستوى الاجتماعي والسياسي، وأنه تخلف عنها بعد أن عمل التراكم والكم لدى الزوجة على التغيير الكيفي والنوعي. 

دقة الوصف والتصوير وتأثيث الأمكنة

يُعنى الوصف بالطبيعة أو بالشيء أو بالشخصية ويقوم بتحويل المرئي إلى لغة. وهي عملية ليست سهلة لأنها تحتاج إلى الدقة في اختيار اللفظة الدالة التي تعنى بما وراء المرئي وبما يخدم الحدث الكلي في الرواية. وله دور هام في العملية السردية، وقد يعمل على إبطائها، أو على إيقاف الحدث، ولكنه يتحول إلى تقنيّة هامة جدا حين يحسن الروائي في توظيفه دلاليا، وبالتالي يتمكن من إتمام ما لم يقله الراوي/ الرواة، ويصبح عاملا داعما في تجنيد القارئ وتحفيزه إلى البحث عن الدلالات وملء الفراغات. 

لقد عمد الروائي إلى الوصف الدال منذ افتتاحية الرواية ففتح بذلك مجال التفكير للقارئ في محاولة فهم وإدراك دلالة هذه الصورة التي يعرضها للطفل نور. ويتابع في الفقرة الثانية من الصفحة الأولى بالوصف والتصوير وكأنه يدعو القارئ إلى ولوج النص، إيمانا من الروائي بأهمية دور القارئ في المشاركة في عملية الإبداع: “… تساءلت هاجر مبتسمة وهي تحمل دست الغسيل الكبير متوجّهة صوب الحاكورة الخلفيّة حيث الأسلاك الممدودة بحزم بين عمود عريشة الدالية الحديدي وشجرة السمّاق التي تظلّل فناء البيت، تتمايل فوقها ملاءات وأغطية بيضاء تطير عاليا وتنزل كأشرعة سفينة مُعطَّلة لا تبحر إلى أي مكان […] سحابات متفرقة، بيضاء ورمادية، تروح وتجيء بسرعة كأنها تتبع ريح كانون الأول الباردة، لا أن الريح تدفعها”. (ص10)

أقر، كقارئ، أنني لم أدرك ما يرمي إليه الراوي من خلال هذا الوصف في القراءة الأولى، لكن، وللحقيقة أيضا فقد استفزّني وأثار فيّ هواجس وأفكارا دفعتني لمتابعة القراءة والبحث عن قرينة أو قرائن تكشف كنه هذا الوصف، فوجدت أن هناك “سفينة معطلة لا تبحر إلى أي مكان” وأن هناك حدثا يناقض مسار الطبيعة حيث السحابات المتفرقة تروح وتجيء بسرعة حتى لتبدو أنّها هي التي تتبع ريح كانون الأول الباردة، لا أن الريح تدفعها. فما هي هذه السفينة؟ ولماذا لا تبحر؟ ولماذا تتبع السحاباتُ الريحَ؟ ما هو الشيء الذي أوقف عملية الإبحار؟ وما سر هذا الوصف؟ وإلام يرمي الراوي من خلاله؟ 

يكفي القارئ في المرحلة الأولى من القراءة أن يُستفزّ وأن تثور عنده هذه المجموعة من التساؤلات، ما يدل على قدرة الوصف على الإثارة وعلى دفع المتلقي إلى متابعة الكشف عن دلالاته وعلاقاته بما يتبعها من أحداث، ويمهّد للخطوة التالية التي تكشف تدريجيا عن عطل قد أصاب سفينة العائلة التي علقت في أوحال المشاكل العائلية بين الزوجين. ما يؤكد على ما ذهبنا إليه سابقا من أن الروائي يقوم ببناء الحدث وفق تخطيط مُمنهَج بحيث تستدعي الخطوة الأولى اتباع الخطوة التالية كي يكتمل البناء. 

 ربما لم يكن هذا الموضوع هو ما يشغل النقد عندنا، لكنني أرى بهذه النقطة بالذات أحد أسرار نجاح الروائي وروايتِه، فدقة التصوير وتأثيثُ الأمكنة تجعل النص قابلا للتصديق وتشي بتاريخيتها، وهي الفترة التي كان دخول التلفزيون الملون فيها إلى البيوت حديثا نسبيا، وكان التقاط المحطات يتمّ عبر أنتين يُثبّت على ظهر البيت، ويومها كان بعض الناس عندنا يشاهدون برامج محطة سعد حداد، فيما يشاهد الأطفال برنامج السنافر، وصورا لأطفال تحمل قبضاتهم حجرا. هذا فضلا عن وصف طبيعة القرية وشكل بيوتها وتلالها، وذكر بعض أنواع النباتات، خاصة السمّاق، الذي ينمو في بعض قرى بلاد الجليل الشمالي، والتوقف عند أثاثِ البيت، وعند ذكر نوع الدخان (برودوي، ص22) الذي اشتهر في تلك الفترة الزمنية. كل ذلك وغيره من توصيف دقيق يكاد يلامس الواقع هو أحد عوامل نجاح هذه الرواية. هذا فضلا عن اعتناء الروائي في اختيار الألفاظ والتعابير والجمل التي تنقل الحدث بصدق بعيدا عن الترهّل. هذه الصور وغيرها هي عملية تأثيث أشبه بعمل الديكور في العمل المسرحي. وهي مجتمعةً تجعل الفضاء يحمل هوية خاصة به، فإن كانت اللغة جزءا هاما من الهوية، فإن الفضاء الروائي هو أيضا جزء من هوية الشخصيات.

إن محاولةَ تثبيت محطات التلفزيون (ص19-23)، وما رافق ذلك من تحفّز وانفعال، وردودَ فعل الطفل، يزن، وخوفَه من والده، ويدَ أمه التي وضعتها على كتفه واقتراحَها العفوي بتقديم الكعك الأصفر الذي تحضره الجدة كي يبتعد عن والده الذي قد يلجأ إلى العنف في كل لحظة لهو أشبه بتصوير مشهد تلفزيوني/سينمائي تقوم فيه الكاميرا بالتركيز (Focus) على حركة صغيرة أو على نقطة معينة. يحمل هذا المشهد أكثر من إشارة مباشرة وأكثر من دلالة يتعرف القارئ من خلاله على شخصية الأب/ الزوج مصطفى، وعلى التوتر الذي يعيشه أفراد العائلة الأربعة: الزوج مصطفى، الزوجة هاجر، الابنان يزن ونور. فإن نجح الأب في تثبيت ألوان التلفزيون وفي التقاط بعض المحطات إلا أن أمور البيت العائلية ليست ثابتة وينتابها الكثير من الخلل والتوتر.

يقوم الوصف باللغة ولا يقوم إلا بها، وهو موضوع يستحق وقفة مطولة نكتفي هنا بهذه الإشارات التي تضيء جانبا هاما من جوانب الرواية، إذ لا يمكن أن ينجح الروائي في خلق عمل سردي فني دون أن يعي قدرة اللغة على التنويع، فلغة الخطاب الروائي ليست واحدة، إنما هي مزيج من مستويات مختلفة ومتعددة، فيها التهجين والأسلبة كما يقول ميخائيل باختين، وفيها حوارات تعكس مستوى المتحاورين الفكرية. هي بإيجاز شديد تعدد لغوي، كما هو تعدد الأصوات الذي سنأتي على ذكره في الفقرة التالية. أدرك الروائي علاء حليحل جماليات اللغة ومستوياتها المتعددة، فوظفها في الوصف فتكشّفت قدرته على التشخيص والتصوير الدقيق المطعم بالدلالات والإشارات، وكتابة بعض المشاهد شبه المسرحية، وهذه نقطة تحتاج هي أيضا إلى وقفة في مناسبة أخرى، وكأني به يقوم بتحويل الرواية يوما ما إلى عمل مسرحي

الرسائل: صوت آخر

يسيطر صوت الراوي المشرف الكلي على عملية السرد عبر الضمير الثالث (هو)، وإن كان يفتح الباب في بعض المواقع لصوت الأنا، ما يتيح للقارئ التعرفَ إلى عدد لا بأس به من الشخصيات التي تتحرك على مسرح الأحداث، فيتسع عالم الرواية ليشمل مناطق أوسع وحكايات أكثر ومواضيع متشعبة. تتسرب الأحداث وتعقيداتها وتدخل بيوتَ الناس فتطفو على السطح قضايا عائلية ومشاكل زوجية وتناقضات متناحرة في الأفكار والمواقف.

وتبرز رسائل سبع ترسلها الشخصية المركزية، هاجر، إلى أم كلثوم تُضمِّنها همومها ومشاغلها ورؤيتها في الكثير من الأمور الفكرية، فتتكشَّف أسرارها التي تجهلها شخصيات الرواية، وبالتالي يصبح القارئ أكثر معرفة، بخفايا نفسها وهمومها وهواجسها، مما تعرفها الشخصيات الروائية. ويبرز صوت آخر داخلي، إضافة إلى صوت الراوي الرئيسي، فيه اعترافات ستظل طيّ الكتمان، فلا تتردد في الكشف عن خفايا النفس وأسرارها بصدق وشفافية بما يشبه كتابة المذكرات أو الاعترافات. 

تحمل هذه الرسائل رؤى فلسفية لا تبدر إلا عن صاحبة تجربة عميقة في الحياة، تدل على شخصية مثقفة ذاتِ فكر عميق، ما يثير تساؤلا هاما حول مدى تلاؤم هذه الرسائل مع حقيقة شخصية هاجر: هل هذه الرسائل تعكس صوتها أم تعكس صوت الروائي؟

يرى الباحث أن الروائي يعمل على توظيف لغة تميل إلى الدقة في التصوير، كما ذكرنا، تجعل الراوي أكثر حياديا، وقد انعكس ذلك بوضوح في السرد والوصف، وفي الحوار بشكل خاص بحيث تتحدث كل شخصية بلغتها. هذا ما جعلَنا نتساءل حول “صوت” هاجر ومدى تلاؤم هذه اللغة بما تحمله الرسائل من رؤى وآراء تجعلها بعيدة عن شخصية هاجر ابنة القرية التي يتعرف إليها القارئ عبر تصرفاتها في أكثر من موقف، وقد تابع القارئ التحولات التراكمية في شخصية هاجر وقرارها بالانتقام من المعلمة روز، وترددها، في البداية، في اتخاذ قرارات أخرى تخرجها مما هي عليه من ألم نفسي، حتى صدر قرارها النهائي بالتحرر من ذاتها، بعد أن آثرت الصمت والكبت فترة طويلة من الزمن. فإن كانت تصرفات هاجر تكشف عن شخصية مترددة بعض الشيء، ومسالمة نوعا ما، بالذات أمام زوجها، إلا أن الرسائل كشفت عن مكامن نفسها دون مواربة، من ناحية وكشفت عن سيدة تتصارع مع أوجاعها وآلامها النفسية، وعن فكر فلسفي رؤيوي يجافي ما عهدناه في تصرفاتها.

يكاد القارئ يلين قليلا تجاه الزوج مصطفى، وهو يرى تحولات جذرية في تصرفاته تجاه زوجته وولديه في الداخل، وتجاه الواقع السياسي العام في الخارج؛ يعيد الكلبَ لابنه، يُحضِر هدية ثمينة وذات معنى للزوجة، ينقل الحجارة لأهل جنين في انتفاضتهم ضد الاحتلال، وتظل هاجر عند موقفها الذي اتخذته مؤخرا، لا تتزحزح عنه قيد أنملة.

يطّلع المتلقي على التحولات المتأخرة في شخصية الزوج مصطفى من خارج الرسائل السبع. أما صوت هاجر الحقيقي فلا تبوح به بوضوح وشفافية وإصرار، كما عبّرت عنه في الرسائل، وكأنها كانت عامل تثوير وتحفيز على المواجهة مع الزوج دون تأتأة. يأتينا صوتها واضحا يكشف عن ألم في النفس عميق كان قد نخر العظام منذ سنين بعيدة، وسيظل ينخر أعمق وأصعب إن هي استمرت في نفس الطريق كما صرّحت في رسالتها السابعة.

لكن مصطفى الزوج لم يستطع الاستمرار في مسيرة “التحرّر” التي بدأها متأخرا، بعد أن اعتاد أن يكون رجلا “مسالما” يرضى بالواقع لأن الكفّ لا تقاوم المخرز. وما قيامه بإيصال الحجارة إلى شباب الانتفاضة في جنين إلا خطوة كان يمكن أن تكون مباركة وحقيقية لو اقترن بالقبول مبدئيا بتحرّر الأنثى من حمى العادات، إذ سرعان ما بخّ ما في قلبه دون أن ترمش له عين: “شو بدك أعمل؟… نسيتِ إنّه أنا الوحيد اللي اتطلع عليك؟!”. (ص253)، وعاد إلى حقيقته. وما كان عليه أن يحاول إرضاء ابنه بهذا الشكل الاستحواذي، بعد أن غرز في قلبه أشواكا أدمت أحاسيسه ومشاعره الطفولية، وكأنه يدخل معركة ليدخل منها منتصرا. فكيف يمكن للأب أن ينتصر على أطفاله؟! وما معنى أن ينتصر الرجل على زوجته بحجة كونه رجلا وهي أنثى؟!

كنا نتمنى لهذا الصوت الداخلي أن يحمل جينات هاجر وهويتها، كما تعرّفنا عليها على مدار صفحات طويلة من النص، ولكن القارئ، بالرغم من ذلك، يتعرف من خلال هذه الرسائل السبع، كما ذكرنا، على جوانب ما كان ليعرفها لولا بثها إلى “سومة” بوضوح ودون تردّد. وتظل الرسائل تقنيّة هامة وظّفها الروائي علاء حليحل لولوج العالم الداخلي للشخصية المركزية يتصدى لصوت الراوي العليم.

خلاصة

قام الروائي بالربط بين الأيديولوجيا السياسية وبين الفكر الاجتماعي بسلاسة، ما يحيلنا إلى فكرة أن الجزء أحد مكونات الكل، بحيث لا نستطيع أن نقوم بتفكيك النص دون أن نقوم بجمعه كوحدة كلية مترابطة، فكل جملة فيه هي مكون من مكوناته الكلية. وقد وجدنا أن الروائي يرسم ويخطّط ويبني وفق استراتيجية مدروسة؛ كل فقرة تمهد لما تليها، وكل مقولة لها تتمة في موقع آخر من الرواية.

تمكن النص الروائي أن يتشظّى وأن يحمل أكثر من رؤية وأكثر من فكرة، فقد رأينا انحيازا للمرأة تجعل القارئ يتساءل: هل هي رواية نسوية؟ سؤال ينبثق بقوة أثناء عمليتي القراءة والتأويل. وهل الرواية النسويّة هي التي تكتبها فقط أنثى؟ 

تسعى هذه الرواية إلى التصريح بصوت جهْوَريّ لا يقبل النقاش بأن القضايا الاجتماعية لا تقلّ أهميّة عن القضايا السياسية. فإن كان حق تقرير المصير لشعب معين هو حق لا مراء فيه، فإن حق أي إنسان، امرأةً كانت أو رجلا، في اختيار المصير، وفي اختيار المسار الذي يلائم المشاعر والمبادئ والأحاسيس لا مراء فيه أيضا. فلا يمكن للمرء أن يرفض الاحتلال وأن يرضى، في الوقت ذاته، بالضيم ضد المرأة. ولا يمكن لمن يعمل في التربية بأن يسمح بالعنف ضد الأطفال. فالحرية كلمة واحدة ذات مضمون واحد ولا تتجزأ إلى مجموعة حروف لكل منها معنى خاص، ولا تناسب وضعية دون الأخرى.

إن الأمور التي نراها صغيرة في حياتنا اليومية ليست كذلك حين نفكر فيها بعمق، لأن حياة البشر لا تسير بصورة رتيبة ولا هي صيرورة واحدة. هي مزيج من أكوان وألوان، وفيها البساطة والطيبة، إلى جانب الحزم والشدة، وفيها لغات عدة تتلاءم مع وضعيات مختلفة، ومع أصوات متعددة. فالإنسان ذاته مزيج من مشاعر وأحاسيس؛ يضحك ويبكي، يغضب ويقهقه، يفرح ويحزن. لقد نجحت الرواية أن تخلق كل هذا المزيج، لكنّ الدخول في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة بالذات هي التي ساهمت في خلق صور متكاملة ناضجة تجعل القارئ يتغاضى عن هفوات يجب أن تضيع وأن تتلاشى في خضم جماليات هذا الخطاب الروائي الذي أبدع فيه علاء حليحل، وتدفع بالمتلقي إلى غض الطرف عن بعض الرسائل الفلسفية التي أبطأت سير الحركة السردية، نوعا ما، وحمّلت الشخصية المركزية، هاجر، أكثر مما تحتمل من مواصفات.

The post تفاصيل صغيرة ودلالات كبرى في “سبع رسائل إلى أم كلثوم” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
اللغة والمكان والزمان في الرواية الفلسطينية https://rommanmag.com/archives/21212 Wed, 03 May 2023 08:58:02 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%83%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%85%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84/ مقدمة من الطبيعي أن يتأثّر الأدباء الفلسطينيون بالصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية التي يخوضها شعبهم وأن ينشغلوا بها، خاصة وأن تاريخ المنطقة العربية حافل بالأحداث الكبرى التي كان لها انعكاسها وتأثيرها على انتشار الأمية وتقليص دور الكتاب والأدباء، حتى حدثت المواجهة المباشرة مع الغرب، وما تلا ذلك من تحولات على جميع المستويات، في عموم العالم العربي. […]

The post اللغة والمكان والزمان في الرواية الفلسطينية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقدمة

من الطبيعي أن يتأثّر الأدباء الفلسطينيون بالصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية التي يخوضها شعبهم وأن ينشغلوا بها، خاصة وأن تاريخ المنطقة العربية حافل بالأحداث الكبرى التي كان لها انعكاسها وتأثيرها على انتشار الأمية وتقليص دور الكتاب والأدباء، حتى حدثت المواجهة المباشرة مع الغرب، وما تلا ذلك من تحولات على جميع المستويات، في عموم العالم العربي. لسنا هنا بصدد استعراض تاريخ هذه المنطقة، لكن الجميع يعلم أن الشعب العربي قد فقد السيطرة على الحكم في بلاده مئات السنين، وأنه خضع لحكم العثمانيين أربعة قرون (1516-1917)، مما سهّل من وقوع البلاد العربية مباشرة تحت الاستعمار الأوروبي، وتقسيمها بين هذه الدول، حال سقوط الدولة العثمانية. وكان من حظّ فلسطين أن تقع، وفق هذه التقسيمات، تحت سيطرة بريطانيا التي دخلتها وهيمنت عليها مدة ثلاثة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى حلول النكبة (1948)، تحت مسمى “الانتداب”.

تصدّى الفلسطينيون، منذ البداية، لهذا الواقع الجديد، خاصة بعد أن تكشّف لهم مشروع سايكس بيكو (1916) وتصريح بلفور (1917) وما يحملانه من مخاطر تهدّد وجودهم فوق أرضهم. وقد تزامن ذلك مع مواجهتهم الحركةَ الصهيونية، التي رأوا فيها حليفا للانتداب البريطاني وامتدادا له. 

لا تتغيا هذه المقالة دراسة نشأة الرواية الفلسطينية ولا تتبّع مسيرتها، ولا التوقف عند تأثير كل حدث عليها بشكل مفصّل. إن معظم الإنتاج الأدبي العربي الفلسطيني ارتداد لهذا التاريخ الطويل وبالذات للاستعمار البريطاني والصراع العربي اليهودي الذي أسفر عن النكبة (1948) والنكسة (1967). زعزع هذان الحدثان عالم الفلسطيني الداخلي، فكان اللجوء إلى الفن، عامة، بدافع تعمير الروح، وزرع الأمل رغم الألم وإثبات الوجود الفلسطيني: تاريخه، حضارته، تراثه، أعلامه وفنونه على اختلافها. وكان للشعر دور أكثر فاعلية من دور الرواية في مراحل الصراع الأولى، نتيجة تخلّفها عن الشعر آنذاك. 

مرت الرواية الفلسطينية، شأنها شأن الرواية العربية، مرحلة مخاض حتى وصلت مرحلة النضوج، كما بيّنا في دراستنا الموجزة “الرواية الفلسطينية- مرحلة النضوج“، ممثلة بما أنتجه جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني وإميل حبيبي. قام بعض الدارسين بتقصي الرواية العربية الفلسطينية ومعاينة بعض الإنتاجات التي تلت أعمال هؤلاء الثلاثة، لكن معظم هذه الأعمال، على أهميتها، لم تف هذا التطوّر حقه. شغل هذا الأمر، ولا يزال يشغل الكثير من الباحثين والدارسين الذين قدّوا أبحاثا عميقة تعالج التقنيّات الحداثية التي يوظفها الروائيون، ولكنها لم تخرج برؤية شمولية، ربما لكثرة الإنتاجات الروائية في العقدين الأخيرين، مما يتطلب فترة من الزمن لاستيعاب هذه التحوّلات.  

تعدّت الرواية العربية الفلسطينية تلك المرحلة، وظهر عدد من الروائيات والروائيين الذين أخذوا على عاتقهم تطويرها عبر اعتمادهم تقنيّات فنية حداثيّة، إثر اطلاعهم على الرواية العربية والعالمية، وتوسيع رقعة الثقافة في ظروف مغايرة عما سبق، تسهّل عليهم عملية متابعة المُنجزات الكلاسيكية والحديثة في دنيا الرواية. كما بات الروائي الفلسطيني أكثر وعياً بتاريخه القديم والحديث، يسعفه في ذلك وفرة الدراسات التاريخية والفلسفية والفكرية التي تضيء له عتمة الطريق التي رافقت الفلسطيني حقبة طويلة من الزمن. 

يلاحظ الدارس أن الرواية العربية الفلسطينية ما زالت تعالج النكبة والنكسة وحيثياتهما، حتى وإن تبدّل المكان والزمان، ويرى أن للانتفاضتين، أيضا، حضوراً لافتاً في عدد من الأعمال الأدبية الفلسطينية على اختلاف أجناسها. كما يبدو للقارئ جلياً، أن الرواية الفلسطينية لم تتوقف يوما عن زرع الأمل بـ “حق العودة” حتى بعد مرور سبعة عقود ونيف. لم تصدر هذه الأعمال عن حنين إلى الماضي وحسب، بل هي دراسة لواقع الإنسان العربي الفلسطيني الذي يعيش تبعات التشرّد والتشتّت. ومن اللافت فعلا أن هذه الروايات، وما يتعلق بها من أبحاث، لم تصدر عن الأدباء والباحثين الذين عايشوا تلك الحقبة فقط، بل تعدّتها إلى من ولدوا بعدها، سواء عاشوا داخل الوطن أو خارجه.

إنّ الأيديولوجيا المحفزّة للأديب العربي الفلسطيني نابعة من التهديد الفعلي لكيانه. وهو لا يبني قلقه على فرضيات محتملة، لأن رؤيته تقوم اعتمادا على تجربة عمرها أكثر من قرن، ذاق مرّها ولا يزال، فكان ذلك محرّكا ودافعا للأدباء في مواجهتهم أهمَّ القضايا المؤرّقة. ولو ألقينا نظرة على الأدب الفلسطيني، منذ أكثر من قرن، لوجدنا أنّ معظمه أدب عقائديّ مؤدلج يعمل على ترسيخ الرؤية الفلسطينية. 

لتوضيح هذه الأيديولوجيا فقد اخترنا إبراز تجلياتها في الرواية الفلسطينية من خلال اللغة والمكان والزمان. فاللغة هي وعاء للوعي الإنساني، وهي جزء هام من هوية الشعوب، ومرآة فكرية واجتماعية تعكس قيَمهم وحضارَتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وتجاربهم. أما المكان، بالنسبة للإنسان، فهو الحيز الجغرافي الحميم الذي يؤثّر فيه ويتأثّر به، فهو البيت والقرية والمدينة والشارع والحقل. أما الزمن فهو ذلك العنصر الذي لا نراه ولا نلمسه، لكننا نتبيّن تأثيره في حياة الإنسان، في كل ما يدور حوله. لم يكن الزمن عاملا داعما للفلسطيني منذ عقود، لأنّ الواقع مؤلم جدا؛ لغة في خطر، مكان تتشوّه صورته، بفعل تهجير أصحابه وتغيير معالمه، وشعب يبحث عن لقمة عيشه، وواقع سياسي واجتماعي وأدبي نتحدث فيه عن “فلسطينيي الداخل”، و”فلسطينيي الـ67″، و”فلسطينيي الشتات”. ومع ذلك فإن الفلسطيني ما زال يحلم بترويض الزمن وليّ رقبته وتغيير مساره.

إنّ الرواية خطاب سردي رحب، قادر على الاتساع لأكثر من أيديولوجيا واحدة. فقد تحدث ميخائيل باختين في دراساته وأبحاثه عن الرواية المونولوجية، ذات الصوت الواحد التي تحمل أيديولوجيا الكاتب دون غيره، وعن الرواية الديالوجية/الحوارية التي تشمُل صراع الأيديولوجيات، وحياديّة الكاتب. ومن أجل تحقيق ذلك يرى “أن مؤلف الرواية المتعددة الأصوات مطالب لا في أن يتنازل عن نفسه وعن وعيه، وإنما في أن يتوسّع إلى أقصى حد وأن يعمّق إلى أقصى حد أيضا، في إعادة تركيب هذا الوعي، وذلك من أجل أن يصبح قادرا على استيعاب أشكال وعي الآخرين المساوية له في الحقوق”. (باختين، شعرية ديستويفسكي، ص97)

ويشير الباحث والمنظر جوزيف شتيرن في مقالة له بعنوان “حول الأدب والأيديولوجيا” إلى أن الزمن الذي كنا فيه لا نقبل القصيدة السياسية قد ولّى وانقضى “فإننا اليوم في عصر إضفاء الصبغة السياسية والأيديولوجية، إذا لم يكن على الأدب فبالتأكيد على تحليل الأدب”. (جوزيف شتيرن، ص12) ويضيف “بأن الأعمال الأدبية يمكن – طبقا لطبيعتها – أن تتحدّد زمنيا من الناحية اللغوية، بمعنى أنها لا بدّ أن تبين الوضع اللغوي والبعد الاجتماعي والزمني لمكان منبعها الأصلي. فكل عمل أدبي له “كلامه parole” الذي يتحدث به”. (المصدر السابق)   

ويقول الباحث شكري عزيز الماضي إن البعض قد رأى “أن الفن جزء من الأيديولوجيا في التحليل الأخير… لذلك كثيرا ما اتهم هؤلاء الأدباء الذين يتّبعون هذا المنهج بالدعاية والمباشرة، واتخاذهم الفن وسيلة لنشر الأيديولوجيا، وهي أمور تنأى بهم عن ميدان الفن”. (الماضي، ص142) ويضيف: “وعلى الرغم من ذلك فإن للفن استقلالية نسبية”، ويرى أيضا “أن الانطلاق من أيديولوجيا محددة للحياة والإنسان، ومفهوم للفن، تجعل رؤية الفنان أكثر عمقا وشمولية وتماسكا، لأن مثل هذه الأيديولوجيا يمكن أن تكون سلاحا بيده، يساعده على تشريح الظاهرة التي يعالجها”. (المصدر السابق) فهل ننظر اليوم إلى العمل الأدبي المؤدلج نظرة سلبية؟ وهل نقبل كل ما هو مؤدلج لأنه يحمل رسالة “أخلاقية”؟ وهل كل ما هو مؤدلج يروق لنا، ويتناسب مع خصوصيتنا الفلسطينية؟ فكم من شاعر مدح ظالما، وكم من أديب بجّل قاتلا!

نعلن بداية أننا نحاول طرح قضية محددة هي قضية خصوصيات اللغة والمكان والزمان في الرواية العربية الفلسطينية التي تحمل عقيدة فكرية سياسية تنهل من واقع الإنسان الفلسطيني الذي عانى، ولا يزال، من التشرد والتشرذم والتشتّت، ونعلم أن هناك روايات ودراسات كتبها “الآخر” تروّج لعقيدة مغايرة، بل ومناقضة للعقيدة السياسية الفلسطينية، حتى ليبدو أنّ الصراع العقائدي قد انتقل من قسم السياسة والإعلام إلى قسم الأدب. يقوم الأدب الفلسطيني، في جميع أجناسه، بمحاولة التصدي لرواية الآخر، ونشر الرؤية العربية الفلسطينية، فكان من الطبيعي أن تتميز عن غيرها لأنها تعكس تجربة خاصة. 

اللغة

يقول جونتر كريس وروبرت هودج في دراستهما “اللغة كأيديولوجيا “language as Ideology”: إن الفرد يكتسب لغته من خلال مجتمعه، فتساعده على التأقلم معه والعيش فيه. وهي منغمسة فيه، بوصفها الوعي العملي لهذا المجتمع. (عزالدين إسماعيل، ص42) وبالتالي فإنها وسيلته في التعبير عن أفكاره وعن وعيه ببيئته، وعن الصراعات الفكرية والعقائدية. وبما أن الفلسطيني يواجه خصما ينفي حقّه في المكان والزمان فإن الوعي الفلسطيني مشغول بكينونته ووجوده، فكان من الطبيعي أن يعبّر عن ذلك بلغة مشحونة بهذا الصراع الوجودي. 

يعتبر كثير من المفكرين أن اللغة هي وِعاء للأفكار، ويرى آخرون أنها أداة التعبير عن الأفكار. مهما يكن من أمر فإن اللغة هي جزء هام في تكوين هوية الإنسان الفكرية وبلورتها، تعبّر عن آرائه وتعكس مستوى تفكيره ومشاغله، وكأن لكل فرد هناك خصوصيات معينة تعكسها لغته. ولقد شغلت قضيةُ اللغة العربَ قديما فكتبوا فيها دراسات هامة تستأهل العودة إليها وتطويرها، كما بيّنتُ في دراسة بعنوان “اللغة العربية بين التأصيل والحداثة” (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص35-59). 

يقدّم الغرب منذ فترة طويلة من الزمن الكثير من الأبحاث في شتى المجالات الأدبية واللسانية، ومن هؤلاء الباحثين الذين نلجأ إلى دراساتهم المنظر الروسي ميخائيل باختين الذي تحدث عن تعدّد اللغات وتعدّد الأصوات، وقد أوجزها الباحث المغربي محمد برادة بقوله: “ليست اللغة – النسق ذات البنية الثابتة، وإنما اللغة – الملفوظ – الكلمة – الخطاب، المُحمَّلة بالقصدية والوعي والسائرة من المطلقيّة إلى النسبية، والتي تبتعد عن دلالة المعجم لتحتضن معاني المتكلمين داخل الرواية، فتكشف عن أنماط العلائق القائمة بين الشخوص، وعن القصدية الكامنة وراء كلامهم وأفعالهم”. (برادة، مقدمة كتاب الخطاب الروائي لباختين، ص16) هذا التوصيف أعلاه الذي لخّص فيه برادة نظرية باختين حول اللغة تعني لنا الكثير أثناء دراسة دورها في الخطاب الروائي، باعتبارها لغة ذات مواصفات خاصة تحمل هوية المتكلمين بها وتعكس نظرتهم إلى الحياة، بناء على ما مرّوا به من تجارب. وإننا لنعلم أنّ الشعب الفلسطيني، قد مر، ولا يزال، بتجربة فريدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والتاريخي، مما يفرض خلق طرائق تعبير لغوية تعكس هذه التجربة الفريدة القاسية.

يُعتبر المنظر الدانماركي لويس هيلمسلاف من أهم دارسي “نظرية اللغة”، يستهلّ كتابه “حول مبادئ نظرية اللغة” بتعريف لافت يقول فيه: “اللغة لا تفارق الإنسان بل تتبعه في كل أعماله. اللغة أداة يشكل الإنسان بها تفكيره وإحساسه، ومزاجه وتطلعاته، وإرادته وأفعاله؛ هي الأداة التي بواسطتها يؤثّر ويتأثّر”. (هيلمسلاف، ص11) نعي تماما أن هذا التعريف قديم، وعمومي يناسب الإنسان حيثما كان وأينما كان. لكننا حين نعيد النظر فيما جاء فيه، وفيما جاء من أقوال المنظرين والباحثين الذين أتينا على ذكر بعض أقوالهم أعلاه، فإننا نرى مدى التحام اللغة بالإنسان عامة وبالفرد خاصة، فهي تعبّر عن “مزاجه وتطلعاته وإرادته وأفعاله”، وبالتالي فإنها تحمل خصوصيات الفرد أو الأفراد، أو الجماعة بناء على التجارب الحياتية. ولما كان الشعب الفلسطيني صاحب تجربة مؤلمة وفريدة وطويلة فقد أخذ اللغةَ إلى مضماره الخاص، وصبغها بتجربته فحملت ختمه وفرادته.  

تقودنا هذه المقدمة إلى خصوصية الشعب الفلسطيني الذي يتعرض، منذ سنوات طويلة إلى عملية إقصاء، ليس عن أرضه فقط، بل عن فكره، وعن المكان والزمان. ولذلك فإن الدارس المتمعّن يجد أن الأديب العربي الفلسطيني قد طوّر لنفسه لغة تحمل هويته دون بقية العرب في شتى الأقطار العربية. لغة تعكس قلق الفلسطيني وهمّه، من ناحية، وحبه للحياة وأمله بقادم أفضل، من ناحية أخرى. فكيف تجلى ذلك في الأعمال الروائية؟

 تجافي اللغة الأدبية معانيها المعجمية المألوفة لتتشظى وتتفتّق عن معانيَ مبتكرة. ولو بحثنا في معاجم اللغة عن معنى “نكبة” أو “نكسة”، أو “انتفاضة”، على سبيل المثال، فسنرى أنها ليست ذاتها كما هي في ذهن الفلسطيني، ولا تحمل هذه المفردات في معاجم اللغة ما تحمله من دلالات وإيحاءات عند الفلسطيني. يرى الكاتب محمود شقير، المولود سنة 1941، أن قاموسه اللغوي بدأ يتسع في طفولته لتدخلَه كلمات جديدة مثل كلمة “لاجئ”: “في تلك الأشهر المربكة وما بعدها بسنوات؛ دخلت قاموسي اللغوي كلمات جديدة من بينها كلمة “لاجئ”، وذلك بعد تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وقيام دولة الاحتلال الصهيوني”. (شقير، تلك الأزمنة، 2022، ص13) لا نقصد باللغة الفلسطينية المفردات التي ترد في النصوص المكتوبة والمحكية وحسب، بل نقصد الخطاب في مفهومه الواسع. ولو عدنا إلى الفقرة القصيرة أعلاه لرأبنا كيف أنها انعكاس لواقع فلسطيني جديد أحدثته النكبة؛ الرعب والإرباك والخوف والتشرد و”دولة الاحتلال الصهيوني”.

اللغة لصيقة بالمكان والزمان وقد قيل الكثير عن خشونة اللغة العربية الجاهلية وتأثرها بالصحراء، لكن الدراسات لم تتوقف عند هذه النقطة بالذات لأنها برأيي ليست عادلة، ما يفرض إعادة النظر في بعض تلك المقولات، فقد عكست اللغة حياة العربي عبر عصور التاريخ واستطاعت أن تتأقلم مع المكان والزمان؛ لفظا وإشارات ودلالات وطرائق تعبير. وكان من الطبيعي أن تستجيب لتبدلات العصر وأن تعكس مجموعة القيم والمفاهيم الفكرية والأخلاقية والعقائدية وحتى الجمالية. فقد تحدثت جميع الشعوب عن جمال المرأة، لكنها في أشعار العرب القديمة لها خصوصياتها التي لا تتشابه مع المواصفات الجمالية لدى شعوب أخرى، وبالتالي ليست ذات الجماليات في أشعار نزار قباني، على سبيل المثال، فقد لخّص الأعشى بعض جمالياتها في بيت واحد:

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها                    تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

وقد وجدنا في شعر امرئ القيس وفي شعر طرفة بن العبد معالم جمالية أنثوية أخرى يمكن للباحث أن يعود إليها متى شاء، ولكن المرأة الفلسطينية لم تجد أجمل من “نوار العلت” (الهندباء) تصف فيه سحر عيني صديقة ابنها، كما نبيّن في دراستنا رواية محمد علي طه “نوار العلت” (2021)، “أن تكون عربيا في دولة اليهود”. (انظر الدراسة لاحقا) وبالرغم من أن هذه الرواية، بالذات، تدور أحداثها في جامعة حيفا، وفي ظل اتفاقية أوسلو وما يتلوها من أحداث ونقاشات، إلا أن الأديب محمد علي طه لم يتمكن من الإفلات من سلطة الحقل يفتتح به روايته، بلغة لا يمكننا إلا أن نسميها لغة فلسطينية قروية فلاحية يمتزج فيها الحاضر بالماضي بكل إشكالياتهما وتبعاتهما وما يتمخض عنهما؛ الحفاظ على الأرض والعرض، والتشبث بالحقل الموروث عن الآباء والأجداد.

قد يقول قائل إن العرب عامة متساوون في ذلك، فنجيب إن في هذا الاعتراض الكثير من الصدق والكثير من الصحة، وقد يضيف بعضهم إن هذا الأمر تشترك فيه كل الشعوب المقهورة أو المحتلة أرضها. لكن تبقى للفلسطيني خصوصيته لأنه الوحيد، حتى الآن، الذي لم يُقم دولة وكيانا رسميا فوق أرضه، ولم يحصل حتى الآن إلا على “شبه كيان” تنقصه كل مقومات الدولة. وما زال همّه الأول الحفاظ على المكان وعلى الذاكرة وعلى متابعة الصراع من أجل الحفاظ على قيمه وعاداته وتقاليده وأفكاره ومعتقداته: الدينية والسياسية والاجتماعية، يسعفه في ذلك موروث لغوي غني يحمل خصوصيات هذه المرحلة القاسية. فقد فتح الآخر عليه نيران العقيدة الدينية التي تستوحي معتقداتها من “كتب مقدسة” ترى أن هذه البلاد له منذ الأزل، وأنها سلبت منه منذ ألفي سنة وقد عاد إليها منذ سبعة عقود ونيف ليبني “بيته” من جديد. 

بناء على ما قيل أعلاه نعاود التساؤل مرة أخرى ما دور الكلمة؟ وهل ذلك يعني أن الفلسطيني قد خلق لذاته لغة أدبية مغايرة عن اللغة العربية الأم التي يتحدث بها ملايين العرب، ويكتبون بها أدبهم؟ 

لقد رأى المنظر الروسي ميخائيل باختين أن لكل فرد في الرواية لغة متفردة به إذ قال: إن “المتكلم في الرواية” هو دائما صاحب أيديولوجيا. وهو يرى أيضا أن لكل شخصية من شخصيات الرواية صوتَها. وقد أيّده في ذلك بعض المنظّرين والباحثين ممن جاؤوا بعده بفترة قصيرة، بل ومنهم من تابع في تطوير هذه الرؤية مثل المنظر بيير زيما، الذي طوّر هذه الفكرة وذهب أبعد من ذلك حين قال إن للتوقيت الزمني تأثيرا على اللغة، فلغة الصباح ليست نفسها لغة المساء، على سبيل المثال. وبالتالي فإن لغة المهجّر والمسلوبة أرضه والمهدّد بالترحيل والموت في كل لحظة لن تكون لغة المستقرّ الذي ينعم بالسلام والهدوء والسكينة، ولن تكون لغة رومانسية بقدر ما تكون لغة محرّضة تدعو إلى الصمود والثبات والتحدي، لغة تشتق مفرداتها من المعاناة ومن جوف الأرض، ومن ألم الفراق وحلم العودة. 

لا يمكننا أن ننسى أو نتناسى ما جاء به المنظر السويسري وعالم اللغة فرديناند دي سوسير الذي يُعتبر واضع أسس النظرية السيميائية الذي ميز بين “اللغة” و”الكلام”: فاللغة برأيه نظام له قواعده وأصوله الخاصة وأنه نسق (نظام) مستقل يتخذه أبناء اللسان الواحد للتواصل فيما بينهم، أما “الكلام” فهو من خلق المبدع، يتلاعب به ويحرفه عن أصوله، أي هو إنجاز فردي. نحن من الذين يعتقدون أن لكل فئة من الناس “كلامها” (parole) الذي يحمل هويتها وهمومها وأفراحها، ويعبر عن مستوى أفكارها، كذلك لكل شخصية داخل العمل الأدبي هناك اللغة الخاصة التي تميزها عن غيرها. وبالتالي يصبح لكل شخصية داخل الرواية لغتها وصوتها. وهنا يأتي دور المبدع الذي يخلق الرواية وشخصياتها وفضاءها وزمنها. فإن تمكن الروائي من أن يخلق رواية ديالوجية فإنه بذلك يكون قد أعطى شخصيات روايته حرية التحرّك، وأبعدها عن تخوم الرواية المونولوجية. وهذا ما نادى به ميخائيل باختين ومن أيده من منظرين فيما بعد. 

يستطيع قارئ الرواية الفلسطينية أن يرى أنها خلقت لنفسها لغة خاصة بها، تعبّر بواسطتها عن هموم الشعب الفلسطيني وعن أفراحه وصراعاته في مواجهة الآخر. وقد وجد بعضهم، بحسّهم المرهف، أن اللغة الفلسطينية مهددة بالضياع، في ظل لغة أخرى تنافسها في الحياة اليومية، وفي ظل مستجدات مفاجئة وسريعة، فذهبوا إلى اللغة العربية “العتيقة” وعملوا على صيانتها، كما فعل بالذات محمد نفاع في رواية “فاطمة”، فلم يجامل القارئَ الحديث، وسار باتجاه إقامة مشروع كبير؛ الحفاظ على اللغة العربية الفلاحية الفلسطينية، حتى ليبدو لقارئ اليوم أنه يقرأ لغة قد اختفت. يعمل محمد نفاع على إقامة مشروع أيديولوجي عمدته الرئيسة الحفاظ على “هوية اللغة ولغة الهوية”، إيمانا منه بأن ضياع اللغة يعني ضياع الهوية. (انظر: كامل، دراسات في الأدب الفلسطيني، ص71-96). وقد ساهم بعضهم في الحفاظ على الموروث الشعبي الفلسطيني وتراثه، ولنا على ذلك أمثلة عدة في إنتاج كثيرين نذكر منهم في مجال القصة والرواية محمد علي طه، ومحمد نفاع، وطه محمد علي، (شاعر وقاص) ويحيى يخلف، وإبراهيم نصرالله ورجاء بكرية التي تنبهت إلى ذلك فقامت في رواية “عين خفشة” (2014)، بتوظيف النواح الفلسطيني وبعض الأغاني الشعبية المنبثقة من واقع الفلسطيني المعذّب. (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص174-187)

تجاوبت اللغة مع خصوصيات الرواية العربية الفلسطينية وعكست صراع الفلسطيني وألمه والحروب التي خاضها؛ رافقت المقاتل في كل مكان، وصوّرت الانتكاسات والمواجهات المتحدية التي تجذّر الانتفاضة الأولى والثانية، على سبيل المثال، وتابعت حزن الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، وجذّرت غناء الفلسطيني ونواحه وأناشيده الشعبية القديمة والحديثة. إنّ كل ما قلناه يبقى في إطار التقديم ينقصه التطبيق من خلال تناول هذه المنجزات الروائية. وقد قمنا بذلك في أكثر من دراسة لنا. لكننا نؤكد أن هناك ما يميّز كل رواية عن غيرها، رغم التشابه في المواضيع. 

يمكننا القول بأن معظم الروايات الفلسطينية اهتمت باللغة التي تصور العالم الخارجي وتأثير ذلك على داخل الإنسان الفلسطيني، لكننا اليوم نقف بإزاء إنتاج روائي وقصصي فلسطيني يبدأ من الداخل، من أعماق النفس ليخرج إلى الفضاء بكل مركباته، لأن الوعي بمكنون النفس لدى الروائيين وكتاب القصة، عامة، بات أكثر عمقا، ما يدفعنا إلى متابعة ذلك، ربما في دراسات لاحقة.   

المكان 

لن ندخل في دراسة جماليات المكان في الرواية الفلسطينية بقدر ما نتناول خصوصياته فيها، مع علمنا التام أن هناك فرقا بين مفهومي “المكان” و”الفضاء”، نتغاضى عن ذلك مدركين أن “الأمكنة جزر في الفضاء، جواهر [أفراد]، أكوان صغرى منفصلة”، داخل الفضاء حسب تعبير جورج بولي. (نجمي، ص44) ونحن إذ نقوم بالتفريق، عنوة، بين عنصري المكان والزمان فإننا نعي أنهما مترابطان جدا، لا يسير أحدهما دون الآخر، لكنها ضرورة يمليها البحث، كما نعي تماما أن اللغة هي حاضنة مجمل عناصر الخطاب الروائي، ونعلم أن “الفضاء الروائي، مثل المكوّنات الأخرى للسرد، لا يوجد إلا من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز”. (بحراوي، ص27) ولقد قمنا بدراسة حول لغة خطاب الروائي يحيى يخلف، ووقفنا عند الفروق بين لغتي الخطاب في روايتيه “نجران تحت الصفر”، و”بحيرة وراء الريح”، فوجدنا أن الأولى تعكس أجواء نجران في ظل الحرب الأهلية اليمنية وحيثياتها، والثانية تصور الفلسطيني وهو يواجه شبح الاقتلاع من الوطن، عشية النكبة وما تلاها بقليل، وبينا كيف أن اللغة تستجيب لتبدلات المكان والزمان وتعكس لغة الناطقين بها ومستوياتهم الفكرية، حتى حين يكون المؤلِّف هو نفسه لأكثر من عمل أدبي. (للتوسع انظر: دراسات في الأدب الفلسطيني، ص29-69)

عمل الروائيون الفلسطينيون على تأصيل المكان وتثبيته وتجذيره في الذاكرة بوسائل عدة وطرائق مختلفة، فقد رأوا بأمّ العين ما يتعرض له من تزييف وتغيير وتبديل في معالمه، وعانى قسم كبير منهم من فقدانه بعد النكبة، فعمدوا إلى توثيق أسماء المواقع، كما كانت عليه من قبل، بدءا من “فلسطين” مرورا بأسماء القرى والمدن، وامتدادا إلى أسماء الحارات والشوارع والأزقة وقسائم الأرض، وأنواع الأشجار والنباتات والطيور، كما تجلى في مجمل أعمال الأديب محمد علي طه القصصية والروائية والمسرحية. (انظر: كامل، الواقع والتخييل) وفي أعمال كل من الأدباء إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، إبراهيم نصرالله، محمد نفاع، يحيى يخلف، عاطف أبو سيف، محمود شقير، طه محمد علي، دعاء زعبي خطيب، رجاء بكرية، سعاد العامري وغيرهم. وفي أعمال كثير من الشعراء وكتّاب القصة القصيرة الفلسطينيين.

كما قام بعض الروائيين بإطلاق أسماء أماكن جغرافية عينية على رواياتهم مثل “عائد إلى حيفا” (1969) لغسان كنفاني، و”رأيت رام الله” (1997) لمريد البرغوثي، و”بحيرة وراء الريح” (1991) للروائي يحيى يخلف في إشارة إلى بحيرة طبريا، هذا فضلا عن تخصيص مدن وقرى فلسطينية لتقوم فيها أحداث الروايات في أزمنة متعددة. فقد جعل يحيى يخلف من مدينة يافا، نهاية القرن الثامن عشر، مركزا للأحداث في روايته “راكب الريح” (2016) حتى يكاد القارئ أن يرى بحرها وسورها وسوقها وبيوتها، وناسها يتجوّلون في شوارعها ويتنقّلون في أزقتها، ويشموّن شذا برتقالها، وأن يرافق البطل يوسف وهو ينمو ويكبر وتتبلور شخصيته في ظل يافا ومحيطها وبيئتها. كما يستطيع القارئ أن يرافق أبطال الروايات والقصص الفلسطينية وهم يتحركون في مدن فلسطين الكبرى مثل يافا والقدس وحيفا وعكا والناصرة، ويتعرف إلى مرافقها ومسارحها وبيوتها، وإلى مركّبات فضاء القرية العربية الفلسطينية، فتستثير حواسه كلها، وكأنه يشمّ رائحة ترابها ويشرب من عيون مائها ويرى صورة وجهه في مياه سواقيها الصافية، ويتسلق جبالها ويقطف ثمار أشجارها. فقد عملت الروائية سعاد العامري، على سبيل المثال، على توثيق ملامح بعض المدن والقرى، وأهم عادات أهاليها في روايتها “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” (2022) التي “تدور أحداثها المركزية في مدينة يافا، وتمتد فتطال مدينتي اللد والرملة وبعض القرى المجاورة، وذلك منذ سنة 1947، وحتى السنوات الأولى من خمسينيات القرن المنصرم. يطّلع القارئ على أهم الأحداث التي عصفت بمدينة يافا، المدينة الأهم في فلسطين آنذاك، وحالة الحصار التي تعرضت لها من المنظمات اليهودية المسلحة، وتمدُّد حركة الاستيطان اليهودية والسيطرة على مرافق الحياة، بشكل تدريجي، حتى يكون التهجير والضياع والتشتُّت”. (انظر: الواقع، التأريخ والتخييل في رواية “بدلة إنكليزية وبقرة يهودية” لاحقا)، ويكاد القارئ يلامس معالم حيفا والقدس وما طرأ عليهما من تحوّل جراء بدء الهجرة اليهودية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في رواية “علي- قصة رجل مستقيم” (2017)  للكاتب حسين ياسين: “هناك في الأفق البعيد الأبعد، في عمق المخيلة، في تلافيف الوجدان، القدس العبوسة، الضاحكة، الوقورة، الصابرة. في القدس شمم المجد وشموخه، أصالة التاريخ وعظمة الحكمة، أنبياء وقضاة.

أتخيل شارع الأنبياء، حيث سار الملوك والقضاة والأنبياء. واليوم يسير فيه الجنود والكولونياليون وصيارفة وزناة. بيوتها الجميلة غدت خرائب هدّمها إعصار وحدّبتها الكراهية…”. (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص141-165، الرواية، ص15) 

ومن الروائيين من لجأ إلى العجائبية والغرائبية والفانتازيا ليعيد إحياء المكان بعد أن بات بعيدا بقدر ما هو قريب، وقريبا بقدر ما هو بعيد. فقد تغيّرت معالمه ولم يعد بالإمكان إعادته إلى ما كان عليه من قبل، قرى محيت من على وجه الأرض، وأخرى فقدت شكلها، وبيوت مهجورة فارغة من سكانها الأصليين. يرى الباحث فاضل ثامر أنه من الصعوبة بمكان تصوير الواقع العربي الحالي بأساليب قديمة واقعية تقليدية لما فيه من تعقيد وضغوط وإحباطات متلاحقة “ولذا يسهم البعد الغرائبي أو الفانتازيّ في مواجهة حالة القهر الإنساني اللامعقول عن طريق توظيف الخيال واختراق سكون السطح الواقعيّ”. (ثامر، ص 87) 

إن تجربة الإنسان الفلسطيني عبر أكثر من قرن تبدو أكبر من أي واقع، لذا فإن توظيف الفانتازيا والعجائبي والغرائبي تساهم في كشف المقموع والمسكوت عنه. فقد قامت الأم العجوز في رواية “ظلال المفاتيح” (2019) لإبراهيم نصرالله ببناء قريتها المهجّرة بواسطة الحجارة، ينضم إليها أبناء قريتها في مواجهة تفوق الواقع حتى بدا للجنود الإسرائيليين أنهم يحاربون ظلالا ففروا هاربين. وذهب إميل حبيبي باتجاه المفارقة المرة ممزوجة بالفانتازيا والعجائبية في روايته المتشائل (1974) وهو يرى الطنطورة تختفي كليا إلا من الخيال، وعمد إلى أسماء المدن والقرى والمواقع فثبّتها ورسّخها، على ما كانت عليه، بعد أن استبدلتها إسرائيل بأسماء أخرى. كما أضاف مكانا آخر إلى عالم الرواية الفلسطينية لم يكن قد اهتدى إليه الروائيون من قبل، حين أنقذ بطل الرواية من الخازوق ونقله من عالم الأرض إلى عالم الفضاء.

أولت الرواية العربية الفلسطينية المكان أهمية قصوى نظرا لما له من أهمية في وجدان الفلسطينيين حتى بات في نظرهم الفردوس المفقود، والجنة المنتظرة. لم تتنازل الأم في رواية “الجنة المقفلة” (2021) للكاتب عاطف أبو سيف عن حلمها بحق العودة فعمدت إلى مائدة الطعام تنضّدها وتفرش فوقها شرشفا خصيصا للقاء المرتقب الذي سيجمع جميع أفراد العائلة، لكنها تموت دون تحقيق أمنيتها، فانتقلت الراية إلى الابن الأصغر. لقد جعل أبو سيف من يافا فردوسا مفقودا، ومن مخيماتِ غزة مكانا حميما وحضنا دافئا يعيش أهلها متآلفين، تجمعهم لهفة لا تفارق الوجدان بالعودة إلى الجنة (يافا) التي تعشّش في ذاكرة أهلها من كبار السن، الذين لم يتوقفوا يوما عن غرس محبتها في وجدان الأبناء والأحفاد. (انظر لاحقا: “الجنة المقفلة”، إنعاش الذاكرة وتثويرها”)

لقد تعدّى المكانُ الجغرافيا وجاوزها في المفهوم الجاف، وتحوّل إلى عامل كيان ووجود يحرك المشاعر ويثير الانفعالات. من هنا نرى إلى العمل السردي الفلسطيني ودوره في عملية توثيق المكان. لقد عمد الروائيون الفلسطينيين إلى تأثيثه بكل ما يلزم كي يأخذ صورة حية تكاد تلامس الواقع، تتنقّل فيه الشخصيات وتبنى فيه الأحداث، حتى ليبدو، في بعض الروايات، وكأن القارئ يتابع مشهدا سينمائيا، تنتقل فيه عين الكاميرا بين مركبات المكان من شجر وحجر وبشر وأزقة وطير وحيوان، حتى يغدو المشهد أقرب إلى صورة حية تكشف عن علاقة الفلسطيني بالمكان الذي افتقده، وكأنه بذلك يستعيده من جديد. 

إن دافع توثيق المكان في الرواية الفلسطينية ليس بهدف “البكاء على الأطلال” فهو أعمق من ذلك بكثير، لأنه بيت الطفولة، وبيت العائلة الذي كان يمنح ساكنه شعورا بالأمن والأمان، فكان فقدانه حدثا قاسيا زعزع كيان الفلسطيني وهزّه من الأعماق، فأعاد إحياءه بكل تفاصيله. لقد انتقل المكان مع أصحابه المهجّرين فأطلقوا أسماء مدنهم وقراهم على شوارع المخيمات وأحيائها، سواء في الواقع، أو في الأعمال السردية على اختلافها.

لقد حمل الروائيون المغتربون صورة للوطن في الذاكرة، فكانت العودة صادمة حين شاهد بعضهم ما تعرّض له البلد من تشويه، وهو المغروس عميقا في الوجدان، وعبّروا عن صدمتهم مما آلت إليه صورته وهويته. يعود الراوي في رواية “رأيت رام الله” (1997) للكاتب مريد البرغوثي إليها، فيصعق من تبدل حالتها، وقد وجدها محمية بسلاح المحتلّ الإسرائيلي، فقام بتلخيص هذا الواقع من خلال جملة وردت في الرواية: “نجحت في الحصول على شهادة تخرجي وفشلت في العثور على حائط أعلق عليه شهادتي”. أما جبرا إبراهيم جبرا فإنه ينقل معه الوطن على ظهر سفينة في روايته “السفينة” (1970)، بعيدا عن اليابسة التي عاد إليها المغترب في “رأيت رام الله”. 

نستطيع اليوم أن نجزم أن الروائي الفلسطيني قد استفاد من تجارب سابقيه من الروائيين العرب وغير العرب، ومن وفرة الدراسات التي تتحدث عن المكان ودوره في الرواية، بعد ترجمة أعمال بعض المنظرين إلى اللغة العربية، وصدور بعض الأبحاث عن جماليات المكان. فقد كان التعامل مع المكان يقتصر على صورته الطوبوغرافية والجغرافية. أما اليوم فإن معظم الروائيين الفلسطينيين يعون دور المكان في دلالاته وحميميته، وعلاقته بساكنه وفاقده في آن معا، وبتنا نرى أن توصيف المكان في الرواية الحديثة يتعدى الجغرافيا نحو الداخل، وكأن الروائي يعيد بناء المكان المفقود بتفاصيله ومركباته من ناحية، مع الوعي التام بأبعاده النفسية والوجدانية من ناحية ثانية. 

الزمان

يعتبر ميخائيل باختين في كتابه “أشكال الزمان والمكان في الرواية” أن الزمن هو السابق للمكان، رغم أهمية العنصرين، ويرى أننا لا نستطيع أن نفصل بينهما، من هنا قام باجتراح مصطلح “الخرونوتوب” (الزمكانية). لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد والتفكير لنكتشف مدى احتفاء الرواية العربية الفلسطينية بالزمن إطارا للأحداث تتحرك فيه وتبنى وفق محطات تاريخية مصيرية. ربما كان هذا الاحتفاء في بداياته بالفطرة، دون الاطلاع على الدراسات الفلسفية التي بحثت هذا الجانب. إنه الشعور الداخلي الذي يحرك المشاعر، بالذات حين يرى الفلسطيني أن الزمن يسرق منه بيته وكيانه وأمنه وأمانه، ويبدّل معالم المكان حتى بات غريبا عنه. 

يؤمن الباحث أن الروائيين الفلسطينيين أكثر وعيا، اليوم، بأهمية التأطير الزمني الذي يربط الرواية بأحداث كان لها تأثير جذري في سيرورة الفلسطيني وصيرورته فيمنحها المصداقية والواقعية، وبالتالي تتحرك الشخصيات وتتبلور الأحداث ضمن هذا الحيز التاريخي. 

يشعر الإنسان عادة بتحولات الزمن من خلال تبدّلات المكان وما عليه من جامد ومتحرك. فالمكان جسد وشكل وهيئة نلمسه في كل حين، نتأثّر به ونؤثّر فيه، ونُعمل فيه كامل حواسنا. أما الزمن فهو عنصر خارج إطار الحواس، يتحرك بشكل دائم، وتتبدّل وفقه الحياة بكل مركباتها. لقد كتبت حول الصراع معه أساطير عدة تبيّن ضعف الإنسان في مواجهته، بحيث تحوّل إلى عامل ترهيب لقدرته على التحكّم به وسلبه عمره. ولأنه قادر على قهرنا فهو “غدار” و”ماكر” و”مخادع”. 

لقد اجتمعت عوامل عدة على قهر الفلسطيني منذ عشرات السنين، إذ لا يمكننا الحديث عما آلت إليه أحواله دون العودة إلى المسبّبات. ولما كانت مأساته كبيرة وقاسية ومؤلمة وممتدة على فترة طويلة فإن ذلك يملي على الباحث عدم الاكتفاء بنظرة أفقية دون النظرة العمودية، ولا يجوز الاكتفاء بالتوقف عند عامل الزمن دون ربطه بعوامل داخلية وخارجية تعمل كلها، معا، على تحديد المصير. والأديب، عادة، صاحب فكر ورؤية يدرك أن تصوير الحاضر دون الماضي يجعل الطرح سطحيا يمس بالقشرة فقط دون الغوص في العمق. لذلك عمد الروائيون العرب والفلسطينيون، على حد سواء، إلى العودة إلى الماضي البعيد والقريب، يستلهمون منه العبر بهدف رسم مسار يستفيد فيه من دروس الماضي.

أدرك بعض الروائيين العرب، منذ انطلاقة الرواية العربية الحديثة، إلى أن هناك حاجة ماسة وملحة لتعليم العربي تاريخه كي يبلور لنفسه هوية حديثة تتناسب مع العصر وتستفيد من الماضي، للوقوف في وجه الحملة الغربية على عموم الشرق العربي، التي تعمل على تزييف تاريخ العرب، حضارتهم، وثقافتهم، فكانت روايات جورجي زيدان التاريخية رائدة في هذا المضمار. قام بعضهم بتقليدها والبعض بتطويرها، بعد أن كان قد سبقهم إلى ذلك روائيون أوروبيون مثل وولتر سكوت في إنجلترا، وتولستوي في روسيا وألكسندر دوما الأب في فرنسا الذين أدركوا أهمية التاريخ في تكوين الهوية الفكرية.

استشعر المثقفون الفلسطينيون، هم أيضا، ضرورة العودة إلى الماضي وتوثيقه عبر أعمال أدبية وفنيّة تساهم في بلورة كيانهم، وفي التصدي لرواية الآخر الذي يعمل، بكل ما لديه من وسائل، على نشرها وترسيخها، فعادوا إلى محطات هامة توقّفوا عندها، وكتبوا روايات عدة عن النكبة والنكسة والانتداب البريطاني والاحتلال العثماني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. 

لقد كتب غسان كنفاني رواياته “رجال في الشمس” (1963) و”ما تبقى لكم” (1966) و”عائد إلى حيفا” (1969) و”أم سعد” (1969) وغيرها من الإبداعات يعالج فيها النكبة والنكسة وأبعادهما على الإنسان الفلسطيني، وهو الذي جرّب هاتين الهزيمتين وذاق مرهما طفلا ويافعا وشابا. وكذلك فعل إميل حبيبي الذي عايش أهم التطورات التاريخية في فلسطين؛ الانتداب البريطاني، النكبة، النكسة، حرب أكتوبر (1973) وأحداثا هامة أخرى حتى تاريخ وفاته (1996)، وذلك في “سداسية الأيام الستة (1968) التي اعتبرها كثيرون رواية، رغم أنها مجموعة قصص قصيرة، لكن ترابط الزمن فيها وطرحها موضوعا واحدا هو النكسة (1967) وتبعاتها المباشرة في “توحيد” الشعب الفلسطيني وتحقيقه حلم “العودة” “بفضل” الاحتلال. تابع حبيبي برنامجه الأدبي والفكري في مجمل إبداعاته، وخاصة في روايته الشهيرة “المتشائل”، حيث يجترح أسلوبا جديدا في السخرية يبيّن من خلال تلك المفارقات، على اختلافها، ما جناه الواقع الجديد على الفلسطيني الذي بقي بعد النكبة.

شارك هذين الأديبين أدباء فلسطينيون آخرون كتبوا في كل الأجناس الأدبية، متأثّرين بهذين الحدثين الأصعب (النكبة والنكسة)، في تاريخ الشعب الفلسطيني، ومنهم من توقف عند الانتداب البريطاني يستغلون ما دار من أحداث ممهّدين الطريق لما سيحدث لاحقا، وقد برز بعضهم في مجال الرواية، نذكر منهم، وبجدارة، الروائي جبرا إبراهيم جبرا، في روايتيه اللتين، كتبهما قبل النكبة، باللغة الإنجليزية: “صراخ في ليل طويل” (1946)، التي أعاد كتابتها باللغة العربية سنة 1955، ورواية “صيادون في شارع ضيق” (1960) التي ترجمت هي الأخرى إلى العربية (1974). لم يكتف جبرا بمعالجة النكبة والنكسة فقط كما بينّا في مقالتنا المرفقة في هذا الكتاب “الرواية الفلسطينية – مرحلة النضوج”، بل تابع مع غيره في الكتابة عن “حق العودة”. 

وكان إسكندر الخوري الببيتجالي من قبل قد تطرق في روايته “الحياة بعد الموت” (1920) إلى حياة العربي في ظل الدولة العثمانية وما يكابد من ظلم، (انظر: الرواية الفلسطينية – مرحلة النضوج). كما نشر في نفس السنة الكاتب الصحفي خليل بيدس رواية “الوارث” (1920) التي تدور أحداثها في مصر عشية الحرب العالمية الأولى. (للتوسع انظر: أبو حنا، ص102-117) كما صدرت رواية “مفلح الغساني- أو صفحة من صفحات الحرب العالمية”، (سنة 1931؟) للكاتب الصحفي نجيب نصار (1865-1948) التي يشي اسمها بزمانية أحداثها، وهي مثار نقاش حتى اليوم، نترك الخوض في ذلك لمناسبة أخرى. 

لقد توقفت الروايات الفلسطينية، كما ذكرنا عند أحداث مفصلية في التاريخ الفلسطيني، سواء عاصر الروائي هذا الحدث أو لم يعاصره، إذ ما زال الفلسطيني يعاني من تبعات النكبة والنكسة. لا يمكننا معالجة رواية “الجنَّة المقفلة” الصادرة حديثا (2021) للروائي عاطف أبو سيف (ولد 1973)، على سبيل المثال، دون الرجوع إلى سياقها التاريخي الذي يؤطّر العمل، فالأحداث المركزية في الرواية هي وليدة هذين الحدثين المفصليين وما تلاهما من أحداث، وتأثيرهما على الصعيد العام والخاص”. (انظر: “الجنة المقفلة- إنعاش الذاكرة وتثويرها” لاحقا) 

يميل الأدب الفلسطيني إلى التوثيق الزمكاني، ويرى الأدباء والمفكرون الفلسطينيون أنه لن تقوم للفلسطينيين قائمة، ولن يتمكنوا من تحقيق أحلامهم وحقّهم في إقامة دولة إلا من خلال قراءة تاريخهم وإدراكه إدراكا شاملا وعميقا، وذلك من خلال فهم الثابت والمتحول. فالثابت هو الحق في عرفهم، ولكن الزمن يتحوّل ويتبدّل، وهو دائما في حركة لولبية بين صعود وهبوط، ولا يسير في اتجاه واحد. فمن يدرس التاريخ يرى أن المتحرك أكثر من الثابت. من هنا يرى الأدباء الفلسطينيون أهمية الزمن في أعمالهم السردية وبالذات في العمل الروائي، فالرواية عالمها واسع، وهي قادرة على الوقوف عند التحولات الزمنية؛ أسبابها، دوافعها، حيثياتها ونتائجها.

لا يمكننا الحديث عن الرواية الفلسطينية دون الإشارة إلى تجربة الروائي إبراهيم نصرالله التي تمتد أحداث رواياته على فترة زمنية طويلة جدا، ففي روايته “قناديل ملك الجليل” (2012) يعود بنا إلى عصر ظاهر العمر (1689-1775) ويتوقف عند تجربته الفريدة في حكم جزء كبير من فلسطين، وفي روايته “زمن الخيول البيضاء” (2007) يسلّط الضوء على أحداث هامة تعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولا إلى منتصف القرن العشرين تمهيدا للنكبة. ومن اللافت في تجربته تخصيصه بعض رواياته للفن ودوره، بهدف مواجهة الرواية الصهيونية التي تنفي وجود شعب عربي فلسطيني له تاريخ وحضارة وتراث، كما فعل في “ثلاثية الأجراس” (2019) حيث يبرز دور المصورة الفلسطينية الأولى كريمة عبود.      

لقد تبيّن لنا، من خلال قراءتنا الرواية الفلسطينية، بشكل جلي، مدى عنايتها بالتوثيق الزمني، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي رواية “عائد إلى حيفا” تكاد الرواية تتجه في بعض مواقعها نحو الواقع أكثر مما هو نحو التخييل بحيث نعثر على ذكر تواريخ عينية دقيقة مثل: “صباح الأربعاء، 22 نيسان، عام 1948. كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئا”. (عائد، ط4، 1987، ص15). يلعب الزمن دورا بارزا فيها بحيث لاحظنا أن الكاتب يفتتح الفَقرات الأربع الأولى من الرواية بظرف زمان: “حين وصل سعيد س إلى مشارف حيفا” […] “منذ غادر رام الله في الصباح” […] “طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم” […] “ظهر يوم الثلاثين من حزيران، 1967”. (ن، م، ص9، 10) هذا التأطير الزمني الدقيق يعطي القارئ إحساسا أنه يقرأ وثيقة تسجيلية. 

تمكّنت الرواية العربية الفلسطينية من تغطية مساحة زمنية واسعة بدءا من العصر العثماني مرورا بالانتداب البريطاني وصولا إلى النكبة والنكسة والانتفاضة الأولى والثانية. لم تتوقف الروايات عند الماضي البعيد أو القريب، بل هناك روايات تعالج قضايا الصراع الأيديولوجي العربي اليهودي في أيامنا هذه مثل رواية “نوار العلت” للكاتب محمد علي طه، وجوبلين بحري للكاتبة دعاء زعبي خطيب، وهناك من الروايات التي توثق لأحداث المواجهة المسلحة في السنوات الأخيرة مثل رواية “الحياة كما ينبغي” (2022) للكاتب أحمد رفيق عوض، التي تحاكي ما يحدث في هذه الأيام من مواجهات بين مقاتلين فلسطينيين وجنود إسرائيليين، ورواية “أرجوحة من عظام” (2022) للكاتب وليد الشرفا التي تتحدث عن المواجهة بين مقاتلين فلسطينيين، وجنود الاحتلال الإسرائيلي داخل كنيسة المهد التي لجأ إليها المقاتلون. 
 

الخلاصة والمراجع في الصفحة التالية… 

The post اللغة والمكان والزمان في الرواية الفلسطينية appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الرواية الفلسطينية ومرحلة النضوج https://rommanmag.com/archives/21197 Wed, 12 Apr 2023 13:01:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%85%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b6%d9%88%d8%ac/ مقدمة عني الكثير من الدارسين بتقصّي الحركة الأدبية الحديثة في الكثير من الأقطار العربية. يهمّنا في هذا السياق أن نشير إلى ثلاث دراسات رائدة وهامة في مجال نشأة الرواية العربية الحديثة وتطورها وهي: كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870-1938” (1963) للباحث المصري عبد المحسن طه بدر، كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد […]

The post الرواية الفلسطينية ومرحلة النضوج appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
مقدمة

عني الكثير من الدارسين بتقصّي الحركة الأدبية الحديثة في الكثير من الأقطار العربية. يهمّنا في هذا السياق أن نشير إلى ثلاث دراسات رائدة وهامة في مجال نشأة الرواية العربية الحديثة وتطورها وهي: كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870-1938” (1963) للباحث المصري عبد المحسن طه بدر، كتاب “تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام 1870-1967”. (ط1، 1980) للباحث الأردني إبراهيم السعافين، وكتاب “الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950” (2000)، للباحث الأردني ناصر الدين الأسد. يمكن للراغب في الاستزادة قراءة كتاب “محاضرات في الشعر الحديث في فلسطين والأردن حتى سنة 1950، لناصر الدين الأسد (ط1، 1961، ط2، 2009). هذه الكتب قادرة على تزويد القارئ بمعلومات هامة حول نشأة الرواية العربية الحديثة في مصر وفي بلاد الشام كلها.

إن من يتتبّع مسار الرواية العربية الحديثة، عامة، اعتمادا على المصادر أعلاه وعلى غيرها من الدراسات الجادة، يجد الكثير من التشابه بين مراحل نشأتها وتطوّرها في العديد من الأقطار العربية. ففي مصر يتحدث الباحثون عن ولادة الرواية العربية الفنيّة الأولى “زينب” (1913) للكاتب محمد حسين هيكل وما سبقها من إرهاصات، وما تلاها من محطات هامة حتى وصلت الرواية المصرية مرحلة الاكتمال والنضوج. (كامل، ص13-23) وفي سوريا يتحدث الدارسون عن المراحل والإرهاصات التي سبقت نشوء الرواية الفنية السورية الأولى “نهم” للكاتب شكيب الجابري التي صدرت سنة 1937 وما تلاها من محطات هامة حتى وصلت هي الأخرى مرحلة النضوج. (كامل، ص25-34) 

لو قمنا بتتبّع مسار الرواية في فلسطين لوجدنا أنه لا يختلف البتّة عن مسارها في كل من مصر وسوريا. يعتبر الباحثون أن روايتي “الوارث” الصادرة سنة 1920 للكاتب خليل بيدس، ورواية “الحياة بعد الموت”، التي صدرت هي الأخرى سنة 1920 للكاتب إسكندر الخوري البيتجالي، أول روايتين فنيّتين فلسطينيتين. بدأ البيتجالي كتابة روايته أثناء الحرب العالمية الأولى وفرغ من كتابتها سنة 1918، ولكنها لم تصدر في كتاب إلا سنة 1920. (ابو حنا ص93)، وقد أهداها لابنه جورج: “ولدي جورج، يوم ولدت ولد كتابي هذا…11 تموز 1920”. (انظر: البيتجالي، ص3) أما خليل بيدس فقد نشر القسم الأكبر من روايته في مجلة “النفائس العصرية” سنة 1919، ثم صدرت كاملة عن دار الأيتام السورية في القدس سنة 1920. (ابو حنا ص93) وقد سبقتْ هاتين التجربتين تجاربُ أخرى لم ترق إلى المستوى المطلوب. 

تكاد المصادر كلها تُجمع على أن الرواية العربية الفلسطينية بلغت مرحلة النضوج على يد جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)، إميل حبيبي (1921-1996) وغسان كنفاني (1936-1972). يرتبط هؤلاء الثلاثة، ببعضهم البعض ارتباطا عضويا، نظرا لما لهم، معا، من دور هام في دعم وتدعيم أسس الرواية العربية الفلسطينية. فقد قدّم كلٌّ منهم، من موقعه الأيديولوجي والجغرافي، رؤيا خاصة ساهمت في ترسيخ وتأصيل هوية الفلسطيني الذي عاش تجربة خاصة به، هي تجربةُ التهجير والتشتّت، والحرمان من الطفولة ومن البيت، ومن حق العودة وإعادة بناء العائلة على المستوى الخاص والعام. حظي الثلاثة باهتمام النقاد والدارسين في الشرق والغرب، وترجمت أعمالهم إلى عدة لغات. سنحاول في هذه العجالة الوقوف عند أهم ما قدم كل منهم بشكل موجز، تاركين مجال التوسع للأبحاث العديدة التي تناولت إنجازاتهم، وهي عديدة ومتنوعة.

جبرا إبراهيم جبرا

نال جبرا إبراهيم جبرا شهرة واسعة في العالم العربي، وتُرجمت أعماله إلى عدة لغات. فقد عرف بسعة اطلاعه على الثقافات الغربية، فقام بالدمج بينها وبين ثقافته الشرقية في أعماله الروائية. لقد تسنى له أن يطّلع عن كثب على الأدب الإنجليزي، منذ سن مبكرة، فكان ذلك بمثابة كوة ينطلق منها إلى الغرب وحضارته، فوظّف في كتاباته الأساليب والتِّقنيّات الغربية الحداثية التي عرفها عن قرب من خلال دراسته الأدب الإنجليزي، بدءا من الكلية العربية في القدس التي دأبت على تدريس الأدب الإنجليزي للطلاب، وبالذات مسرحيات شكسبير، ثم دراسته اللغةَ الإنجليزية في أحسن الجامعات الإنجليزية التي وصلها بفضل تميُّزه ونجاحه في مدرسته، فأُرسل في بعثة تعليمية إلى هناك (1939) ونال شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي، مما أهّله لكتابة روايتين باللغة الإنجليزية: “صراخ في ليل طويل” (1946)، التي أعاد كتابتها باللغة العربية سنة 1955، ورواية “صيادون في شارع ضيق” (1960) التي ترجمت هي الأخرى إلى العربية (1974). 

عمد جبرا إلى توظيف تقنيّات رواية تيار الوعي، والتناص والإحالات إلى الكتب المقدسة، وخاصة الإنجيل، فضلا عن توظيف الأساطير والموسيقى مستفيدا من ثقافته التي اكتسبها من الغرب مباشرة، (للتوسع انظر: الحاج، بئر الحداثة) وابتعد عن أسلوب الخطابة الذي كان متّبعا سواء في الشعر أو في القصة والرواية، حتى بات في عين بعض الباحثين من رواد الحداثة في القصة والرواية العربية عامة. 

يرى الباحث فيصل دراج أن الرواية لم تظهر في شكلها الحديث إلا مع صدور رواية “صراخ في ليل طويل” التي كتبها في القدس سنة 1946، ويضيف أن هذا العمل أعطى جبرا الشاب عملا طليعيا متميزا، بالمعايير الفنيّة جميعها، لا يزال يحتفظ بتميزه إلى اليوم. (دراج، “الرواية الفلسطينية”) ويعتبر الباحث شكري عزيز الماضي جبرا، بفضل هذه الرواية، “رائد الرواية الحديثة في فلسطين والأردن”. (الماضي، ص52)  

لا يحتاج المرء إلى تفكير عميق كي يدرك نوايا جبرا حين كتب روايته “صيادون في شارع ضيق” باللغة الإنجليزية، وتوظيفَه للرواية المسيحية بكل مركباتها، إذ تكشف الأحداث كيف تحوّلت مدينة المهد بمواقعها، حيث الروابي وطريق الرعاة والملائكة، من مكان آمن إلى مكان تسيل فيه الدماء بسبب تفجيرات القادمين الغرباء إليها، الذين ساندهم الغرب الاستعماري، فاضطر الرعاة إلى ترك كنيستهم وحدائق الزيتون، وحملِ أطفالهم والهربِ بهم بعيدا عن مدينة مهد المسيح، فيما تحولت مدينة القيامة، القدس، إلى مدينة لأحلام لا يمكن رؤيتُها إلا عبر “وادي الموت”. (للتوسع انظر: بشير أبو منة)

حمل المهجّرون معهم الوطن على أكتافهم، وهذا جبرا الذي هجّر من فلسطين مثل كثيرين يستقرّ في العراق ويعمل في جامعاتها ويكتب أهمّ دراساته وأعماله الأدبية هناك، ويترجم أهم الأعمال الأدبية من الإنجليزية إلى العربية مما أتاح المجال للقارئ العربي حيثما تواجد أن يطلع عليها. ومن مقرّ إقامته في بغداد يتابع مشواره الأدبي العريض والمتشعب، ويستلهم أحداث روايته “البحث عن وليد مسعود” (1978) من شهادات المقاتلين التي سمعها منهم مباشرة في بغداد أثناء دراستهم هناك، وقد كان عبد الواحد لؤلؤة شاهدا على ذلك فوثّقه في مقدمة إحدى الدراسات: “وجبرا يصغي ويختزن في مخيلته ليعيد صياغته في الرواية”. (سمير حاج، مرايا، ص11) هذه الرواية التي جعلت عبد الرحمن منيف يقول: “أخيرا وضع جبرا يده في نار الثورة” (بشير أبو منة، ص58).    

أثار جبرا حول إنتاجه نقاشا عاصفا، فمنهم من اتهمه بالتباعد عن القضية المركزية، واعتمادِه على توظيف شخصيات مثقّفة في أعماله، فيما أنّ معظم الشعب الفلسطيني هم من العمال والفلاحين، في حين دافع آخرون عن موقف جبرا معلّلين رؤيتهم أن أبطال جبرا المثقفين قد ضحّوا بحياتهم في سبيل مجتمعهم. ولكن المؤكد أن جبرا كان يعي هذه الحقائق وكان مصرّا على توظيف شخصيات مثقفة مؤمنا أن الثقافة لا تقل أهمية عن دور المقاتل بالسلاح إن لم يكن أكثر.

لم يقتصر عمل جبرا على المجال الروائي، فقد كتب القصة القصيرة، والنقد الأدبي، وترجم العديد من الأعمال الأدبية عن اللغة الإنجليزية، و”واظب على الكتابة الروائية في منفاه العراقي جاعلا من القدس – أجمل مدن الدنيا كما كان يقول – محورا لأعماله بدءا من روايته “صيادون في شارع ضيق” إلى عمله الأكثر طموحا “البحث عن وليد مسعود”، مرورا بإنجازه الروائي الأكمل “السفينة”، (1970) وهي إحدى الروايات الأكثر تكاملا في تاريخ الرواية العربية الحديث. أرست هذه الروايات هويته الفلسطينية – الروائية بوضوح لا مزيد عليه”، كما يرى فيصل دراج. (دراج، “الرواية الفلسطينية”)

مهما قيل في روايات جبرا إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أنه كان من أوائل كتاب الرواية الحداثيين، وأحد أهم الأدباء في تاريخ الأدب الفلسطيني الحديث، وأنه شغل الدارسين والباحثين بالبحث والتنقيب، بفضل غزارة عطائه وتنوعه، وما زال يشغلهم حتى اليوم.    

إميل حبيبي

قدّم جبرا رصيدا هائلا في حقول الأدب المتنوعة من خلال غربته في العراق، فيما بقي إميل حبيبي بعد النكبة في الوطن يقارع من الداخل، من خلال واقع جديد مربك هو واقع العربي الفلسطيني الذي تحوّل، في وطن الآباء والأجداد، إثر تهجير غالبية سكان البلاد العرب الأصليين، من أكثرية مطلقة إلى أقلية داخل دولة تتبنّى الفكر الصهيوني. ينظر العربي إلى ما كان وإلى ما صار؛ هنا هو مبتور عن شعبه وعن أهله المهجّرين خارج الوطن، ويعيش تحت قوانين مجحفة وصادمة لا تجيز له زيارة الأهل والأقرباء والأصدقاء، حتى في داخل الوطن، إلا بإذن من الحاكم العسكري. وقد صودرت أرضه مصدر عيشه الأهم، وبات يبحث عن لقمة عيشه في المستوطنات التي أقيمت حديثا، أو تلك التي أقيمت على أراضي القرى العربية.

هذا الواقع الجديد الهجين شحن حبيبي بغضب عارم وألم عميق عبّر عنه من خلال إبداعاته المتنوعة بدءا من قصة قصيرة بعنوان “بوابة مندلبوم” (1954) المستوحاة من قصة حقيقية حيث اضطرت والدته أن تتركه في البلاد لتلحق بابنها الأصغر المهجّر في دمشق، فتموت هناك بعيدا عن الوطن، لتصبح بالتالي حكايةَ الفصل العنصري بين الفلسطيني هنا الذي كان جزءا لا يتجزأ من عالم عربي كبير ثم بات مقطوعا كليا عن محيطه الواسع، محروما من التواصل مع أهله ومع أبناء شعبه العربي. 

تابع حبيبي في رحلة الإبداع فكانت “سداسية الأيام الستة” (1968) ثم روايته الشهيرة “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”، (1974) التي اعتمد فيها على أسلوب المفارقة والسخرية السوداوية لتصوير هذا الواقع الهجين وكشفِ حالة الضياع التي يعيشها العربي في ظل دولة تسلب حق الفلسطيني في العيش بكرامة وتُزيّف هويته وتراثه وشعره وأدبه. هي في اعتقادي رواية الفلسطيني المشوّه بفعل الواقع الجديد.

قيل الكثير في هذه الرواية، ولربما لم يعد هناك ما يمكن إضافته إلى تحليل الكثيرين من قبل، فهي، كما ذكرنا، حكاية الفلسطيني الباقي هنا، لا حكاية الفلسطيني المهجّر، كما في روايات جبرا. تُعبّر الشخصية المركزية فيها عن واقع مؤلم؛ واقع ضياع الهوية، وخلق هوية بديلة مُبلبَلة مشوّهة، لا تحمل جينات الآباء والأجداد، ولا تشبه جذورَها في شيء. هذه الشخصية “المتشائل، سعيد أبي النحس” التي لم يتمكن روائيون فلسطينيون أو عرب أن يخلقوا مثيلا لها، لا لسبب سوى أن حبيبي استلهمها من واقع لا يشبه أي واقع آخر لأي إنسان في العالم قاطبة، واقع العربي الفلسطيني الذي تمنى أن يأتيه الخلاص من العالم العربي، أو من أي مصدر آخر فلم يأته أي بارقة أمل، فكان الفضاء والكائنات الفضائية والهروب نحو الخيال هو أملَه الوحيد. 

تحمل هذه الرواية بالذات رؤية الكاتب إميل حبيبي المستمدة من واقع مأساوي عبّر عنه بطل الرواية عبر مفارقة ساخرة سوداوية ترى أن بقاءه فوق أرضه هو بحد ذاته معجزة. وتزداد مأساة الإنسان العربي الباقي هنا قتامة وهو يرى ذاته المصادرة فلا يملك حق التقرير في أي أمر. فقدت الشوارع والحارات أسماءها، وزالت قرى كاملة عن وجه الأرض، ونبتت بدلها مستوطنات أخرى غريبة في شكلها وفي مواصفاتها وفي أسمائها. وكان على حبيبي أن يتصدّى، في كل ما كتب، لهذا الواقع الهجين بأسلوب فني هجين ولغة ساخرة.

ذهب الشاب جبرا منذ نعومة أظفاره باتجاه الدراسة الأكاديمية والاطلاع على أهم التنظيرات الأدبية، كما ذُكر أعلاه، فيما ذهب حبيبي باتجاه العمل الشعبي والسياسي متبنّيا، منذ سن مبكرة، الفكر الشيوعي الأممي. فكانت ثقافته المكتسبة الأولى من خلال علاقاته بالناس ومن خلال ثقافته العربية الشرقية الكلاسيكية.  

ولربما كانت عودة حبيبي في كتاباته إلى التراث العربي عاملَ تعويض عن خسارته على أرض الواقع، خاصة وأنه يكتب من أجل تثبيت الهوية العربية التي يصرّ الآخر على مصادرتها، إذ يبدو أنّ العرب كلما شعروا بتهديد وجودي عادوا إلى الماضي كملاذ يفاخرون به، وقد برز ذلك بشكل ملحوظ إثر حملة نابليون الغربية على الشرق العربي، فكانت هناك عملية إحياء للتراث العربي وظهور أنواع أدبية حديثة. وقد تمكن حبيبي أن يستلهم مادة كتاباته من التراث فخلق كتابة أدبية مغايرة تأخذ موضوعها من الحاضر وتؤثثه وتغنيه بأساليب القدامى، وتخلق في الآن ذاته أسلوبا جديدا في شكل الرواية العربية الحديثة، حيث لم يبن نصّه وفق المبنى التصاعدي المألوف للرواية. شغل حبيبي الباحثين والدارسين هو الآخر، ولا يزال، وبات اسمه واحدا من أهم الروائيين العرب في القرن العشرين. 

غسان كنفاني

عاش غسان كنفاني تجربة النكبة بكل عذاباتها وتفاصيلها منذ التهجير القسريّ، طفلا، فتنقّل من بلد عربي إلى آخر، وذاق طعم هزيمة 1967 ومرَّها، فعبّر عن ذلك من خلال مجموعة من إبداعاته التي بلغت ثمانية عشر مؤلَّفا، تشهد على عبقرية هذا المبدع الشاب، وعلى رؤيته المتطوّرة في التعامل مع الوطن والهوية.

الحديث عن كنفاني متفرعٌ ومتعددُ الجهات؛ غسان الروائي والقاصّ والمسرحيّ والصّحافيّ، وغسان المؤدلج السياسيّ. فهو صاحب مشروع فكري فلسفيّ يضع فكرة حق العودة في سلم أولوياته، ويبني مشروعه وفق هذه الرؤية؛ الإنسان قضية والوطن قضية، فهو البيت والإنسان والشجر والماضي والحاضر والمستقبل.

وهو ابن الصدمتين: النكبة والنكسة. جرّب النكبة وذاق مرّها وهو طفل صغير، فكانت الصدمة الأولى التي تستوجب دراسات عديدة لتبيان مفهومِها وأثرِها على طفل يُهجّر مع أهله ويترك بيته وماضيَه وذكرياته وأترابَه. ولما عاد الأمل إلى العالم العربي وإلى الشعب الفلسطيني كانت الصدمة الثانية، “صدمة النكسة” (1967) وتحطُّم آمال الأمة العربية وهي ترى أحلامها تبعثرها الرياح وتذروها بعيدا.

كان لهول الصدمة الثانية التأثيرُ الكبير على المثقف العربي، وعلى المواطن العادي لأنها جاءت بعد قناعة كثيرين بحصول تحوّل سياسي في الشرق الأوسط يعيد الخارطة إلى ما كانت عليه قبل عشرين عاما، وصدرت روايات عديدة تصوّر هذا الواقع المتعثّرَ، المؤلمَ والكئيب. وقد شارك كبار الأدباء في الكتابة عن بؤس العالم العربي وعن حالة الضياع، لكن غسان كنفاني ذهب باتجاه آخر، فقد وجد أن تصوير الواقع المؤلم هو واجب، لكنه يبقى منقوصا إذا لم تُفتح كوة للأمل. فكانت روايتاه “عائد إلى حيفا” (1969) و”أم سعد” (1969) كتابة الأمل رغم الألم، ودعوة إلى اتخاذ مسار فلسطيني مستقل، بعيدا عن إخفاقات الأنظمة العربية. 

بالرغم من حماسة كنفاني السياسية وانتمائه الأيديولوجي المعروف الذي آمن به إلا أنه، في كتاباته، فهو أديب أكثر منه سياسي، إذ ابتعد عن الأدب الخطابي مؤمنا أن الكلمة الهادئة تخترق الوجدان والعقل والعاطفة مثلما يخترق الماء الهادئ أعماق الأرض. ولهذا فقد اعتبرت روايته “رجال في الشمس” (1963) الرواية الفنية الثانية في فلسطين والأردن بعد رواية “صراخ في ليل طويل” لجبرا. (الماضي، ص55)

لم يدقّ كنفاني جدران الخزان في روايته “رجال في الشمس” فقط. فقد راودته هذه الفكرة في كل كتاباته السابقة واللاحقة. إنّ فكرة خلدون/ دوف في “عائد إلى حيفا” الذي أصبح جنديا في الجيش الإسرائيلي لهي فكرة في غاية الذكاء لدق جدران الخزان منعا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور. فقد رأى أن فقدان الوطن قد يجعل الفلسطيني يفقد الأمل، فعمد إلى تجنيده فكريا، وتثويره ضد واقعه وشحنه بالإرادة، إذ بدون الإنسان وبدون الذاكرة يختفي الوطن كليا. فهذا “سعيد س” بطل رواية “عائد إلى حيفا” يخاطب المرأة اليهودية التي سكنت في بيته قائلا: طبعا نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا ذلك يحتاج إلى حرب”. (عائد، ص34)

لم يكتف كنفاني بحمل القلم، وبتقديم ثمانية عشر مؤلفا في مواضيع متعددة، فقد كان منخرطا في الحقل السياسي، وناطقا رسميا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهو “المقاتل الذي لم يطلق رصاصة واحدة” كما قالت عنه صحيفة الديلي ستار (بشير أبو منة، ص118) فقاتل بالفكر، وهو الذي كان ينشر مقالاته الساخرة باسم مستعار “فارس فارس”. (ن. م.) 

إن معظم الذين كتبوا عن أعمال غسان كنفاني التفتوا إلى الجانب السياسي والأيديولوجي، ما عدا قلة قامت بدراسة تطور آلياته الفنية ودوره في دفع الرواية العربية بشكل عام نحو الحداثة، رغم صغر سنه، وقد حظيت رواية “ما تبقى لكم” (1966) باهتمام لافت في توظيفها تقنيات حداثية تجعلها واحدة من الروايات العربية الحديثة الهامة. (للمزيد من التوسع انظر: غنايم، ص257-267)

ما يجب الالتفات إليه أيضا هو الجانب الإنساني في كتاباته، وهذه هي نقطة القوة الأكبر في إبداعه، فقد اختار في “رجال في الشمس” ثلاثة رجال يمثّلون ثلاثة أجيال يعانون كلهم بسبب الهجرة، وكان لكل منهم تجربة إنسانية حارقة ومؤلمة. كما اختار في “عائد إلى حيفا قضية إنسانية أخرى هي ضياع الابن ونسيانه في البيت بسبب ظروف قاتلة فرضها الآخر على زوجين شابين خسرا البيت والابن معا. فإن كان الآخرون قد خسروا البيت فإن سعيد وصفية قد خسرا الابن أيضا.

إن القضية الإنسانية العاطفية أكثر تأثيرا في المتلقي من الأيديولوجيا والموقف السياسي، بالرغم من أن هذا يقود إلى ذاك. هذه الاختيارات هي قوة إبداع كنفاني، فضلا عن توظيف تقنيات تتلاءم مع الشكل والمضمون وترابطهما.

خلاصة

إن كتابات هؤلاء الأدباء الثلاثة هي في معظمها محصلة “الصدمة” التي تستحق دراسة أكبر وأوفى من المختصين في مجال علم النفس وعلم الاجتماع. كان جبرا وحبيبي شابين صغيرين حين وقعت النكبة، وكان غسان حينها طفلا، ولما بُعثت الآمالُ من جديد كانت النكسة الصدمةَ الثانية، فكان من الطبيعي أن تنال هاتان الصدمتان حيزا واسعا من إنتاجهم. 

كانت هزيمة 1967 منبّها إلى خلل شامل في منظومة وبناء العالم العربي عامة، وقد ظهرت إثر ذلك مجموعة من الكتابات الروائية العربية التي تبيّن الإحباطَ العربيَّ وخيبةَ أمل العرب وفقدانَهم الثقةَ بهذه الأنظمة، لكن صدمة الهزيمة كانت بالنسبة للفلسطينيين محفزا كي يعيدوا النظر فيما كان من قبلُ، وشهدت فترة ما بعد النكسة هبةً جماهيرية فلسطينية تؤكد على أهمية دور الفلسطيني في حمل دور الريادة، كما تجلت في أعمال هؤلاء الثلاثة وفي أعمال أدبية فلسطينية كثيرة.

إننا نرى أن هناك أفكارا متشابهة فيما بين هؤلاء الثلاثة، وأخرى مغايرة وذلك وفق الجغرافيا والأيديولوجيا التي تبناها كل منهم. يشترك الثلاثة في التفكير بمستقبل أفضل وأكثر أمنا وأمانا كي لا تتكرر النكبة والنكسة. يرى غسان أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال مقاتل مؤمن بحقه بالعودة، ويرى جبرا أن ذلك يحتاج إلى إيمان فلسطيني داخلي بحق العودة، ويبحث حبيبي عن هوية فُقدت فيراها في عودة الوعي. 

انطلق الثلاثة في كتاباتهم من خلال أيديولوجيا ترى أن الصراع ليس بين شعبين، إنما هو خلاف عقائدي بين فكرين متناحرين، فبنى كل منهم مشروعه على أساس نشر الوعي من ناحية ومصارعة الآخر من ناحية ثانية، وذلك يتطلب التوجه نحو ثلاث جهات على الأقل: الداخل الفلسطيني، والعربي عامة، والرأي العام العالمي، فكانت الترجمة التي قام بها جبرا مشروعا تثقيفيّا هاما موجها للعربي حيثما تواجد، وكانت كتابات كنفاني وحبيبي ومقالاتهما السياسية موجهة إلى كل الجهات، وكانت الأعمال الأدبية على اختلافها كتابات مؤدلجة لتجنيد الداخل والخارج وشحن الإرادة العربية وإعادة الثقة بالذات في ظل هزيمتين كبيرتين: النكبة والنكسة.

نجح الثلاثة كل من موقعه، ومن خلال تجربته، في ترك بصمة هامة في مسيرة الرواية العربية الفلسطينية، وكانت بعض أعمالهم بوصلة يحاول الكثير من الأدباء الاهتداء بها والاستفادة منها، بل نجحوا جميعا في رفع مكانة الرواية الفلسطينية لتصبح منافسا حقيقيا لأهم الأعمال الروائية العربية.

 

المراجع

أبو حنا، حنا. دار المعلمين الروسية في الناصرة “السمنار” (1886-1914) وأثرها على النهضة الأدبية في فلسطين. الناصرة: دائرة الثقافة العربية، 1994.
الأسد، ناصر الدين. الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950. عمان: مؤسسة عبد الحميد شومان، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000.
الأسد، ناصر الدين. الشعر الحديث في فلسطين والأردن حتى سنة 1950. ط2. عمان: دار الفتح للدراسات والنشر، 2009
حاج، سمير فوزي. بئر الحداثة- الموسيقى والرمز في أدب جبرا إبراهيم جبرا. حيفا: كل شيء، 2012.
حاج، سمير فوزي. مرايا.. جبرا إبراهيم جبرا والفن الروائي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005. 
دراج، فيصل. ذاكرة المغلوبين- الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني. الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002.
دراج، فيصل. “الرواية الفلسطينية- أدب المضطهدين في جغرافيا مشتتة”. الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية. 
غنايم، محمود. تيار الوعي في الأدب العربي الحديث. بيروت: دار جيل، القاهرة: دار الهدى، 1992. 
كامل، رياض. المتخيل السردي العربي الحديث. عمان: الدار الأهلية، 2022.
كنفاني، غسان. عائد إلى حيفا. ط4. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987. 
لجنة إحياء تراث الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي. إسكندر الخوري البيتجالي، الأعمال الكاملة- الأعمال النثرية. ج2، المجلد 4، ط2، بيت جالا: رأي للدعاية والنشر، 2022. 
الماضي، شكري عزيز. الرواية العربية في فلسطين والأردن في القرن العشرين. عمان: دار الشروق، 2003.
مني، بشير. الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر. ترجمة مصعب حياتلي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.

The post الرواية الفلسطينية ومرحلة النضوج appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>