مقدمة
يولد العمل الأدبي ويخرج إلى النور بعد أن يختمر في فكر الكاتب، وللكتابة الفنية أصول تتفاوت مستوياتها بين مؤلِّف وآخر، وبين كتاب وآخر، وذلك منوط بقدرة المبدع على توظيف التقنيّات والوسائل الفنية التي تجعل النص بعيدا عن المباشرة، ولا يتأتّى ذلك إلا بلغة ثرّة غنية بدلالاتها، قادرةٍ على إشغال المتلقي وتثوير خياله. لا أحد يعرف متى ولدت اللغة وكيف ولدت، ولكن الكل يجيد التعبير عن ذاته باللغة دون أن يجيد أسرارها ويدرس أصولها وقواعدها. أما دراسة لغة الخطاب الأدبي فعليها أن تبحث عن الانزياحات اللغوية وعن العلامات التي ترسلها وعن دلالاتها التي يجب أن يجيد المبدع في خلقها.
إن إحدى النقاط المهمة في عملية الكتابة الإبداعية هي تحويل حدث صغير إلى حدث لافت ومثير، بحيث يصبح مدار اهتمام القراء. هذا أكثرُ ما راودني وأنا أقرأ رواية “سبع رسائل إلى أم كلثوم” للروائي علاء حليحل (2023). وكان ذلك يلح عليّ كلما غصت أكثر في صفحاتها؛ كيف يمكن أن تصبح عملية تثبيت أنتينا التلفزيون حدثا هاما في رواية فنية؟ وكيف يمكن أن يصبح موضوع تربية كلب في بيت قضيةً تقودنا إلى ما هو أوسع وأعمق؟ بالأحرى كيف ينجح الروائي في استغلال حدث صغير ليجعل منه حدثا يحمل دلالات كبرى؟
سنقوم بالرد على هذه التساؤلات وعلى غيرها من خلال قراءة النص قراءة أولى وأخرى متأنّية. ولقد كان لدعوة أ. ج. كريماس إلى ضرورة عودة الناقد إلى النص، في ستينيات القرن المنصرم، صدى واسعٌ، باعتباره مستودعا للدلالات ومرجعَه الأهم. لكنّ التنظير الأدبي لا يبقى على حاله أبدا، إذ هناك دائما ما هو جديد، أو ما يضاف إلى الأقدم منه، فالانطلاق من النص وحده لم يعد بكاف لفك أسراره، فهناك إضافة إلى النص مؤلِّف له وقارئ يعمل على تأويله.
الموضوع الرئيسي/ الفكرة المركزية
اعتدنا أن نسأل وأن نتساءل حول الفكرة المركزية للنص لأن الكتابة لا تنمو إلا بعد أن تراود المؤلفَ وتلحّ عليه أفكار معينة. وبقدر ما لهذا التساؤل من أهمية بقدر ما يبدو ذلك سخيفا عند الانشغال بالإجابة التقليدية التي تحدّ النص وتقيّده بالتعامل مع الرواية كوثيقة أيديولوجية أو كوثيقة اجتماعية، لأن الأفكار، كما قيل، ملقاة على قارعة الطريق تنتظر من يلتقطها. وتصبح هذه الأفكار أكثر أهمية حين يحسن الروائي صياغتها بحيث تستفز القارئ وتثيره فيتفاعل معها؛ يتأثّر بها ويؤثّر فيها كما يقول إيزر.
إنّ عملية فهمِ الذات، وفهمِ الآخر هي من أكثر القضايا صعوبة في حياتنا اليومية، يقضي الإنسان عمره وهو يبحث عن كنه ذاته؛ كيف نبلور أفكارنا إزاء قضايا حياتية؟ كيف نربي الأبناء؟ كيف نكسب الأصدقاء؟ ماذا علينا أن نفعل كي نرضي ضمائرنا؟ ما معنى الكرامة والصدق والشجاعة؟ وما تعريف الخير والشر؟ هذه مجموعة من التساؤلات التي تتقافز في فكر القارئ أثناء القراءة الأولى للرواية، وتنبثق من جديد، وبشكل أعمق، بعد القراءة المتأنية الثانية التي ترافق عملية التأويل والبحث والتمحيص في السرد والوصف والحوار، وفي تصرفات الشخصيات، وفي حيثيات الأحداث وفي عملية الدمج بين الاجتماعي والسياسي.
تحاول هذه الرواية أن تعالج قضية الوجود الإنساني للفرد بكل مركباته وتعقيداته، وفي حقه بالحياة كما يليق به دون التعدي على حرية الآخرين، بعيدا عن التنظيرات والفلسفات قريبا من الواقع وتفاصيله اليومية البسيطة. وتظل قضية علاقة الرجل والمرأة إحدى القضايا التي تشغل الناس عامة وقد أخذت حيّزا من فكر الفلاسفة والأنبياء، فتتباين المواقف بين شعب وآخر وبين إنسان وآخر تجاهها.
لا تميز هذه الرواية بين التحرّر من نير المحتلّ والتحرّر من ظلم الرجال للنساء من حيث المبدأ، فمن يتحرّر فكره من أغلال الظلم يرفض القبول بالمس بمبدأ العدل والعدالة. وتشرئب قضايا أخرى من خلال هذه الرؤى المتناقضة والمتصارعة، وتصبح المواقف أكثر حدة وأكثر تحديا؛ مع الحرية أو ضدَّها، مع الكرامة والشجاعة والعنفوان أو ضدَّها في كل المواقف؟ فالذي يرضى بظلم المرأة يرضى بظلم السلطة، ومن يُخفض جناحه للاحتلال يغضّ الطرف عن ضيم الضعيف والفقير. تتسرب هذه الصراعات وتدخل البيت الواحد، وتأخذ أبعادا شتى ودلالات أكبر وأوسع من مجرد خلاف بين رجل وزوجته، بل تتسع لتشمل الخلاف بين الأخ وأخيه وما يعنيه ذلك من معان وأبعاد، وما يحمل من دلالات وإشارات إلى تفكك شعب بأكمله من خلال تبني مواقف متباينة، متناحرة، متضادة ومتصارعة. وبالتالي يصبح الحدث الصغير في الرواية ليس مجرد حدث عابر بل هو رمز ودلالة إلى ما هو أكبر وأوسع. إنه خلاف في الرؤية، أعمق وأوسع من معنى الحدث المباشر، هو صراع فكري ورؤيوي، بين التخلف والتطوّر، بين الجبن والشجاعة، بين الاستسلام والتمرد، وبين الخنوع والثورة.
قد يعترض المؤلِّف وبعض القراء على مثل هذه التأويلات وذلك حقهم، ولكن أي تأويل لأي حدث يحتاج إلى قرائن، فكيف نفسر إذن موقفَ الزوجة هاجر من الاحتلال والانتفاضة، وتناقضَه مع موقف الزوج مصطفى؟ لقد كان ذلك بمثابة إشارة واضحة إلى اختلاف في المواقف وإلى خلافات تجلّت بوضوح في انقسام العائلة الداخلي وفي طريقة التعامل. ونحن إذ نتحدث عن القرائن إنما نعني قراءة النص وما وراء النص.
الإشارات والرموز الشفافة
تقع على الناقد والدارس مَهمَّةُ “سد الفجوات” وإنارةُ النص من داخله، ولن يتأتى ذلك إلا إذا كان النص محملا بالإشارات والتلميحات والدلالات، حتى لو لم يكن المؤلف يعيها تماما، فقد يكون الكاتب الضمني أو “الأنا الثانية”، كما يسميها وين بوث، هي التي تقف وراء ذلك، ثم إن الحقيقة الوحيدة في عملية الكتابة هي ما ينتج عن التخييل، فلا يتعامل القارئ إلا معه، ولا يبحث في العمل الفني الروائي عما يحاكي الواقع، بل عما يأخذ منه دون أن يكون طبق الأصل عنه. ولنا على ذلك أمثلة متعددة: عاد الطفلان الأخَوان من المدرسة في أحد الأيام وكانت يد الأصغر، نور، متورّمة إثر ضرب مبرّح قامت به المعلمة روز، عقابا له على فعل “غير أخلاقي”، وكان الاثنان في غاية الحزن والغضب، “أزاح يزن بصره نحو الجهة الأخرى وراقب مجموعة من الشباب الذين كانوا يعلّقون على عمود الكهرباء الخشبي ورقة كبيرةً رسم عليها قبضةٌ تحمل حجرا.” (ص70)
تحمل الفقرة أعلاه إشارتين: الأولى تحفيز على الثورة ضد الظلم، وبالتالي فإن قبضة الطفل التي تورّمت بفعل ضربات المعلمة روز “التربوية” لن تستطيع حملَ الحجر والتصديَ للظالمين، كما أنّ مثل هذه “التربية” تسبب ألما جسديا ونفسيا يرافقان الطفل مدى الحياة، وقد تخلق منه رجلا خنوعا. أما الثانية فإشارة إلى أن الأحداث تدور في زمن انتفاضة الحجر التي جعلت أطفالا في مثل سن هذين الطفلين يتواجهون مع جنود والاحتلال دون خوف أو وجل. هذا المشهد الذي عرضه الراوي كان أشبه بمشهد سينمائي جانبي لافت للمشاهدين/ القراء، وبالتالي للطفل الذي ما زال يشتعل غضبا وغيظا من فعلة المربية، فبدا كأنه عملية إسقاط لما يمور في داخله.
لا نرى أن الرواية تقوم بمعالجة انتفاضة الحجر، لكن الروائي فتح الأبواب والشبابيك على مصاريعها كي تدخل الأحداث عبرها إلى الحياة اليومية للفلسطيني هنا وهناك. وحين تتسرب روح الانتفاضة عبر هذه الفتحات فإن روح التحدي سوف تشحن الطفل ضد معلمته إذا كانت ظالمة، وتشحن الزوجة ضد زوجها إذا كان ظالما، والفقيرَ المستغَلّ ضد القويّ المتجبّر.
لقد دمج الروائي علاء حليحل بين السياسي والاجتماعي في روايته، لكن القارئ المتأنّي قادر على التمييز بين دور كل منهما، فقد كان الجانب الاجتماعي هو الأبرز فيما فُتح الباب الخلفي لتدخل منه السياسة بسلاسة بعيدا عن الوعظ والخطابة اللذين ميزا الكثير من الأعمال الأدبية الفلسطينية. وبالرغم من أن الانتفاضة (1987) كانت الحدث الأبرز في التاريخ الفلسطيني بعد النكبة والنكسة إلا أن الروائي حافظ على الهدوء والتروي بعيدا عن التشنج والحماسة وجعل روح الانتفاضة تدخل البيوت وناسها وأزقة القرية وشوارعها.
لا يعمل الروائي على الإغراق في التلميح والإشارات والدلالات، بل نرى أنه يحافظ على مسافة جمالية من القارئ لا ترهقه أثناء عملية التأويل، لكنها في اجتماعها، معا، لها سحرها وتأثيرها نظرا لقربها من الواقع بحيث يجد القارئ نفسه جزءا من بعض هذه الأحداث، لأنها تذكّره بمواقف مشابهة، فيتماهى مع الطفل حينا ومع غيره حينا آخر.
يقوم الراوي بعرض حادثة صغيرة هنا وأخرى هناك، ما يدعو القارئ إلى التنبّه واليقظة والاستثارة والتفكير لاستيعاب ما يجري وإدراكه بعمق، لأن الكاتب يدفع الراوي للعمل بحذر على لملمة حكايات، تبدو صغيرة وعابرة وعادية، لكنّ هذه الأحداث تتحول، حين تتراكم في ذاكرة القارئ، إلى حوافز منبِّهة للتفكير، وتشير إلى أن هناك صراعا واختلافات عميقة في فهم جوهر الحياة، من ناحية، وتعمل على كشف ما خفي من مشاعر وأحاسيس وآراء لدى أشخاص تتباين آراؤهم إزاء مواقف معينة، من ناحية أخرى. ولنا على ذلك أمثلة عدة نكتفي بالمشهد التالي:
تقوم الأم هاجر بوصف طريقة نوم كل من ولديها نور ويزن: “استدار (نور) إلى الجهة اليسرى كما يفعل حين يهُم إلى النوم ولف يديه وذراعيه حول جسمه، واندفع ببطء نحو غفوته اللذيذة”. وجاء في وصفها طريقةَ نوم يزن: “… لكنه لا يحتضن نفسه وقت النوم كما يفعل نور، بل ينام مثل والده: يستلقي على ظهره ويطوي رجله اليمنى إلى الأعلى ويدُه اليسرى فوق صدره”، وتضيف “أجلس على حافة السرير وأرفع اللِحاف الشتوي الثقيل حتى أعلى صدره. أود لو أسأله: لماذا تنام مثله؟ (تقصد زوجها) لماذا لا تنام مثلي كما يفعل نور؟”. (ص66) قد يتساءل بعضهم وبحق هل هذا ما يلفِت نظر القارئ الناقد؟ ما أهمية وصف هذه الأمور الصغيرة؟ ماذا تحمل هذه التفاصيل في طياتها؟
تتمنى الأم، كما تصرح في رسالتها الثانية إلى أم كلثوم، أنها ترغب بأن ينام ابنها يزن أيضا بنفس طريقة ابنها نور، ما يشير إلى أن هناك ليس مجرد اختلاف سطحي وشكلي، بل هو خلاف وصراع بين الزوجين لا بد أن يتكشّف وأن ينفجر في لحظة ما. ما هذه الإيماءة البسيطة سوى دلالة وجب على القارئ أن يلتقطها وأن يقوم بمتابعتها فيما يلي من السرد.
من حق القارئ الذي يقوم الآن بمتابعة ما أعرضه من أمثلة عن هذه الإشارات أن يعترض على أسلوب “الكتابة المباشرة” لدى الكاتب! إننا نرى أن نجاح الروائي تتجلى في قدرته على التقاط هذه الصور وهذه المشاهد التي تنمّ عن حساسية مرهفة، لأن الحياة بقدر ما هي معقدة هي بسيطة أيضا، ويكمن عمقها في اجتماع هذين الضدين.
تحدث ولفجانج إيزر عن أهمية التفاعل بين القارئ والنص، وتحدث آخرون عن “أفق التوقعات”، وعن ملء الفراغات. إن ما ورد أعلاه من تأويل لهو إثبات على التفاعل بين سلطة القارئ وسلطة النص، من خلال تأثير النص في القارئ، وبالتالي تأثير القارئ في النص وإضاءته من الداخل. إن مثل هذا التلميح لهو لبنة صغيرة من لبنات بناء النص، وبالتالي لها دورها في رسم الشخصيات وبنائها والتعرف عليها من الداخل. إذ لا يمكن للمؤلف أن يقوم ببناء الأحداث دون بناء الشخصيات في زمان ومكان معينين. فالمؤلف المبدع لا يكشف كل أوراقه مرة واحدة، بل يعمل بهدوء ورويّة وفق تخطيط مسبّق لكشف أوراقه بشكل تدريجي، فكل ورقة تميط اللثام عن زاوية معينة قد تثير القارئ وتفتح شهيته على متابعة القراءة. تفضي كل خطوة يقوم بها الراوي، الذي يحركه الروائي بالخفاء، إلى خطوة أخرى يجب أن تكون ذكية وملائمة لما يسبقها ولما يلحقها، فيتشابه المؤلف والمخرج في هذا الدور. وهكذا يمكن للقارئ أن يرسم خطين بيانين يرصد من خلالهما التحوّلات في شخصية كل من هاجر وزوجها مصطفى، وسيكتشف أن الزوجة كانت أسرع منه في تبديل رؤاها الحياتية على المستوى الاجتماعي والسياسي، وأنه تخلف عنها بعد أن عمل التراكم والكم لدى الزوجة على التغيير الكيفي والنوعي.
دقة الوصف والتصوير وتأثيث الأمكنة
يُعنى الوصف بالطبيعة أو بالشيء أو بالشخصية ويقوم بتحويل المرئي إلى لغة. وهي عملية ليست سهلة لأنها تحتاج إلى الدقة في اختيار اللفظة الدالة التي تعنى بما وراء المرئي وبما يخدم الحدث الكلي في الرواية. وله دور هام في العملية السردية، وقد يعمل على إبطائها، أو على إيقاف الحدث، ولكنه يتحول إلى تقنيّة هامة جدا حين يحسن الروائي في توظيفه دلاليا، وبالتالي يتمكن من إتمام ما لم يقله الراوي/ الرواة، ويصبح عاملا داعما في تجنيد القارئ وتحفيزه إلى البحث عن الدلالات وملء الفراغات.
لقد عمد الروائي إلى الوصف الدال منذ افتتاحية الرواية ففتح بذلك مجال التفكير للقارئ في محاولة فهم وإدراك دلالة هذه الصورة التي يعرضها للطفل نور. ويتابع في الفقرة الثانية من الصفحة الأولى بالوصف والتصوير وكأنه يدعو القارئ إلى ولوج النص، إيمانا من الروائي بأهمية دور القارئ في المشاركة في عملية الإبداع: “… تساءلت هاجر مبتسمة وهي تحمل دست الغسيل الكبير متوجّهة صوب الحاكورة الخلفيّة حيث الأسلاك الممدودة بحزم بين عمود عريشة الدالية الحديدي وشجرة السمّاق التي تظلّل فناء البيت، تتمايل فوقها ملاءات وأغطية بيضاء تطير عاليا وتنزل كأشرعة سفينة مُعطَّلة لا تبحر إلى أي مكان […] سحابات متفرقة، بيضاء ورمادية، تروح وتجيء بسرعة كأنها تتبع ريح كانون الأول الباردة، لا أن الريح تدفعها”. (ص10)
أقر، كقارئ، أنني لم أدرك ما يرمي إليه الراوي من خلال هذا الوصف في القراءة الأولى، لكن، وللحقيقة أيضا فقد استفزّني وأثار فيّ هواجس وأفكارا دفعتني لمتابعة القراءة والبحث عن قرينة أو قرائن تكشف كنه هذا الوصف، فوجدت أن هناك “سفينة معطلة لا تبحر إلى أي مكان” وأن هناك حدثا يناقض مسار الطبيعة حيث السحابات المتفرقة تروح وتجيء بسرعة حتى لتبدو أنّها هي التي تتبع ريح كانون الأول الباردة، لا أن الريح تدفعها. فما هي هذه السفينة؟ ولماذا لا تبحر؟ ولماذا تتبع السحاباتُ الريحَ؟ ما هو الشيء الذي أوقف عملية الإبحار؟ وما سر هذا الوصف؟ وإلام يرمي الراوي من خلاله؟
يكفي القارئ في المرحلة الأولى من القراءة أن يُستفزّ وأن تثور عنده هذه المجموعة من التساؤلات، ما يدل على قدرة الوصف على الإثارة وعلى دفع المتلقي إلى متابعة الكشف عن دلالاته وعلاقاته بما يتبعها من أحداث، ويمهّد للخطوة التالية التي تكشف تدريجيا عن عطل قد أصاب سفينة العائلة التي علقت في أوحال المشاكل العائلية بين الزوجين. ما يؤكد على ما ذهبنا إليه سابقا من أن الروائي يقوم ببناء الحدث وفق تخطيط مُمنهَج بحيث تستدعي الخطوة الأولى اتباع الخطوة التالية كي يكتمل البناء.
ربما لم يكن هذا الموضوع هو ما يشغل النقد عندنا، لكنني أرى بهذه النقطة بالذات أحد أسرار نجاح الروائي وروايتِه، فدقة التصوير وتأثيثُ الأمكنة تجعل النص قابلا للتصديق وتشي بتاريخيتها، وهي الفترة التي كان دخول التلفزيون الملون فيها إلى البيوت حديثا نسبيا، وكان التقاط المحطات يتمّ عبر أنتين يُثبّت على ظهر البيت، ويومها كان بعض الناس عندنا يشاهدون برامج محطة سعد حداد، فيما يشاهد الأطفال برنامج السنافر، وصورا لأطفال تحمل قبضاتهم حجرا. هذا فضلا عن وصف طبيعة القرية وشكل بيوتها وتلالها، وذكر بعض أنواع النباتات، خاصة السمّاق، الذي ينمو في بعض قرى بلاد الجليل الشمالي، والتوقف عند أثاثِ البيت، وعند ذكر نوع الدخان (برودوي، ص22) الذي اشتهر في تلك الفترة الزمنية. كل ذلك وغيره من توصيف دقيق يكاد يلامس الواقع هو أحد عوامل نجاح هذه الرواية. هذا فضلا عن اعتناء الروائي في اختيار الألفاظ والتعابير والجمل التي تنقل الحدث بصدق بعيدا عن الترهّل. هذه الصور وغيرها هي عملية تأثيث أشبه بعمل الديكور في العمل المسرحي. وهي مجتمعةً تجعل الفضاء يحمل هوية خاصة به، فإن كانت اللغة جزءا هاما من الهوية، فإن الفضاء الروائي هو أيضا جزء من هوية الشخصيات.
إن محاولةَ تثبيت محطات التلفزيون (ص19-23)، وما رافق ذلك من تحفّز وانفعال، وردودَ فعل الطفل، يزن، وخوفَه من والده، ويدَ أمه التي وضعتها على كتفه واقتراحَها العفوي بتقديم الكعك الأصفر الذي تحضره الجدة كي يبتعد عن والده الذي قد يلجأ إلى العنف في كل لحظة لهو أشبه بتصوير مشهد تلفزيوني/سينمائي تقوم فيه الكاميرا بالتركيز (Focus) على حركة صغيرة أو على نقطة معينة. يحمل هذا المشهد أكثر من إشارة مباشرة وأكثر من دلالة يتعرف القارئ من خلاله على شخصية الأب/ الزوج مصطفى، وعلى التوتر الذي يعيشه أفراد العائلة الأربعة: الزوج مصطفى، الزوجة هاجر، الابنان يزن ونور. فإن نجح الأب في تثبيت ألوان التلفزيون وفي التقاط بعض المحطات إلا أن أمور البيت العائلية ليست ثابتة وينتابها الكثير من الخلل والتوتر.
يقوم الوصف باللغة ولا يقوم إلا بها، وهو موضوع يستحق وقفة مطولة نكتفي هنا بهذه الإشارات التي تضيء جانبا هاما من جوانب الرواية، إذ لا يمكن أن ينجح الروائي في خلق عمل سردي فني دون أن يعي قدرة اللغة على التنويع، فلغة الخطاب الروائي ليست واحدة، إنما هي مزيج من مستويات مختلفة ومتعددة، فيها التهجين والأسلبة كما يقول ميخائيل باختين، وفيها حوارات تعكس مستوى المتحاورين الفكرية. هي بإيجاز شديد تعدد لغوي، كما هو تعدد الأصوات الذي سنأتي على ذكره في الفقرة التالية. أدرك الروائي علاء حليحل جماليات اللغة ومستوياتها المتعددة، فوظفها في الوصف فتكشّفت قدرته على التشخيص والتصوير الدقيق المطعم بالدلالات والإشارات، وكتابة بعض المشاهد شبه المسرحية، وهذه نقطة تحتاج هي أيضا إلى وقفة في مناسبة أخرى، وكأني به يقوم بتحويل الرواية يوما ما إلى عمل مسرحي
الرسائل: صوت آخر
يسيطر صوت الراوي المشرف الكلي على عملية السرد عبر الضمير الثالث (هو)، وإن كان يفتح الباب في بعض المواقع لصوت الأنا، ما يتيح للقارئ التعرفَ إلى عدد لا بأس به من الشخصيات التي تتحرك على مسرح الأحداث، فيتسع عالم الرواية ليشمل مناطق أوسع وحكايات أكثر ومواضيع متشعبة. تتسرب الأحداث وتعقيداتها وتدخل بيوتَ الناس فتطفو على السطح قضايا عائلية ومشاكل زوجية وتناقضات متناحرة في الأفكار والمواقف.
وتبرز رسائل سبع ترسلها الشخصية المركزية، هاجر، إلى أم كلثوم تُضمِّنها همومها ومشاغلها ورؤيتها في الكثير من الأمور الفكرية، فتتكشَّف أسرارها التي تجهلها شخصيات الرواية، وبالتالي يصبح القارئ أكثر معرفة، بخفايا نفسها وهمومها وهواجسها، مما تعرفها الشخصيات الروائية. ويبرز صوت آخر داخلي، إضافة إلى صوت الراوي الرئيسي، فيه اعترافات ستظل طيّ الكتمان، فلا تتردد في الكشف عن خفايا النفس وأسرارها بصدق وشفافية بما يشبه كتابة المذكرات أو الاعترافات.
تحمل هذه الرسائل رؤى فلسفية لا تبدر إلا عن صاحبة تجربة عميقة في الحياة، تدل على شخصية مثقفة ذاتِ فكر عميق، ما يثير تساؤلا هاما حول مدى تلاؤم هذه الرسائل مع حقيقة شخصية هاجر: هل هذه الرسائل تعكس صوتها أم تعكس صوت الروائي؟
يرى الباحث أن الروائي يعمل على توظيف لغة تميل إلى الدقة في التصوير، كما ذكرنا، تجعل الراوي أكثر حياديا، وقد انعكس ذلك بوضوح في السرد والوصف، وفي الحوار بشكل خاص بحيث تتحدث كل شخصية بلغتها. هذا ما جعلَنا نتساءل حول “صوت” هاجر ومدى تلاؤم هذه اللغة بما تحمله الرسائل من رؤى وآراء تجعلها بعيدة عن شخصية هاجر ابنة القرية التي يتعرف إليها القارئ عبر تصرفاتها في أكثر من موقف، وقد تابع القارئ التحولات التراكمية في شخصية هاجر وقرارها بالانتقام من المعلمة روز، وترددها، في البداية، في اتخاذ قرارات أخرى تخرجها مما هي عليه من ألم نفسي، حتى صدر قرارها النهائي بالتحرر من ذاتها، بعد أن آثرت الصمت والكبت فترة طويلة من الزمن. فإن كانت تصرفات هاجر تكشف عن شخصية مترددة بعض الشيء، ومسالمة نوعا ما، بالذات أمام زوجها، إلا أن الرسائل كشفت عن مكامن نفسها دون مواربة، من ناحية وكشفت عن سيدة تتصارع مع أوجاعها وآلامها النفسية، وعن فكر فلسفي رؤيوي يجافي ما عهدناه في تصرفاتها.
يكاد القارئ يلين قليلا تجاه الزوج مصطفى، وهو يرى تحولات جذرية في تصرفاته تجاه زوجته وولديه في الداخل، وتجاه الواقع السياسي العام في الخارج؛ يعيد الكلبَ لابنه، يُحضِر هدية ثمينة وذات معنى للزوجة، ينقل الحجارة لأهل جنين في انتفاضتهم ضد الاحتلال، وتظل هاجر عند موقفها الذي اتخذته مؤخرا، لا تتزحزح عنه قيد أنملة.
يطّلع المتلقي على التحولات المتأخرة في شخصية الزوج مصطفى من خارج الرسائل السبع. أما صوت هاجر الحقيقي فلا تبوح به بوضوح وشفافية وإصرار، كما عبّرت عنه في الرسائل، وكأنها كانت عامل تثوير وتحفيز على المواجهة مع الزوج دون تأتأة. يأتينا صوتها واضحا يكشف عن ألم في النفس عميق كان قد نخر العظام منذ سنين بعيدة، وسيظل ينخر أعمق وأصعب إن هي استمرت في نفس الطريق كما صرّحت في رسالتها السابعة.
لكن مصطفى الزوج لم يستطع الاستمرار في مسيرة “التحرّر” التي بدأها متأخرا، بعد أن اعتاد أن يكون رجلا “مسالما” يرضى بالواقع لأن الكفّ لا تقاوم المخرز. وما قيامه بإيصال الحجارة إلى شباب الانتفاضة في جنين إلا خطوة كان يمكن أن تكون مباركة وحقيقية لو اقترن بالقبول مبدئيا بتحرّر الأنثى من حمى العادات، إذ سرعان ما بخّ ما في قلبه دون أن ترمش له عين: “شو بدك أعمل؟… نسيتِ إنّه أنا الوحيد اللي اتطلع عليك؟!”. (ص253)، وعاد إلى حقيقته. وما كان عليه أن يحاول إرضاء ابنه بهذا الشكل الاستحواذي، بعد أن غرز في قلبه أشواكا أدمت أحاسيسه ومشاعره الطفولية، وكأنه يدخل معركة ليدخل منها منتصرا. فكيف يمكن للأب أن ينتصر على أطفاله؟! وما معنى أن ينتصر الرجل على زوجته بحجة كونه رجلا وهي أنثى؟!
كنا نتمنى لهذا الصوت الداخلي أن يحمل جينات هاجر وهويتها، كما تعرّفنا عليها على مدار صفحات طويلة من النص، ولكن القارئ، بالرغم من ذلك، يتعرف من خلال هذه الرسائل السبع، كما ذكرنا، على جوانب ما كان ليعرفها لولا بثها إلى “سومة” بوضوح ودون تردّد. وتظل الرسائل تقنيّة هامة وظّفها الروائي علاء حليحل لولوج العالم الداخلي للشخصية المركزية يتصدى لصوت الراوي العليم.
خلاصة
قام الروائي بالربط بين الأيديولوجيا السياسية وبين الفكر الاجتماعي بسلاسة، ما يحيلنا إلى فكرة أن الجزء أحد مكونات الكل، بحيث لا نستطيع أن نقوم بتفكيك النص دون أن نقوم بجمعه كوحدة كلية مترابطة، فكل جملة فيه هي مكون من مكوناته الكلية. وقد وجدنا أن الروائي يرسم ويخطّط ويبني وفق استراتيجية مدروسة؛ كل فقرة تمهد لما تليها، وكل مقولة لها تتمة في موقع آخر من الرواية.
تمكن النص الروائي أن يتشظّى وأن يحمل أكثر من رؤية وأكثر من فكرة، فقد رأينا انحيازا للمرأة تجعل القارئ يتساءل: هل هي رواية نسوية؟ سؤال ينبثق بقوة أثناء عمليتي القراءة والتأويل. وهل الرواية النسويّة هي التي تكتبها فقط أنثى؟
تسعى هذه الرواية إلى التصريح بصوت جهْوَريّ لا يقبل النقاش بأن القضايا الاجتماعية لا تقلّ أهميّة عن القضايا السياسية. فإن كان حق تقرير المصير لشعب معين هو حق لا مراء فيه، فإن حق أي إنسان، امرأةً كانت أو رجلا، في اختيار المصير، وفي اختيار المسار الذي يلائم المشاعر والمبادئ والأحاسيس لا مراء فيه أيضا. فلا يمكن للمرء أن يرفض الاحتلال وأن يرضى، في الوقت ذاته، بالضيم ضد المرأة. ولا يمكن لمن يعمل في التربية بأن يسمح بالعنف ضد الأطفال. فالحرية كلمة واحدة ذات مضمون واحد ولا تتجزأ إلى مجموعة حروف لكل منها معنى خاص، ولا تناسب وضعية دون الأخرى.
إن الأمور التي نراها صغيرة في حياتنا اليومية ليست كذلك حين نفكر فيها بعمق، لأن حياة البشر لا تسير بصورة رتيبة ولا هي صيرورة واحدة. هي مزيج من أكوان وألوان، وفيها البساطة والطيبة، إلى جانب الحزم والشدة، وفيها لغات عدة تتلاءم مع وضعيات مختلفة، ومع أصوات متعددة. فالإنسان ذاته مزيج من مشاعر وأحاسيس؛ يضحك ويبكي، يغضب ويقهقه، يفرح ويحزن. لقد نجحت الرواية أن تخلق كل هذا المزيج، لكنّ الدخول في تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة بالذات هي التي ساهمت في خلق صور متكاملة ناضجة تجعل القارئ يتغاضى عن هفوات يجب أن تضيع وأن تتلاشى في خضم جماليات هذا الخطاب الروائي الذي أبدع فيه علاء حليحل، وتدفع بالمتلقي إلى غض الطرف عن بعض الرسائل الفلسفية التي أبطأت سير الحركة السردية، نوعا ما، وحمّلت الشخصية المركزية، هاجر، أكثر مما تحتمل من مواصفات.