في تصريح تناقلته إحدى منصات التواصل الاجتماعي، منسوب لألكسندريا أوكاسيو – كورتيز، عضو الكونغرس الأمريكي، والتي اشتهرت بهجومها الحاد على ترامب وسياساته في فترة رئاسته، جاء فيه: “لكي نكون واضحين، لقد خسر نتنياهو الكثير من الأشخاص لدرجة أنه يخاطب جزءًا صغيرًا فقط من الكونغرس. وعندما يحدث ذلك فإنهم يملؤون المقاعد بغير الأعضاء، كما يفعلون في حفلات توزيع الجوائز، من أجل إظهار مظهر الحضور الكامل والدعم”.، لكن هل هذا كافٍ لفهم مشهد التصفيق الحار الذي تخلل خطاب مجرم الإبادة الجماعية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، بل وسياقه. ولنبدأ بتاريخية مؤسسة الكونغرس الأمريكي، وموقفها من مفهوم الإبادة الجماعية، سواء في تطبيقها أو برقرطتها، أي جعلها جزءًا من السياسة الدولانية البيروقراطية للدولة.
يرى إدموند مورغن في كتابه American Slavery – American Freedom: Ordeal of Colonial Virginia أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اعتمدت، وبشكل رسمي معلن، سياسات إبادة السكان الأصليين بشكل رسمي في وسط القرن السابع عشر، وكان تدشين مستعمرة جيمستاون، باعتبارها أول مستعمرة انجليزية دائمة في شمال أميركا هي أحد نتائج تلك السياسات، التي تعبر عن الحق في “أن نجتاح البلاد وندمر أهلها … حيثما تحلو لنا مواطنهم الخصبة … وأراضيهم التي سنستوطنها بعد تطهيرها من سكانها”.
إلا أن تلك السياسات الرسمية البيروقراطية، التي سعت إلى التوسع والاستحواذ على الموارد، تضمنت أيضًا الحق في اتفاقيات هدنة وسلام مع السكان الأصلانيين. يقول إدموند في كتابه أن مجلس دولة فيرجينيا يصرح أن الاتفاقيات مع السكان الأصلانيين هي وسيلة حرب، “فحين يطمئن الهنود إلى أن الاتفاقية قد كفتهم شر القتال وهم الحذر والحراسة، عندها يتوجب علينا أن نغتنم الفرصة لنفاجئهم ونتلف محاصيلهم ونحرق حقولهم”.
يخطيء من يظن أن إشارة وزير الحرب الإسرائيلي يو آف غالانت للفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية (2023)، في بدايات الحرب، هو تصريح لا تاريخي، أو أنه مقيد فقط بالتبرير للإبادة، كما وظفته مرافعة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية. تقول عالمة الإنسانيات مارغريت هدجن في كتابها Early Anthropology in the Sixteenth and the Seventeenth Centuries أن أول كتاب انجليزي عن الهنود نُشر في عام 1511، “وصفهم بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها البعض، بل إنهم يأكلون أبناؤهم وزوجاتهم”. وقد صرح روجر ويليامز مؤسس مستعمرة رودآيلاند أنهم (الهنود) “ربما كانوا مخلوقات ممسوخة من نسل آدم”. ويقول جون سميث مؤسس مستعمرة جيمس تاون اعن الهنود أنهم “بهائم غير طبيعية، يظهرون كالهوام والحشرات الطفيلية وأسراب الذباب … مثل الجرذان والفئران وجحافل القمل”.
هل مؤسسة دولانية حدايثة كالكونغرس هي الوحيدة المتهمة في السياق الأمريكي بهذا الأمر؟
قبل مذبحة Wounded Knee الشهيرة، عام 1890، في داكوتا في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أبادت شعب اللاكوتا من الهنود السكان الأصلانيين ، صرح فرانك باوم في صحيفته The Aberdeen Saturday Pioneer، في عاموده قائلًا:
“إن أصحاب البشرة الحمراء قد أبيدوا، ولم يبق منهم إلا مجموعة صغيرة من كلاب هجينة تعض اليد التي تطعمها ولا تتوقف عن النباح. أما البيض فإنهم بحكم الغلبة وبقضاء الحضارة أسياد القارة الأمريكية، وإن أفضل أمن لمستوطنات الثغور يجب أن يتحقق بالإبادة الكاملة لهذه البقية الباقية من الهنود .. إن موت هؤلاء الأشقياء خير لهم من الحياة”.
المثير في هذه التاريخانية للتخيلات الاستعمارية بشأن السكان الأصلانيين، أن تقاطعات عدة هنا، بين المستعمرين في نظرتهم للسكان الأصلانيين، هي ظاهرة وفجة، تجعل من خطاب نتنياهو وتصريحات زمرته أمرًا له تاريخية ممتدة في هوية الأنا والآخر، لكن هناك أيضًا تاريخانية لموضعة الفلسطيني أو الكنعاني موضع السكان الأصلانيين المتوحشين، الواجب قتلهم.
يقول جيمس بولدين النائب في الكونغرس الأمريكي ما بين الأعوام 1834 و1839: “قدر الهندي الأحمر الذي يواجه الانغلوسكسوني مثل قدر الكنعاني الذي يواجه إسرائيل: إنه الموت”. حتى سياسات الإبادة الحربية من تتبع الأصلانيين، وقتلهم أين حلو في مسارات النزوح واللجوء، هي أمر له تاريخ مشترك في منظومتين استعماريتين كالأمريكية والإسرائيلية (والكندية والأسترالية والنيوزلندية والسيريلانكية وغيرها). فكما قتلت الإسرائيليين المدنيين في مسارات نزوحهم فعلت أمريكا الأمر نفسه مع السكان الأصلانيين. فبعد أيام قليلة من مذبحة Wounded Knee (أو “الركبة الجريحة”، كما كانت تسمى المنطقة التي وقعت فيها المذبحة) تعقب القتلة النازحين الهاربين وقتلوهم فردًا فردًا. يقول شاهد عيان وهو طبيب نصف هندي يدعى شارل ايستمان:
على بعد ثلاثة أميال من موقع المذبحة وجدنا جثة امرأة مدفونة تحت الثلج. وانطلاقًا من تلك النقطة تناثرت الجثث على طول الطريق وكأنها طوردت واصطيدت وذبحت بعزم وتصميم فيما كانت تحاول لأن تنجو بأرواحها. بعض من معنا اكتشف بعض أهله أو أصدقائه بين القتلى، وكان هناك ندب ونواح يملأ الأرض. وحين وصلنا إلى حيث كان المخيم الهندي وجدنا بين بقايا الخيام والأمتعة المحترقة جثثًا متجمدة تتلاصق هنا في صفوف أو تتراكم فوق بعضها البعض في أكوام”. ويضيف عالم الإنسانيات جيمس موني: “تحت ركام الثلج، كان هناك نساء على قيد الحياة، لكنهن تركن للموت البطيء، وكذلك حال الأطفال الرضع المقمطين والمرميين إلى جانب أمهاتهم … كانت جثث النساء متناثرة فوق محيط القرية. وتحت على الهدنة كانت هناك امرأة صريعة ومعها طفلها. لم يكن الطفل يعرف بعد أن أمه ميتة، ولهذا كان يرضع من ثديها. وبعد أن قتل معظم من في القرية أعلن الجنود أنهم يضمنون سلامة الجرحى أو كل من تبقى على قيد الحياة إذا ظهروا. فخرج بعض الأطفال من مخابئهم، لكن الجنود أحاطوا بهم وذبحوهم. لقد كان واضحًا أن تعمد قتل الأطفال والنساء هو لجعل مستقبل الهنود مستحيلاً”.
في اليوم الرابع للمذبحة كتب باوم في عامود جريدته:
“حسنًا فعلنا، يجب علينا أن نتابع المسيرة لحماية حضارتنا .. إن علينا أن نقطع دابر هذه المخلوقات الوحشية وأن نمحو ذكرهم من على وجه الأرض”، بينما في اليوم الثلاثمائة للمذبحة يأتي نتنياهو ليقول للأمريكيين من كونغرس الإبادة: “لتتذكروا أمرًأ واحدًا فقط من خطابي هذا: عدونا هو عدوكم، ومعركتنا معركتكم، وانتصارنا انتصاركم”.
وكانت رشيدة طليب عضوة الكونغرس تقف وحيدة في حفل الدم والقتل الذهاني التاريخي ذاك، تحمل لافتة كتب عليها: “مجرم حرب، مدان بالإبادة الجماعية”، شاهدًا عن كل السكان الأصلانيين حول العالم .