منذ بدأت رحى الأحداث الحالية يدور في غزة، ونحن نرى سيلاً من الاتهامات والادعاءات التي تقودها إسرائيل وأعوانها وتقوم بتوجيهها إلى الفلسطينيين وداعميهم، ليتم في مرحلة لاحقة تقويضها ونفي صدقيتها والقول بعدم أحقيتها. المشهد الذي قد يستدعي بالضرورة استحضار واستعارة سلوك عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي الذي عرف باتهامه لعددٍ من موظفي الحكومة بالشيوعية والعمل لمصلحة الاتحاد السوفيتي، ليتبين بعد ذلك أن معظم اتهاماته كانت غوغائية ولا تستند إلى أساس واقعي، حيث أصدر المجلس قراراً بتوجيه اللوم إليه، فيما صار هذا السلوك يعرف لاحقاً باسم “المكارثية” وبات المصطلح مستخدما للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين وقذفهم بالاتهامات جزافاً دون أدلة كافية.
وحيث أن الكيانية الفلسطينية لم تنتهِ يوماً، بل زادت تعقيداً بمرور الزمن -لا سيما في ظل الوضع الراهن المعقد والذي ربما أنه الأكثر تعقيدا في تاريخ القضية الفلسطينية، فقد عالج المفكر عزمي بشارة تصورات عديدة من قبيل تشويه الهويات وضرورة مقاربة القضية التي أعادتها غزة إلى الواجهة مجدداً، حيث استهل المحاضرة الافتتاحية في أعمال الدورة الرابعة لمؤتمر طلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية التي نظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بحديثه حول “قضية فلسطين واللاسامية والمكارثية الجديدة”، مؤكداً على ضرورة توسيع النقاش وعدم الاكتفاء بالحديث عن الأحداث الجارية في قطاع غزّة من خلال وصف معاناة الفلسطينيين. لقد ركّز بشارة في خطابه على المواجهة الجارية على مستوى الرأي العام الغربي، مشيراً إلى ما يمكن اعتباره إزاحة وتحويلاً لمحور النقاش عن عدالة القضية الفلسطينية وإثارة مسألة اللاسامية واللغة المستخدمة في وصف الممارسات الإسرائيلية بطريقة تضع المتضامن مع القضية في موقف المضطر للدفاع عن النفس وتبرير ذاته ومصطلحاته، إذ تعمل تقوم جهاتٌ كثيرة بتنظيم حملات لتغيير الموضوع وحرف مجرى النقاش بما يشبه المكارثية الجديدة، على حد تعبيره.
وفي هذا الوقت الذي يهدف فيه السلوك الغربي من خلال مجاراته للفعل الإسرائيلي إلى تغيير السياقات؛ بحيث تحتكر إسرائيل دور الضحية وتتهم خصومَها وأعداءَها وتنعتهم بنازيّي المرحلة وأعداء السامية المعاصرين، في حين تقوم بدور الجلاد وفعله وتنتهك بشكل واسع كل ما هو فلسطيني سواءً كان ذلك في غزة أو على نطاق أضيق في الضفة الغربية -وإن كان لا يقل همجية ووحشية عما يدور في غزة، يبدو أن بشارة قد أخذ بزمام المبادرة ليطلق في تموز 2024 النسخة العربية من كتابه “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة”، وهي ترجمة للكتاب الذي صدر في لندن عن دار نشر هيرست سنة 2022. ويبدو أن هذا الإصدار الذي جاء متزامناً مع نشر كتابه الآخر “الطوفان الحرب على فلسطين في غزة” -الذي يمكن النظر إليه باعتباره جزءاً ثانياً أو مكملاً لسابقه، يؤكد إيمان المؤلف بضرورة عدم تجاهل حرب شاملة كالتي تُخاض ضد الشعب الفلسطيني في غزة، حتى لو كان ترجمةً لكتاب صدر قبل نشوبها.
والكتاب إذ يهتم بمعالجة العديد من التصورات والأسئلة المرحلية والقضايا الأخلاقية، فإنه يتتبع المراحل الرئيسة لتطور الحركة الوطنية الفلسطينية وتاريخ القضية والاستعمار الاستيطاني، كما يقدم تحليلا مركزيا ومقاربة نقدية خالصة تتسم بقدر واضح من الموضوعية والعلمية في الطرح بطريقة تحول دون إتاحة المجال للانتقائية والأيديولوجيات والأحكام المسبقة بحرف البوصلة عن مسارها الصحيح وما يرافق ذلك من تشويه للهويات -بالتزامن مع ما يمكن اعتباره مسرحة للواقع بطريقة تجعل من الضحية مسؤولاً عن سادية الجلاد وظلمه. الأمر الذي يحيل إلى أحد أسئلة بشارة المحورية التي طرحها عبر شاشة الجزيرة منذ نحو 15 عاماً، حيث بدا وقد ضاق صدره بسؤال المذيعة حول من يتحمل مسؤولية المدنيين والعزل الذين يقتلون بلا ذنب -وكأنه يقطن قلب غزة وقلب مقاوميها، ليواجهنا بسؤاله “كيف يُسأل الدم المسفوح دفاعاً عن ثوابت الأمة والشعب والحضارة عن مسؤوليته عن غطرسة السيف وعنجهيته في القتل؟”
وفي الوقت الذي يشكل فيه الكتابان استكمالاً لنهج بشارة الواضح والرافض لفلسطنة قضية فلسطين ومحاولة إنهائها واختزالها باعتبارها قضية الفلسطينيين وحدهم وتفريغها من عمقها العربي، يحاول كتاب “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة” نقل صورة واقعية لقضية فلسطين فيما يمكن تصويره بالمقاربة الإثنوغرافية والمراجعة الميدانية لما عايشه الكاتب، وسبراً لأغوار القضية وتحليلاً نقدياً موضوعياً لتطورها منذ بداية المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين وحتى وقتنا الحاضر. ويتوقف بشارة الذي يتحدث من موقع الباحث المنحاز لمجتمعه، لا من موقع المشاهد المحايد، في مقاربته عند العديد من المحطّات والمنعطفات التاريخية الهامة التي شهدتها القضية الفلسطينية، وخصوصاً تلك التي مرّت بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ مثل اتفاق أوسلو و”صفقة القرن”. كما يقدم المؤلف تحليلاً تاريخياً وسياسياً معمَّقاً للقضية الفلسطينية بعد نكبة 1948، الأمر الذي جاء مقترناً مع عرض للمراحل الرئيسية في تاريخ القضية، ومعالجة لتداخلها مع المسألة اليهودية، ومع “المسألة العربية”، كما سمّاها، وتأثيرهما فيها.
ويبدو أن بشارة حين أشار في المحاضرة سالفة الذكر إلى أنّ الحديث عن خلفيات الحرب الجارية في قطاع غزّة ووصف معاناة الناس في فلسطين فقط، من دون توسيع النقاش، سيغدو من باب التكرار واللجوء إلى البلاغة اللغوية في وصف المعاناة التي لا تسعفنا اللغة دائمًا في التعبير عنها -كان يؤسس معرفياً وأخلاقياً وسياسياً، إلى جانب تأطيره نظرياً، لما سيقدمه في “الطوفان” من قراءة نقدية تحليلية تولي أهمية خاصة لاستراتيجيات المقاومة وللواقع الجديد الذي تشهده المنطقة بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ويساهم في بناء لغة تلائم مقاربة هذا الواقع وتستجيب للتحديات الراهنة. يناقش المؤلف في هذا الكتاب ما تمت الإشارة إليه باعتباره حدثًا ما زال كاتبه وقراؤه يعايشونه، ويبحث في موضوع كبير وممتد لم تتضح أبعاده أو تعرف خواتيمه بعد، بل ويصعب الإلمام بجميع مكوناته وآثاره، كما يركّز على خلفية الحرب ودوافع إسرائيل لمتابعتها على الرغم من الخسائر التي تلحق بها. وفي حين يرى بشارة أن الكتابة عن بعض جوانب ظاهرة اجتماعية ما من مسافة زمنية أبعد تكون أيسرَ -ذلك أن انجلاء الغبار عن الظاهرة يساهم في تقديم تحليل شامل ويتيحَ إفهامًا أكثر للتفاصيل والوقائع، إلّا أنه يعتبر أن للقرب الزمني من الحدث ومعايشتِه فضائلَ عديدة رغم صعوبات الكتابة بأسلوب علمي مع استمرار الحرب.
من ناحية أخرى، وفي سياق تحليل بنية نظام السيطرة في فلسطين وطبيعته إلى جانب محاولة الإلمام بجوانب رئيسية في مسار القضية الفلسطينية والنظر في أنماط التنظيم والفاعلين من البشر والظروف المحيطة بالمقاومة ومكانها وزمانها، يقدم المؤلف في كتاب “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة” تكثيفاً لأفكار وتجارب شخصية وأحداث مركزية لا تنفك أبداً عن كونها جزءاً من تحليلاته وتأملاته وكتاباته حول هذه القضية، ذلك في وقتٍ يشهد فيه العالم على استمرار النكبة والمقاومة في غزة. ويبدو أن بشارة الذي تسلسل وتدرج في البناء والترقي على الأنساق قد نجح في الحفاظ على خيط رفيع بين العمل الأكاديمي العلمي والواقع العملي المعاش، وقدم مراجعةً تاريخية مستفيضة وجاء بإجاباتٍ شاملةً للأبعاد المختلفة للحالة الفلسطينية وتعقيداتها، من خلال منظور العدسة النقدية لمسألتي الحقيقة والعدالة، ذلك في مسعى منه للمساهمة في تكوين وعي نقدي حول واقع القهر الذي يعيشه الفلسطينيون والثمن الذي يدفعونه لمواجهة التمييز الممأسس والممنهج، وحول تاريخ فلسطين وقضيتها “الكاشفة” على حد تعبيره.