أن نكتب لفلسطين

Samia Halaby, My Eggplant Patch in Gerash, 1982, Oil on canvas canvas, 107 x 122 cm

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

ولفهم دور الصحافة الثقافية الفلسطينية في هذه اللحظة، لا بد لنا أن نؤسس مقاربة ما نظرية لتحوّلات الذات الفلسطينية التي نكتب لها، ومظاهر تآكل ملامحها العامة الجامعة، وما شكل العلاقات التي تنتجها تلك الوضعية بالدرجة الأولى

للكاتب/ة

وهنا، أصبح الفلسطينيون في مواجهة لا مفر منها مع محوٍ لا يختلف عن المحو الإبادي الحادث في غزة الآن، إذ لم تقم اللغة بالانفتاح والتحديق في مساحات الهدم والمحو والغياب، ومحاولة تفكيكها وإعادة موضعة المحو والهدم والغياب وتركيبها، بما هم أدوات إنتاج وكتابة للذات والعالم فلسطينيًا

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/11/2024

تصوير: اسماء الغول

عبدالله البياري

كاتب وباحث من فلسطين

عبدالله البياري

في هذه اللحظة من تاريخ فلسطين والعالم، حيث كل صوت وحرف كُتب وقيل عن فلسطين مهدد وموسوم بالإرهاب ومعاداة السامية، تختار “رمان” لنفسها مقولة انطلاقتها الجديدة: “نكتب لفلسطين”. وهذه المداخلة هي محاولة لتأمل تراكبية هذه المقولة وراهنيتها، لا من حيث الإبادة والاحتلال بما هما منظومات مفاهيمية تمتد على/إلى الجسد والمكان والفكرة، إنما بكونهما باتا شكلًا من أشكال الخطاب والاستعارات التي أثقلت لغاتنا وخيالاتنا، وأوغلت في امتحانها، واستثمرت أكثر وأكثر في مساحات الصمت وإمكانات المحو.

في حرب الإبادة هذه، لم تعد “الكتابة” (فعلًا ومفهومًا) مدركةً ضمنًا كفعل إنساني متجاوز للمادي (الجسدي) بالمادي (الحرف ومرسوماته البصرية)، وهي التي صاحبت الوجود البشري وتاريخه وأثرت فيه وتأثرت به، وشكّلت العالم حوله(1). ولا “فلسطين” كمعنى محصورة في حدود الجغرافيا والمقولة الاستعمارية والنضالية والسياسية، والشعرية والثقافية، فقط. ولم تعد اللغة بكل تكثّف الإبادات الحادثة فيها، قادرة على مواكبة ما يحدث للفلسطينيين والفلسطينيات.

نعتقد أن الأزمة التي أصابت لغاتنا الحديثة وقدرتها على التعبير عن اليومي المعيش في هذا الجزء من العالم، وفي لحظة الإبادة الكثيفة التي نشهدها (ونحن جزء منها)، لم تتوقف عند حدود اللغة بما هي أداة تواصل وتعبير، إنما امتدت إلى مساحات التنظيم والاتفاق والتفاوض على المعاني والرموز بما هي وجه من أوجه مأسسة اللغة بين الجسدي والرمزي، وصولًا إلى مشترك ما جسدي ومادي ورمزي. وعليه، فإننا هنا نشير إلى اللغة بما هي اللّبِنة الأساسية لكل أشكال التنظيم الاجتماعي، وصولًا إلى الدولة الحديثة بما هي مؤسسة لغوية، في أساسها. وعليه، ثانيةً، فإن الأزمة في اللغة لا بد لها أن تنعكس على التنظيم والتفاوض والأفكار المتعلقة بمفهوم الاجتماع والدولة، وانتقالاته بين الشعوب في بوتقة الحداثة، بما هي معانٍ تداولية(2).

وهنا، أصبح الفلسطينيون في مواجهة لا مفر منها مع محوٍ لا يختلف عن المحو الإبادي الحادث في غزة الآن، إذ لم تقم اللغة بالانفتاح والتحديق في مساحات الهدم والمحو والغياب، ومحاولة تفكيكها وإعادة موضعة المحو والهدم والغياب وتركيبها، بما هم أدوات إنتاج وكتابة للذات والعالم فلسطينيًا. لذا نرى أن (الـ)جبهة الأهم لمواجهة إسرائيل كمنظومة استعمارية استيطانية إحلالية، هي الجبهة الإبستيمية (الجامعات والأبحاث وإنتاج المعرفة) والفنية والثقافية (إنتاج الاستعارات والرموز).

إن سؤال “الصحافة الثقافية الفلسطينية”، التي تُكتب بنون الجماعة في هذه اللحظة من الإبادة، هو سؤال مركب، وله راهنية التي لا تنطلق من كثافة الإبادة والحاجة إلى ترك علامة وأثر لحيوات وأجساد ومدن -كانت وبقيت- فحسب، إنما من التساؤل الأساسي بشأن ما هي فلسطين المكتوبة، وما هي الكتابة فلسطينيًا في لحظة فارقة من تاريخ عالمنا. ولعل هذا التحوير في السؤال يدفع به إلى مساحات أكبر من مفهوم الصحافة الثقافية وبنيتها، في لحظة تحدد نفسها بـ: “نكتب لفلسطين”!

ولو انطلقنا من عموم التساؤل: “ما هي الصحافة الثقافية؟”، يمكن القول إن الصحافة الثقافية هي شكل من الإنتاج والعمل الصحافي، يركز على تغطية الأخبار والمواضيع التي تتعلق بالفنون والثقافة والأدب والموسيقى والسينما والعروض المسرحية والكتب، وغيرها. وهي جنس من الكتابة الصحافية، لا تنحصر من حيث التقانة بالصحافة والصحافيين، بل إن أغلب من يحملون أحبار هذه الكتابة، لا يصنّفون أنفسهم صحافيين بالمعنى الدارج للصحافة، الذي بدأ يترسّخ في مخيالاتنا منذ أواسط القرن التاسع عشر.

حين سُئل محرر “رمّان” عن قدرة السينما في وقت الحرب، أجاب: “لا شيء، لا السينما ولا الفنون في عمومها؛ فمن منا يقدر على حمل كتاب ليقرأه أو انتقاء فيلم ليشاهده؟ كلنا مسمّرون أمام شاشات الأخبار”(3). وأكمل: “إن عمل الفنون تراكمي، وليس فوريًا. لها أهمية كبرى، لكن في مرحلة ’الما بعد‘ وليس في زمن الإبادة”(4).

فما الحاجة إذن إلى صحافة ثقافية تدخلنا إلى الـ”مابعد”، ما لم تواجه الآن والهنا؟ لعل هذا هو جوهر راهنية الفاعلية في الصحافة الثقافية، وبالذات في زمن الإبادة: أن تكون حَديةً وحدودية، هي المراكمة للـ “ما بعد”، أي أنها قائمة على قطيعة (ما) بين الآن-هنا بما هي علاقات قوى في منظومة استعمارية ورأسمالية، ساهمت في بناء الحالة الراهنة، والـ “ما بعد (ية)” بما هي خروج عن تلك العلاقة الخاضعة. بكلمات أخرى: الصحافة الثقافية التي لا تشتبك، لا يعوّل عليها، وتلك التي لا تكتب عن فلسطين بما هي قضية عادلة قادرة في هذه اللحظة على إنتاج عالم ما بعد عالمنا الذي نعرفه، فلا معنى لها.

ولفهم دور الصحافة الثقافية الفلسطينية في هذه اللحظة، لا بد لنا أن نؤسس مقاربة ما نظرية لتحوّلات الذات الفلسطينية التي نكتب لها، ومظاهر تآكل ملامحها العامة الجامعة، وما شكل العلاقات التي تنتجها تلك الوضعية بالدرجة الأولى. ولعلنا هنا نستضيء ببعض ما يطرحه عالم الاجتماع الأمريكي مارك غرانوفيتر، في بحثه المعنون: “قوة العلاقات الضعيفة”(5).

إن وضعية الجماعة الفلسطينية على هوامش المجتمع الاحتلالي في فلسطين المحتلة، وأطراف المجتمعات المضيفة في المنافي، إنما يقدم لنا شكل علاقات اجتماعية تتقوى بموقعها الضعيف. وهو ما يشير إليه غرانوفيتر في بحثه المشار إليه، من حيث أن الروابط الضعيفة ليست مهددة بالتفكيك، بقدر ما هو الحال في المجتمعات القوية والتقليدية، حيث الروابط الاجتماعية قوية، وهو ما يمنحها فرادة تتخطى السياسي بشكله النمطي، إلى الثقافي بشكله المفتوح. يمكننا رؤية ذلك في السينما والأدب والنقد الذي أنتجه المثقفون والفنانون الفلسطينيون والفلسطينيات حول العالم. تعمل هذه الروابط الضعيفة على ربط الفلسطينيين حول العالم، من غير الحاجة إلى عصبية حديثة مثّلتها الدولة. وبالتالي، فهي تقوم -على ضعفها- بدور جسور للمعارف والمعلومات والخطابات وأشكال الأداء، التي تتكثف جميعها في الإنتاج الثقافي لتلك الجماعات أينما كانت.

إلّا أن ثمة مشكلة في هذا الشكل من الاجتماع وموقعيته، بالمقارنة بين الجغرافي والتاريخي. طرح بندكت آندرسن مقاربته بشأن دور الصحافة والجرائد والطباعة في ترسيم حدود الجماعة المتخيلة، عبر تشاركية لحظة قراءة الجريدة أو الورق المطبوع، بصريًا، والخبر المشترك في تداوله من حيث هو تمثلات للعالم تتبدى أمام أفراد جماعة ما في لحظة ما مشتركة. إلّا أن تكنولوجيا التواصل الحديث في هذه اللحظة، وسرعة تناقلاها وتشكيلها لحدود الآن والهنا، وإنْ كانت قد قربت بين المجتمعات الفلسطينية في الشتات، وفتحت حدودهم على غيرهم، إلّا أنها قد أنتجت شكلًا من أشكال الاغتراب ما بعد الحداثي، بما هو سمة للحداثة المتأخرة، ساهمت، كما يرى هارتموند روزا، في “تدمير الإيقاع الاجتماعي”(3). وهو ما يعني تغيّرات في الخطاب والأداء وتشكيلات المعرفة والسلطة والمحاكاة وتمثيلات الواقع، ما أدى إلى خضوع الاجتماعي للافتراضي، وهو ما يطمس المشترك ويحصره في ظاهر الافتراضي، ويعزله عن التفاعل الاجتماعي.

ومن هنا تأتي أهمية الاشتباك النقدي مع الثقافة، والكتابة لفلسطين.

أن تكتب لفلسطين هو أن تنظر إلى العالم من فلسطين، وأن ترى فيه شيئًا ما فلسطينيًا.

قد نبالغ في تحميل “رمّان” ما لا تحتمل في مسألة الكتابة لفلسطين، إذ نقول إنها العلاج لواقع اجتماعي متذرر ومدمّر، إلا أنها شكل من أشكال مواجهته والتحديق في فلسطينيته بالكتابة، كما يجب أن تكون الكتابة عن فلسطين. فما تحاول المجلة أن تكونه باختيارها الواضح في هذه اللحظة بالكتابة عن فلسطين، أن تكون هي تحديقنا الفلسطيني في العالم، وتحديق العالم في فلسطينيتنا. ما تحاول “رمّان” قوله: إن الفلسطينيين ليسوا وسائط لتحقق مقولات إعادة التاريخ، وإنهم بجماعيتهم واجتماعياتهم الزمكانية بجغرافيتها وتواريخها  قادرون على تغيير تاريخ العالم، وكسر مركزية السياسي الحداثية الدولانية فيه. فليس من المصادفة في شيء أن يكون الفيلم أو القصة أو الرواية أو الفن التشكيلي أو البحث الأكاديمي، أهم من المنشور السياسي، لأنّ التناقضات تُحرِّك الناس، وتُنتِج سردية مغايرة، ومركبة بشكل يفتح إمكانات النقد والمعارف على تفكيك بنى الهيمنة والسلطة فيها، وبالذات في لحظة تاريخية لا مفر أمام الفلسطينيين فيها من الارتقاء لمسؤوليتهم التاريخية تجاه الهدم والمحو والإبادة، باعتبارهم أدوات تاريخية استعمارية، بدأت مع نكبة مستمرة لم تنته حتى هذه اللحظة، وراكمت كل شيء على عاتقها سببًا فنتيجة.

وعليه، فأن تكتب لفلسطين يعني أن نكون نحن الفلسطينيين واعين لما يعنيه القول أن الصراع/ النزاع مع الاحتلال يساهم في تشكيلنا، وأن هذا التشكيل هو مجال صراع/ نزاع آخر، قد كُتب علينا. فلسطين الفكرة، كما تراها “رمّان”، هي سعي للتماهي مع الحياة والجمال، وبالتالي لا يمكن إلا أن تكون على الطّرف النّقيض تمامًا من الطّغيان والقمع والعسف بكل أشكاله، ومسبباته واستعاراته.

هوامش

١- والتر أونغ، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن عز الدين. سلسلة عالم المعرفة، العدد 182. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1972.  

٢- يظهر ذلك جليًا في الحالة الفلسطينية في الدعاوى لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، بالذات إذا نظرنا إلى موقعها باعتبارها استعارة سردية نضالية في تاريخ النضال الفلسطيني من ناحية، والذي كان يتحرك نضاليًا/ مواجهاتيًا خارج استعارة الدولة (بشكل معلن على الأقل)، وأقرب إلى استعارة المجتمع التحرري، وسرعان ما تمت معيرته Standardization نموذجًا مصغرًا للغة فصائلية أفضت إلى حركة فتح، ومن بعدها إلى لغة مدولنة أفضت إلى سلطة فلسطينية شبيهة بدولة من حيث الجسد واللغة. فلا بقيت الاستعارات السردية النضالية قادرة على خلق لحظة جمعية ومجتمعية تراحمية مشتركة تقوم على استعارات النضال والتحرر، ولا تحولت إلى دولة قادرة على التعايش مع المعيش اليومي للفلسطينيين ولغتهم في مواجهة الاستعمار الاستيطاني وسياساته وإجراءاته، بل أصبحت تفقدها بكل تقارب أو تماهي استعاري بين المنظمة ومنظومة الدولة الحديثة أو الفصائلية، من ناحية. ومن أخرى فقدت تلك اللغة الجمعية للمشترك الفلسطيني إن حاولت العودة لخطاب نضالي. وهو ما يضمن هدمًا آنيًا مشتركًا لقدرة المنظمة اللغوية والخطابية والإجرائية النظرية السياسية.   

٣- لقاء موقع “فارقة معاي”، مع سليم البيك، محرر “رمّان”، بتاريخ 1/2/2024:
https://faraamaai.org/articles/belkhat-alareed/alshaf-althkafy-ozmn-alabad-fy-tgrb-rman-althkafy 

٤- المصدر نفسه.

٥- Mark Granovetter, “The Strength of Weak Ties,” American Journal of Sociology, vol. 78, no. 6 (1973), p. 1366. 

٦- Hartmund Rosa, Social Acceleration: A New Theory of Modernity, Johnathan Trejo-Mathys (trans.) (New York: Columbia University Press, 2015).

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع