اثنان وأربعون مليون طنٍ، تعادل أكثر من وزن برج خليفة بثمانين ضعفًا، هي كمية حطام الحرب الذي ترزح غزة تحته اليوم، ونحن على بعد أيام من منعطف العام الثاني للعدوان الإسرائيلي الذي استهدف وانتهك كل ما هو فلسطيني، وشكّل امتداداً لسلسلة طويلة من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والممنهجة على قطاع غزة، حتى صار يُنظر إليه بوصفه الأكثر همجية في التاريخ الفلسطيني. وذلك كلّه تم في ظل حصار مطبق يحصد الأرواح ويحول دون وصول الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية والدوائية، ويجعل من إرث غزة وتراثها وهويتها وحضارتها ومبانيها وطرقاتها ركاماً يختزل المدينة، بمكوّناتها وحيواتها، في كومة حطام لمّا تزل تنتهك جثامين الشهداء وتشكل خطراً محدقاً على الجميع. بل إن معظم المباني السكنية التي كان قد أُعيد إعمارها مؤخراً، قُصفت ودُمّرت على رؤس ساكنيها، وأُجبِر من بقي منهم على قيد الحياة على النزوح نحو أماكن لا يمكن القول إنها أكثر أماناً من مساكنهم المدمرة، ليصبح ما يزيد على 1.8 مليون مواطن من سكان غزة، معظمهم من النساء والأطفال، بلا مأوى، وباتوا يفتقرون أساسيات الحياة.
عشية العدوان الإسرائيلي الهمجي، كان يقيم في قطاع غزة نحو 2.2 مليون فردٍ، منهم أكثر من مليون طفل يشكّلون ما نسبته 47% من مجموع السكان. في حين تشكل الإناث ما نسبته 49.3%، أي حوالي 1.10 مليون نسمة من مجمل سكان قطاع غزة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وهذه الإحصائيات تساهم في تفسير تعاظم تأثّر النساء والأطفال بويلات العدوان، وما ساقته الحرب من خراب ودمار غير مسبوق، في انتهاك صارخ للقانون الدولي ولحقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق المرأة والطفل بشكل خاص، إذ يمكن ملاحظة أن شهداء غزة في معظمهم من النساء والأطفال، ويشكلون نحو 69% من إجمالي عدد الشهداء الذي زاد على 42 ألف شهيدٍ، بينهم حوالي 16,700 طفل، ونحو 11,300 امرأة. ليس هذا فحسب، بل إن هناك تصوراً بأن هاتين الفئتين هما الأشد تضرراً وتأثراً بالعدوان الإسرائيلي واستهداف البنية التحتية، وهدم المباني والطرقات والجامعات والمدارس والوحدات السكنية وتدميرها، كونهم الأكثر استفادة ومكوثاً في المسكن ومؤسسات التعليم.
ومما لا شك فيه أن العدوان الأخير على قطاع غزة، إضافة إلى الاعتداءات المتصاعدة والانتهاكات المتكررة لمدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها، التي تشهد تكراراً لنماذج الخراب المهيب والممنهج، أدى إلى نتائج وخيمة ألقت بظلالها على البنية التحتية، وخلّفت تدمير المباني العامة والمساكن وتخريبها، كذلك المنشآت الاقتصادية والزراعية والتعليمية، ودور العبادة والمؤسسات الصحية في فلسطين عموماً. ورغم عدم وجود بيانات دقيقة شاملة حول نوع الضرر الذي تسبب ويتسبب به العدوان الإسرائيلي وحجمه وطبيعته، وخصوصاً في قطاع غزة، فإن هناك أرقاماً أولية صادرة عن بعض التقارير الحكومية، إضافة إلى التقديرات التي تستند إلى البيانات الصادرة عن العديد من المؤسسات الدولية والأممية. ويظهر منها أن قطاع غزة قد تعرض لأضرار كبيرة في بنيته التحتية خلال الأشهر الأخيرة، إذ تشير التقديرات الأولية إلى أن حوالي 65% من شبكة الطرق في قطاع غزة جُرّفت ودُمّرت، أو تعرضت لضرر مباشر، ما أدى إلى تعطيل حركة النقل والمواصلات بشكل كبير، وأنتج حوالي 3.6 مليون طن من ركام الطرق المدمرة الموزّعة على امتداد القطاع.
أما على صعيد استهداف المساكن الآمنة وما يتصل بذلك من تهجير وترويع للمواطنين، فتشير التقديرات المختلفة والتقارير المستندة إلى مراجعة بيانات وصور الأقمار الصناعية وتحليلها إلى أن حوالي 300 ألف وحدة سكنية، تشكّل نحو 60% من إجمالي الوحدات السكنية في قطاع غزة، قد تعرّضت لأضرار متفاوتة، بما في ذلك أكثر من 200 ألف وحدة سكنية دُمّرت بالكامل، أو تعرضت لأضرار بليغة ولم تعد صالحة للسكن. كما أن هناك تدميراً وضرراً مباشراً متفاوتاً مسّ نسبة كبيرة من المباني والمنشآت والمباني العامة. وبحسب التقارير المختلفة، يظهر أن الضرر والتدمير قد لحق بنحو 200 مقر حكومي في مختلف أنحاء قطاع غزة، إضافة إلى ما يزيد على 450 مدرسة وجامعة، وأكثر من 800 دار عبادة، وحوالي 280 مؤسسة صحية ومستشفى ومستوصف.
ويبدو أن كثافة الركام تتركز في شمال القطاع، حيث وصلت مخلّفات الدمار إلى أكثر من 15 مليون طن في مدينة غزة، وحوالي 9 مليون طن في شمال غزة، إضافة إلى نحو 8.5 مليون طن في خان يونس، ثم في رفح ودير البلح، اللتان شهدتا تراكم حطام يقدّر بنحو 3.7 و2.4 مليون طن تباعاً. كما أن هناك تصورات أولية تشير إلى وجود جثامين وأشلاء ما يصل إلى عشرة آلاف شهيد تحت الأنقاض، إضافة إلى نحو خمسة آلاف مقذوف لم تنفجر، وتشكّل قنبلة موقوتة وخطراً محدقاً بالمواطنين الساعين لإنقاذ ذويهم أو إخراج رفاتهم من وسط الدمار، مستخدمين في ذلك وسائل ومعدّات تقليدية، قد تفاقِم الخطر في ظلّ عدم وجود آليات وفرق متخصصة للتعامل مع هذه المواد.
ولا يخفى على أحد تركّز مشاهد العنف والدمار في مدينة غزة، هناك، حيث خفت صوت هند رجب ذات الأعوام الستة على مرأى العالم ومسمعه في حي تل الهوى، بينما كانت موظفة مركز اتصال الطوارئ التابع للهلال الأحمر الفلسطيني تحاول تهدئتها وطمأنتها، قبل أن يختفي صوتها إلى الأبد. ويبدو أن استهداف النساء والأطفال يشكّل استهدافاً ممنهجاً، وجزءاً لا يتجزأ من مساعي المحو الديموغرافي والإبادة الجماعية التي تمارسها السلطة الاستعمارية، في ظلّ استشعارها للخطر الوجودي الذي تتسبب به الزيادة السكانية الفلسطينية، وخصوصًا في قطاع غزة. ويمكن ملاحظة كيفية استهداف الأطفال والنساء المنجبات، جنباً إلى جنب مع المساعي المتكررة لاستهداف مختلف فضاءات غزة ومبانيها، ومحاولات طمس الإرث والتراث والهوية، وضرب البنية التحية، لتكون النتيجة بالضرورة محواً شاملاً للوجود الفلسطيني وكل ما يتصل بالذات والكيانية الفلسطينية. وتوضح التقارير الأممية أن النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة يواجهن مخاطر عالية بسبب عدم توفر الرعاية الصحية والتغذية الكافية لهن. وتشير التقارير إلى وجود أدلة حول قيام الأمهات والنساء البالغات بتولّي مسؤولية جلب الطعام وتحضيره لأسرهن، لكنهن غالباً ما يكنّ آخر من يأكل في الأسرة، وأقله، أو يتخطّين تناول وجبة واحدة على الأقل لإطعام أطفالهن، ما يهدد صحة الأمهات والمواليد.
وفي الوقت الذي تعاني فيه النساء الآثار النفسية لاستهدافهن المباشر أو استهداف أفراد عائلاتهن، يظهر جليّاً دور المرأة وحضورها جنباً إلى جنب مع الرجل في ما بقي من مظاهر الحياة في قطاع غزة، فشغلت حيّزاً واضحاً خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وما تشهده غزة من قهر وتدمير وتجويع وحصار ممنهج، وبرزت باعتبارها قوة ملهمة ومؤثرة ومتصلة بمسار حركة المجتمع وواقعه. وكان ذلك سواءً من خلال صمودها وثباتها في وجه أدوات الحرب القاتلة في سياق مختلف جوانب المواجهة والحفاظ على مكوّنات الهوية والوجود، أو عبر سعيها الحثيث -رغم شحّ الإمكانيات وانقطاع السبل- لتعلّم مهارات التأقلم المنقذة للحياة، ومشاركة الرجل في توفير الحد الأدنى من مقوّمات العيش لأفراد أسرتها، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لأطفالها الذين يشهدون ويلات ومآسي العدوان ويعانون منها. بل إن بعض النساء قد يلجأن إلى آليات تكيّف يمكن وصفها بالمتطرفة، مثل البحث عن الطعام تحت الأنقاض أو في صناديق القمامة، بحسب التقارير الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
لقد شكلت الفلسطينية الغزية نموذجاً في الصمود والتكيّف وبثّ الأمل من تحت ركام الحرب ومخلّفاتها، وساهمت في إنبات حياة جديدة تحيل إلى استمرار التعلّق بالأرض والمكان، ورفض مغادرتهما، فنجد مشهداً لنازحة تسعى لتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي لها ولأسرتها ومواجهة سياسة الحصار والتجويع وما تمخّض عنها من ارتفاع جنوني في الأسعار، عبر زراعة بعض المحاصيل الزراعية حول خيمتها لسدّ رمق أسرتها. فيما أبت نازحة أخرى إلّا أن تعود مع أطفالها إلى بيتها في شمال قطاع غزة، حيث زرعت بعض الأصص وعلّقتها على ما بقي من حوائط قد تتوارى خلفها، ولكنها لا تحول بأي شكل من الأشكال دون تسلل نيران العدوان. ومما لا شك فيه أن سعي الغزيين مستمر للعودة إلى ما تبقّى من مساكنهم، أو إلى أماكن سكنهم الأصلية حيث ما زالت حاراتهم ومخيماتهم، رغم تغيّر ملامحها وتضاريسها، شاهداً على أنها كانت يوماً مسرحاً وميداناً لمجمل حيواتهم وأفراحهم التي حاولت آلة الحرب الإسرائيلية التسلل إليها واغتيال تفاصيلها.
إن حجم الأضرار غير المسبوقة التي لحقت بالبنية التحتية في قطاع غزة، وبالمباني وبالمساكن والأزقة والطرقات، يتطلّب تدخّلات سريعة وفعّالة لإعادة الإعمار، ويستلزم بذل أقصى ما يمكن لفتح الطرق وتسهيلها، وسرعة البدء بإزالة مخلّفات العدوان وآثار الدمار، وتأمين المباني والمنشآت الآيلة للسقوط، التي قد تهدد حياة الناس وتشكّل خطراً على السلامة العامة، وتستهمّ في العمل على استدامة الخدمات الأساسية. كما ينبغي على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية والأممية الدفع باتجاه وقف العدوان، وتقديم الدعم اللازم لتلبية احتياجات إعادة البناء والتأهيل. كذلك يجب وضع خطة استراتيجية لإدارة الركام وفتح الطرق وإعادة تأهيلها، وإصلاح المباني المتضررة، وتوفير المأوى للسكان الذين فقدوا منازلهم، وإعادة بنائها وإعمارها بما يضمن استدامة الخدمات الأساسية، وتوفير سبل العيش الكريم لجميع السكان؛ رجالاً وأطفالاً ونساء، بما يتيح إعادة بناء غزة وتخطيطها وتصوّرها بشكل يحافظ على أصالة هويتها وإرثها الحضاري، فيأخذ كل مسعى تخطيطي قادم احتياجات المرأة ومتطلباتها الحيزية، وتأمين الفضاءات المناسبة لتمكينها من الحفاظ على دورها المجتمعي والوطني.