هنيده غانم - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/120rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:41:09 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png هنيده غانم - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/120rommanmag-com 32 32 تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (٢/٢) https://rommanmag.com/archives/19393 Tue, 21 Aug 2018 07:43:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%83%d8%a8%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86-2/ هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي

The post تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (٢/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

هذا الجزء الثاني، لقراءة الجزء الأول من الدراسة…. هنا

 

3. راشد حسين “الحب.. والجيتو” أو النكبة تقف أمام المحرقة وتسائلها:

شهدت السنوات الأولى التي تلت إقامة إسرائيل وبالتوازي مع عملية محو المشهد الفلسطيني وذاكرته تسارع عملية بناء وترسيخ مؤسسات الدولة الجديدة على أنقاض فلسطين، وشهدت هذه السنوات إقامة مؤسسات حفظ/إنتاج الذاكرة خاصة المرتبطة بالمحرقة من خلال إقامة مجمع ياد فشيم فوق أراضي حمامة التابعة لقرية عين كارم. وبعكس كثير من القرى التي دمرت بيوتها وسويت بالأرض، تم الإبقاء على بيوت عين كارم التي تتميز بجمالها، وتم تحويلها لإسكان المهاجرين اليهود.

في السنوات الأولى التي تلت النكبة، كان بقايا الفلسطينيين الذين ظلوا على الأرض التي أقيمت عليها إسرائيل، والبالغ عددهم ما يقارب نحو 150 ألف نسمة، يلملمون هزيمة شعبهم ويحاولون إعادة  ترتيب حياتهم وفق القواعد الجديدة التي وضعتها الدولة اليهودية المستجدة بوصفهم مواطنين فيها. وقد وصفت رواية «أولاد الغيتو.. اسمي آدم» لإلياس خوري التي ذكرت في تقديم هذه الورقة تجربة “الناجين-الباقين” التي عاشها جزء من هذه البقية في المدن المنكوبة من خلال تناول الحياة في “جيتو اللد”.

كانت مشاعر الخوف والارتباك والقلق بشأن المستقبل تتحكم بكثير من السلوكيات الجمعية خاصة بعد طرد غالبية سكان البلاد وهدم الحواضر المدينيّة وتسوية مئات القرى بالأرض. ويمكن الاستدلال على واقع الخوف الذي ساد في سنوات الخمسين الأولى من حالة  الخرس التي هيمنت على الإنتاج الثقافي بين الفلسطينيين في إسرائيل فيما عدا حالات قليلة. وقد بدأت هذه الحالة بالتغيّر التدريجي مع مرور الوقت وانحسار خيار الطرد خاصة بعد مجزرة كفر قاسم عام 1956، عشية العدوان الثلاثي وما أعقبها من عقد راية الصلح في كفر قاسم. ويضاف إلى كل هذا ارتفاع صوت الحزب الشيوعي وحزب مبام المناهضين لسياسات الدولة تجاه العرب، وإصدارهم مجلات ثقافية لنشر الإنتاج الثقافي الفلسطيني في الداخل، من بينها مجلة الفجر التابعة لمبام التي كتب فيها الشاعر راشد حسين (1936-1977) والشاعر والكاتب فوزي الأسمر (1937-2013) ومجلة الجديد الصادرة عن الحزب الشيوعي بالإضافة إلى جريدة الاتحاد.

في مقابل حالة الخوف التي هيمنت على “البقية الباقية” كما أسماهم الكاتب إميل حبيبي، وصل إلى إسرائيل في أول عقدين من إقامتها ما يقارب نصف مليون ناجٍ من المحرقة. وكما تقول حنة يبلونكا مؤرخة المحرقة  كانت علاقة الإسرائيليين مع موضوع المحرقة مركبة وتمزج ما بين النظرة السلبية لضحاياها واتهامهم بعدم المقاومة والخنوع المذل للنازيين (تختصر بمقولة سيقوا كالخراف للذبح) وبين الرحمة والشفقة، مقابل محاولة المؤسسات الرسمية التشديد على المقاومة والتمرد في الجيتوات وإنتاج ذاكرة جمعية سياسية تحتفي بهذا الفعل بدل مركّب الضحية وهو ما تجلى في إطلاق تسمية “يوم المحرقة والبطولة” على يوم الذاكرة السنوي لضحايا المحرقة وربطه وتزمينه قبل احتفالات “استقلال إسرائيل” بأسبوع ليكون التزمين بمثابة صورة السلب “للانبعاث” الذي تدعي الصهيونية أنها تجسده في مقابل مصير “الموت” في الـ “شتات” لليهود “السلبيين”، وفيما يتم تذكر الضحايا وتمجيد بطولات المقاومة في الجيتوات على الرغم من ضآلتها وضعفها كما أشارت إلى ذلك حنة ارندت في كتابها “ايخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر” ( ص 171) مقابل ضخامة وكارثية دور مجالس قدماء اليهود في المحرقة (انظر/ي خاصة ص 162- و168) فإن جدلية “الموت والانبعاث” و”السلب والإيجاب” تُشكل سياسياً على يد الصهيونية اليهودية لأهداف إقامة الحلم الصهيوني.

بين ثنايا العلاقة الإسرائيلية المتناقضة مع مسألة المحرقة، وما بين مواقف التشكيك والشفقة والاتهام تجاههم، التزم كثير من الناجين من المحرقة ” كما كتبت مؤرخة المحرقة حنة يبلونكا، الصمت، واتجهوا نحو إعادة ترميم حطامهم، ليتقاطع صمتان في أول الخمسينيات، صمت قسم من الناجين من المحرقة وصمت بقايا أهل البلاد الأصليين ممن نجوا من الطرد الجماعي ومن النكبة، مع فارق جوهري، أن الأولين يحاولون بناء كيانهم مجدداً على حطام التالين.

مدّ راشد حسين حبل الكلام بين الصمتين، واستنطق الخرس المنسوج بالحزن والفقدان، حكى حكاية النكبة والخراب الذي أصاب بلده عبر صور يافا المدمرة، وسمع حكاية المحرقة من خلال قصة ناجية المحرقة “يافا” التي جاءت هاربة من هول المحرقة لتحط فوق تلة خرائب يافا. هناك حاورها، من فوق الوجع والفقدان، صك الحوار مع الناجية القادمة من البحر لقاء يبدأ بالحب وينطوي على إعلان مضمر للموقف من المحرقة، يبدأ من الحب الذي يستحيل بعد أن تسطو عليه القومية الصهيونية وتخضعه لعنصريتها ومنطقها الإحلالي.

وقف حسين في “الحب والجيتو” ممثلاً للنكبة أمام ناجية المحرقة التي حطت في بيته، تتوسطهما الصهيونية وتحدد اقتصاد العلاقة الممكنة. ينظر هو إلى عينيها مباشرة ويقوم بمساءلتها، يحاكم ضفرها بنكبته لينتفض عليه. وهو بذلك يحرر المحرقة من السياسة، أولاً، ثم يحاكم تسييسها، ثانياً، ثم ينتفض على المنتج السياسي الذي يدمجها في بنية المستعمرة العنصرية، ثالثاً، وهو ما يمكن اعتباره قراءة إنسانية تحررية للمحرقة تتضامن مع ضحاياها، وفي ذات الوقت تضع حداً فاصلاً بين هذا التضامن وبين المشروع الاستعماري الذي سيّسها.

النكبة تنظر إلى المحرقة وتسائلها

تشكل قصيدة راشد حسين “الحب …والجيتو” التي كتبها عام 1963، أي بعد 15 عاماً من نكبة 1948 اللقاء الإشكالي بين المحرقة والنكبة على خرائب فلسطين. وتعتبر هذه القصيدة باكورة وأهم ما كتب فلسطينياً عن هذا اللقاء بسبب جرأتها وإنسانيتها وتفكيكها للقاء بوساطة الصهيونية وإرهاصاته التدميرية.

تبدأ القصيدة كحوارية ثم تتطور تدريجياً إلى مساءلة ثم محاسبة، يقوم بها ضحية النكبة الناجي من مشروع المستعمرة الإحلالي مع ضحية المحرقة، فنكون أمام ما يشبه وقوف للنكبة أمام المحرقة واستجواب دورها في الكارثة التي حلت بالفلسطينيين ووطنهم، وكشف مدى توريط المحرقة في النكبة عبر تسييسها وإعادة تأطيرها ضمن مشروع المستعمرة.

تتوزع القصيدة على ستة أبواب، هي عبارة عن ستة مشاهد تصف التقاطعات بين المحرقة والنكبة على أرض فلسطين، عبر توصيف الحب المستحيل بين ناجية المحرقة يافا، وناجي النكبة على أنقاض يافا، نظراً للعلاقة المميتة بين إنشاء حياة جديدة لـ”يافا” الفتاة الناجية وموت يافا المدينة في الدولة التي أقيمت على أنقاضها.

يفتتح الكاتب قصيدته بمقطع “يافا مدينتي” يصف فيه حاضر يافا المأساوي بعد أن تم تدمير حاضرتها ومنع سكانها من العودة خلال 1948. يكتب حسين:

مداخنُ الحشيشِ في “يافا” توزّعُ الخدر

والطُرُقُ العجافُ حُبلى.. بالذبابِ والضجرْ

وقلبُ يافا صامتٌ… أغلقهُ حجرْ

بعد أن يصف حسين مشهداً بانورامياً مأساوياً ليافا يفتح قوسين ليوضح: لمن لا يعرف ماضي يافا وتحوله التراجيدي:

يافا -لمن يجهلها- كانت مدينة

مهنتُها تصديرُ برتقال

وذات يوم ٍ هُدمَتْ.. وحوّلوا

مهنتَها.. تصديرَ لاجئينْ

لا يشير حسين حتى الآن إلى المقصود بالذين حولوا مهنتها من تصدير البرتقال إلى تصدير اللاجئين، لكن كل من يقرأ القصيدة يعرف تماما أن المقصود هم الصهاينة الذين أقاموا وشيدوا إسرائيل عام 1948 بموازاة نكبة فلسطين.

في “يافا …المشردة” يحكي حسين عن قصة لقائه هو، الناجي من نكبة شعبه الذي ظل بعد الكارثة يلملم نكبة يافا المدينة، بـ”يافا” الفتاة الناجية من المحرقة والتي تتشارك ومدينته بالاسم وبكثير من التجارب، وتتشارك معه بالنجاة من الكارثة، ويكتب أولاً واصفاً واقعه وحاله، بعد أن تدمرت المدينة لكنه ظل فيها يرفع الأنقاض عن المكان المضرج بالدم:

وكنت في يافا… ألمّ عن جبهتِها الجرذانْ/ وأرفعُ الأنقاض عن القتلى/ بلا روس ٍ بلا رُكَبْ/ وأدفنُ النجومَ في رحم الرمال/ والأشجارِ/ والجدران/ وأسحبُ الرصاص من عظامِها/ وأمتص الغضبْ/ وأنتقي جديلة قتيلة أفرُمها/ ألفُها سيجارةً/ أشعلها.. وأجرعُ الدخانْ/ لأستريحَ لحظة.. بلا سببْ…..!

على خلفية هذه المشهدية الكارثية التي يمتزج فيها الدم والتقتيل والخراب الكامل، تلتقي اليافتان في لقاء يجمع دمارين وخرابين. تحط الشريدة “يافا” في يافا في مسعى البحث عن مكان لها، في إشارة طبعاً إلى مئات الآلاف من الناجين من المحرقة الذين جاؤوا إلى فلسطين بعد إقامة إسرائيل ضمن ما صار يعرف بالهجرة الكبرى:

لحظتَها صبيةٌ تبحَثُ عن عنوانْ/ جاءَت مع الأمواجْ/ هودجُها لوحٌ من الخشبْ/ يركُضُ خلفَها القبورَ واللهبْ / كان اسمُها كاسم ِ مدينتي../ يافا اسمُها/ تاريخُها: ستة ُ أرقامٍ على ذراعِها/

يكتب حسين عن التشابه بين جميلتين هما أيضاً ضحيتان تنزفان من هول كوارثهما “يافا” الناجية من المحرقة (النازية) ويافا المدينة المنكوبة (من الصهيونية):

جميلة ٌ كانت كأنها مدينتي/ مهدومة.. كأنها مدينتي/ كأنّ ما مرّ بنا…/ مرّ بنا لنلتقي؟!/
ثمَ نُحبْ ؟!

السياق المكاني والسياسي للقاء في يافا المنكوبة هو ما سيحدد إمكانيات تطور العلاقة بين الناجيين كما يتضح لاحقاً في القصيدة بين الفتى المراهق الذي يلتهب جسده في فرن من نوع آخر هو فرن المراهقة ويمر مخاض الرجولة، وهو مأخوذ بـ”يافا” الجميلة المدماة. ويتطور الأمل بلقاء بين محبين تعبر عنه “يافا” ناجية المحرقة بقولها:

” لعلَ هذا الفرنَ يعطينا شهابَ نارْ/ به نضيءُ دربنا/ عليهِ نشوي خبزَنا/ جرّبتَ أفرانَ الكبارْ/ جرّب أفرانَ الصغارْ”.

يتنقل حسين في قصيدته بين ثلاثة أفران/ فرن المحرقة النازية الذي حرق به أهل “يافا” (اليهودية)، وفرن الجسد الذي يتلوى فيه مراهقان في أول عمرهما، وفرن النكبة الذي احترقت فيه يافا كناية لفلسطين. ضمن هذا السياق تريد أن تجرب “يافا” الناجية من النازية فرن الصغار، في إحالة لفتح قصة حب بينها وبين الفتى الفلسطيني المنكوب حيث:

“التهم الفرنُ جميعَ ما أملكهُ من الترابْ/ لم يبقَ من الأرض سوى أنا..”

لكن المهم أنه على الرغم من كل هذا الفقدان، فإن الفتى مستعد لأن يبدأ من جديد كي يحيا:

“لذا أريدُ أن أعيشْ !/  على تُرابِ بدني/ يثمرُ طفلاً… من جديدٍ يُبعثُ التُرابُ”.

الرغبة في البدء من جديد رغم كل الخراب هي رغبة مشتركة بين الناجيين الاثنين، مع فارق أن ناجية المحرقة تعتقد أن البداية في المكان الجديد ممكنة لأنه أقيم ليتيح البدايات الجديدة أو بلسانها:

“يقال هذا الفرنُ قام حتى يصنَعُ الأطفال/ لعلهُ من حُبِنا يثمرُ طفلاً.. فتعالْ؟!”

مع هذه الدعوة من “يافا” الناجية من المحرقة للفتى الفلسطيني للبدء من جديد تتكشف في قصيدة حسين استحالة اللقاء بسبب الشروط التي وضعها “الفران” الذي يسيطر على الفرن المقام على خرائب يافا، والذي يريد الفرن/ المكان حصرياً له ولشعبه في إحالة للصهيونية وفكرة إقامة الدولة اليهودية، ويكتب حسين في المشهد الرابع على لسان الفران: “هذا الفرنُ لي/ ودفئُهُ وقفٌ على شعبي”.

في هذا السياق لا تتعلق مسألة البدء من جديد رغم الخراب فقط برغبات الناجيين التائهين واستعدادهما للبدء من جديد (ما نحنُ إلا تائهَينْ/ نبحثُ في الأدغال عن دربِ) بل بقرارات الفران وبخياراته التي تضع قوانين للحب والكراهية وتتحكم بمساحات المسموح والممنوع:” قانوني هُنا :للحبِ قومية/ في المئةِ العشرينِ .. يشوي الحُبُ في فرن ِ الكراهية”.

في هذه الدراما التي تتطور ما بين اللقاء على الخرائب لناجيين متعبين من هول ما مرا به، تتكشف بشاعة المشهد الذي يشيّد على أرض يافا الخربة كما يصفها حسين في المشهد الخامس الذي يصف محرقة يافا مدينته الفلسطينية وانغلاق باب الحب فيها:

“مدينتي يافا…! الحريقُ في مفاصلي/ أينَ حليبُ البرتقال يطفئ الحريق؟!/ حبيبتي “يافا”..! الطريقُ أُغلقت/ أينَ دموعُ الحبِ … تفتحُ الطريق؟!/ لكنَ “يافا” لم تجب…/ وحينَ نادَتْ لَم أُجبْ…/ والفرنُ يشوي لحمنا… يحرقُ حُبَنا!!”

وسط هذا الخراب والانغلاق في الطريق والأفق يقف ناجي النكبة يتساءل مستنكراً العلاقة الدامية التي يقيمها من يسيطر على المكان بين رتق جرح الناجين من المحرقة وفتق جرح الفلسطيني ممثلاً بابن يافا:

يا شرطيّ الله … هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي؟/ يا شرطيَ الله… هل قتلَ كواكبي/ سيُشعلُ الكواكب َ التي أطفأها سواي؟
يا شرطيَ الله حيثُ كنتَ :في التوراةِ/ في نيويورك / في لندنَ/ في باريسْ/ يا مُختارَ … يا رسولَ/ هلا وشمتَ ساعدي بآيةٍ تقول/ ” هذا الفتى كان لهُ/ جلدٌ .. أنا سلختُهُ ./كان َ لهُ نجمٌ … أنا أطفأتُهُ/ ووطنٌ قتلتُهُ…/ كنتُ بلا جلدٍ .. بلا نجم ٍ .. بلا وطنْ/ أحرقني النازي …/ فليدفع هذا الفتى الثَمن”؟/
 

Jaffa from the sea, photograph by P. Bergheim, between 1860 and 1880. Library of Congress

يلخص حسين العلاقة المميتة التي تجمع اليافتين: يافا مدينته و”يافا” الهاربة من نار المحرقة:

يافا التي حسبتُها لاجئة معذبه/ تُحبُ من يافا مدينتي/ جارةٌ بها تحكُ الرقمَ عن ذراعها/ لكنها مخطئةٌ ان حسبتْ/ حجارةً مسروقةٌ تبني خلايا جَرحِها.

يجمل حسين في المشهد الأخير من قصيدته والمعنون بـ”القبر والصليب” بشعرية مأساوية العلاقة بين مشروع بعث وإحياء وإعادة تشكيل “يافا” الناجية من المحرقة التي اقترفت بحقها في أوروبا وبين محو وإبادة وتدمير يافا مدينته التي تحيل لفلسطين التي تم تخريبها ومحوها ليشيد على خرائبها الكيان الجديد. لا مكان لـ”يافا” الناجية للتنصل من مسؤوليتها عن خراب يافا المدينة، لأنها فعليا تتورط في المشروع الإقصائي التدميري للفلسطيني:

يافا التي تاريخُها/ رقمٌ على ذراعِها/ تبني على يافا مدينتي/ “جيتو بلا أبوابْ”.

الجيتو الذي بلا أبواب يتسع لـ”يافا” الناجية من المحرقة ولمن يقرر صاحب القوة أنه جزء من مشروعه القومي كما أشار سابقا حسين، بل أكثر من ذلك، فـ”يافا” التي “جاءَت مع الأمواج/ تؤمن ُ أنَها الله … أنني القُربان/!

لا يطرح حسين صورة “يافا” الناجية من المحرقة بشكل بسيط بل بشكل مركب يتطور ويتعقد مع مشاهد القصيدة حتى نهايتها، فهي أيضاً تتشكل من صراعات، وتتنازعها رغبات. كذلك الأمر بالنسبة للفلسطيني ابن يافا الناجي الذي كما يبدو يحيل إلى بقية الفلسطينيين الذي ظلوا بعد النكبة في وطنهم وصاروا مواطنين إسرائيليين.

في صورتها الأولى هي ضحية ناجية من فرن المحرقة والكراهية، وهي محبة ومنفتحة مثلها مثل الناجي من النكبة الذي يتضامن مع معاناتها ووجعها وتنفتح أمامهما في لحظة بوابة الحب التي يمكن أن تتغلب على وجع ماضيهما. حتى هنا يكون اللقاء الأول هو لقاء حب مشبع بالتضامن. غير أن اللقاء على أرض يافا هو الذي يجعله إشكالياً، لأنه ليس لقاء على أرض موضوعية منقطعة، بل على أرض دمرها مشروع المستعمرة الذي بني ليكون أيضاً بيتاً للضحية ذاتها وعلى شكل جيتو جديد مغلق أمام أبناء المكان. ولحظة إدخال “يافا” ناجية المحرقة إلى هذا البيت بشروطه التي وضعها صاحب مشروع المستعمرة/الدولة هي لحظة فصل تأسيسية أيضاً بين “يافا” الناجية ويافا الإسرائيلية، وهي أيضاً لحظة انتقال حسين من الحب إلى الغضب ومن التضامن إلى المساءلة، مساءلة اندماج الضحية في هذه العلاقة الإقصائية والمجدولة في تدمير الفلسطيني ليُبنى كيان جديد على أنقاضه يأوي إليه (أيضاً) الناجون من المحرقة وتنضوي تحت سقفه/قانونه أيضاً “يافا” الناجية. هكذا يتطور المشهد نحو علاقة تصادم بين يافتين تتصارعان على الوجود، وهما من كان من الممكن أن يكونا حبيبين لولا شرط المكان المميت الذي يضعهما أمام خيارين: الصليب والقبر: ساعتَها – “يافا” المهاجرة/ “يافا” المغامرة/ سترفعُ الصليبَ لي/ في قمة الجبل/ وأحفرُ القبرَ لها/ في أسفل الجبل…/

الشاعر لا يتنازل عن يافا مدينته/ وطنه، وسيظل يحلم بها، ينتظر عودتها:

أحلُمُ أني سأظلُ لحظةٌ أو لحظتينْ/ منتظرا ً يافا/ يافا الحقيقة/ يافا حبيبتي/ يافا مدينتي/

لكن المهم في القصيدة رغم العلاقات المأساوية المميتة التي تصفها في مشاهدها الستة وتختصر لقاء المحرقة والنكبة على أرض فلسطين، أنها لا تنتهي بالموت كخيار وحيد، بل تنتهي بتساؤل يطرح إمكانيات أخرى للخروج على خيار الصليب والقبر:

“وعندها يا ليلْ../ سوفَ أظلُ حالماً/ منتظراً يافا انتظارَ الطفل للحليبْ/ لعلها تسألْ :أبعدَ كُل ما جرى…
لا بُدّ من قبر ومن صليب؟!”

السؤال المفتوح هنا هو بالذات ما يقدمه نموذج راشد حسين كمخرج دون أن يقوله: يمكن أن ننجو من القبر والصليب إذا تنحت عقلية المستعمرة!

Jaffa, HANAN ISACHAR/GETTY

خلاصة

حدث اللقاء بين الفلسطيني والناجي من المحرقة في سياق استعماري استيطاني مجدول بمشروع إقامة إسرائيل عام 1948 على محو المشهد الفلسطيني. تشكلت العلاقة بين الإثنين على أساس بدئي إقصائي ومميت للفلسطيني بسبب تأطيره ضمن المشروع القومي الصهيوني، حيث تمت إقامة دولة إسرائيل بأدوات العنف والتطهير الإثني للمشهد الفلسطيني كما أظهرت في الجزء الأول، آخذين بعين الاعتبار أنه كما يشير البعض فإن نصف المشاركين في حرب 1948 / نكبة الفلسطينيين هم من الناجين من المحرقة (حنة يبلنكة 1998)، ثم تم بعد ذلك تحصين ونظم وجود الدولة على أساس قومي إثني يهودي إقصائي من خلال القوانين والتشريعات ومنظومات العنف الرمزي والمباشر وبنى الدولة المختلفة.

جاءت ضمن مشاريع الدولة التي تأسست بعد النكبة مجمعات الذاكرة والتذكر لتخليد الضحايا اليهود الذين سقطوا في الحرب وفي المحرقة كجزء من مشروع بناء الدولة، وتم تقنين هذه المشاريع ضمن قوانينها وتخصيص ميزانيات رسمية لها. يشكل إقامة مجمع ياد فشيم جزءاً من مشاريع الدولة، ويعكس بجغرافيته الزمكانية علاقات القوة الاستعمارية التي توسطت وجوده. فالمجمع مقام بمحاذاة قرى تم تخريبها ومنع أهلها من العودة إليها، وإسكان مهاجرين يهود فيها، وهو ما يعني فعلياً من ناحية الفلسطيني ابن المكان الممنوع من ممارسة حقه في العيش بوطنه أن المحرقة تم توطينها استعمارياً، وأن المجمع بوصفه تمثيلاً لذكرى المحرقة هو بناء سياسي مجدول بعلاقة المحو الأولي للفلسطيني.

في الجزء الثاني من المقال تتبعت المفهمة الفلسطينية للتوريط الاستعماري للمحرقة في النكبة عبر قراءة قصيدة راشد حسين الحب والجيتو، والتي تتبع العلاقة المركبة بين ناجية المحرقة يافا وناجي النكبة، ثم تتطور حتى إيضاح مدى توريط الناجين من المحرقة في نكبة الفلسطيني عبر محاولة تطبيب جرحهم بسلب الفلسطيني بلاده، إذ يتم بكل بساطة تدفيع الفلسطيني ثمن جريمة نكراء اقترفت في بلاد بعيدة، دون أن يكون له ذنب فيها. بل إن فلسطين تتحول بشكل مأساوي إلى قربان يقدم من أجل افتداء الضحية في علاقة مميتة ودموية فيها الفلسطيني هو ضحية الضحية التي تصير شريكة في الجريمة، أو كما لخصها حسين بشكل مميت:

هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي؟

 

المصادر

باللغة العربيّة

أورون، يائير. المحرقة، “الانبعاث”، النكبة، ترجمه من العبرية أسعد زعبي، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية”مدار”، 2013

أشقر، جلبير. العرب والمحرقة النازية، حرب المرويات العربية-الإسرائيلية، بيروت: دار الساقي، 2010

حسين، راشد. الأعمال الكاملة، الطيبة: مركز إحياء التراث العربي، 1990

الخالدي، وليد. مجزرة دير ياسين، بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999

خوري، إلياس. أولاد الغيتو: اسمي ادم، بيروت: دار الآداب، 2016

غانم، هنيدة. “المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني”، مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 96، ص118-139، (2013)

المدهون، ربعي. مصائر: كونشرتو الهولكوست والمحرقة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015

باللغة العبريّة

بار زوهر، ميخائيل ومشعال، نسيم. الموساد: العمليات الكبرى، تل أبيب: يديعوت أحرونوت وكتب حيمد، 2010، الفصل 10

بن أرييه، يهوشواع. تاريخ أرض إسرائيل- حرب الاستقلال (1947-1949)، القدس: يد يتسحاق بن تسفي وكيتر للنشر

بن ناحوم، زوهر. الحالم والمُحقّق- فصول في حياة مردخاي شنهابي، الجزء الثاني. منشيه: يد يعري، 2011

ديان، موشي. “كتيبة الكوماندو تغزو اللد”، معرخوت، العدد 62-63، ص. 34-40، (1950)

سيغف، توم. المليون السابع: الإسرائيليون والكارثة، القدس: دار النشر كيتر وماكسويل مكميلان، 1991

مِلمان، يوسي وربيب، دان. حرب الظلال: الموساد وأوساط المخابرات، تل أبيب: دار النشر يديعوت للكتب، 2012

موريس، بيني. 1948: تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، رعنانا: عام عوبيد، 2010

يبلونكا، حانا. “الناجون من الكارثة في إسرائيل- تلخيصات أوليّة”، على سبيل الذكرى، عدد 27، إصدار ياد فشيم- هيئة إحياء ذكرى الكارثة والبطولة، 1998

يبلونكا، حانا. أخوة أغراب: الناجون من الكارثة في إسرائيل 1948- 1952، القدس: يد يتسحاق بن تسفي، 1994

باللغة الإنجليزية

Falah , Ghazi. “The 1948 Israeli-Palestinian War and Its Aftermath: The Transformation and De-Signification of Palestine’s Cultural Landscape,” Annals of the Association of American Geographers, June, Vol. 86, No. 2. (1996)

Ghanim, Honaida “The Nakba” Jadal , issue no.3, (May 2009)  http://jadal.mada-research.org/?LanguageId=1

Hecht, Ben, Perfidy, New York: Julian Messner, Inc, 1961

Khalidi, Walid.  “Plan Dalet: The Zionist Master Plan for the Conquest of Palestine,” Middle East Forum, 37, no.9, p.22-28 (November 1961)

Khalidi, Walid.” Why Did the Palestinians Leave?” Middle East Forum, no.24, P.21-24 (July, 1959), Reprinted as ‘Why Did the Palestinians Leave Revisited’, Journal of Palestine Studies, XXXIV, No. 2, p. 42-54 (2005)

Masalha, Nur. A Land without People: Israel, Transfer and the Palestinians 1949–1996, Faber and Faber: London, 1997.

Mbembe, Achille. ” Necropolitics”, Public Culture 15, 1, pp. 11-40 (2003)

Pappe, Ilan. The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford: One world, 2006

Piterberg, Gabriel. The Returns of Zionism: Myths, Politics and Scholarship in Israel, London and New York: Verso, 2008.

Shavit, arieh. ”Lydda, 1948”, The New Yorker, (13 Oct 2013): http://www.newyorker.com/magazine/dept-of-history (last seen 2.3.2018)

Tamari, Salim. “The city and its Rural Hinterland”, in Salim Tamari, (editor) Jerusalem 1948, The Institute of Jerusalem Studies and Badil Resource Centre, 1999

Veracin, Lorenzo. “Introducing settler colonial studies”, settler colonial studies, Vol.1 No.1 (2011)

Wolfe, Patrick. “Settler colonialism and the elimination of the native”, Journal of Genocide Research, 8(4 ) (2006)

The post تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (٢/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (١/٢) https://rommanmag.com/archives/19392 Tue, 21 Aug 2018 07:20:12 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%aa%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d8%b1%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%83%d8%a8%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b8%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86/ هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي (١)

The post تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (١/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

شكّل التقاطع بين المحرقة والنكبة في سياق الاستعمار الصهيوني لفلسطين، موضوعاً لعدة معالجات أدبية وبحثية في أوساط الكتاب والأدباء الفلسطينيين أو من يكتبون عن التجربة الفلسطينية، وقد تكون رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني التي صدرت طبعتها الأولى عام 1969، من أكثر الأعمال القصصية المعروفة التي تطرقت إلى اللقاء المركب بين ضحايا النكبة وضحايا المحرقة على أرض حيفا المحتلة، وذلك عبر سرد قصة اللقاء بين عائلة فلسطينية طردت من بيتها في حيفا خلال النكبة بعد أن فصلت الأحداث، في خضم الحرب، بينها وبين ابنها خلدون المتروك مؤقتاً في البيت، إذ استوطنت البيت بعد النكبة عائلة يهودية ناجية من المحرقة وقامت بتربية الطفل الفلسطيني ومنحته اسم دوف.

تميزت رواية كنفاني بحواراتها السياسية الأيديولوجية، وبتصوير اليهودي كضحية أيضاً وليس فقط كمستعمر. وقد كان من أهم ما جاء في الرواية خلاصتها بأن الانسان ليس ما يولد عليه، بل ما يربى عليه ويصير قضيته، وحول حتمية المواجهة لتحرير فلسطين. وقد حظيت رواية كنفاني باهتمام كبير وشهرة واسعة وتم تحويلها إلى أكثر من فيلم سينمائي (٢) ومسلسل تلفزيوني (٣)، كما وكتب سامي ميخائيل رواية تناصيّة استخدمت ذات الحبكة لمحاولة إيجاد سيناريوهات بديلة للمواجهة. وبعد انقطاع معين، عاد مؤخراً الاهتمام بالعلاقة بين المحرقة والنكبة، وهو ما انعكس في تزامن صدور عدة أعمال أدبية جديدة تلقي الضوء على العلاقة بين الكارثتين في ظل المشروع الصهيوني وإرهاصاته. ومن أهم هذه الأعمال رواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري (دار الآداب 2016) التي تستخدم في وصفها نكبة اللد ومصير الناجين الذي بقوا في اللد لغة “هولوكوستية”، حيث يقوم خوري بتوصيف عملية تجميع وحصر الباقين الفلسطينيين في اللد في “الجيتو” وتسييجه بالأسلاك الشائكة، كما يصف تجارب الجوع والعطش والإذلال في هذا الجيتو. وتصل المقاربة بين المحرقة والنكبة إلى ذروتها في تناول خوري تشكيل خمس مجموعات من الشبان من سكان الجيتو بأمر من الجيش الإسرائيلي للقيام بمجموعة مهمات خارج الجيتو، كل مجموعة مكونة من خمسة أشخاص يتقدمهم جنديان أنيط بهم العمل على لم الجثث من الشوارع ودفنها في قبور جماعية، وتجميع المواد الغذائية من الحوانيت ونهب البيوت وتحميلها على شاحنات الجيش وتنظيف مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية”. ويتناول خوري بدقة وفي سبعة مشاهد عملية تجميع الجثث، بشكل خاص، وما رافقها من تجارب مؤلمة تنتهي بإصدار أمر للشبان بحرق حوالي 30 جثة وذر رمادها في مشهد مشابه لعمل مجموعات الشبان اليهود “كزوندركوماندو” في محارق النازية.

وتكمن خصوصية رواية «أولاد الغيتو» لخوري في أنها تخلق ما يشبه “المحاكمة”، إذ يقوم خوري ومن خلال توصيف دقيق لتجارب الناجين الصادمة في الفترة الأولى التي تلت نكبة اللد فعليا بوضع النكبة مباشرة أمام المحرقة، يعرض صورها الصادمة التي تبدو كأنها مأخوذة من معسكرات التجميع النازية، خاصة تلك المرتبطة بعمل “الزوندركوماندو”، ويكشف ليس فقط عن مدى التشابه بين تجارب الضحايا (دون مقارنتها) بل عن كيفية تقلب أدوار الضحية وتحولها إلى جلاد.

ومن الروايات اللافتة التي صدرت مؤخرا أيضاً «مصائر: كونشرتو الهولكوست والنكبة» للكاتب ربعي المدهون (2015، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، ومكتبة كل شيء في حيفا)، وحازت الرواية على جائزة البوكر العربية، تتضمن الرواية زيارة البطل متحف ضحايا المحرقة ياد فشيم في موازاة البحث عن قرية دير ياسين. ويضاف إلى هذه الأعمال الروائية البحث الموسوعي الذي قدمه المؤرخ اللبناني جلبير أشقر تحت عنوان «العرب والمحرقة النازية» (دار الساقي، 2010)، وتناول فيه ردود الفعل العربية المختلفة على معاداة السامية وعلى النازية، مركزاً بشكل خاص على وجود مجموعة متمايزة ومتنوعة سياسية وأيديولوجية من ردود الفعل.

يعكس الاهتمام بالتقاطع بين المحرقة والنكبة الوعي المتزايد بمركزية المحرقة في تشريع المشروع الصهيوني واستخدامها السياسي من قبل إسرائيل وقياداتها في مشروعها الاستعماري من جهة في موازاة الحساسية الأوروبية ومشاعر الذنب تجاه المحرقة ومأساويتها غير المسبوقة من جهة أخرى. (عن الصهيونية واستخدام المحرقة انظر/ي سيغف، 1991؛ يبلونكا، 1994، 1998؛Ben Hecht 1961) وعلى الرغم من أهمية هذه الأعمال إلا أن تناول التقاطع بين المحرقة والنكبة كان قد بدأ مبكراً، وقد شكلت في هذا الإطار قصيدة راشد حسين “الحب والجيتو” التي نشرت عام 1963 أحد بواكير الإضاءات على جدلية العلاقة بين النكبة والمحرقة في سياق المشروع الاستعماري الصهيوني، والتي تتعدى أهميتها جماليتها الموجعة في لقاء الكارثتين لتظهر في معالجتها شبه السوسيولوجية الشعرية لعلاقة المحو والإقصاء للفلسطيني في اللقاء مع المحرقة على أرض فلسطين المنكوبة. زمكانياً، تتموضع قصيدة حسين في منتصف العقد الثاني للنكبة، بموازاة مشاريع بناء الأمة ومأسسة التذكّر المرتبط بالمحرقة ضمن مشاريع الدولة، التي منعت عودة اللاجئين وأسّست إسرائيل على أنقاض فلسطين كدولة يهودية حصرية.

وسأقوم في هذه الورقة بتسليط الضوء على تقاطعات النكبة والمحرقة في لحظة تأسيس “الدولة اليهودية” على أنقاض فلسطين، وقراءة انعكاس هذا التقاطع على علاقة الفلسطيني بالمحرقة كما تم التعبير عنها في تقاطعين: أولاً، التقاطع الزمكاني، والذي يتم تناوله في الجزء الأول من المقال ويتابع عملية إقامة مجمع “ياد فشيم” منذ منتصف الأربعينيات، وتقدمه بموازاة النكبة حتى إقراره مؤسسة رسمية في دولة إسرائيل، بموجب قانون خاص للكنيست عنوانه “قانون ذكرى المحرقة والبطولة-ياد فشيم، 1953”. ويعكس هذا التوازي الزمكاني توريط المحرقة في السيرورة الاستعمارية لفلسطين، وضفرها في ثنائية مزدوجة للمحو والإنشاء تدمج بين إنشاء المجمع لتأبيد ذكرى ضحايا المحرقة كجزء من مشروع المستعمَرة، مقابل محو المشهد الفلسطيني المحيط وإلغائه فعلياً ورمزياً. ويشار هنا إلى مصدر الاسم “ياد فشيم” يعود إلى سفر أشعيا إصحاح 56 آية 5، حيث ورد: «إِنِّي أُعْطِيهِمْ فِي بَيْتِي وَفِي أَسْوَارِي نُصُبًا وَاسْمًا أَفْضَلَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. أُعْطِيهِمِ اسْمًا أَبَدِيًّا لاَ يَنْقَطِعُ.» وهذا ما يوضح العلاقة بين الاسم وبين الغاية من هذه المؤسسة.

التقاطع الثاني، يحظى بالمعالجة في الجزء الثاني من المقال حيث يتابع هذا الجزء التقاطع الوجودي بين المحرقة والنكبة في فلسطين/ إسرائيل كما عبر عنها راشد حسين في قصيدته “الحب والجيتو” 1963 (في الأعمال الكاملة، 1990، ص474) التي كانت من أوائل المنتجات الأدبية الفلسطينية التي تتناول اللقاء بين المحرقة والنكبة في فلسطين عبر قصة اللقاء بين الشاعر ويافا اليهودية الناجية من المحرقة، في مدينة يافا المدمّرة.

ترى هذه الورقة أن فهم الموقف الفلسطيني من المحرقة يمكن فقط من خلال فهم سياق اللقاء بين المحرقة والنكبة الذي تشكّل وضُبط استعمارياً بوساطة الصهيونيّة وبواسطة ممارستها على الأرض. وقد تم ذلك أولا من خلال ضفر (تشابك) إنشاء وتأسيس إسرائيل كدولة يهودية مع نكبة فلسطين ومحوها ككيان سياسي وقومي واجتماعي، وثانيا ضفر عملية المحو والإنشاء هذه في بنية الدولة ومؤسساتها القانونية وممارساتها على الأرض!

تعالج الورقة تقاطع النكبة والمحرقة في ظل الصهيونية وتأسيس إسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين والآثار الاستراتيجية لذلك على تشكّل العلاقة الفلسطينية مع مسألة المحرقة، وتستخرج من خلال قصيدة “الحب والجيتو” لراشد حسين نموذجاً تحررياً وثورياً وإنسانياً لمفهمة العلاقة فلسطينياً من خلال تأطيرها ضمن السياق الاستعماري الاستيطاني لإقامة إسرائيل واستدماج المحرقة فيها بالتوازي مع عملية محو المشهد الفلسطيني.

تنقسم الورقة إلى أربعة أجزاء رئيسة. يعالج الجزء الأول التقاطع بين المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية وتحول الصهيونيّة إلى وسيط مركزي في لقاء الفلسطيني مع المحرقة. الجزء الثاني يتابع التقاطع الزمكاني بين المحرقة وتأسيس مجمع ياد فشيم وبين النكبة الفلسطينية وانضفار عملية بناء ذاكرة المحرقة في صيرورة محو الفلسطيني ونكبته. ويتابع الجزء الثالث تصوّرات الفلسطيني للمحرقة وتشكّلها على خلفية نكبته وإقامة إسرائيل كدولة إثنية/قومية حصرية يهودية، كما عبر عنها الشاعر راشد حسين في قصيدته “الحب والجيتو” عام 1963. أما الجزء الرابع والأخير فيحتوي على خلاصة لأهم المقولات التي تم استعراضها في الورقة.

عين كارم – القدس

1- لقاء الفلسطيني مع المحرقة بوساطة الصهيونية

ترى الورقة الحالية استحالة معالجة التقاطع بين النكبة والمحرقة بمعزل عن وساطة الصهيونية الطاغية التي تم من خلالها ضبط أشكال اللقاء والتفاعل بين موضوعة المحرقة عامة والناجين منها خاصة وبين الفلسطينيين وفلسطين، وذلك لعدة أسباب:

– أولاً، لم يكن الفلسطيني ليجد نفسه وجهاً لوجه مع الناجين من المحرقة لولا الصهيونية، أو بصورة أدق لولا قيام الصهيونية بطرح إقامة مشروعها القومي لإقامة دولة لليهود على ذات الأرض التي هي وطنه، وعلى أنقاض وجوده الملموس والرمزي في ذات المكان، فالصهيونية هي التي استجلبت الناجين من المحرقة إلى أرض فلسطين التي سُلبت من أهلها ليعيدوا رتق جروحهم، ويعيدوا بناء كيانهم على ذات المكان. وبحسب الإحصائيات في الفترة الممتدة من نهايات الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم وصل إلى إسرائيل أكثر من نصف مليون مهاجر من أوروبا كانوا في أغلبيتهم العظمى من الناجين من المحرقة (يبلونكا،1997). في المقابل، طُرد أو هرب نتيجة رعب الحرب نحو 850 ألف فلسطيني، شكلوا في حينه 90% من سكان المساحة التي أقيمت عليها إسرائيل.
– ثانياً، شارك جزء من الناجين من المحرقة من الشباب في نكبة الفلسطينيين بشكل مباشر من خلال تجندهم في القوّات الصهيونية المحاربة. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة كبيرة من مجندي القوات الصهيونية في عام 1948 كانوا من الناجين من المحرقة، وبحسب حنة يبلونكا (1997) راوحت هذه النسبة نصف عدد المجندين. في هذا الإطار، يؤكد يائير أورون (2013) على الدور المهم الذي لعبه ناجون من المحرقة في معارك 1948 ومساهمتهم الكبرى في إقامة دولة إسرائيل. ويشير أورون أيضاً إلى أن نسبتهم في الوحدات القتالية بلغت في مرحلة معينة الثلث، بل النصف في بعض الأحيان، وهو ما يدفع أورون إلى الاستخلاص التالي: “كانت المحرقة حاضرة عبر صورة عشرات الآلاف من الناجين من المحرقة الذين وصلوا إلى فلسطين بعد العام 1945، وشاركوا في حرب 1948 التي قُتل بعضهم فيها” 2013: 98).
 

قرية عين كارم قبل التهجير
– ثالثاً، تتعامل إسرائيل مع المحرقة كجزء أساسي من الهوية الجمعية للشعب الذي تقول إنها تمثله، وتشتغل هذه الدولة بتوزيع الأدوار وبناء المؤسسات وعمل الفعاليات القومية المختلفة لتأبيد ذكرى ضحايا المحرقة وعلى رأسها ياد فشيم. بالإضافة إلى ذلك، أخذت إسرائيل على عاتقها بوصفها دولة اليهود محاكمة ومطاردة مجرمي النازية، ونستذكر في هذا السياق محاكمة آيخمان ودميانيوك ومطاردة مجرمي النازية من قبل الموساد الإسرائيلي في دول العالم (انظر ميلمان، 2012؛ بار زوهر ومشعال، 2012).
– رابعاً، ولعله الأهم هو أن إسرائيل، حسب ما يراه عدة باحثين، ربما لم تكن لتقوم لولا المحرقة التي شكّلت فعليًا التبرير الأخلاقي لإقامتها (انظر في هذا السياق: سيغف،1991). يعني هذا فعلياً أنه لا بد من النظر إلى النكبة بوصفها إحدى الارتدادات المستمرة للمحرقة. فالمحرقة، التي سعت إلى إبادة يهود أوروبا، لم تنته بالقضاء على اللاسامية وبإعادة اندماج اليهود على أساس مواطنة ديمقراطية وحرة، بل تمخّضت عن واقع جديد مزدوج يدمج بين خلاصات اللاسامية والاستعمار معاً، إذ خرج اليهود بفعل المحرقة من أوروبا وهو ما كان يريده اللاساميون وعلى رأسهم النازية، وتم ذلك عبر الاندماج بمشروع استعماري استيطاني قومي تقوده الصهيونية في فلسطين. إن الفعل المزدوج لخروج ناجيي المحرقة من أوروبا والاندماج في مشروع الاستعمار الصهيوني القومي هو الذي نَحَتَ عمليًا العلاقة بين الفلسطينيين وبين المحرقة، وبين الناجين من المحرقة وبين والنكبة.
 
ياد فشيم

2- التقاطع الزمكاني ما بين تشييد ياد فشيم وبين محو المشهد الفلسطيني

تعكس الجغرافيا السياسية للمكان في إسرائيل، بما تتضمنه من اقتصاديات المحو والإنشاء والحجب والإبراز فيما يخص السكان الأصليين الفلسطينيين مقابل المهاجرين، البنية المشكّلة للمشروع القومي الصهيوني كمشروع مبني على محو المشهد الفلسطيني وإلغائه المثابر، مقابل بناء وتشييد وإقامة المشهد اليهودي-إسرائيلي-صهيوني المستعمِر مكانه. ويوضح وصف موشيه ديان، القيادي الصهيوني البارز، انضفار عملية المحو والإحلال بالمشهد الإسرائيلي الذي أقيم على أنقاض المشهد الفلسطيني، حيث قال خلال محاضرة له أمام مجموعة من الطلبة في معهد التخنيون بتاريخ 1969/3/19:

لقد حلت القرى اليهودية مكان القرى العربية، وليس في مقدوركم اليوم أن تعرفوا حتى أسماء تلك القرى العربية. أنا لا ألومكم، فكتب الجغرافيا لم يعد لها وجود، بل القرى العربية ذاتها لم يعد لها وجود، فقد حلت نهلال مكان معلول، وجبعات مكان جبع، وسريد مكان خنيفس، وكفار يهوشواع مكان تل الشمام. (صحفية هآرتس بتاريخ 1969/4/4)

وتنعكس الخارطة الجغرافية السياسية المنضفرة بالمحو والإحلال في تقاطع النكبة والمحرقة عبر سياسات إنشاء “ياد فشيم” وهو “مركز عالمي توثيقي وبحثي وتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست” (٤) على أنقاض فلسطين عام 1948. وهو ما يعني فعليا أن معاني مجمع الذاكرة تتشكل ضمن علاقات القوة الاستعمارية الإقصائية للصهيونية مع المكان الفلسطيني الذي تم محوه من الخارطة خلال عام 1948، ولاحقاً ضمن مأسسة إقصاء ومحو الفلسطيني من خلال منع عودة اللاجئين ومأسسة إسرائيل كدولة يهودية.
 

ياد فشيم

ياد فشيم – تلة التذكر التي تطل على خرائب فلسطين

يقع مجمع “ياد فشيم” على أراضي خربة حمامة، وهي أراض مشاع تابعة لقرية عين كارم. وتقع على مسافة قريبة لا تزيد عن كيلومترين ونصف من المجمع، قرية دير ياسين، التي شهدت مجزرة بشعة عام 1948 راح ضحيتها عشرات المدنيين من نساء وأطفال، ثم تم تهديمها باستثناء بضعة مبان، وإقامة ياد شاؤول على أنقاضها (للمزيد عن المجزرة انظر/ي وليد الخالدي، 1999). وفي محيط القرية الممتد على بضعة عشرات الكيلومترات تموقعت في الماضي أكثر من أربعين قرية فلسطينية، ناهيك عن الحارات الداخلية في غربي القدس كالطالبية والقطمون وتلبيوت والبقعة. كل هذه القرى والحارات أخليت عن بكرة أبيها في عام 1948، كما أخليت مستشفيات كمستشفى البرص الذي طرد مرضاه وطاقمه، كما يكتب عن ذلك سليم تماري. وبلغ عدد الفلسطينيين المطرودين من هذه القرى أكثر من 70 ألف فلسطيني، ناهيك عن عشرات الآلاف الذين طردوا من أحياء القدس الغربية (Tamari, 1999: p.75-78).

وجاء في تعريف المجّمع الذي يقع ما بين دير ياسين وعين كارم ما يلي:

تم إنشاء مؤسسة ياد فاشيم عام 1953 كمركز عالمي توثيقي وبحثي وتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست، فأصبحت ملتقىً دولياً للأجيال، حيث يأتي كل عام مئات الألوف من الزوار من جميع أصقاع الأرض والمنتسبين إلى كافة الطبقات والمناشئ والديانات والمعتقدات لزيارة مجمّع “ياد فاشيم” المترامي الأطراف الذي يضم المتاحف والمعارض والنصب التذكارية والمراكز البحثية والتعليمية والأراشيف والمكتبات. (٥)

وبحسب موقع المجمع الإلكتروني فإن دور المجمع يرتكز على أربعة أعمدة هي 1. حفظ الذاكرة 2. التوثيق 3. البحث والنشر 4. التعليم.

ولا يختلف دور المجمع عملياً عن الدور الاجتماعي لمتاحف الذاكرة، التي يتركز عملها في الحفظ والتوثيق وعرض الذاكرة والإسهام في تشكيل الذاكرة الجمعية وفق رؤى معينة.  لكن الدور الاجتماعي لمجمع ياد فشيم يتعقد بسبب تقاطعه مع النكبة الفلسطينية، ويتشكل دوره من وجهة نظر الفلسطيني عبر علاقته مع المكان الذي سلب مشهده الخاص، وتشكل عبر تاريخ دير ياسين وعين كارم وما تمثلانه في التأريخ الفلسطيني المنكوب.

وفي هذ السياق، يأخذ المجمع معناه من سياقه الزمكاني والقومي الاستعماري-من موقعه الجغرافي بين عين كارم ودير ياسين المسلوبة، وتموضعه زمانيا على خلفية النكبة وإقامة إسرائيل، وقوميًا على خلفية إحلال الدولة اليهودية مكان الوطن الفلسطيني الذي تمت تنحيته. يتم في المجمع استذكار ستة ملايين يهودي ضحايا واحدة من أكبر جرائم الإنسانية؛ وقد قامت الكنيست، في شهر نيسان 1951، بتحديد 27 من الشهر السابع في السنة العبرية كيوم الذكرى والبطولة، حيث يسبق هذا اليوم ذكرى “جنود إسرائيل الذين قضوا في الحروب” ويوم إعلان استقلال إسرائيل، وكما جاء على موقع الكنيست فإن هذا التلازم يرمز إلى التحول التاريخي من الكارثة إلى الانبعاث” (٦). والانبعاث اليهودي في إسرائيل هو الوجه الآخر لخراب فلسطين، ويشكل من ناحيته الصندوق الأسود للنكبة الفلسطينية، إذ يقصد به إقامة إسرائيل مكان فلسطين.

أقيم مجمع ياد فشيم على أرض خربة حمامة وهي أرض مشاع تابعة لقرية عين كارم، كما ذكرنا سابقاً، وهي إحدى أكبر قرى قضاء القدس مساحة وعدداً، حيث بلغ عدد سكانها 2510 من المسلمين و670 من المسيحيين والتي، على العكس من أغلب القرى الفلسطينية، تمّ الحفاظ على بنيانها وعمارتها وبيوتها بعد أن طرد سكانها من بيوتهم ومنعوا من العودة، وتم إسكان يهود مكانهم. ومن يزور القرية اليوم سيجدها قرية فلسطينية تقليدية من حيث العمران، وإسرائيلية يهودية من حيث السكان واللغة والتسميات و”الإيثوس” (الروح الجمعيّة). وبحسب ما جاء في كتاب “ما تبقى لكم” للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، كانت في القرية مدرستان ابتدائيتان (إحداهما للبنين والأخرى للبنات) ومكتبة وصيدلية، وكانت فيها أيضاً نواد رياضية واجتماعية عدة وجمعية كشافة للبنين.

وكان سكان القرية يشهدون عروضاً مسرحية، منها مسرحيات نوح إبراهيم، الفنان والمغني الفلسطيني الذي أبعد عن قريته في شمال فلسطين إلى عين كارم، بسبب اشتراكه في النضال ضد الانتداب البريطاني. وكان من جملة وسائل الترفيه وسبل الإعلام الأخرى مسرح في الهواء الطلق، ومذياع في مقهى القرية موصول بمكبرات صوت لتمكين عدد كثير من الناس من الاستماع إليه. وكان لعين كارم مجلس بلدي يدير شؤونها الإدارية. احتُلت القرية في تموز 1948، وفي سنة 1949، أنشأ الإسرائيليون مستعمرتي بيت زايت وإيفن سابير على أراضي القرية. كما أنشئت عليها في سنة 1950 مدرسة عين كارم الزراعية . أما باقي الأراضي فقد ضمتها بلدية القدس الغربية إليها بما فيه أراضي خربة حمامة.

وتُنسب فكرة إقامة مجمع ياد فشيم التذكاري إلى مردخاي شنهابي، من هشومير هتسعير، وقد نشر فكرته هذه على الملأ لأول مرة في ‏25 أيار 1945، في جريدة دافار، وذلك تحت عنوان  “نصب واسم للمهجر المنهار” ( مقتبس لدى بن ناحوم، 2011). وفي 15 آب أقرت لجنة هبوعل هتسيوني في مؤتمر في لندن إقامة “ياد فشيم“ (بن ناحوم، 2011: ص 72). وفي شهر نيسان 1949، أرسل شنهابي عدة مراسلات من أجل اقتسام أراضي “خربة حمامة” بين مجمع ياد فشيم المقترح وبين المقبرة العسكرية (بن ناحوم، 2011: ص. 209). وكان قد تمّ الاستيلاء على أراضي خربة حمامة مع قرية عين كارم خلال شهر تموز  1948. وكان شنهابي قد اقترح قبل هذا بوقت قصير أيضاً أن يتم غرس جزء من حرش “المدافعين” لإحياء ذكرى الجنود الصهاينة الذين سقطوا في عام 1948، ضمن المساحة التي ستخصص لإقامة “ياد فشيم”، وذلك رغبة منه في الربط بين ضحايا المحرقة والجنود الذين سقطوا في حرب “1948”. (بن ناحوم، 2011: ص 94).

هذا مع العلم بأن معاينة كتابات شنهابي تفصح عن أنه كان يؤمن بأن المنشأ يجب أن يقوم في بيئة زراعية، حيث يدل ذلك، بشكل طبيعي، على نشاطات منظمة الكيرن كييمت. وكتب في أوراقه أيضاً “لا توجد بيئة أفضل من البيئة الزراعية”. (‏بن ناحوم، 2011: 70)

قد يكون من الملفت للانتباه، أن الصيغة التي جاءت في موسوعة ويكيبيديا عن إقامة ياد فشيم تلقي الضوء على تشبيك المحرقة مع النكبة. فتحت عنوان “ياد فشيم”، وتحديدًا تحت العنوان الفرعي تسلسل تاريخي لمراحل إقامة “ياد فشيم (٧) ثمّة تطرّق إلى إقامة النصب وتقاطع النكبة والمحرقة في فلسطين:

8/1942 مردخاي شنهابي من هشومير هتسعير يقترح فكرة إقامة موقع تذكاري (٨).

8/1945 تشكيل الإدارة في لندن كجسم في الوكالة اليهودية، في شهر أيار 1946 بدأ العمل “مشروع ياد فشيم” في شقة من غرفتين في شارع الملك جورج 27 في القدس.

7/1948: احتلال المنطقة التي سيقام عليها لاحقا “ياد فشيم” في معارك الأيام العشرة على يد لواء يونتان.

تختصر هذه المقدمة التقنية أعلاه لتسلسل إقامة ياد فشيم اللقاء الكارثي الذي تم بين النكبة والمحرقة في فلسطين، والذي تم نظمه بوساطة الصهيونية وبوساطة ممارستها لتحقيق مشروع إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين.

إذا نبشنا قليلا تحت سطح عنوان “سلسلة الأيام العشرة” التي تذكر لتوصيف تسلسل إقامة ياد فشيم يمكن أن نعيد بناء وتركيب سيرورة التهديم والخراب التي حلت على الشعب الفلسطيني والتي كانت تنبني بموازاتها دولة إسرائيل ومؤسساتها بما فيها ياد فشيم والوقوف على توريط الصهيونية للمحرقة في النكبة.

تشير “سلسلة الأيام العشرة إلى سلسة العمليات التي بادرت لها القوات الصهيونية التي امتدت بين 8-18 تموز 1948 وتم خلالها القيام بعدة عمليات طرد واستيلاء على قرى وفي منطقة الوسط تم القيام بعمليتين مهمتين:

عملية داني وعملية كيدم. تشير عملية داني إلى احتلال الرملة واللد وتعميق السيطرة على الطريق الموصل إلى القدس. وعملية كيدم التي من خلالها تمت محاولة احتلال القدس القديمة، لكنها فشلت.

خلال الأيام العشرة، قامت فرقة عتصيوني بمهاجمة القرى التي تقع جنوبي القدس، وأشركت معها قوات من الليحي والاتسل التي سبق أن ارتكبت مجزرة دير ياسين، في نيسان 1948. احتلت هذه القوات المشتركة قرية بيت مزميل التي أقيمت عليها لاحقاً مستعمرة كريات يوبيل، وقرية المالحة التي أقيمت عليها مستعمرة منحات، وعين كارم التي تحولت إلى عين كيرم، وأيضاً السلسلة الجبلية رأس الرب (وتعرف باسم سلسلة مِس كيري Ms Carey) ونصف قرية بيت صفافا (بن أرييه،1983: ص 223)

يكتسب التزامن بين إقامة اسرائيل وبين نكبة فلسطين أهمية في فهمنا لمدى توريط المحرقة في السياق الاستعماري الصهيوني، وبالتالي في نكبة فلسطين، وهو ما قد تضيئه بشكل خاص عملية وضع حدود الخطاب السياسي في مجمّع “ياد فشيم”، حيث يتم استبعاد القضايا الخلافية السياسية، سواء أجاءت من قبل اليمين أم اليسار، ويتم التركيز على البعد العالمي والإنساني للمحرقة. في هذا السياق، نشير إلى أنه جرى طرد أحد المرشدين في “ياد فشيم” لأنه قام بذكر مجزرة دير ياسين على مسمع الزوار. كما ادعى مرشد آخر أنه طُرد من عمله هناك لأنه قال خلال إرشاد مجموعة طلاب في 14/7/2014 أن: ” قتل أناس خلال المحرقة بسبب كونهم يهوداً هو تماماً مثل الفتيان الثلاثة في جوش عتصيون”، في إشارة إلى مقتل ثلاثة فتيان مستوطنين في ذات اليوم على يد مجموعة فلسطينية (٩). وقد جاء في سياق دفاع المديرة العامة للمؤسسة عن قرار الطرد أن المجمّع لا يخوض في أمور سياسية خلافية مستجدة.

لكن “ياد فشيم” أقيم على أرض تم استعمارها، وعلى أثر عملية محو لشعب آخر، غير أن وضع الحدود وتحصينها، يميناً ويساراً، في سياق استعماري هي إشكالية وتعيد إنتاج موضوعية متخيلة منزوعة عن السياق، هي بالذات ما يزيد توريط المحرقة في النكبة. فكما يبدو واضحًا، التذكّر في ياد فشيم لا يحتمل ذكر التاريخ المخروس للقرى المهجرة المحيطة، تلك القرى التي طرد أهلها ومحيت عن الوجود ليتسنى تشييد إسرائيل وليتسنى أيضاً إقامة مجمع “ياد فشيم” على أراضي “الغائب الحاضر”. وبكلمات أخرى، كان يجب أن تُخرس النكبة كي تُحكى المحرقة في فلسطين المستعمرة، وهو ما أثار غضب الشاعر الكبير راشد حسين، الذي حاول في قصيدته “يافا مديني” أن يفكك هذا اللقاء الكارثي الزمكاني بين النكبة والمحرقة على أرض فلسطين الملتهبة غداة  1948، وتدمير الحواضر الفلسطينية ومحوها لإحلال الكينونة اليهودية الصهيونية مكانها، وما يستبطنه هذا اللقاء ذو البعد الثنائي لمحو الفلسطيني واستبداله بالاستعمار اليهودي-صهيوني من مأساوية مكثفة ومتعددة الطبقات تنتج علاقة متوترة ومتناقضة بين الفلسطيني المنكوب وبين ضحايا المحرقة الآتين من أوروبا للعيش مكانه وعلى خرائبه كما توضح قصيدة يافا مدينتي.

هوامش
(١) راشد حسين، من قصيدة الحب… والجيتو،1963. في الأعمال الكاملة، 1990، ص. 474
(٢) تم تحويل الرواية إلى فيلم أولا عام 1980-1981، 16 مم ملون 85 دقيقة، إنتاج: مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي (متوفر على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=FVzP4gpLx40 )  . ويعد أول فيلم فلسطيني روائي طويل. بعد ذلك تم إنتاجه عبر فيلم “المتبقي” بإنتاج إيراني سوري مشترك عام 1995، 35 ملم ملون 147 دقيقة سيناريو وإخراج سيف الله داد. (http://www.imdb.com/title/tt2327589/ ) وأيضا
(٣) مسلسل عائد إلى حيفا من إخراج باسل الخطيب، 2004، للمزيد: http://www.elcinema.com/work/1011038/
(٤)   للمزيد عن “ياد فشيم” يمكن زيارة الموقع الإلكتروني للمجمع باللغة العربية:  https://www.yadvashem.org/ar.html
(٥)   (موقع ياد فشيم على الرابط التالي : https://www.yadvashem.org/ar/about.html (آخر دخول 2/4/2018)
(٦) http://main.knesset.gov.il/About/Occasion/Pages/ShoahIntro.aspx (موقع الكنيست العشرين آخر دخول 1/7/2017)
(٧) https://he.wikipedia.org/wiki/%D7%99%D7%93_%D7%95%D7%A9%D7%9D (last seen .2.2017)
(٨) نشر شنهابي فكرة إقامة المجمع التذكاري لأول مرة في ‏25 أيار ‏1945 في جريدة “دافار” تحت عنوان “نصب واسم (ياد فشيم) للمهجر المدمّر” الدمج ” “نصبا واسما ” من سفر اشعيا ” وأعطيهم… نصبا (ياد) واسما (فاشيم)…. لا ينقطع (إشعياء 56, “) مقتبس في  يزهار بن ناحوم، 2011، جزء عن حياة مردخاي شنهابي، الجزء الثاني (ص70)
(٩) حدث هذا في 14/7/2014 خلال قيام أحد المرشدين بعملية إرشاد عن المحرقة لطلاب مدرسة في زيارتهم للمجمع، عن الحادثة والنقاش حولها في راديو “جالي تساهل” على الرابط التالي https://soundcloud.com/glz-radio/qcrfvgmntf5r (اخر مشاهدة 12/7/2017)

إلى الجزء الثاني من الدراسة…

The post تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (١/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«قضية رقم 23» مرة أخرى: أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري
 https://rommanmag.com/archives/19084 Thu, 25 Jan 2018 12:53:48 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%b1%d9%82%d9%85-23-%d9%85%d8%b1%d8%a9-%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d9%89-%d8%a3%d9%87%d9%84%d8%a7%d9%8b-%d9%88%d8%b3%d9%87%d9%84%d8%a7%d9%8b-%d8%a8%d9%83%d9%85-%d9%81/ 
شاهدت فيلم «قضية رقم 23»، لست ناقدة سينمائية ولن أتحدث عن أبعاده الفنية والتصويرية، وهو حديث لا أعنى به. ما يهمني هو الفكرة العامة التي يريد دويري إيصالها لي كمشاهدة للفيلم، وهي أنه لا يمكن لأحد أن يحتكر دور الضحية، وأن الجميع ضحايا بشكل ما، وهو ما يقوم به من خلال تفكيك “صورة الضحية” الفلسطينية […]

The post «قضية رقم 23» مرة أخرى: أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري
 appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

شاهدت فيلم «قضية رقم 23»، لست ناقدة سينمائية ولن أتحدث عن أبعاده الفنية والتصويرية، وهو حديث لا أعنى به. ما يهمني هو الفكرة العامة التي يريد دويري إيصالها لي كمشاهدة للفيلم، وهي أنه لا يمكن لأحد أن يحتكر دور الضحية، وأن الجميع ضحايا بشكل ما، وهو ما يقوم به من خلال تفكيك “صورة الضحية” الفلسطينية واستحضار جرائمها في الدامور، مع استخدام صور مرعبة للمجزرة والاستعانة بأحداث أيلول الأسود لإظهار جرم من يدعي أنه ضحية، مقابل إظهار داعمي بشير الجميل كضحية متساوية لا تقل مأساوية. تستدعي هذه الفكرة التوقف عندها لأهميتها وتبعاتها الأخلاقية وأبعادها السياسية والإنسانية وذلك عبر عدة نقاط متداخلة.

أولاً: لا يوجد إنسان قادر على “الفعل” تحت قبة السماء يمكن أن يكون “ضحية كاملة”، فقط الحيوانات والبشر غير المؤهلين للفعل هم من يمكنهم أن يكونوا ضحية كاملة، بمعنى كائنات سلبية مستقبلة غير قادرة على التفاعل مع سياقها لا بالفهم ولا بالفعل. الحيوانات ضحايا كاملة لأنها تنتمي إلى عالم حي يتموضع خارج الثقافة ولا تملك أدوات تفسير وتواصل مع محيطها البشري، وبالتالي يمكن أن تقاد إلى الذبح دون أن تفهم السياق الذي تتواجد فيه، وهي بهذا المعنى تكتسب صفتها كضحية من عدم وجود أي أداة لديها للفهم أولاً والمقاومة ثانياً. أما البشر غير المؤهلين بمعنى عقلي أو بسبب وجودهم في حالة موت سريري، فيمكن أن يكونوا أيضاً ضحايا كاملين لأنهم فاقدون للقدرة على المقاومة. فيما عدا ذلك فإن الإنسان العادي والطبيعي هو ضحية متفاوتة تبعاً لقدرته على الفعل والمقاومة التي قد تكون رمزية بحدها الأدنى، وفعلية عنيفة بحدها الأقصى. 



ثانياً: مثلما لا يوجد إنسان ضحية كاملة، فإنه لا يوجد شعب ضحية كاملة، لأن الشعب هو مجموع أفراده ومراكمة ردودهم الفردية والجماعية ومخزن إرادتهم العامة. الشعوب تكون ضحية كاملة فقط في حالة إبادتها وتحويلها إلى رماد بضربة عليا إلهية. وحتى في حالة إبادة هيروشيما بقنبلة نووية لم يكن سكانها ضحايا كاملين لأنهم كانوا جزءاً من “عدو” في حالة حرب، يصارع على رؤية معينة، وذلك بغض النظر عن أخلاقية هذه الرؤية سواء من حيث صدقها أو إجرامها. بمعنى آخر فإن الإنسان أو الشعب يكون ضحية كاملة إذا كان يسبح خارج الإنسانية وليس ضمنها، وخارج القدرة على الفعل.



ثالثاً: هل يعني عدم وجود ضحية كاملة أنه لا معنى للحديث عن ضحايا؟ أو هل يعني هذا أن الجميع ضحايا بشكل أو بآخر؟ بالطبع لا! بل أكثر من ذلك فإن القول إن كل الضحايا تتساوى هو قول مرعب ومخيف إلى حد بعيد، لأنه يلغي المسؤولية الأخلاقية عن الجميع وهذا هو المهم. لماذا؟ لأنه لو كان الكل ضحايا فلا مجرمون كما كتبت حنة أرندت، فالمغتصب ضحية تربية أو بيولوجيا هائجة والقاتل ضحية نزعات أو تاريخ حزين والمستعمر ضحية مطاردة في بلده الأم، وكذا فإن النازي ضحية الدعاية والفاشي ضحية ضحالته والجزار في صبرا وشاتيلا ضحية الدامور!! 



رابعاً: القدرة على تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية في حالة كان الجميع ضحايا تصبح غير ذي صلة، حيث يتم تدوير المسؤولية وتحويلها إلى عبث. وغالباً ما كان الاستغراق في هذا التحليل عن أسباب العنف وقوفا في صف القاتل.



خامساً: فيلم «قضية رقم 23» وقبله فيلم «الصدمة»، يعملان على تفكيك “الضحية” الفلسطينية عبر نزعها من سياقها، وإعادة نسجها ضمن عالم متساو من الضحايا، أطفال ونساء يهود مضرجون بدمهم في تل أبيب في فيلم «الصدمة» بفعل عنف فلسطيني بلا سياق، وضحايا الدامور مذبوحون بمشاهد تقشعر لها الأبدان نتيجة عنف مقطوع عن حرب أهلية دامية. يخرج المشاهد بحزن على ضحايا يطالبون بحقهم في “الاعتراف” من دون أن يفهم ما السياق. ولا يعني وجود السياق بالمناسبة التبرير بل على الأقل الفهم. لا عين الرمانة صارت ولا حتى صبرا وشاتيلا، ولا حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس في لبنان وتسببت في قتل الأخ لأخيه، فقط فلسطينيون ذبحوا وحرقوا وتلبسوا دور الضحية على غير حق، وفي «الصدمة» لا وطن مسلوب تحول إلى خرائب في عام 1948 ولا شعب كامل تحول إلى طريد سليب يعيش على حافة الإنسانية خاصة في لبنان. فن إنتاج مساواة الضحايا يشترط أن تقتطع الأحداث من سياقها، وأن تضع الجميع على كرسي الاتهام سواسية، ثم تحاكمهم بوصفهم غيلان ليل.



في اقتطاع مشهد الدم من السياق يصير العنف فعلاً همجيا لشعب يدّعي أنه ضحية، وفقط حين يقطع العنف من كل سياق ويرفع إلى مكانة فوق اجتماعية وتاريخية، ويتحول الجميع إلى ضحايا متموضعين في فضاء يسبح بالعدم، يصير من الممكن التنكيل أكثر بالفلسطيني لأنه يصير كائناً لا زماني، نموذجاً نظرياً مجرداً. الحرب التي يعلنها دويري على حركة المقاطعة هي نتاج هذا القطع الكارثي، ونتيجة القول إن لا أحد يحتكر دور الضحية.


وإذا كنا كلنا ضحايا وكلنا مجرمون… فإن لا ضحايا ولا مجرمين ولا مسؤولين ولا مسائلين! أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري !!

The post «قضية رقم 23» مرة أخرى: أهلاً وسهلاً بكم في جَنغل زياد دويري
 appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“اليسار البديل”… كي تتجاوز حركة المقاطعة الاستقطاب وتتحول لحركة جامعة https://rommanmag.com/archives/18967 Sat, 28 Oct 2017 07:46:39 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%b3%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%af%d9%8a%d9%84-%d9%83%d9%8a-%d8%aa%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d9%88%d8%b2-%d8%ad%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9/ كنت وما زلت ضد عرض فيلم «قضية رقم 23» لزياد دويري في فلسطين والعالم العربي، وأعتقد أن اختيار عرضه من قبل “فيلم لاب” من البداية هو خطأ كبير. لكن يخطئ من يظن أن العاصفة التي فجرها عرض فيلم «قضية رقم 23» في مهرجان أيام سينمائية الذي تقوم عليه مؤسسة “فيلم لاب”، نتج عن نقاش عيني […]

The post “اليسار البديل”… كي تتجاوز حركة المقاطعة الاستقطاب وتتحول لحركة جامعة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كنت وما زلت ضد عرض فيلم «قضية رقم 23» لزياد دويري في فلسطين والعالم العربي، وأعتقد أن اختيار عرضه من قبل “فيلم لاب” من البداية هو خطأ كبير. لكن يخطئ من يظن أن العاصفة التي فجرها عرض فيلم «قضية رقم 23» في مهرجان أيام سينمائية الذي تقوم عليه مؤسسة “فيلم لاب”، نتج عن نقاش عيني بين جماعتين مختلفتين حول معنى ومفهوم التطبيع فيما يتعلق بالفيلم ومخرجه زياد دويري فقط، لكن العاصفة كانت آتية لا بد.

تشهد الساحة الداخلية الفلسطينية منذ فترة ليست قصيرة حالة غليان داخلي واستقطاب شديد، تتخللها مشاحنات بمستويات متفاوتة على قضايا متشعبة، مرتبطة بمفاهيم الحرية والمقاومة وبمعنى التطبيع أولاً، وبمن يحدد المرجعيات والمعايير ثانياً. وتأتي هذه الحالة في ظل تقاطع مجموعة من العوامل، تتضمن صراعات قوة بين تيارات وطنية واجتماعية للتحكم بالحقل الثقافي، يوازيه صعود تيار “يسار بديل” على شاكلة “اليمين البديل” يسعى إلى فرض معاييره وخطابه ولغته على الساحة الفلسطينية، وهو ما على حركة مناهضة التطبيع أن تتنبه إليه، كي تستطيع أن تتجاوز حالة الاستقطاب التي أسهمت في إنتاجها بسبب موقفها المتناقض من الفيلم، ووقوع بعض النشطاء المحسوبين عليها في فخ تخوين واتهام فيلم لاب والقائمين عليه والممثل كامل الباشا بالتطبيع.

لقد عكست بيانات الحملة المناهضة للتطبيع أزمة الحقل الثقافي الفلسطيني، وتخبطه وصراعاته الداخلية، فحملت الموقف وضده في نفس الوقت، وأسهمت في تعميق الاستقطاب المجتمعي على عكس ما أرادت على الأغلب. فقد هنأت الحملة كامل الباشا “لفوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي”، واعتبرت “أن فيلم المخرج زياد دويري الجديد، «قضية رقم 23»، غير خاضع للمقاطعة وفقًا للمعايير الحالية لحركة المقاطعة (BDS)“ لكن الحملة أشارت إلى أن ”عرض فيلم دويري من قبل المهرجانات العربية، بما فيها الفلسطينية، وبغض النظر عن النوايا، لا يمكن إلا أن يشجعه على الاستمرار في نهجه التطبيعي المدمرّ“.

وبدل أن يوضح البيان موقف الحملة من عرض الفيلم زاد الطين بلة، إذ هنأ الفنان الذي شارك في التمثيل مع المخرج “المطبع” أولاً، واعتبر أن الفيلم ليس تطبيعياً ثانياً، ومن ثم دعا في ذات البيان لمقاطعة المخرج!

كيف تستوي الأمور بين تهنئة الباشا والمطالبة بمقاطعة دويري والقول إن الفيلم لا يخضع لمعايير المقاطعة، وبين الدعوة إلى حوار مجتمعي حول معايير المقاطعة ثم المطالبة بالمقاطعة؟!

وبعد عدة أيام من تفاقم الاستقطاب حول عرض الفيلم وانطلاق حملة واسعة لإلغائه، جاء بيان ثان لحركة المقاطعة لوقف عرض الفيلم، لحين التوصل لصياغة معيار جديد للمقاطعة ومناهضة التطبيع يعالج مثل هكذا قضية، بالتشاور مع المجتمع، بما فيه الفعاليات الثقافية. في هذه الفترة تصاعدت حملة #لن_يعرض ورافقها استخدام لغة التخوين على صفحات التواصل الاجتماعي، اتسمت بالتهديد بالعنف واستخدام لغة التخوين واتهام القائمين على المهرجان بالتطبيع، وإنشاء صفحات فيسبوك للمثقف الخائن مع صور الباشا نفسه، وهو ما دفع بلدية رام الله على ما يبدو إلى إلغاء العرض، في قرار اتفق مع البيان الثاني نفسه لحملة المقاطعة، الذي أعلن عن خمس نقاط توضيحية حول مبادئ الحركة وموقفها من عرض الفيلم، وجاء فيه أنها طالبت بوقف العرض بسبب “صدور بعض التهديدات المقلقة وتبادل الاتهامات بالخيانة والتطبيع والتخريب وغيره”.

وبدل أن تسهم توضيحات حركة المقاطعة بتهدئة الأجواء، التي كانت مشحونة أصلاً، أسهمت تناقضات مواقف الحملة وبياناتها في تعميق حالة الاستقطاب الداخلي الفلسطيني والغليان التي تعصف بها من مدة، بسبب تقاطع مجموعة من العوامل التي تتعدى كثيراً قضية فيلم دويري وتهدد بتحول حركة المقاطعة لحركة منفرة وطاردة لأوساط ثقافية مهمة، بدل أن تكون حاضنة لهم، وذلك على الرغم من إنجازاتها الدولية في مواجهة إسرائيل. 

ترتبط هذه العوامل بأربعة محاور متداخلة، الأول بنيوي متعلق بتفكك اليسار التقليدي وصعود ما أسميه “اليسار- البديل“ (Alt-left مقابل اليمين البديل في أميركا Alt-right)، والثاني رمزي يرتبط بتبني فائض لغة عنيفة، قائم على تصنيفات الخير والشر المطلق لحسم النقاشات الفلسطينية الداخلية، والثالث منهجي متعلق بالتعامل الصنمي مع نظريات ما بعد الاستعمار، ورابعة عملية مرتبطة بغياب مقاومة الاحتلال على الأرض وتحول النقاش الداخلي عن المقاومة بديلاً للمقاومة نفسها.

بنيوية: أفول اليسار التقليدي وصعود اليسار البديل: مع أفول قوة الحركات الفلسطينية اليسارية كالجبهة الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب، تحول جزء من نشطائها خاصة ممن نشطوا في الانتفاضة الأولى نحو العمل في مؤسسات المجتمع المدني الثقافية والاجتماعية. في مقابل أفول الأحزاب التقليدية صعد تدريجياً “يسار بديل” هو توليفة من نشطاء شباب يعتبرون أنفسهم ممثلي اليسار الفلسطيني الحقيقي، وأعضاء سابقين في أحزاب قومية وبعثية وتيارات معارضة ومثقفين ونشطاء مستقلين وعلمانيين، يغلب عليهم تبني خطاب “الممانعة والمقاومة” ويعتبرون أنفسهم رأس الحربة في مقاومة التطبيع وطليعة النضال من أجل فلسطين. 

رمزية: ترتبط بتبني “اليسار البديل” فائضاً لغوياً رمزياً عنيفاً لحسم النقاشات في قضايا خلافية. أقصد بذلك اتهام كل من لا يتفق في الرأي معهم بمجموعة من التهم ذات الدلالات الرمزية العنيفة، بما لا يتواءم مع ما يفعله، كاتهام الآخر بأنه خائن أو عميل أو متعاون، بهدف نزع الشرعية عمن توجه له التهمة. لقد تحولت لغة التخوين والتطبيع عطفا على التهم في قضايا خلافية إلى أداة أساسية لحسم النقاشات، وذلك بدلاً من الخوض فيها بعقلانية. 

يمكن أن نشير بإيجاز هنا إلى أن “اليسار البديل” كان وراء الحملة التي طالت محمد بكري في زيارته للبنان، وما رافقها من اتهامه بالتطبيع، وما سبقها من محاولات طرد محمد بركة وسكرتير الحزب الشيوعي يوم تأبين الراحل تيسير عاروري، أعقبها بعدة أسابيع نشر بيان استنكار على هامش زيارة أيمن عودة لجامعة جنين ومحاولة طرده، وعلى الرغم من أن مسألة المشاركة في الكنيست قضية قابلة للنقاش، إلا إن القول إن من يجلس في الكنيست من فلسطينيي الداخل هو خائن أو مطبع أمر لا يقبله منطق.

نضيف إلى ذلك تخريب معرض مؤسسة هنرش بول في بيرزيت، “50 عاماً على الاحتلال”، قبل حوالي شهر ونصف، لأنها لم تتحدث عن “70” عاماً من الاستعمار، واستخدمت صوراً من صحف تبنت لغة غير “وطنية”! وكذلك إيقاف محاضرة يوسف الصديق في جامعة جنين بدعوى الإلحاد. 

استخدام التخوين لوصم الباشا والتطبيع لمنظمي أيام سينمائية وحملة التشهير التي طالتهم تتموضع ضمن هذا السياق المشحون مسبقاً، ومرتبطة بقضايا تشق الشارع الفلسطيني أصلاً كالموقف من الأزمة السورية، وحزب الله، أو ما أسماه البيان ضد الاستهداف الإسرائيلي “المقاومة اللبنانية”، أي الاسم الحركي للحزب!  

منهجية: لا يخفى أن من يتبنى ثنائيات التخوين/ المقاومة من “اليسار البديل، يعتمد على “منظّرين “روحانيين” يضعهم في مرتبة “المرجعية العليا”، يشرعن من خلالها كل أدوات العمل التي يتبناها. وتشكل في هذا السياق نظريات ما بعد الاستعمار “مرجعية عليا” غير قابلة للنقاش، تصل إلى درجة التصنيم، مع كثير من سوء التأويل والفهم. وتلعب في هذا السياق كتابات فرانز فانون مرجعية روحانية عليا في خطاب العديد من الفاعلين، يتم عبرها إضفاء صبغة فكرية على تبني خطاب التخوين والتطبيع بوصفه خطاباً راديكالياً موجهاً ضد مثقفين تابعين ومستفيدين بسبب مواقعهم، بحسب فانون، ممن يقعون ضحايا الإعجاب والخوف بالمستعمر ومنه، ناهيك عن تبنيه ثنائيات المستعمِر والمستعمَر وتحويل العنف إلى “جوهر” تحرري لا يمكن تجاوزه.

إن ما يحدث فعلياً هو أن فانون المجتزأ والمستخدم بشكل انتقائي، يتحول في ظل هيمنة خطاب التخوين إلى “ابن تيمية” اليسار، يرجع إليه اليساري البديل ليقترض منه مقولات خاصة بسياق تاريخي محدد ليسقطها على سياق آخر في زمن مركب ومعقد، في تجاهل مقصود للدور الريادي المقاوم للمثقفين الذي يتهمهم بالتواطؤ مرة والتطبيع مرة أخرى، في قيادة الانتفاضة الأولى على سبيل المثال لا الحصر.

عملية غياب فعل المقاومة للاحتلال: يتوازى تصاعد لغة التخوين الداخلية وهيمنة فائض اللغة العنيفة في المحاسبة الداخلية، بانعدام وجود مقاومة حقيقية للاحتلال في لحظة مصيرية من توغل المشروع الاستعماري الذي يهدد كل الوجود الفلسطيني. الحواجز التي تقطع أوصال البلد وتتواجد على كل مفرق (400 حاجز وفاصل على الأقل) لا تشهد أي مواجهات وتتحكم بالحياة اليومية للسكان، وتنعدم المقاومة في المناطق التي تشهد تهجيراً فعلياً ولا تبعد أحياناً سوى بضعة كيلومترات عن مراكز المدن التي تشتعل بنقاشات عن التطبيع، كما ينعدم أي فعل شعبي مقاوم ضد البناء الاستيطاني الذي يحول ذات المدن الفلسطينية إلى بؤر، مقابل تحول بؤر الاستيطان والمستوطنات إلى غول يحاصرها.  

أنتج التقاطع بين العوامل أعلاه واقعاً داخلياً وهمياً لمقاومة نشطة فاعلة غير قائمة أصلاً. لقد علا صوت النقاشات الداخلية حول التطبيع كثيراً وارتفعت لغة التخوين وتضخمت مفرداته، وتحول التلويح بالعنف لوسيلة حسم النقاشات في قضايا خلافية، حتى ظننا أن المقاومة مشتعلة، لكن كل هذا الصراخ المحزن يرتطم بجدار المستوطنات ويرتد علينا ككرة نار، ليس لأن الخلافات مرفوضة بل لأن الجدل الداخلي يتحول في بؤرنا المسورة بحواجز وجدران ومستوطنات من عامل بناء، إلى عامل تذرير ومن رافعة للتطوير إلى معول لتعميق الهاوية التي نقف على حافتها، ليظل الاحتلال وحده من يقوم بالفعل الحقيقي الوحيد على الأرض: ممارسة  الاستعمار على الأرض وبلع ما بقي من الوجود الفلسطيني المحشور في بؤر تتهشم!

The post “اليسار البديل”… كي تتجاوز حركة المقاطعة الاستقطاب وتتحول لحركة جامعة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٣/٣) https://rommanmag.com/archives/18959 Mon, 23 Oct 2017 11:01:40 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%a7-3/ 1953-1965: بروز الشيوعيين الشعراء وإعادة إنتاج فلسطين الوطن لم يترك العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أدنى شك في قلوب الشيوعيين في أن إسرائيل اختارت أن تنحاز إلى صفّ القوى “الإمبريالية”، وأنها تفضّل الوقوف في صف فرنسا وبريطانيا وأمريكا (بمعزل عن أنّها لم تؤيّد الحرب) على أن تتحالف مع الكتلة الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي. […]

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٣/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

1953-1965: بروز الشيوعيين الشعراء وإعادة إنتاج فلسطين الوطن

لم يترك العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أدنى شك في قلوب الشيوعيين في أن إسرائيل اختارت أن تنحاز إلى صفّ القوى “الإمبريالية”، وأنها تفضّل الوقوف في صف فرنسا وبريطانيا وأمريكا (بمعزل عن أنّها لم تؤيّد الحرب) على أن تتحالف مع الكتلة الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي. وجاء هذا الانحياز الإسرائيلي متزامناً مع تغيرات استراتيجية وبعيدة المدى في مصر، بدأت مع ثورة الضباط الأحرار ، وتصاعدت مع علو “نجم” جمال عبد الناصر بوصفه قائداً عروبيّاً يحظى بشعبية طاغية، والتقارب المستمر مع الاتحاد السوفييتي. وقد جاء العدوان الثلاثي، الذي شنّته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر بعد قرار عبد الناصر تأميم قناه السويس، ليحدد الخط الفاصل والنهائي بين معسكر “أصدقاء الشعوب”، ومعسكر “أعداء الشعوب” الذي انضمّت إليه إسرائيل بتفضيلها الانحياز لـ”الإمبريالية” التقليدية، ممثّلة ببريطانيا وفرنسا. (١)

لكن الحدث الذي سيشكّل عمليّاً نقطة اللاعودة؛ هو مجزرة كفر قاسم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال فترة العدوان، وفي ظل محاولات التكتم عليها من قبل قيادات الدولة. وقد كان أول الكاشفين عن هذه المجزرة عضوا الكنيست عن الحزب الشيوعي، توفيق طوبي وماير فلنر، واللذان استفادا من حصانتهما البرلمانية للدخول إلى القرية والاستماع إلى شهادات الناجين. عزّزت المجزرة الشعور بأن الدولة -وقد تمأسست- تستهدف الفلسطينيين في داخلها، وأنها ليست معدّة لتكون دولة ديمقراطية، كما صرحت في مناسبات مختلفة، وكما راهنت بعض قيادات الحزب سابقاً. 

وسط هذا السياق المشحون، بدأ بالصعود في صفوف بعض المثقفين في الحزب خطاب ثقافي مختلف إلى حد التناقض مع الخطاب السياسي الرسمي، وقد شكّلت الكتابة الشعرية أداته الأهم، وكان روّاده المركزيون من الجيل الشاب اليافع الذي تم استقطابه إلى صفوف الحزب بعد إقامة إسرائيل.

 وعلى عكس الخطاب الرسمي الذي هيمن منذ إقامة إسرائيل وحتى بدايات سنوات الخمسين، واتخذ من الدولة مشروعاً ومحور عمل؛ تميّز هذا الخطاب بتمحوره حول الوطن وقيم البقاء والصمود، وباعادة صياغه العلاقة مع الآخر عبر ثنائيات المستعمِر والمستعمَر؛ والأصلاني المتجذّر مقابل المحتل العابر.  وتكمن أهميه هذا الخطاب في رياديّته فلسطينياً في تشكيل وإنتاج الحاضنة الرمزية للمقاومة الفلسطينية، وفي بناء هويّة جمعية بعد نكبة 1948 وما تبعها من تشتت وتذرر فلسطيني. ومن الملاحظ أن الشعر الذي أنتج في فلسطين بعد النكبة، وفي ظلّ الحكم العسكري، كان يشكّل مصدراً للتماهي بين كل الفلسطينيين، خاصة في الشتات؛ لأنه ركّز، إلى حدّ كبير، على الأرض والعلاقة بالمكان والصمود والبقاء، وهي قيم مشتركة بالذات بين اللاجئين؛ من شكلت تجربتهم الصورة السالبة لذلك، وهو ما جعل عمليّاً من شعر محمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وسالم جبران، وحنا أبو حنا، شعراً فلسطينيّاً شاملاً وليس محليّاً. لكن ذلك لا يعني، بالطبع، عدم وجود ملامح مميزة للخطاب تعكس التجربة الذاتية للمواجهة في الداخل، خاصّة عبر تكرار الحديث عن البقاء والصمود ومقاومة سياسات الاقتلاع والمصادرة والتهجير . 

هذا الخطاب الشعري الوطني الذي تفتّح في دفيئة الحزب الشيوعي، والمهموم بالقضية الجمعية لفلسطين وأبنائها، أخذ يتحوّل تدريجيّاً إلى الخطاب المهيمن على الأغلبية العربية في الحزب، وكان يتزايد قوّة مع تزايد صعود نجم الشعراء الشباب المنشغلين بقضايا شعبهم وهمومه، توازياً مع وجود تراجع، بحدود معيّنة، في الخوف على المصير من ممارسات السلطات الإسرائيلية ومن مواجهة مصير اللاجئين.

 وفي هذا الإطار، جاءت الصدامات التي اندلعت في 30 أبريل 1958 في الناصرة لتعكس تزايد قوة التيار القومي على حساب نكوص الخطاب المدني-المواطناتي، ففي هذا اليوم، كما نشرت صحيفة “معاريف” العبرية في 30 أبريل 1958، بثّ أعضاء الحزب “الأغاني القومجية، وخطابات تحريض ضد سياسات التمييز ضد العرب، ونادوا أعضاء الحزب للنزول والتظاهر في شوارع الناصرة“،(٢) على حدّ تعبير الصحيفة، وقد تطورت التظاهرات إلى مواجهات شديدة بين المتظاهرين والشرطة، ووقعت أشد الاحتجاجات قبيل الاحتفالات بالاستقلال العاشر لإسرائيل التي نظمتها البلدية، وأدت إلى اعتقال عدد من نشطاء الحزب وقياداته، من بينهم إميل حبيبي وصليبا خميس. شكّلت هذه المواجهة تجسيداً لعودة التيار القومي للهيمنة على الأعضاء العرب في الحزب، والذي تحول إلى رأس الحربة المتصدية للتيارات المتعاونة، والمخاتير المدعومين من الدولة، ممن أطلق عليهم “أذناب السلطة”. 

وللمقارنة بين الخطاب السياسي الحزبي الرسمي الذي هيمن في بدايات قيام الدولة ثم بدأ يتراجع تدريجيّاً ليرتفع مكانه خطاب ذو بعد قومي؛ وبين الخطاب الثقافي، سأتناول دور الشعراء المناقض عمليّاً لدور القيادة الحزبية الرسمية في إعادة بناء الهوية الفلسطينية، وإعادة صياغة العلاقة بالمسألة القومية، وذلك من  خلال استعراض مختصر لخطابهم في ما يتعلق بالنكبة وإقامة إسرائيل، وصورة الآخر والعلاقة مع الأرض منذ 1956 وحتى  1965، والذي دفع، مع تصاعده، نحو الانقسام عام 1965 على أساس قومي، بين تيار ذي أغلبية عربية يقوده توفيق طوبي وماير فلنر، وتيار ذي أغلبية يهودية يقوده شموئيل ميكونس وموشيه سنيه.

 النكبة، الآخر والأرض: 

تظهر متابعة الكتابات الأدبية عامة، والشعرية خاصة، التي أنتجها مثقفو الحزب الشيوعي، هيمنة المفردات القومية على كتابتهم، وفهمهم للآخر على أساس ثنائيات المستعمِر والمستعَمر، والخير والشر، وتفيض بالمشاعر الجياشة تجاه الأرض والوطن وبالمناداة للتحرير والمقاومة. وإذا أخذنا، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة “القصيدة الناقصة” لسميح القاسم، التي نشرها في مجموعته الثانية «أغاني الدروب»، سنجد وصفاً للدمار الذي حل بالوطن عام 1948 بسبب إقامة دولة إسرائيل على أراضيه، وهو يرمز إليه بلغة مجدولة بثنائيات الخير والشر، لا سيما حين يقول: “شرذمة من الصلال… تسرّبت تحت خباء ليل/ إلى عشاش دوحها في ملتقى الدروب/ أبوابها مشرعة لكل طارق غريب/ وسورها أزاهر وظل/ وفي جنان طالما مر بها إله/ تفجّرت على السلام زوبعة/ هدّت عشاش سربنا الوديع/ وهشمت حديقة ما جددت سدوم/ ولا أعادت عار روما الأسود القديم.“

في وصفه ذاك، يستدعي القاسم الوطن قبل النكبة بوصفه صنواً للوادعة، مفتوحاً للغرباء، وآمناً تماماً كفردوس آدم الأول، حتى تتسرب شرذمة من الصلال إلى المكان، وتتفجر زوبعة تحيل الفردوس إلى خرائب ودمار. وفيما يحيل توصيف الوطن بـ”العشاش” المشرعة إلى البراءة والسذاجة الطفولية التي تسِم كلّ العلاقات الحميمية في الفردوس الأصلي فإن توصيف دخول “العدو” (إشارة إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين) على أنه فعل “تسرب”؛ يحيل إلى سلوك المستعمر المراوغ والمضلل الذي قام من خلاله باستغلال “وداعة” الضحية ليتسرب إلى حياتها، ليكون بذلك المستعمر عمليّاً صنو الشيطان الذي أسقط بمكره البشرية من الفردوس السماوي إلى الأرض المدنسة. 

دمجت كتابات الشعراء بين الحزن والغضب على الوطن المنكوب، وبين الحديث عن حتمية الخروج من واقع الهزيمة، وهو ما يعني أن كتابتهم لم تكن فقط بكاءً على الأطلال؛ بل تحريضاً على الخروج منه، وإيماناً بحتمية الولادة من جديد. هكذا، مثلاً، يكتب درويش في قصيدته ”ولادة“:

“إن قصفت عاصفة/ في تشرين../ ثالثهم/ فجذور التين/ راسخة في الصخر.. وفي الطين/ تعطيك غصوناً أخرى../ وغصون!”

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تصويرة (motif) “الجذري” شكّلت إحدى التصويرات المشكّلة للهوية الفلسطينية، بوصفها هوية أصلانية، إذ يدلل الجذر على التجذر في المكان، والعلاقة المجدولة، فوق الزمنية، بالأرض، مقابل العواصف العابرة والطارئة التي تشير عمليّاً إلى الغزاة. تظهر تلك الاستعارات جليّة في قصيدة درويش “بطاقة هويّة (محمود درويش 1988، ص74-75)” ، حينما ينشد في أحد مقاطعها: “جذوري../ قبل ميلاد الزمان/ وقبل تفتّح الحقب/ وقبل السرو والزيتون/ قبل ترعرع العشب.“

في استحضار الجذر وتحويله عمليّاً إلى حضور فوق تاريخي -قبل ميلاد الزمان رست وقبل تفتح الحقب- يعيد درويش صياغة العلاقة بين الزمن-التاريخ والفلسطيني، ويحوّل هذه العلاقة إلى فوق زمنية ليرد بذلك على خطاب المستعمر، الذي عمل على تحويل الزمن السماوي إلى زمن أرضي، وعلى ادّعائه بأنه “عائد من المنفى إلى وطنه” الذي يقول إنه عاش فيه وفق أسطورته قبل ألفي عام، ويبني عمليّاً شرعية مشروعه الاستعماري عليه. من خلال ردّه ذاك، يسخر درويش من ادعاء المستعمر ويتحداه، وهو يفعل ذلك من خلال لغة المكان-الأرض، عبر تصوّر العلاقة الحميمية والمباشرة مع الأرض، والتي لا تتوسطها أساطير العودة من المنافي، ولا تشكل أداه لإعادة بناء جسد اليهودي الجديد كما نظّر لها المستعمر؛ بل علاقة عضوية متشابكة بحياة الفلسطيني اليومية. وفي ذلك، يمضي درويش بالقول: “أبي من أسرة المحراث/ لا من سادة نجب/ وجدي كان فلاحاً/ بلا حسب ولا نسب../ يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب/ وبيتي، كوخُ ناطورٍ/ من الأعواد والقصب../ فهل ترضيك منزلتي؟/ أنا إسم بلا لقب!“

خطاب المثقف-الشاعر، على عكس المثقف-السياسي، كان خطاباً أصلانياً مفرداته الجذر والأرض، وسياقه العلاقة الحميمية بين الوطن والساكن الأصلاني؛ مقابل العلاقة المصطنعة للغريب. وحين يتحدث هذا المثقف عن حضور الآخر؛ فهو يرمّز إلى “إخلال” تتم مقاومته عبر التشبث بالجذر الذي يصور في الشعر باعتباره حصن المقاومة ومعقلها، لأنه، بحكم طبيعته، قادر على التشبث والضرب عميقاً في الأرض كما كتب الشاعر الشيوعي توفيق زيّاد في قصيدته “هنا باقون” (توفيق زياد 2000): “يا جذرنا الحي تشبث/ واضربي في القاع يا أصول.“

على محور الزمن يتربع الجذر إذن بلا خوف، واثقاً من ديمومته المستمدة من قدرته على التجدد المستمر. يواجه الحالة العابرة والمؤقتة للعاصفة، التي تدمر وتخرب لكنها تنتهي إلى زوال. حتى وإن عاودت الظهور، فإن ظهورها متقطع واعتباطي. يكتب توفيق زياد: “وطني مهما نسوا/ مرّ عليه/ ألف فاتح/ ثم ذابوا.. مثلما الثلج يذوب.” (توفيق زياد، م.س)

بناء على ما سبق، يمكن أن نلخص التمايز بين الخطاب الرسمي الحزبي، والذي مثّله -على أفضل وجه- توفيق طوبي في السنوات الأولى لإقامة إسرائيل؛ وبين الخطاب الثقافي الذي أنتجه “شعراء المقاومة”، الذين تصاعد دورهم تدريجيّاً بعد مجزرة كفر قاسم، ثم ما لبث أن هيمن تدريجياً على الخطاب الثقافي والسياسي للحزب، بالجدول التالي:

 

 

الخاتمة 

سنة 1965، الانقسام الحتمي:

في الثامن من كانون الأول من عام 1964، قُتل إبراهام جوري في كيبوتس “ياد حنة”، وهو جندي في العشرين من عمره من وحدة ”الناحال“، (٣) إثر عملية إطلاق نار من قبل القوة الأردنية الموجودة في الجانب الآخر من الخط الأخضر، (دافيد مرحاف 2011) (٤)، كما تذكر المصادر الإسرائيلية فقد كان للأمر أهمية خاصة في تاريخ الحزب الشيوعي، لسبب مهم؛ وهو أن هذا الجندي كان محسوباً على نشطاء شبيبة الحزب الشيوعية، (معاريف 1964) (٥) ومن سكان كيبوتس “ياد حنة” الذي أقيم عام 1950، وكان حينها الكيبوتس الوحيد التابع للحزب الشيوعي، وانتمى أغلب أعضائه لفكر الحزب (٦).

أظهرت تلك القضية كل التناقضات المرتبطة بالعامل القومي والاستعماري التي كان الحزب يحملها كلها في سلّته، ويحاول أن يناور بينها؛ فقد نظمت لجوري، الجندي الشيوعي المقتول بأيد عربية، جنازة عسكرية، ودفن بين صفوف الجنود الذين قتلوا بسبب الصراع القومي في “دفاعهم” عن إسرائيل. كان الحضور متنافراً بشكل لافت، فقد ضم من جهة جنود “الناحال” وهم بكامل لباسهم العسكري، ومن جهة أخرى رفاقاً عرباً من الحزب الشيوعي. وفي الجنازة، أطلقت الوحدة العسكرية ثلاث دفعات من النيران، فيما أنشد بعض الشبان اليهود النشيد القومي الصهيوني “هاتيكفاه”، وفي مقابلهم، أنشد بعض “الرفاق” نشيد الأممية الشيوعية.

لكن الأهم هو ما كشفته بعد تلك الحادثة صحيفة “معاريف”، وهو أن وحدة “الناحال” التي تمركزت في “ياد حنة” أقيمت نتيجة اتفاق بين عضو الكنيست عن “ماكي”، موشيه سنيه، وبين نائب وزير الأمن حينها، شمعون بيرس، وكان هدفها تنظيم الخدمة العسكرية لأعضاء حركة الشبيبة الشيوعية. وقد وقع الاتفاق المذكور في 1961، وتم تطبيقه بعد عام من توقيعه (دافيد مرحاف 2011)، ما زاد من الفجوة بين التيارين العربي واليهودي.

وما بين تصاعد الخطاب القومي في أوساط الأعضاء العرب، واندماج الأعضاء اليهود، بأغلبيتهم، في منظومة الدولة عبر التجند للجيش من جهة، وفي ظل تصاعد قوة القومية العربية التي مثّلها جمال عبد الناصر من، وفي مقابل استمرار سياسات القمع والتمييز والعدوانية الإسرائيلية المتمثلة بعمليات الانتقام التي انتشرت في سنوات الخمسينيات وبدايات الستينيات من جهة أخرى؛ أصبح الانقسام في الحزب مجدداً على خلفية المسألة القومية غير قابل للتفادي. 

وفي 23 يونيو 1964، انشقّ الحزب من جديد على أساس قومي، بعد أن استحال التغاضي عن هذا الصدع أو تجاوزه. في هذا السياق، أقامت الغالبية العربية من أعضاء الحزب، بقيادة طوبي وفلنر، حزب “راكاح”، بينما احتفظت الغالبية اليهودية، بقيادة سنية وميكونس، باسم الحزب “ماكي”، علماً أن تيارها ضم أكثر من نصف أعضاء الحزب. والمهم أن الحزب الشيوعي، الذي أصبح نظيراً لـ”راكاح” بعد التبخر التدريجي لتيار ميكونس، صار صنواً في الثقافة السياسة الإسرائيلية لحزب عربي؛ رغم محاولات عرضه كحزب يهودي عربي.

كان هذا القسم الثالث والأخير من الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد ١١٢، خريف ٢٠١٧.
القسم الأول
هنا، والثاني هنا.

الهوامش

١-  وذلك رغم وجود علاقة متوترة بين النظام الناصري والشيوعيين في مصر؛ إذ إن شعبية عبد الناصر طغت على أخبار الملاحقة والتضييق التي تعرض لها هؤلاء.
٢- مواجهات بين الشرطة وأعضاء ماكي في تظاهرة في الناصرة”، “معاريف”، ٣٠ نيسان/ أبريل ١٩٥٨
٣-  لواء “ناحال”: أحد ألوية ما تسمى بـ”النخب” في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويعني بالعبرية (نوعار حالوتسي لوحيم)، أي “شباب الطليعة المقاتلة” (بالعبرية נח”ל). هي كتيبة مشاة في الجيش الإسرائيلي. تاريخيّاً، يشير الاسم إلى برنامج يجمع بين الخدمة العسكرية وإنشاء مستعمرات زراعية جديدة، عادة في مناطق “نائية”. انشق البرنامج لاحقاً إلى مشاريع تطوع ورفاه اجتماعي.
٤-  “مقتل عضو الناحال، وإصابة صديقه بجروح خطرة من نيران أردنية، “معاريف”، ٩/١٢/١٩٦٤.

المراجع 


البديري، موسى، “تأملات في تاريخ مكتوم: الحزب الشيوعي الفلسطيني والأممية”، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد ٩٢ (خريف ٢٠١٢)، ص ٦٩-٧٨.
بشير، سليمان، “المشرق العربي في النظرية والممارسة الشيوعية، ١٩١٨- ١٩٢٨”، القدس: مطبعة الشرق التعاونية، ١٩٧٧.
تلحمي، داوود، “عودة الى خلفيات تغيّر موقف الإتحاد السوفييتي من المشروع الصهيوني في فلسطين في أواخر الأربعينيات الماضية” الحوار المتمدن، العدد ٣٧٠٨ (٢٥/٤/٢٠١٢) في الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=304840         
حجازين، إبراهيم، “مدخل جديد لدراسة تاريخ عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، (الحلقة الأولى، ١٢/١٢/٢٠٠٦). موقع الحوار المتمدن” في الرابط الإلكتروني التالي: 
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=83249 
حسين، راشد،”حين يجوع التاريخ”، مجلة الفجر، العدد ١٢ (تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٥٩). ويمكن الرجوع إلى المقالة إلكترونياً في موقع “دنيا الوطن”، في الرابط التالي:
http://www.ajras.org/?page=show_details&Id=21&CatId=58&table=table_146 . 
الحواري، رائد، من تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني، “مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي” (٢٣/١/٢٠١٤)، في الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=397249&ac=1         
خليل، محمد. “إميل توما: ريادة في السياسة وفي النقد”. موقع الجبهة” الإلكتروني (٢٥/١٢/٢٠١٠)، في الرابط التالي: http://www.aljabha.org/index.asp?i 
درويش، محمود، قصائد”. موقع “الديوان” الإلكتروني (١٩٨٨)، في الرابط التالي: http://www.aldi wan.net/poem2284.html
زياد، توفيق، “الأعمال الشعرية الكاملة”. بيروت: دار العودة، ٢٠٠٠.
سعدي، احمد، “مداخلة في مؤتمر لندن حول الصهيونية والشيوعية”. “عرب٤٨” (١٤/٣/٢٠١٠) في الرابط الإلكتروني التالي: 
https://goo.gl/4EkoKg
سليمان، محمد، مجلة حيفا، ١٩٢٤- ١٩٢٥: أول صحيفة يسارية عربية”. رام الله: شبكة أمين الإعلامية، ط١، ٢٠١١.
 الشريف، ماهر. “الأممية الشيوعية وفلسطين (١٩١٩- ١٩٢٨) “بيروت: دار ابن خلدون، ١٩٨٠.
“فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن”. بيروت: دار المدى للثقافة والنشر، ٢٠٠٤. 
“عصبة التحرر الوطني في فلسطين (١٩٤٣-١٩٤٨): تجربة تنظيم شيوعي فريد”، موقع “حزب الشعب الوطني”، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.ppp.ps/ar_page.php?id=c3b619y12826137Yc3b619 
وأُلقي هذا النص في المؤتمر العلمي الدولي الذي نظمه المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، بعنوان: “التوتاليتارية الأوروبية في مرآة الفكر العربي”، ما بين ٦و ٨ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٠. 
“من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين”. (الحلقة الأولى). “الحوار المتمدن” (١٧/٦/٢٠١١)، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=263578&r=0&cid=0&u=&i=2230&q= 
“من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين، ١٩٢٤-١٩٣٦”. “رام الله: مركز فؤاد نصار لدراسات التنمية، ٢٠١٢.
العارف، عارف. “نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧- ١٩٥٢”. الجزء الأول. كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، ١٩٥٦.
عياش، سعيد. “من الأرشيف: مقابلة مع بن- غوريون، برنامج موكيد ١٩٧٠”. “قضايا إسرائيلية”، العدد ٦٣ (٢٠١٦)، ص ١٤١- ١٤٦.
فرح، بولس. “من العثمانية إلى الدولة العبرية”. الناصرة: الصوت، ١٩٨٥.
القاسم، سميح. “أغاني الدروب”. الناصرة: مطبعة الحكيم، ١٩٦٤.
كرزم، جورج. “الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين التناقض والممارسة، ١٩٤٨- ١٩٩١”. القدس: منشورات الشعلة، ١٩٩٣. 

بالإنجليزية
Budeiri, Musa, 2010, The Palestine Communist Party 1919-1948: Arab and Jew in the Struggle for Internationalism, Haymarket Books.
Sayegh, Fayez, “Zionist Colonialism in Palestine (1965)”. Settler Colonial Studies, vol. 2 issue 1 (2012), pp. 206- 225.

Veracini, Lorenzo. Settler Colonialism: A Theoretical Overview. United Kingdom: Palgrave Macmillan, 2010.
Wolfe, Patrick. Settler Colonialism and the Transformation of Anthropology: The Politics and Poetics of an Ethnographic Event. London: Cassell, 1999.
 “Settler colonialism and the elimination of the native”. Journal of Genocide research, vol. 8, no.4 (December 2006), pp. 387–409.

بالعربية 
غانم، هنيدة، إعادة بناء الامة، القدس: ماغنس، ٢٠٠٩.
مرحاف، دافيد، 2011، “إبراهام جوري: بين حقول ياد حنة وطرقات جنبن- لذكرى إبراهام جوري”، “مكور ريشون”، 29.4.2011. ومتوفر أيضا على صفحة مرحاف بوليطي: في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y9hqa4r2 
نوكديمون، شلومو، “إن كنت هناك حاجة لإطلاق النار عليهم فسنطلقها”، هآرتس، (١١/١١/٢٠١١)، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1563189 
يعقوبسون، أليسكس وأمنون روبنشطاين. “إسرائيل وعائلة الأمم”. تل أبيب: دار شوكن، ٢٠٠٣. 

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٣/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٢/٣) https://rommanmag.com/archives/18957 Sat, 21 Oct 2017 14:04:10 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%a7-2/ ج- التناقض بين الوطني والخارجي على عكس الأحزاب العربية التي نشطت في فلسطين الانتدابية، وعملت إلى حد ما باستقلالية؛ ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين بالمواقف التي تمت صياغتها في اللجنة المركزية للحزب في موسكو. وحتّى بداية الحرب العالمية الثانية، ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين، تنظيميّاً، بـ”الكومنترن”، وبالسياسات والتوجيهات التي حددها الأخير، وأثّر ذلك الارتباط التنظيمي […]

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٢/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ج- التناقض بين الوطني والخارجي

على عكس الأحزاب العربية التي نشطت في فلسطين الانتدابية، وعملت إلى حد ما باستقلالية؛ ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين بالمواقف التي تمت صياغتها في اللجنة المركزية للحزب في موسكو. وحتّى بداية الحرب العالمية الثانية، ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين، تنظيميّاً، بـ”الكومنترن”، وبالسياسات والتوجيهات التي حددها الأخير، وأثّر ذلك الارتباط التنظيمي في قدرة الحزب في فلسطين على التعامل باستقلالية مع قضاياه الوطنية. وللوقوف على عمق الارتباط بين مواقف الحزب وسياسات الاتحاد السوفيتي، بما يتجاوز مثال “الكومنتيرن” الذي سبقت الإشارة إليه، يمكن تتبّعُ تغيّر مواقف الحزب في القضايا القومية تبعاً لعمق العلاقة مع الاتحاد السوفيتي في فترات متفاوتة؛ فمثلاً تبنّت عصبة التحرر، في ظل حل “الكومنترن” وانشغال الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وتحالفه مع قوات الحلفاء، خطاباً وطنيّاً يقدّم القومي على الطبقي، غير أن هذا الموقف بدأ بالتغير في ظل إعادة تمتين العلاقة بين الأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفييتي في أعقاب تعافيه من إنهاك الحرب العالمية الثانية أولاً؛ وتالياً إقامة ستالين لـ”الكومنفورم” (مكتب الإعلام الشيوعي) في عام 1947، والذي شكّل إطاراً تنظيميّاً بديلاً لـ”الكومنترن”، ومن ثمّ احتدام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا لاحقاً. وبينما أعطى “فتور” العلاقة مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب مساحة للشيوعيين العرب واليهود، على حد سواء، من أجل اتخاذ مواقف متناغمة مع “مصالحهم”؛ فإن هذه الاستقلالية تراجعت لاحقاً حتى وصلت درجة الارتباط الكامل، والذي تجلّى في تبنّي موقف الاتحاد السوفييتي المتعلق بالتقسيم. لقد كان تبنّي الحزب الشيوعي للتقسيم، بحسب الباحث ماهر الشريف (2004:85)، دلالة على أن “الحزب لا يتصرف باستقلالية، بل يخضع لقيادة الحزب في الاتحاد السوفييتي ولقراراته وتوجيهاته”. (ماهر الشريف 2004، ص 85)  

هذا “الإلحاق” كان قد بدأ مع تبنّي المؤتمر السادس لـ”الكومنترن” العالمي، في عام 1919، سياسة “طبقة ضد طبقة”، والتي تم وفقها التعامل مع الصراع في فلسطين من منظور صراع الطبقة العمالية لليهود والعرب في مواجهة البرجوازية العربية واليهودية الصهيونية على حد سواء، الأمر الذي عنى، بحسب الشريف (2004:85)، ليس فقط الوقوف على مسافة واحدة من البرجوازية العربية والصهيونية؛ بل واتخاذ مواقف مناهضة لسياسات القوى الوطنية البرجوازية العربية التي ركّزت على الطابع القومي للصراع. وقد انعكس هذا الأمر، بحسب الشريف أيضاً، مباشرة على مواقف الحزب الشيوعي في فلسطين، والذي أخذ موقفاً مناهضاً من قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهاجم سياستها معتبراً أن مطالبها بإقامة مجلس تشريعي “هدف الزعماء الخونة الذين يرون فيها وسيلة لتسلّم المناصب العليا في الإدارة، وفرصة للجلوس إلى جانب الإمبرياليين الإنكليز.“ (١)

علاوة على ذلك، فقد أدى هذا “الإلحاق” إلى تعرّض أعضاء الحزب للنقد اللاذع، واتّهامهم بأنهم مجرد “أدوات” في يد الاتحاد السوفيتي يحرّكها وفقاً لمصالحه، وذلك أمر متناقض، بالضرورة، مع المصالح القومية لشعوبهم. وفي هذا السياق مثلاً، كتب راشد حسين، الذي كان بنفسه عضواً في “مبام”، في عام 1959: “إن مصيبة الحزب الشيوعي في كل بلد تكمن في تقلّبه. وتقلّب الحزب الشيوعي مرتبط بسياسة موسكو. وسياسة موسكو مرتبطة بمصالح الاتحاد السوفييتي. ومصالح الاتحاد السوفييتي لا يمكن أن تعبّر عن مصالح كل بلد يوجد فيه حزب شيوعي” (ويعدّد حسين جملة التقلبات التي مرّ بها أعضاء الحزب، مثل ميكونس وطوبي وحبيبي، للتأكيد بكلماته على الانقياد الأعمى وراء التوجيهات التي تصدر في موسكو، خاصة فيما يتعلق بالموقف من التقسيم وإقامة دولة يهودية، وهو ما رفضه الشيوعيون العرب؛ ثم عادوا وقبلوا به بعد الخطاب الشهير لنائب وزير الخارجية السوفييتية، أندريه غروميكو، (٢) وذلك ما سيتمّ تفصيله في الجزء اللاحق. (راشد حسن، 1959)
 

د- إلحاق الوطني بالخارجي في ظل الحرب الباردة

كما ذكرت سابقاً، فقد تمسّكت عصبة التحرر الوطني، حتى 19 كانون الأول 1947، بموقف واضح معارض لتقسيم فلسطين، ومناهض بشدّة للصهيونية، باعتبارها وكيلة مصالح استعمارية وإمبريالية. وتناغم هذا الموقف مع المواقف الكلاسيكية السوفييتية المناهضة للصهيونية، كما تناغم مع موقف لينين (٣) وقرارات “الكومنترن” في المؤتمر الثالث عام 1920، وجاء متناسقاً مع التحليل الماركسي للمسألة القومية عامة، وللموقف من المسألة اليهودية، كما عبّر عنه كارل ماركس خاصة.

وما دام الاتحاد السوفييتي واقفاً ضد الصهيونية ومخططات التقسيم؛ (٤) لم يكن أمام العصبة سوى التعبير عن موقف السواد الأعظم للعرب من رفض اقتسام فلسطين. لكن العصبة وجدت نفسها أمام موقف إشكالي مع تغيّر موقف الاتحاد السوفيتي عام 1947، كما تمّ الإعلان عنه في خطاب غروميكو في 14 أيّار من العام ذاته، في الاجتماع الاستثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي خُصص لبحث مصير فلسطين. وأعلن غروميكو، في ذلك الخطاب، عن موافقة الاتحاد السوفييتي على مخطط تقسيم فلسطين إلى دولتين؛ يهودية وأخرى عربية، قائلاً: “إن التجربة السابقة، وخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، تُظهر أن ليس هناك دولة أوروبية غربية تمكّنت من توفير مساعدة ملائمة للشعب اليهودي في الدفاع عن حقوقه وعن وجوده تجاه عنف الهتلريين وحلفائهم. وهذا واقع غير سارّ، ولكن ينبغي، لسوء الحظ، كما بالنسبة لوقائع أخرى، الإقرار به… وهو ما يفسّر تطلّعات اليهود لإقامة دولة خاصة بهم. وسيكون من غير العدل ألا نأخذ ذلك بعين الإعتبار، وأن ننكر على الشعب اليهودي تحقيق تطلعه هذا”.(داوود تلحمي 2012) 

يمكن الادعاء، إذن، أن تغيّر موقف الاتحاد السوفيتي من التقسيم أولاً، والصهيونية ثانياً، ليس نابعاً عن “غيرة” على المصلحة الفلسطينية القومية؛ بل يرتبط، بحسب كثير من الباحثين، بتغير السياق التاريخي والظروف السياسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة، التي يؤرخ لها بخطاب الرئيس الأمريكي في حينها، هاري ترومان، في 12/3/1947، والذي تحدّث فيه عن ضرورة “احتواء” التمدد السوفييتي والشيوعي في العالم. وفي هذا السياق، يشير الكاتب الفلسطيني داوود تلحمي (2012) إلى أن خطاب ترومان شكل نقطه تحول صارت موسكو في أعقابها تنظر إلى “مختلف القضايا الدولية من منظار تلك المواجهة”. وفي خضمّ ذلك، وتحت زعامة ستالين الحديدية، لم تعد المواقف من القضايا تقاس وفقاً لعلاقتها بمصطلحات كـ “الأممية” و”الطبقية”؛ بل وفقاً للمصالح المحددة في سياق المواجهة المستجدّة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد رأى الاتحاد السوفيتي، أو، على الأقل، راهن على أن تكون الدولة اليهودية منطقة نفوذ له؛ أو منطقة متحالفة معه على أقلّ تقدير، وذلك في منطقة محكومة من قبل أنظمة عربية “رجعية” متحالفة مع بريطانيا.

عطفاً على ذلك، يجدر التذكير هنا بما أشرنا إليه في موضع سابق، وهو أن القائم بأعمال السفارة السوفييتية في العراق، أ. سلطانوف، كان قد حذّر، وقتذاك، في مذكرة داخلية بعثها إلى موسكو، عشية التصويت على قرار تقسيم فلسطين، من أن النتائج السلبية المحتملة للدعم السوفييتي للدولة اليهودية تفوق النتائج الإيجابية، مشيراً إلى احتمال نفور العالم العربي، وتدعيم التحالف بين بريطانيا والولايات المتحدة والحكام الرجعيين في الجامعة العربية، وتعزيز كتلة إسلامية معادية للسوفييت مكوّنة من الجامعة العربية وتركيا وباكستان، واضطهاد “الحركة الديمقراطية والثورية”، والأهم من ذلك، احتمال أن “تتحول الدولة الصهيونية إلى قاعدة للتمدد الأميركي” في الشرق الأوسط. (داوود تلحمي 2012)

وضع “الانقلاب” السوفييتي العصبة في مأزق كبير، وهدّد مصداقيتها وما اكتسبته حتى ذلك الحين من رأس مال رمزي بسبب مواقفها المناهضة للصهيونية وللتقسيم. وقوبل الموقف السوفييتي بمعارضة بعض القيادات المركزية للعصبة، مثل إميل توما وبولس فرح، لكن تبناه كل من توفيق طوبي وإميل حبيبي. وبادر الموافقون، بعد ثلاثة أشهر من صدور قرار التقسيم، إلى عقد مؤتمر لعصبة التحرر في الناصرة، في شباط 1948، وانتخب فيه فؤاد نصار أميناً عامّاً للعصبة، واستثني منه المعارضون، وتم فيه إعلان موافقة العصبة على التقسيم. بمعنى آخر، تم خلال هذا المؤتمر إسكات المعارضة. وفي  هذا السياق، يشير أحد الشيوعيين الذين عاصروا تلك الأحداث إلى أن ثمة اجتماعاً للمعارضين عقد في حيفا في ذلك الوقت، ودعا فيه البعض إميل توما إلى إقامة حزب جديد يعارض قرار هيئة الأمم المتحدة، لكنه لم يوافق على ذلك. (٥)

وبالرغم من المحاججات التي تبنّاها الشيوعيون الفلسطينيون خاصة، والعرب عامة، بأن الموافقة على التقسيم جاء لدرء نكبة محدقة، وقبول الخيار الأقل سوءاً؛ إلا أن تزامن هذا “الانقلاب” مع تغيّر موقف موسكو، أسهم في إظهار الشيوعيين بمظهر “الملحق” لموسكو، والذي “يؤتمر” بأوامر خارجية، كما عبّر عن ذلك الشاعر راشد حسين في مقالته شديدة اللهجة “حين يجوع التاريخ” (راشد حسين 1959).

صيرورة التناقضات في ظل النكبة وإقامة الدولة اليهودية

الخروج من الوطن ومحاولات الدخول في الدولة

تُظهر بعض وثائق أرشيف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي تمّ فتحه أمام الجمهور عام 2016، أن بعض أعضاء العصبة انضمّوا إلى جهود تطبيق قرار التقسم مباشرة بعد صدور القرار في 29 تشرين ثانٍ 1947، فيما تأخرت موافقة البعض الآخر. فقد أظهر بروتوكول مكتوب بخط اليد لاجتماع عُقد في 30 تشرين ثانٍ 1947، شارك فيه عن العصبة إميل حبيبي، وفؤاد نصار، وشخص ثالث اسمه غير واضح، مع شورا وولف عن الحزب الشيوعي؛ أن التنسيق بين أعضاء من عصبة التحرر وأعضاء من الحزب الشيوعي من أجل تنفيذ قرار التقسيم بدأ مباشرة بعد إقراره، وقد جاء في بروتوكول الاجتماع: “تم التوصل إلى اتفاق فيما يخص الوظائف الحالية التي تقف أمامنا:- تحقيق استقلال كامل من خلال محاربة الإمبريالية؛ محاربة كل تحد سواء داخلي أو خارجي… وفيما يتعلّق بمقترح العمل، تمّ التوافق على أنه خلال الفترة الأولى سيكون وضع الرفاق اليهود الأسهل، وأنهم سيسعون نحو التوصل لاتفاقات مع أحزاب يسارية أخرى في المعسكر اليهود…. العرب سيضطرون للسباحة عكس التيار.“ (٦)

بعد الموافقة على التقسيم، وفي أعقاب إقامة إسرائيل، تم إدماج الشيوعيين العرب، الذين وافقوا على قرار التقسيم وسيطروا على عصبة التحرر، في الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي أُعلن عن تأسيسه في أكتوبر 1948. لكن هذا الاندماج جاء في ظل تقاطع مجموعة من العوامل المهمة، وفي سياق مركّب من المهم تفكيكه لفهم آثاره الاستراتيجية على تطور علاقة الحزب بالمسألة القومية، خاصة في مرحلة إقامة إسرائيل عام 1948، والسنوات الأولى التي تلت ذلك:

الاندماج تمّ بقيادة جزء من أعضاء العصبة، وليس بالإجماع؛ بل إنه كان محل صراع داخلي، وجاء من قبل المجموعة ذاتها التي يقف على رأسها توفيق طوبي وإميل حبيبي، والتي نجحت، خلال مؤتمر شباط في الناصرة، بفرض الموافقة على التقسيم رغم معارضة جناح إميل توما، (٧) وقد سبق ذلك قيام الأعضاء العرب بنقد ذاتي أعلنوا فيه أنهم أخطؤوا بعدم العمل مع الشيوعيين اليهود، فيما تمّ استبعاد إميل توما لمعارضته قرار التقسيم، ولم تتم إعادته إلا بعد أن قام بكتابة نقد ذاتي، ومُنع حتى عام 1970 من تقلّد أي منصب رسمي. (جمال 2011، Budeiri 1979).


جاء الاندماج عمليّاً في ظل أجواء من التوافق بين الاتحاد السوفيتي والقيادة الصهيونية على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين.


عقد مؤتمر الاندماج في أكتوبر 1948 في حيفا، بعد أشهر قليلة من طرد أغلب سكان حيفا العرب ما بين كانون أول 1947 ونيسان 1948 (عارف العارف 210-217)، وبعد أن هدّمت العصابات الصهيونية فيها أغلب الأحياء العربية، وتحولت إلى خرائب بإشراف مباشر من رئيس البلدية، آبا حوشي، وذلك لمنع عودة لاجئيها.


جاء الاندماج على خلفية المشاركة الفاعلة لأعضاء الحزب اليهود في المجهود الحربي والسياسي لإقامة الدولة، وتمكّن الصهيونية من إقامة دولتها على أنقاض نكبة الفلسطينيين. 

من هنا، يمكن الاستنتاج أن اندماج العصبة شكّل، عمليّاً، تتويجاً لانتصار تيار الفكر الصهيوني الذي دافع عنه الأعضاء اليهود في الحزب قبل إقامة إسرائيل، ودعا إلى حلّ على أساس قومي-إثني (دولة ثنائية القومية) وانهزاماً للتوجه “القومي المدني” الذي طرحه التيار العربي عبر دعوته لإقامة دولة واحدة “ديمقراطية علمانية”؛ أو ببساطة انتصاراً -ولو مرحليّاً- لتيار ميكونس على تيّار إميل توما. وقد انعكس هذا الانتصار مباشرة على خطاب الحزب ومواقفه من القضايا المختلفة، وعلى محاولاته مفهمة وصياغة الخارطة الاجتماعية والسياسية وتفاصيلها. ومن مراجعتي لصحيفة “الاتحاد” في السنوات الثلاث الأولى التي تلت إقامة إسرائيل، كان واضحاً وجود محاولة لتغييب البعد الاستعماري للدولة، مقابل تكثيف التوصيف المستمدّ من القاموس الماركسي والصراع الطبقي، فكانت “الاتحاد” تنشر التقارير التي يعدّها مراسلها الخاص عن معاناة “اللاجئين” في “مخيمات اللجوء”، وتوغل في وصف حياتهم المزرية، وتعدّد الاحتجاجات التي يقودها الشيوعيون للاعتراض على سياسات الدولة المناوئة للطبقات المسحوقة تارة، وللاجئين تارة أخرى، ليتبيّن أن “اللاجئين” المقصودين هم المهاجرون اليهود الوافدون إلى إسرائيل، وأن “مخيمات اللجوء” هو الاسم الذي أطلقه الحزب على “المعبروت”، أو أماكن السكن المؤقتة لهؤلاء المهاجرين الذين ستنزع الدولة نحو توطين جزء كبير منهم في بيوت الفلسطينيين الذين طردوا أو نزحوا في فترة الحرب من بيوتهم، ومنعوا من العودة إليها. في المقابل، كانت الصحيفة تتجاهل، أو تتراخى، على الأقل، تجاه معاناة الفلسطينيين وما لحق بهم، لأن الحزب اعتبر ما أصابهم نتاجاً لمؤامرة اشتركت فيها الرجعية العربية.

لكن رصد مواقف وخطابات الحزب في المرحلة التي تلت إقامة إسرائيل تظهر أن علاقة الحزب بالدولة، وبالتالي بالمسألة القومية، مرّت أولاً في مرحلتين متمايزيتن، وتالياً كان ثمة خطاب متناقض: المرحلة الأولى هي مرحلة هيمنة الخط الصهيوني على الحزب، والذي يقع في صلبه التماهي مع الدولة ومؤسساتها، ويترتب عليه استبدال خطاب الوطن بخطاب المواطنة، وتحويل المساواة في ظل “الدولة” لتصبح مشروع النضال المتبنّى، وقد استمرت هذه الفترة منذ إقامة إسرائيل (وللدّقة منذ الموافقة على قرار التقسم) وحتى بداية عام 1953، ووجدت خير تعبيراتها في الخطابات السياسية للشيوعيين العرب؛ أما المرحلة الثانية، التي يمكن تسميتها مرحلة “الخيبة” من الدولة والعودة الرمزية إلى الوطن، فابتدأت مع أفول المرحلة الأولى في بدايات 1953، ووصلت ذروتها في إعادة انقسام الحزب على أساس قومي عام 1965، واتّسمت بأمرين؛ أولاً باعتمادها الحيّز الثقافي حاضنة ومنبراً  لإنتاج “الإيثوس” (روح الشعب) القومي الأصلاني الفلسطيني، وثانياً بتأسيسها على يد جيل شاب لم يكن جزءاً من الصدامات السابقة بين التيار الصهيوني والعربي، ومن أهم رموز هذه الفترة: توفيق زياد، وسميح القاسم، ومحمود درويش. 
 

مرحلة التماهي: 1948-1953

اعتبرت عصبة التحرر أن قبول قرار التقسيم يشكّل أساساً لحلّ الصراع في فلسطين، لكنها لم تبد اعتراضاً حقيقيّاً على ضم المناطق المعدّة للدولة العربية، حسب القرار، إلى سيطرة إسرائيل، بل زيادة على ذلك، وبحسب وزير الأقليات الإسرائيلي الأول، باخور شطريت، “كان أعضاء عصبة التحرر العرب أول مجموعة منظّمة مثلت أمام سلطات الدولة وأعلنت عن أعضائها رعايا لدولة إسرائيل“ (٨)، حتى في مناطق كالناصرة.

وقد نشرت جريدة “دافار” العبرية في 15 أيلول 1948، وعلى صفحتها الأولى، ترجمة لإحدى المناشير التي وزّعتها العصبة في جريدة “معاريف”، جاء فيها: “عصبة التحرر الوطني تطلب: خروج الجيوش العربية، وتنفيذ قرار الامم المتحدة“ (٩)، رفعت العصبة شعارات تندّد بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين، منها: “أيها المحتلون الخونة اخرجوا من بلادنا”. كما وجّهت نداءات إلى الجنود في الجيوش العربية تدعوهم فيها إلى “العودة إلى أوطانهم وتوجيه ضرباتهم إلى المستعمر المحتل وإلى أذنابه“ (١٠). وفي حين كان خطاب العصبة السابق يتحدّث عن مواجهة ذات طابع قومي، ويعارض بشدّة خطط التقسيم؛ صار خطابها اللاحق يّتحدث عن “حرب بين الشعوب وبين الاستعمار الذي تمثّله بريطانيا، وبين الشعوب والرجعية“ (١١)، فيما ظل مفهوم الرجعية فضفاضاً ويتسع للكثير من المقاصد. 

وقد نشرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، في 3 نيسان 1948، أن عصبة التحرر وزّعت جريدة باسم “المقاومة الشعبية”، دعت فيها إلى مقاومة الجيوش العربية. ويذكر المؤرخ عادل مناع، في هذا السياق، أن صحيفة “الاتحاد” بدأت تتحدث عن “تحرير الجليل” من جيش الإنقاذ ومن فوزي القاوقجي، مع العلم أنه كان من المفروض أن تكون الجليل ضمن الدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم الذي أيّدته. ويذكر كذلك أنه يتّضح من وثائق المخابرات الصهيونية في حينه “شاي” وجود دعوة لعدم التعرض للشيوعيين العرب وعدم ملاحقتهم “لأنهم يقومون بدور لصالح إسرائيل، وأعداؤهم أعداؤنا“ (١٢).  لكن في مقابل ذلك، بات كثير من الشيوعيين العرب ملاحقين من قبل الدول العربية وأنظمتها، وفتحت صوبهم، بحسب الشيوعي السابق سميح غنادري، “نيران من اتهامات مُغرضة بالخيانة القومية والوطنية، ولوحقوا من ذوي القربى وجرت محاولات لاغتيال بعضهم”. (ماهر الشريف 2012)

صاغ الشيوعيون موقفهم من الدولة اليهودية وفق الموقف السوفييتي منها، وتغير ذلك الموقف تبعاً لتغيّر مواقف الأخير؛ كما يظهر من تزامن تقلّب موقفهم مع تقلّب العلاقات بين إسرائيل والاتحاد السوفييتي.) ظلّت مواقف الشيوعيين تترنّح حتّى وصلت حدّ التماهي التام مع قيام الدولة، بل إنهم اعتبروا قيامها نتاج نضال جماهير نجحت في الوقوف في وجه المؤامرات والإمبريالية. وفي هذا السياق، يشكّل خطاب توفيق طوبي عام 1949، ومن منبر الكنيست، مدخلاً مهمّاً لمقاربة الموقف الذي حمله الحزب الشيوعي من المسألة القومية:“

إن إقامة دولة إسرائيل ووقوفها أمام مؤامرات وتدخلات إمبريالية، كانت ممكنة من خلال مقاومة جماهير الشعب في إسرائيل وحربها للاستقلال والحرية، ونتيجة للدعم من كل الجهات التي حصلت عليها هذه القوات المحاربة من القوى الديمقراطية في العالم، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الديمقراطي الشعبي (…) إن محاولات الإمبريالية لإفشال قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، حول إقامة دولتين مستقلتين في أرض إسرائيل، يهودية وعربية، والهجوم العسكري للإمبريالية من خلال عملائها، الحكام العرب الرجعيين – بهدف منع قيام دولة إسرائيل – كل ذلك كان في آن واحد موجّهاً أيضاً ضد مصالح الشعوب العربية في أرض إسرائيل وفي البلدان العربية؛ ضد إقامة دولة مستقلة وديمقراطية للشعب العربي في أرض إسرائيل. (في يعقوبسون 2012) (١٣).

تكمن أهمية خطاب طوبي من منبر الكنيست وما يحمله، ليس فقط في ما يصرّح به؛ بل في ما يهمّشه ويخفيه من خلال لغته الخطابية، أي في حقل الخيارات السياسية والتحالفات التي يفتحها، وتلك التي يغلقها على حد سواء، في هذه اللحظة السياسية الحاسمة. فهو يعمل أولاً، من خلال إظهار إقامة دولة إسرائيل كأنها قصة نجاح وتتويج لنضال جماهير الشعب وأصدقائه، على تسويغ الضرر الذي لحق بسكان البلاد الأصليين من تهجير وتشريد باعتباره أمراً هامشيّاً (مقابل القصة كما يصوّرها طوبي)، أو نتاجاً لمؤامرة قوى خارجية؛ وليس قوى الشعب المناضلة في سبيل حريتها (جمهور إسرائيل). إن ما يقوم به هذا الخطاب هو  تحديد الأعداء -الإمبريالية والرجعية العربية- مقابل الأصدقاء -الاتحاد السوفيتي والقوى الديمقراطية في العالم- وهو ما يعني أن الحزب الشيوعي سيعمل بالتوافق مع الدولة؛ طالما استمرت في خارطة تحالفها مع القوى الديمقراطية.

حتى عام 1952، هيمن على خطاب الشيوعيين العرب خطاب سياسي إسرائيلي المزاج والطابع، سواء أكان ذلك خلال الخطابات التي ألقاها أعضاؤه من منبر الكنيست؛ أو من خلال منشوراته، بما في ذلك صحيفة الاتحاد في تلك الفترة.  فمثلاً، كان الحزب يطلق على “المعبروت” اسم “مخيمات اللاجئين”، ويقيم التظاهرات من أجل تحسين الوضع المعيشي لـ”اللاجئين اليهود بمعنى آخر، كان الحزب قد موقع نفسه في الخارطة الإسرائيلية، وإن كان يناكفها ويعارض سياساتها وينظّم التظاهرات لمعارضة السياسات الـ”ظالمة” للدولة، وهو ما يمكن تلخيصه فيما صرّح به طوبي (الذي كان في حينها عضواً في الكنيست عن الحزب الشيوعي) خلال مقابلة أجريت معه من قبل جريدة “معاريف”، في 11 شباط 1949، حول شعوره تجاه كونه عضواً في الكنيست الإسرائيلي، قائلاً: “في الحقيقة ليست لدي مشاعر خاصة… أنا أدخل الكنيست بشعور مواطن إسرائيلي، كنيست دولة إسرائيل التي دعمتُ قيامها دائماً وأبداً، وفقاً لقرار الأمم المتحدة”، وأضاف: “إن (بقاء) دولة إسرائيل ديمقراطية وغير مرتبطه بأية تدخلات أجنبية هي المصلحة المشتركة للأكثرية اليهودية والأقلية العربية… سأستخدم هذا الصرح العالي لأحارب من أجل حقوق الشعب عامة وطبقة العمال خاصة، يهوداً وعرباً، بصفتي عربيّاً أجد أن من واجبي أن أحارب بكل ما أوتيت من قوة من أجل تحسين ورفع مستوى حياة السكان العرب في دولة إسرائيل وفي المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي. سأحارب كل بادرة فاشية ورجعية، سأحارب كل سياسة تمييز بين الأعراق والطبقات.“

وكان من نتائج هذا التماهي أن دعم الحزب سياسات صهيونية؛ فقد أيّد خلال أعوام 1948-1950 الهجرة اليهودية، واعتبرها “حاجة وجودية لإسرائيل”، وقد صوّت بأعضائه الأربعة لصالح قانون “العودة” الإسرائيلي (يعقوبسون وروبنشطاين 2003، 257-261)، ناهيك عن مطالبه بتجنيد العرب في صفوف الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي رفضته الدولة. كما رفع الشيوعيون العرب علم إسرائيل في احتفالاتهم، وأنشدوا النشيد القومي “هتكفاه” في مؤتمراتهم، بمعنى أن قرارهم تعدّى الموافقة على التقسيم بوصفه شرّاً لا بد منه؛ إلى التماهي مع الدولة واعتبار أنفسهم شركاء في صنعها، وسط إزاحة مستمرة للمعاني الطبقية والشيوعية والماركسية لمواءمتها مع واقع استعماري يشكّل نقيضها. 
 

نهاية التماهي:

“إن كانت هناك حاجة لأن نطلق النار فسنطلقها“

لم تكن علاقة تماهي الحزب بالدولة الوليده غير مشروطة، بل كانت مرتبطة، بشكل عضوي، بموقف الدولة من الاتحاد السوفييتي، ومن موقعها في معادلة الصراع في ظل الحرب الباردة بين الكتلة الغربية والكتلة الشرقية. من هنا بدأت حالة التماهي بالاختلال سريعاً مع حسم بن غوريون انحياز إسرائيل إلى جانب الموقف الأمريكي، وهو ما تمّ إعلانه عمليّاً في حرب الكوريتين (1950-1953)؛ ففي تلك الفترة، التي كانت تسود فيها مخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة، أجرى حزب “مباي”، بقيادة بن غوريون، نقاشات موسّعه تحت عنوان “موقعنا في حرب عالمية ثالثة”، وقد كتب حينها بن غوريون: “مما لا شك فيه أن ستالين ينوي إبادة يهود الاتحاد السوفيتي وتابعاتها (١٤) والذين لا يمكن برأيه التأكد من وفائهم”. (نكديمون 2011)

وفي ظل وقوف بن غوريون إلى جانب ما اعتبره الحزب “القوى الإمبريالية”، خبت مرحلة التماهي بين الدولة والحزب حتى وصلت نهايتها في شباط 1953. تمخّضت هذه النهاية، بالتحديد، على خلفية موقف الحزب إزاء يُعرف في التاريخ الإسرائيلي بـ”محاكمة الأطباء اليهود في موسكو”، والتي تم خلالها اتهام سته أطباء يهود، من أصل تسعة، بالتآمر على قتل قيادات عسكرية في الاتحاد السوفييتي. فقد وقف الشيوعيون في إسرائيل في هذه القضية موقفاً “مناصراً تماماً” للموقف السوفييتي، الأمر الذي جعل بن غوريون، بحسب الصحافي الإسرائيلي المهتم بتاريخ الييشوف شلومو نكديمون (2011)، “يستشيط غضباً بعد أن قرأ الخبر في جريدة (كول هعام) العبرية، والناطقة باسم الحزب الشيوعي”. وبحسب نكديمون، فقد علّق بن غوريون على الخبر قائلاً: “سنضحّي بأنفسنا إذا سمحنا لهذا الطابور الخامس أن يستمر في العربدة بين صفوفنا”، وكتب أيضًا يقول: “ستكون هذه ديمقراطية غبية وانتحارية؛ إن كانت، ومن خلال مفهوم خاطئ لحرية التعبير والتنظيم، ستسمح لمجموعة المرتدين والخونة القوميين هؤلاء بأن يعربدوا في الصحافة والاجتماعات والكنيست”. (نكديمون 2011)

بناء على ذلك، يمكن الاستنتاج أن الطلاق لم يكن متعلّقاً، لا من قريب ولا من بعيد، بالشعب الفلسطيني ولا بقضاياه؛ بل بتبنّي الحزب مواقف دولة خارجية، وهو ما اعتبره بن غوريون “خيانة” وإشارة إلى أن الشيوعيين، عمليّاً، هم “طابور خامس بين صفوف الدولة”. وقد وصلت الأمور ببن غوريون حدّ قوله: “إن كانت هناك حاجة لأن نطلق النار على الشيوعيون فسنطلقها. (نكديمون 2011 ) 

لكن حالة “الطلاق” تلك فجّرت مساحة جديدة للفعل والنضال ستتحول إلى حاضنه للفعل الثقافي. من المهم هنا الإشارة إلى أن هذا التحول حدث أيضاً بسبب ارتباطه بتحولات إقليمية أسهمت في شرخ العلاقة بين الحزب وبين الدولة؛ أهمها الحرب على سيناء في عام 1956، والتي أظهرت، بوضوح، اصطفاف إسرائيل إلى جانب “الإمبريالية” ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك أيضاً في الوقت الذي تصاعد فيه التقارب بين الرئيس المصري في حينها، جمال عبد الناصر، والاتحاد السوفييتي، وتتوج عام 1955 بصفقة أسلحة قدّمها الأخيرة إلى مصر.

كان هذا القسم الثاني من الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد ١١٢، خريف ٢٠١٧.
أمس نشرنا القسم
الأول وبعد غد ننشر القسم الأخير..

الهوامش

١-  انظر ماهر الشريف، “عصبة التحرر الوطني في فلسطين (١٩٤٢-١٩٤٧): تجربة تنظيم شيوعي فريد”، نص محاضرة أُلقيت في المؤتمر الدولي الذي نظمه المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، بعنوان: “التوتاليتارية الأوروبية في مرآة الفكر العربي”، ما بين ٦و٨ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٠، ويمكن الوصول إليها عبر موقع “حزب الشعب الوطني”.
٢-   خطاب غروميكو في الأمم المتحدة، في ١٤ مايو/أيار ١٩٤٧، والذي عبرٌ فيه عن دعم تقسيم فلسطين. 
٣-  كتب لينين: “والدليل واضح على خداع جماهير شغيلة الأمة المضطهدة بالجهود المشتركة لإمبريالية دولة الوفاق وبرجوازية هذه الأمة، يتجلى في عملية الصحاينة بشأن فلسطين، كما يتجلى في الصهيونية عموماً، والتي تقدم إلى الاستغلال البريطاني، بحجة تأسيس دولة يهودية في فلسطين، قرباناً هو السكان العرب الكادحون في فلسطين، حيث يشكل الشغيلة اليهود مجرد أقلية ضئيلة”. انظر الرابط التالي:                      
٤-  لمزيد من موقف الاتحاد السوفياتي من الصهيونية وتبدّله، انظر: داود تلحمي، “عودة إلى خلفيات تغيّر موقف الاتحاد السوفييتي من المشروع الصهيوني في فلسطين في أواخر الأربعينيات الماضية”، “الحوار المتمدن”، العدد ٣٧٠٨ (٢٥/٤/٢٠١٢)، في الرابط الإلكتروني التالي:
٥-  القائد والمؤرخ د. اميل توما”، في الصفحة الإلكترونية ل “حزب الشعب الفلسطيني”
٦-  أرشيف الحزب الشيوعي “، المكتبة الوطنية، الجامعة العبرية.
٧-  “القائد والمؤرخ د. اميل توما”، مصدر سابق ذكره. 
٨-  “الدولة تهتم بالأقليات”، “معاريف”، ٧/١٠/١٩٤٨
٩-  “عصبة التحرر الوطني تطلب خروج الجيوش العربية، وتنفيذ قرار الأمم المتحدة”، “دافار”، ١٥/٩/١٩٤٨. ص١
١٠-  ماهر الشريف، “عصبة التحرر الوطني في فلسطين (١٩٤٣-١٩٤٨) …”، مصدر سبق ذكره.

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٢/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (١/٣) https://rommanmag.com/archives/18955 Fri, 20 Oct 2017 13:41:12 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d9%88%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%a7/ تتناول هذه الدراسة ما تصفه بـ “التناقض” في الموقف لدى الحزب الشيوعي في إسرائيل إزاء التطورات التي عاشتها فلسطين خلال أعوام ما قبل النكبة ثم ما بعدها، وخصوصاً أن المسألة القومية بالنسبة إلى الحزب كانت متناقضة ومتوترة بسبب بنيته الأيديولوجية ومشكلة الأصلاني والاستعماري، والقومي والطبقي، والوطني والخارجي، وهي أمور تسببت، في فترات، بانقسامات واستقطابات وانشقاقات، […]

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (١/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تتناول هذه الدراسة ما تصفه بـ “التناقض” في الموقف لدى الحزب الشيوعي في إسرائيل إزاء التطورات التي عاشتها فلسطين خلال أعوام ما قبل النكبة ثم ما بعدها، وخصوصاً أن المسألة القومية بالنسبة إلى الحزب كانت متناقضة ومتوترة بسبب بنيته الأيديولوجية ومشكلة الأصلاني والاستعماري، والقومي والطبقي، والوطني والخارجي، وهي أمور تسببت، في فترات، بانقسامات واستقطابات وانشقاقات، على أساس قومي (يهودي وعربي). 

وهذا التناقض، وفق الكاتبة، يظهر جلياً في مواقف مثقفي الحزب، فمثلاً، بينما يصف توفيق زيّاد (١) في إحدى قصائده الصهيونيين بالمعتدين الذي سيذوبون “مثلما الثلج يذوب”، يتغنى مئير فيلنر (٢) بمساهمة أعضاء الحزب في الحرب إلى جانب “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وبمساهمته (الحزب) في الترويج في أوروبا الشرقية لإسرائيل، وفي جلب المهاجرين اليهود من أوروبا. 

زيّاد: 
وطني مهما نسوا
مر عليه
 ألف فاتح
ثم ذابوا… مثلما الثلج يذوب

فيلنر:
“لقد ضحّى رفاقنا اليهود بحياتهم في صفوف “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وسقط رفاق عرب وهم يقاتلون قتالاً سرّياً في عمق العدو.  وقد جنّد حزبنا مساعدة مصيرية متنوعة من أوروبا الشرقية، خلال فترة الحصار على القدس، وخلال أيام غوش عتسيون وياد مردخاي، كما جنّدنا الهجرة اليهودية المقاتلة، وغيرها من المساعدات لجيش الدفاع الاسرائيلي.” 

مقدمة

تظهر القراءة التاريخية السريعة لتطور علاقة الحزب الشيوعي (٣) في فلسطين بالمسألة القومية الفلسطينية -سواء قبل النكبة أو بعدها- أن تاريخ الحزب حافل بالتناقضات والتوترات، ما يعني أن علاقة الحزب بالمسألة القومية -خاصة في السنوات الأولى لإقامة الدولة اليهودية- لا يمكن أن يتم تصنيفها وفق مقولات تقييميه جاهزة؛ كالقول بوجود دور فاعل وعلاقة عضوية إيجابية بين الحزب والمسألة القوميّة، أو على العكس؛ القول بوجود علاقة سلبية اغترابية، إن لم نقل متنكرة ومناوئة للقضية القومية الفلسطينية واستحقاقاتها السياسية. فعلى سبيل المثال، كان الحزب في سنوات الخمسينيات والستينيات الدفيئة والحاضنة التي تم في ظلّها إنتاج وبلورة خطاب “المقاومة” الذي يمجّد الوطن ويحرض على الصمود والبقاء، وقد صاغ عبر مفرداته هوية قومية واضحة المعالم لـ”أنا” جمعي أصلاني في مقابل محتل صهيوني عابر، وكان مثقّفوه من الشعراء في طليعة من أعادوا إنتاج الهوية الفلسطينية بعد النكبة، وصاغوا مفرداتها ورموزها الأساسية المجدولة بلغة الأرض والصمود والنضال والمقاومة، مقابل بناء الآخر بوصفه محتلّاً ومستعمراً ومارقاً سيذوب -“مثلما الثلج يذوب” بتعبير توفيق زياد- كما عشرات الغزاة من قبله، وذلك ما تجلّى بوضوح في كتابات محمود درويش، وسميح القاسم، وسالم جبران، وغيرهم ممن أسماهم غسان كنفاني “شعراء المقاومة”. كانت أهمية دور المثقف الشاعر في الحزب الشيوعي تتمثّل في دوره الطليعي على مستوى وطني فلسطيني يتعدى دوره المحلي في الداخل، فقد تحوّل شعره إلى مركّب أساسي مشكّل للهوية الفلسطينية العامة، ولُحّنت قصائده وتحوّلت إلى جزء من أهازيج الثورة الفلسطينية التي تعبر عن “روح الشعب” ((Ethos الفلسطيني، ويتضامن معها اللاجئ والفدائي، مثلما يتضامن معها ابن الناصرة وغزة. 

لكن دور الحزب لم يكن أحادي الوجهة، وحمل أيضاً أنماطاً وممارسات مخالفة، وأحياناً متناقضة مع دور المثقف الوطني الطليعي، فقد وقّع الحزب الشيوعي، ممثلاً بماير فلنر، على وثيقة الاستقلال التي ورد فيها أن الموقعين “هم ممثلو اليشوف اليهودي والحركة الصهيوينه”، وتمّ فيها أيضاً التأكيد على الأهداف الصهيونية المتمثلة بإقامة “الدولة اليهودية في أرض إسرائيل، وإعادة هذا الحق للحق التاريخي  لليهود في فلسطين، وفتح الأبواب أمام الهجرة اليهودية وجمع الشتات) (٤). بعد ذلك، وافق الحزب على الهجرة اليهودية بين عامي 1948 و1950، واعتبرها حاجة وجودية للدولة، وطالب في عام 1949، وعلى لسان العديد من قياداته، بتجنيد العرب، ثم وافق على “قانون العودة” الإسرائيلي عام 1954 (للمزيد انظر جورج كرزم 1993، احمد سعدي 2010). لم يتعلق الأمر بموقف الشيوعيون اليهود فحسب، كما يمكن أن يشير البعض، إذ قبل ذلك، وتحديداً في تموز من عام 1948، عندما كانت المعارك في أوجها، عملت عصبة التحرر، التي كان جل أعضائها من العرب، على توزيع مناشير تدعو إلى انسحاب الجيوش العربية من فلسطين، وقد جاء في أحدها: “يا جنود مصر عودوا، والأقطار الشقيقة عودوا إلى أوطانكم ووجّهوا بنادقكم إلى صدور المستعمرين وأذنابهم“ (٥)، ولاحقاً وزّعت العصبة المناشير التي تدعو إلى مقاومة الوجود العسكري للجيوش العربية في الجليل، واعتبار هذه الجيوش أداة للرجعية العربية (سعدي 2010)، كما كانت العصبة في طليعة من سهّل التعاون بين ممثلي الحكم العسكري والعرب في المناطق التي احتلتها عصابات “الهاغاناة”، حتى تلك المعدّة للدولة العربية كما صيغت في خطة التقسيم ، كما سأبين لاحقاً.

إذن، كيف يمكن أن نفهم تلك المواقف المتناقضة للشيوعيون في فلسطين؟ هل يشير ذلك إلى ازدواجية مواقف الحزب فيما يتعلق بالمسألة القومية؟ أم أن هذه المواقف هي تعبير عن مراحل تطور مختلفة لموقف الحزب تبعاً لتغيرات تاريخية وسياسية؟ أم هي تناقضات ترتبط بالتوترات والتباينات الداخلية في الحزب وتركيبته؟ وإن كان الأمر كذلك، وهو ما يفترضه هذا البحث، فهل يمكن القول أصلاً بوجود موقف ثابت للحزب من المسألة القومية؟ أم أن الموجود هو مجموعة من المواقف المتغيرة تبعاً للسياقات التاريخية وصراعات القوة التي تحيطها من جهة؛ وبحقل الإنتاج الذي تتموقع فيه من جهة ثانية، وهو ما يعني وجود تمايز بين المواقف التي تشي بها الكتابات الأدبية وتلك التي تتشكل في الحقل السياسي الرسمي؟ 

للإجابة على تلك الأسئلة، ومن أجل توضيح علاقة الحزب بالمسأله القومية؛ فقد اخترت التركيز على فترة مميزة ومُشَكّله في تاريخ العمل الشيوعي في فلسطين، وهي الفترة الممتدة منذ الانشقاق الأول وإقامة عصبة التحرر عام 1943، وحتى الانشقاق الثاني ما بين “راكاح” و”ماكي” عام 1965، وقد اخترت هذه المرحلة كونها تشكّل مرحلة حاسمة في تطور الحزب؛ وحقبة تكثّفت فيها التوترات داخله فيما يتعلق بالتعامل مع المسألة القومية  في فلسطين، كما أنها تتيح تقصّي أثر العوامل الخارجية على صيرورة الحزب وعلى مواقفه، لا سيما أنه عاش خلالها مرحلة الارتباط الحزبي مع ”الكومنترن” (٦)، كما عاش مرحلة التحرر منه، وعاش مرحلة النضال من أجل الدولة العلمانية الفلسطينية ورفض التقسيم، ومرحلة التنديد برفض التقسيم والتحريض لقبوله، كما عاش مرحلة ما قبل النكبة وما بعدها، وواكب خلال ذلك سنوات التناغم مع الدولة وسنوات الصراع والمواجهة معها، لمّا دعم، بدايةً، إقامة الدولة الإسرائيلية وتماهى معها، ثم سلّط سهام نقده ضدها.

تفترض هذه الورقة أن علاقة الحزب بالمسألة القومية متناقضة ومتوترة، وذلك مردّه إلى ارتباطها الوثيق بمجموعة من الصدوع والتوترات البنيوية المشكّلة للحزب، وأهمها التوتر بين الأصلاني والاستعماري، والتوتر بين القومي والطبقي، والتوتر بين الوطني والخارجي. 

وتتجلى العلاقة المتوترة للحزب بالمسألة القومية، على نحو خاص، بوجود خطابات وممارسات متناقضة حيناً، ومتوترة أحياناً فيما يرتبط بالعلاقة بالمسألة القومية الفلسطينية، وبفكرة الدولة اليهودية، وبقرار التقسيم (181). كما تتجلى هذه التناقضات في خطاب الحزب السياسي فيما يتعلق بمسألة المواطنة في الدولة الإسرائيلية، في مقابل خطاب مثقفيه في موضوعات الأرض والوطن والمكان. وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى خطابين أساسين متوترين، على الأقل، يعبّران عن الخطاب المتمايز للحزب مع المسألة القومية، تبعاً للسياق التاريخي والعوامل المتغيرة التي تشكل في ظلها: الأول سياسي/مدني/دولاني ساد في السنوات الأولى لإقامة الدولة، وتموقع في حقلها السياسي بوصفه جزءاً منها، إذ ارتكز على مفاهيم الطبقية والأممية والمواطنة والمساواة والعدالة الاقتصادية، وتميّز في بداياته بالتماهي مع الدولة وسياساتها، وجاء في الفترة التي ساد فيها الاعتقاد بأن إسرائيل من الممكن أن تكون جزءاً من “قوى التقدم” التي تقف في صف الاتحاد السوفيتي، وهو ما بدأ بالتغير مع وضوح الخيار الإسرائيلي بالانحياز إلى المعسكر “الإمبريالي”، بلغة الحزب الشيوعي، وهو التحول الذي سيشكل عمليًاً لحظة فارقة في تاريخ الحزب، وفي تحوّله من حالة التماهي إلى الاغتراب؛ ثم المعارضة الراديكالية للسياسية الإسرائيلية وخياراتها “الإمبريالية”. حالة الاغتراب تلك تحوّلت إلى حاضنة ملائمة لنمو خطاب ثقافي قومي يرتكز على مفاهيم الوطن والأرض والصمود والتحرر، ويتموقع من حيث ثيماته وطروحاته ليس فقط خارج حدود السياق الإسرائيلي؛ بل في مواجهته، وهو متناسق ومتمازج إلى حد بعيد مع الخطاب الثقافي الوطني الفلسطيني العام ومتكامل معه. من المهم التنوية هنا إلى أن ظهور الخطاب القومي لم يؤد إلى غياب الخطاب المدني، لكنه هيمن عليه إلى حد بعيد، حتى تحول إلى “الموروث” الأساسي للحزب في علاقته مع جمهوره العربي. كما تجدر الإشارة إلى أن التمييز هنا هو بين شكلين من الخطاب، وليس بين وكيلين له، وذلك بسبب التمازج الكبير بين المثقف والسياسي، ووجود تماهٍ كبير بين الاثنين، وهو ما يصح على إميل حبيبي، وتوفيق زيّاد، وإميل توما، وسالم جبران، ومحمود درويش، وسميح القاسم، حتى وإن طغى الثقافي في مراحل لاحقة على السياسي أو العكس .

١- المحددات البنيوية الداخلية

أ- تناقض الأصلاني والاستعماري

يشكّل التناقض بين الأصلاني والاستعماري إشكالية بنيوية مؤسسة للحزب الشيوعي الفلسطيني أولاً، والإسرائيلي لاحقاً، وقد تركت أثرها على سيرورته التاريخية، وعلاقته بالمسألة القومية. فعلى عكس باقي الأحزاب العربية التي تأسست في ظل الانتداب البريطاني، وكانت نتاجاً عضوياً للمجتمع الفلسطيني ودينامياته الاجتماعية الداخلية؛ أقيم الحزب الشيوعي على يد مجموعة من المهاجرين الجدد الذين قدموا إلى فلسطين ضمن موجات المهاجرين من اليهود الأوروبيين، ولم يلتحق في صفوفه الفلسطينيون إلا لاحقاً. أنتج هذا الوضع واقعاً إشكالياً ومتناقضاً، إذ إن المهاجرين اليهود، وبغض النظر عن مواقفهم الراديكالية، كانوا بمجرد هجرتهم إلى فلسطين يتحولون عمليّاً إلى شركاء في المشروع الاستعماري الصهيوني الذي وضع مسألة الهجرة إلى فلسطين على رأس أولوياته وممارسته، على اعتبار أن الاستعار يتميّز عن ممارسات القوة الأخرى، كالاحتلال والإمبريالية والغزو، بأن تحقيقه لا يتم إلا من خلال ممارسة الهجرة الاستيطانية التي تنفّذ عبر عملية انتقال مجموعات سكانية كبيرة إلى أماكن جديدة، وفرضها لسيادتها على المناطق هذه (1999 Patrick Wolfe, 2006,) والاستيطان فيها بهدف البقاء الدائم وليس العابر،  (Wolfe 2006, 1999, Varacini 2010 , Sayigh 2012 1965) ما يعني أن فعل الهجرة الاستيطانية هو الأساس المميّز والناظم للمشروع الاستعماري، والذي لا ينتفي أو يتغير بفعل الممارسة السياسية المتمايزة لفئة المستوطنين. 

تاريخيّاً، تأسس الحزب الشيوعي في فلسطين عام 1919 على يد مجموعة من الأعضاء اليهود الذين انفصلوا عن حزب العمل الاشتراكي اليهودي (الذي كان مرتبطاً، بدوره، بالاتحاد العمالي اليهودي “بوعالي تسيون”)، ولم يرغبوا في الانضمام إلى “أحدوت هعافودا – الذي تشكل بدورة عن تحالف بوعالي تسيون بقيادة بن غوريون وشخصيات غير حزبية اشتراكية بقيادة برل كتسنلسون”. كان الحزب، بتشكيلته الأولى، يدور عمليّاً في فلك الصهيونية الاشتراكية، وشُكّل بدايةً بوصفه “حزب عمال اشتراكي عبري”، واشترك في لجنة تأسيس “الهستدروت” تحت اسم “حزب عمال صهيون اليساريين”. وكما يشير الباحث موسى البديري (2012: 70)، فقد كان الحزب في بداياته: “يسعى إلى أن يوفّق بين التمسك بالصهيونية وعضوية الكومنترن، بينما أراد الكومنترن أن يتحول الحزب إلى منظمة محلية تمثّل سكان البلاد الأصليين”. انسلخ الحزب رسميّاً عن الصهيونية في 1923، بعد أن تم اشتراط انضمامه إلى الشيوعية العالمية (الكومنترن) بتبنّي سياسة التعريب، وتغيير اسمه وقطع علاقته بالصهيونية الاشتراكية (الشريف 1980، ص 88-97 وص 153-159).  وفي التاسع من تموز 1923، أُعلن رسميّاً عن تشكيل “الحزب الشيوعي الفلسطيني”، وذلك بعد أن أعلنت قيادته موافقتها على شروط الانتساب إلى منظمة “الكومنترن” العالمية، قبل أن ينضمّ الحزب إليها فعلياً في عام 1924. لاحقاً تم تبنّي سياسة التعريب رسمياً في مؤتمر الحزب الشيوعي السابع، الذي عقد سنة 1930، وقد تطرق بولس فرح في مذكراته، التي جاءت في كتابه “من العثمانية إلى الدولة العبرية”، إلى سياسة التعريب التي جاءت، وفق ما ذكر، إثر “إلحاح الكومنترن بإفساح المجال أمام الرفاق العرب للقيام بدور أكثر أهمية من دورهم قبل التعريب”، وقد ورد في شهادته قوله:  “مقررات المؤتمر (السابع) وصلتنا وشرحها لنا الرفاق اليهود، وجاء معهم رفيق عربي أمّي، وأظنه كان إشارة منهم إلى التعريب، يعرف اللغة الأيديشية أكثر من العربية، ويقلد اليهود بلباسهم وطريقة معيشتهم، وحتى في لثغة الغنج المحببة إلى النساء العبريات” (فرح 1985 ص71). تشي هذه الشهادة، من جهة، بالتوتر القومي الذي كان قائماً بين أعضاء الحزب، لكنها من جهة أخرى، تشي أيضاً بمحاولات الأعضاء اليهود تمرير تعريب شكلي للحزب (الحواري 2014). تبعاً لذلك، يمضي فرح بالحديث عن الحضور الطاغي لصدع الاستعمار/القومي في الحزب، وتأثيره على سيرورته بعد تبنّي التعريب، قائلاً : “كان من المفروض على الحزب الشيوعي الفلسطيني، عندما تبنّى سياسة التعريب، ألا يقوم بتسليم زمام القيادة إلى الرفاق العرب فحسب؛ بل أن ينتهج سياسة تلبي مطالب الحركة الوطنية، وبالتالي الاعتراف الضمني بأن الثقل الثوري المعادي الاستعمار هو في جانب الحركة الوطنية”. لكن هذه السياسة كانت تتعثر برفض أقسام من الرفاق اليهود قبول هذا النهج، ولذلك لم يتحقق لها النجاح الكامل. الكوادر اليهودية لم تكن مفهومة قبل أن تكون مقبولة من الشعب العربي، لا لأنها يهودية فسحب؛ بل لأنها كانت تنتمي قومياً وشعبياً إلى أعداء الشعب العربي؛ إلى الكولونيالية الصهيونية لأنها جزء منها… إذا كان الشيوعيون اليهود مخلصين في شيوعيتهم؛ فلماذا جاؤوا إلى البلاد؟” (فرح، 1985ص80).

لكن في الوقت الذي كانت فيه الأجواء هادئة نسبياً وغير متفجرة؛ كان الصدع القومي-استعماري قابلاً للإدارة في الحزب، ثم سرعان ما يتحول إلى عامل حاسم في تحديد خيارات الأعضاء قومياً في الأحداث المفصلية، وحين انفجار مواجهات على أساس قومي. برز ذلك بشكل واضح، مثلاً، في “انحياز” أعضاء الحزب اليهود الذين هيمنوا عليه إلى جانب “الييشوف” في أحداث 1929 “ثورة البراق” (جورج كرزم 1993: 7 سليمان بشير، 1977: 275). وفي هذا السياق، كتب برجر الذي أصبح سكرتير الحزب المؤقت بعد هذه الأحداث: “قبل نهاية ذلك اليوم الذي بدأت فيه حوادث 1929، تمكنّا من إصدار الأوامر إلى رفاقنا (بسبب وجود خطر المذابح، فإنه من واجب أعضاء الحزب الانضمام إلى الهاغاناه في الأحياء المعرضة للخطر)” كما  يشير بعض الباحثين “قام أعضاء الحزب بحراسة الأحياء اليهودية في تلك الليلة. وفي ساعة متأخرة من الليل ذهب بعض الرفاق إلى يتسحاق بن تسفي الذي قاد عملية الدفاع وأخبروه أن أعضاء الحزب يريدون الاشتراك في الدفاع عن الأحياء اليهودية. كما وضعوا تحت تصرفه (مخزن سلاح) الحزب“ (جورج كرزم 1993: 7 سليمان بشير، 1977: 275) . أدى هذا الانحياز إلى اتهام الكومنترن للحزب بالتقاعس وقام على اثر ذلك بالتشديد على ضرورة تعريب قيادة الحزب وهو ما تم بالفعل. وفي مؤتمر الحزب السابع الذي عقد عام 1930، اتُخذ قرار بتعيين سكرتير عربي للحزب ونفذ الأمر عام 1934 بتعيين رضوان الحلو ليكون أول سكرتير عربي للحزب (جورج كرزم 1993: 7، سليمان بشير1977: 276 ). 

بالتوازي مع خطوات التعريب، كان الحزب يقترب، أكثر فأكثر، من “النضال الوطني الفلسطيني”، وكان من أبرز الشواهد على ذلك دعمه لثورة 1936، التي اعتبرها نضالاً مشروعاً. وفي بيان أصدره في العاشر من حزيران 1936، أعلن أن “الاحتلال البريطاني–الصهيوني بات يتطلب مقاومة سريعة وفعّالة، وإلا فإن الشعب العربي، في حال استمرار سياسة النهب الصهيونية، سيفقد بلاده فلسطين إلى الأبد” (كرزم 1993، 8). لكن هذه المواقف لم تكن محلّ ترحيب من عدد من القيادات اليهودية في الحزب، حتى وصل الاستقطاب أوجه بين المستوطنين اليهود وبين الفلسطينيين في عام 1942، وأدى إلى انقسام الحزب عمودياً بين حزب يهودي، بقيادة حانوخ بسوسا، ويضم شموئيل ميكونس وماير فلنر وبين خروج الأعضاء العرب وتشكيل “عصبة التحرر”. عقد الشطر اليهودي مؤتمر الحزب الثامن في آب 1942، واعترف بالحزب رسمياً في 1944، وحصل في العام ذاته على رخصة إصدار جريدته الحزبية “كول هعام”، ولاحقاً غيّر الحزب اسمه إلى “الحزب الشيوعي الأرض ــــــــــ إسرائيلي.” تبنّى هذا الحزب تعابير “أرض إسرائيل” و”عرب أرض إسرائيل”، بدلاً من تعابير فلسطين وشعب فلسطين (كرزم 1993:9-10).

أظهر تمفصل مواقف الحزب قومياً وأفقياً عمق الصدع بين الاستعماري والأصلاني، واستحالة تغليب الطبقي في ظل وجود مشروع استعماري لجماعة قومية تتحول من مجرد هامش إلى قوة مركزية تهدد وجود فئة السكان الأصلانيين. إزاء ذلك، كان لا بدّ من أن يقابل وجود المشروع الاستيطاني بالرفض من أهل البلاد، وكان من إرهاصات ذلك أن يتمّ عملياً رفض “الشرعنة”، أيّاً كانت ديباجتها، لمثل هذه المشاريع الاستعمارية ورغم محاولات الحزب أن يأخذ طابعاً أقرب إلى أهل البلاد (تحت تسمية التعريب وبضغط الكومنترن)، وأن يتبنى خطاباً “تقدمياً وطبقياً عابراً للقوميات”؛ إلا أنه لم ينجح في ذلك، إذ رفض أعضاء الحزب اليهود مسار التعريب، فيما رفض العرب مسار “الصهينة”، وكان أن انتهى الأمر بأن تحول الحزب إلى تنظيم مشحون بالتوترات والصراعات القومية، وإلى مرآة لصراع محتدم بين مشروع استعماري وآخر وطني أصلاني يتجاذب كل طرف فيه الحزب إلى اتجاهه، حتى انشقاق الحزب عمودياً، ليصبح هنالك حزب شيوعي للمستعمر هو “الحزب الشيوعي الأرض ــــــــــ إسرائيلي”، وآخر لأبناء البلاد؛ هو “عصبة التحرر”. وبينما انتصر الحزب اليهودي للصهيونية، وانضمّ أعضاؤه إلى صفوف المقاتلين اليهود في 1948؛ انتصر أعضاء عصبة التحرر لأبناء شعبهم وقضيتهم، ليفشل الحزب عملياً في تحويل الهوية الطبقية إلى هوية جامعة وبديله للهوية القومية.

ب- الهوية القومية مقابل الهوية الطبقية

يتميز المنظور الماركسي، الذي يشكل رافد الحزب الشيوعي الأيديولوجي، برؤيته القائمة على أن المحرك الطبقي هو أساس الصراعات، وأن النزعة القومية هي نزعة ثانوية حيناً، أو برجوازية حيناً آخر. هذا المنظور يتناقض، عملياً، مع المنظور القومي الذي يفترض بأن الهوية القومية تشكل المبدأ المؤسس للمطالبة بحق تقرير المصير للجماعة. 

مع قطع العلاقة مع الصهيونية بعد 1923، وتبنّي سياسة التعريب، سعى أعضاء الحزب اليهود لاستقطاب العرب إلى صفوفهم، فقد تمّ عام 1924، وبالتعاون مع إيليا زكا (٨) إصدار “مجلة حيفا”، التي سبق أن صدر منها عدد واحد عام 1921، لتكون عملياً أول مجلة عربية يسارية تصدر في فلسطين وتشكل منبراً للحزب ولأفكاره الشيوعية، (ماهر الشريف، 2004 ص397.  محمد سليمان 2011، ص27)

تلاحق بعد ذلك إصدار العديد من المجلات والنشرات التي طبعت ووزعت بسرّية شديدة، وعبّرت عن رؤية الحزب الشيوعية، وكان أهمها، بحسب الباحث ماهر الشريف (2004:397)، “مجلة حيفا”، وصحيفة “المنبّه”، ومجلة “إلى الأمام”، وصحيفة “الجبهة الشعبية”، بالإضافة إلى عدد آخر من الدوريات التي كانت تصدرها منظمات الحزب الرديفة، مثل “اتحاد الشباب” الشيوعي، أو منظماته المساعدة مثل “جمعية المساعدة الحمراء”، و”الكتلة العمالية” المعروفة بـ “الفركتسيا“.

شكّلت تلك المنشورات منبراً مهمّاً لصياغة ونشر خطاب جديد يقوم على مفهمة الصراع في فلسطين على أساس الفروقات الطبقية وليس القومية، واعتبار الفروقات الأخيرة غطاءً للصراع الطبقي الأصلي. من هنا، اعتبر خطاب الشيوعيين أن النضال الصحيح ينبغي أن يكون في الدفاع عن المصالح المشتركة للعمال، والوقوف في وجه “الأفندية، والإنكليز، والصهيونيين، والبرجوازية الصهيونية، والرجعية المحلية” (الشريف،٢٠٠٤، ص ٣٩٧). وفي هذا السياق، عدّد الحزب، في الذكرى العاشرة لتأسيسة، أهم نجاحاته التي تضيء على أهدافه أيضا: “اليوم كلّ عامل وفلاح في فلسطين يعرف بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني يريد تحرير البلاد من الاستعمار الإنكليزي، ويريد تحرير العمال من استغلالهم الشديد، ويريد أن يشتغل العمّال ثماني ساعات وتكون أجرتهم طيبة، ويريد أن يُحرّر الفلاحون من ثقل الأعشار والويركو والعربون وتقسيم أراضي الأغنياء بين الفلاحين.” (في ماهر الشريف ٢٠١١ ). (٩)

وضع الحزب الشيوعي الفلاح الفلسطيني والعمال العرب واليهود في خانة “فوق قومية” واحدة في مواجهة القوى الاستعمارية والبرجوازية، وشدّد على وحدة المصير للطبقات العاملة، بغض النظر عن الدين والإثنية، ولذلك لم يعرّف الحزب “الأجنبيَ” على أسس قومية؛ بل على أساس العلاقة مع المشروع التحرري. وفي هذا السياق، نُشرت في جريدة “المنبه”، في 30 آذار 1926، مقالة تحمل كثيراً من الأخطاء اللغوية -مما يشي بأن كاتبها ربّما ليس عربياً- تحت عنوان: “ونحن نقول دائماً من هو الأجنبي ومن هو المضر بالوطن”، وجاء في سياقه: “إن الأجنبي هو من حضر إلى هذه البلاد للاستعباد والظلم، والوطني هو الذي يحارب لأجل حرّية شعوب الفقيرة وتخليصهم من نير الاستعمار”،(ماهر الشريف 2011 ) (١٠) وهو ما يعني أن الموقف من “الأجنبي” يتحدد تبعًا للمواقف التي يتّخذها الأخير؛ وليس وفقًا لانتمائه الإثني. لكن تبني هذه المواقف من قبل حزب أقيم على يد مجموعة من المستوطنين-المهاجرين كان يحيل إلى خطاب إشكالي من وجهة نظر السكان الفلسطينيين، وهو ما اتّضح، مثلاً، في قضية تنظيم العرب، خلال تلك الفترة، في المنظمات العمّالية ذات الطابع الصهيوني، كـالهستدروت، وفي تردّد الحزب حيال اتخاذ مواقف واضحة من قضية الهجرة التي كانت تهدّد الوجود الفلسطيني -وهو ما حدث بالفعل- فضلاً عن وقوف الشيوعيون اليهود، في نهاية المطاف، إلى جانب اليهود الصهاينة في لحظة الحسم عشيّة حرب 1948. 

ودعا الحزب، من خلال مجلة حيفا مثلاً، العمال العرب واليهود إلى التنظم في نقابات مشتركة، داعياً العمال العرب إلى الانضمام إلى النقابات التابعة للهستدروت، والنضال من داخلها مع العمال “الثوريين” اليهود ضد “أعدائهم الطبقيين” المشتركين. (ماهر الشريف 2011) وبالفعل فقد انضم العديد من العمال العرب، وبتشجيع من الحزب، إلى نقابة عمال سكة الحديد في حيفا، التي كانت تتبع للهستدروت. غير أن هذا الانضمام أثار موجة غضب واسعة في صفوف القيادات الفلسطينية الوطنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نشرت جريدة “فلسطين” مقالاً بعنوان “الروح الخبيثة”، حذّرت فيه العمال العرب من الاشتراك مع عمال اليهود في اعتصاباتهم(١١)، أو في أي عمل من أعمالهم، لأنهم بذلك يضرون بالقضية العربية ويطعنون القومية في الصميم، الأمر الذي يدفع أبناء بلدهم إلى نعتهم بـ”الخائنين” (ماهر الشريف، 2004). وقد أدّت موجه المعارضه تلك بالعمال العرب إلى الانسحاب لاحقاً من النقابة التابعة للهستدروت وإقامة نقابة خاصة بهم (الشريف 2004) 

لكن في ظلّ تصاعد المشروع الصهيوني الاستعماري، وتنامي المقاومة الفلسطينية ضده وضدّ الانتداب سويّة؛ كان يتعمّق الصدع الداخلي في الحزب بين فئتي المهاجرين-المستوطنين اليهود، والفلسطينيين من أبناء البلاد، ويتزايد معه انجذاب التيار اليهودي في اتجاه الصهيونية، مقابل انجذاب التيار العربي في اتجاه الحركة الوطنية الفلسطينية. وصل هذا الصراع ذروته في أيار 1943، وتمّ على أثره انشقاق الأعضاء العرب، وعلى رأسهم إميل حبيبي، وبولص فرح، وإميل توما، وتوفيق طوبي، وإقامة “عصبة التحرر” في عام 1944، فيما استمرّ اليهود، بقيادة شموئيل ميكونس، وماير فلنر، واستر فيلنسكا، في العمل تحت اسم الحزب الشيوعي في فلسطين، بل وانخرطوا لاحقاً في صفوف المليشيات اليهودية الصهيونية في حربها ضد الفلسطينيين. 

كان الانشقاق بمثابة لحظة حقيقة للشيوعيين العرب واليهود، فقد ظهر عمليّاً أنه، وفي لحظة الحسم، تراجع العامل الطبقي ولم يبق إلا البعد القومي. وبروح كارل شميدت، تم الفصل بين العدو والصديق على أساس عمودي، وتبعاً للهوية القومية فقط دون أي اعتبار للبعد الطبقي أو غيره. ورغم أن الانشقاق ارتبط موضعيّاً بالموقف من التجند للفرقة اليهودية التي أقيمت للمحاربة في إطار الجيش البريطاني ضد ألمانيا ودول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، وكان من المبادرين إلى تشكيلها موشيه شاريت، إلا أن الانشقاق ما كان ليتحقق لولا توفّر عامل حاسم؛ وهو قرار الاتحاد السوفيتي في أيار 1943 بحلّ “الكومنترن” كبادرة حسن نية تجاه حلفائه في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي حرّر عملياً الأحزاب الشيوعية، مؤقتاً، من هيمنة موسكو التنظيمية والفكرية.

ورغم أن الشيوعيين العرب رفعوا من خلال عصبة التحرر شعار محاربة الانتداب والصهيونية، والسعي نحو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تضمّ العرب واليهود؛ إلا أن العصبة اقتصرت على الأعضاء العرب. وكانت العصبة بمثابة حاضنة وطنية فلسطينية مميّزة يطغى عليها طابع يساري تقدمي إنساني، وتتبنى خطاباً مساواتيّاً، وقد انضم إليها ممثلو الفئات المتوسطة والمثقفون وممثلون عن النقابات العمالية والأندية (إبراهيم حجازين 2006)

تبنّى أعضاء العصبة مواقف مناهضة لمشاريع التقسيم (١٢)، والتي بدأت تُطرح بعد تقرير لجنة بيل عام 1937 لـ”حلّ الصراع” بين اليهود والفلسطينيين. وفي المذكّرة التي أرسلها مكتب سكرتارية العصبة سنة 1945 إلى رئيس الوزراء البريطاني، كليمنت أتلي، جاء أن: “التقسيم هو أخطر حلّ يجرّ البلاد إلى المصائب والاضطرابات الداخلية”. وتشرح المذكّرة أن حلّ الوضع يكون عبر إنشاء دولة واحدة ديمقراطية تساوي عمليّاً بين السكان على أساس مواطناتي، وليس على أساس أثني. وورد فيها أيضاً: “نحن لا نعتقد بضرورة أن ينشأ هناك تناقض بين الحقوق الديمقراطية للسكان اليهود في فلسطين وبين الأماني القومية للشعب العربي فيها؛ بل نحن لا نعتبر الحالة الراهنة حالة طبيعية. إن ما قاد إلى هذا الوضع هي السياسة الاعتدائية الاحتلالية للصهيونيين، وما تحمله من أخطار تهدد الشعب العربي، وهي السياسة الرجعية التي انتهجتها الإدارة المحلية.“

ويعكس هذا التوجّه، عمليّاً، تبنّي عصبة التحرر نموذج “القومية المدنية” التي تتعامل مع السكان اليهود والعرب في فلسطين بوصفهم شركاء ممكنين في “جماعة مواطناتية غير إثنية” تشكّل أساس الدولة الديمقراطية. ويتعارض نموذج القومية المدنية ذاك مع نموذج القومية الإثنية الحصرية للفلسطينيين العرب الذي تبنته القيادات التقليدية في حينها، بقيادة المفتي العام للقدس، الحاج أمين الحسيني. وفي ظل رفض “الحل الإثني”، عاد سكرتير العصبة، إميل  توما، وأكد في تموز 1947، خلال مؤتمر صحافي عقده في القدس، رفض مشروع إقامة “الدولة اليهودية” في فلسطين بوصفه مشروعاً” لضرب حركة التحرر العربية في المنطقة.“

غير أن تقاطع مجموعة من العوامل الخارجية المستجدة أدى لاحقاً إلى تغيّر موقف أعضاء العصبة، وإلى قبول قرار التقسيم 181. وأظهر هذا التغير، عمليّاً، عمق العلاقة بين اتخاذ المواقف من قضايا قومية ومحلية بمتغيرات خارجية لها حساباتها الاستراتيجية الخاصة، وعلى رأسها، في هذه الحالة، الدخول في حقبة الحرب الباردة، واحتدام التنافس على النفوذ بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. لقد أدت الحسابات الاستراتيجية التي خطّها الاتحاد السوفيتي إلى انقلاب جذري في موقف العصبة، وإلى التحول من المعارضة إلى الموافقة على التقسيم، وإلى لعب دور حاسم في دعم إقامة إسرائيل كما يعتقد على الأقل بن غوريون. الذي قال خلال مقابلة أجريت في العام 1970، في نطاق البرنامج التلفزيوني الحواري “موكيد”، ونشر ترجمتها مركز مدار، وجاء فيها أن دولة الاتحاد السوفييتي هي التي كانت أول من بادر في حينه إلى تقديم الاقتراح الى الأمم المتحدة بشأن وجوب قيام “دولة يهودية” في فلسطين الانتدابية، فقد أشار  بن غوريون،  في هذا الصدد، إلى أن “الدولة الوحيدة التي ساندتنا ووقفت إلى جانبنا في اللحظة الحاسمة الكبرى هي روسيا.“ (عياش،2016، ص 141).

يمكن القول، إذن، إن الاتحاد السوفيتي راهن على أن دولة يهودية في فلسطين، تتبنّى أغلب الحركات والأحزاب فيها توجّهاً اشتراكيّاً، من الممكن أن تكون حليفة له. ويمكن أن نستنتج هذا الرهان من رسالة التحذير التي بعث بها المبعوث السوفييتي في العراق أ. سلطانوف إلى رؤسائه، وأنذرهم فيها من عواقب موقفهم (والتي سأتطرق لها في البند اللاحق) (داوود تلحمي 2012). من المهم هنا التشديد على أن إعادة إلحاق الأحزاب الشيوعية عامة، والشيوعيين في فلسطين خاصة، بالمواقف السوفييتية، جاء في ظل إعادة تفعيل “الكومنترن” بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتجديد الارتباط التنظيمي والفكري بينه وبين الأحزاب الشيوعية في العالم، بما يشمل فلسطين.

كان هذا القسم الأول من الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد ١١٢، خريف ٢٠١٧.
لقراءة القسم الثاني.

الهوامش

١-  توفيق زيّاد (١٩٢٩- ١٩٩٤): شاعر وكاتب وسياسي فلسطيني من مدينة الناصرة التي شغل رئاستها حتى وفاته. كان عضواً في الكنيست الإسرائيلي لعدة دورات انتخابية عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكح). للمزيد انظر الصفحة الرسمية عن زيّاد في الرابط الإلكتروني التالي: 
٢-  ماير فلنر (١٩١٨- ٢٠٠٣) من أبرز قيادات الحزب الشيوعي الإسرائيلي. هاجر من بولندا إلى فلسطين في سنة ١٩٣٨، وانضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني سنة ١٩٤٠، وفي سنة ١٩٤٨، كان نائباً عن الحزب الشيوعي في البرلمان التأسيسي لإسرائيل، وبقي نائباً منذ ذلك الحين وحتى سنة ١٩٩٠. تولّى فلنر منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي (ركاح) في سنة ١٩٦٧. والاقتباس مأخوذ من خطاب فلنر أمام المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي (حيفا: اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي ١٩٧٦)، ص ٦٤-٦٥.
٣-  سيظهر من خلال هذه الدراسة أنه لا يمكن حصر الشيوعيين في تشكيلة حزبية متماسكة ذات تاريخ موحد، بل إن أهم ما سنخلص إليه هو أن الحزب ذو تواريخ متعددة متناقضة ومتوترة إثنيّاً وقوميّاً، وعندما أقول “حزب شيوعي”؛ فإنني أقصد، بالتحديد، التشكّلات السياسية التي تفرعت من الحزب الشيوعي الذي أقيم في فلسطين سنة ١٩١٩، وبقيت تتحرك في دائرة المزاج الخطابي “الماركسي” الشيوعي، وإن اختلفت إلى درجة الانشقاق في المسائل القومية، والأهم أن هذه التشكّلات عادت لتشكّل من جديد جزءاً من الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعد سنة ١٩٤٨. ويندرج في هذا الإطار الحزب الشيوعي الفلسطيني قبل سنة 1948، وعصبة التحرر، ومن ثم الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
٤-  للمزيد انظر النسخة العربية لوثيقة الاستقلال الاستقلال الإسرائيلية في الرابط الإلكتروني التالي: 
https://tinyurl.com/ydyrt3qs 
٥-  الكومنترن: تحالف بين الأحزاب الشيوعية العالمية أنشأه فلاديمير في سنة ١٩١٩، من أجل التنسيق بين نشاطات الحركة الشيوعية في العالم، ولنشر الثورة العالمية عن طريق الأحزاب الشيوعية في كل دولة. وبعثت الجماعات الشيوعية من مختلف الدول مندوبين عنها لحضور المؤتمرات التي عقدت في مدينة موسكو. حلّ ستالين الكومنترن في سنة ١٩٤٣، دليلاً على الصداقة والنيات الطيبة تجاه حلفائه في الحرب العالمية الثانية، لكنه في سنة ١٩٤٧، أنشأ الكومنفورم كمؤسسة بديلة من أجل لتنظيم العلاقات بين الأحزاب الشيوعية.
٦-  التعريف السابق 
٨-   بعض الباحثين يشيرون إلى أنه كان أول عربي ينتسب للحزب الشيوعي في فلسطين، انظر/ي: محمد سليمان “مجلة حيفا، ١٩٢٤-١٩٢٥: أول صحيفة يسارية عربية” (رام الله: شبكة أمين الإعلامية، ط١، ٢٠١١). 
٩-   الأخطاء اللغوية موجودة في الأصل، واخترت الإبقاء عليها كما هي. 
١٠-  الأخطاء اللغوية في المصدر.
١١-  بمعنى إضراباتهم
١٢-  تعود فكرة التقسيم في بدايتها إلى تقرير لجنة بيل في سنة ١٩٣٧. وقد جاء في تقريرها المؤرخ في ٧/٧/١٩٣٧: “ما دام العرب يعتبرون اليهود غزاة دخلاء، وما دام اليهود يرمون إلى التوسع على حساب العرب، فالحل الوحيد هو الفصل بين الشعبين، فتؤلف دولة يهودية في الأراضي التي يكون اليهود أكثرية سكانها، ودولة عربية في المناطق الأخرى.” وتكررت فكرة التقسيم مرة ثانية، لكن في صورة مغايرة: في أثناء مؤتمر لندن الذي عُقد من ١٠/٩/١٩٤٦ إلى ٢/١٠/١٩٤٦، ثم في قرار التقسيم رقم ١٨١.

The post الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (١/٣) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>