الحزب الشيوعي في إسرائيل بين المسألة القومية وإقامة الدولة اليهودية (٣/٣)

الشاعر توفيق زيّاد

هنيده غانم

باحثة من فلسطين

خطاب المثقف-الشاعر، على عكس المثقف-السياسي، كان خطاباً أصلانياً مفرداته الجذر والأرض، وسياقه العلاقة الحميمية بين الوطن والساكن الأصلاني؛ مقابل العلاقة المصطنعة للغريب. وحين يتحدث هذا المثقف عن حضور الآخر؛ فهو يرمّز إلى "إخلال" تتم مقاومته عبر التشبث بالجذر الذي يصور في الشعر باعتباره حصن المقاومة ومعقلها، لأنه، بحكم طبيعته، قادر على التشبث والضرب عميقاً في الأرض كما كتب الشاعر الشيوعي توفيق زيّاد في قصيدته "هنا باقون" (توفيق زياد 2000): "يا جذرنا الحي تشبث/ واضربي في القاع يا أصول.“

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/10/2017

تصوير: اسماء الغول

هنيده غانم

باحثة من فلسطين

هنيده غانم

المديرة العامة لمركز "مدار" المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية في رام الله، مختصة بعلم الاجتماع السياسي والثقافي، لها مجموعة من الدراسات المنشورة عن سياسات الاستعمار في فلسطين، والدور الاجتماعي للمثقف الفلسطيني بعد النكبة، واليهودية والقومية في اسرائيل.

1953-1965: بروز الشيوعيين الشعراء وإعادة إنتاج فلسطين الوطن

لم يترك العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أدنى شك في قلوب الشيوعيين في أن إسرائيل اختارت أن تنحاز إلى صفّ القوى “الإمبريالية”، وأنها تفضّل الوقوف في صف فرنسا وبريطانيا وأمريكا (بمعزل عن أنّها لم تؤيّد الحرب) على أن تتحالف مع الكتلة الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي. وجاء هذا الانحياز الإسرائيلي متزامناً مع تغيرات استراتيجية وبعيدة المدى في مصر، بدأت مع ثورة الضباط الأحرار ، وتصاعدت مع علو “نجم” جمال عبد الناصر بوصفه قائداً عروبيّاً يحظى بشعبية طاغية، والتقارب المستمر مع الاتحاد السوفييتي. وقد جاء العدوان الثلاثي، الذي شنّته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر بعد قرار عبد الناصر تأميم قناه السويس، ليحدد الخط الفاصل والنهائي بين معسكر “أصدقاء الشعوب”، ومعسكر “أعداء الشعوب” الذي انضمّت إليه إسرائيل بتفضيلها الانحياز لـ”الإمبريالية” التقليدية، ممثّلة ببريطانيا وفرنسا. (١)

لكن الحدث الذي سيشكّل عمليّاً نقطة اللاعودة؛ هو مجزرة كفر قاسم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال فترة العدوان، وفي ظل محاولات التكتم عليها من قبل قيادات الدولة. وقد كان أول الكاشفين عن هذه المجزرة عضوا الكنيست عن الحزب الشيوعي، توفيق طوبي وماير فلنر، واللذان استفادا من حصانتهما البرلمانية للدخول إلى القرية والاستماع إلى شهادات الناجين. عزّزت المجزرة الشعور بأن الدولة -وقد تمأسست- تستهدف الفلسطينيين في داخلها، وأنها ليست معدّة لتكون دولة ديمقراطية، كما صرحت في مناسبات مختلفة، وكما راهنت بعض قيادات الحزب سابقاً. 

وسط هذا السياق المشحون، بدأ بالصعود في صفوف بعض المثقفين في الحزب خطاب ثقافي مختلف إلى حد التناقض مع الخطاب السياسي الرسمي، وقد شكّلت الكتابة الشعرية أداته الأهم، وكان روّاده المركزيون من الجيل الشاب اليافع الذي تم استقطابه إلى صفوف الحزب بعد إقامة إسرائيل.

 وعلى عكس الخطاب الرسمي الذي هيمن منذ إقامة إسرائيل وحتى بدايات سنوات الخمسين، واتخذ من الدولة مشروعاً ومحور عمل؛ تميّز هذا الخطاب بتمحوره حول الوطن وقيم البقاء والصمود، وباعادة صياغه العلاقة مع الآخر عبر ثنائيات المستعمِر والمستعمَر؛ والأصلاني المتجذّر مقابل المحتل العابر.  وتكمن أهميه هذا الخطاب في رياديّته فلسطينياً في تشكيل وإنتاج الحاضنة الرمزية للمقاومة الفلسطينية، وفي بناء هويّة جمعية بعد نكبة 1948 وما تبعها من تشتت وتذرر فلسطيني. ومن الملاحظ أن الشعر الذي أنتج في فلسطين بعد النكبة، وفي ظلّ الحكم العسكري، كان يشكّل مصدراً للتماهي بين كل الفلسطينيين، خاصة في الشتات؛ لأنه ركّز، إلى حدّ كبير، على الأرض والعلاقة بالمكان والصمود والبقاء، وهي قيم مشتركة بالذات بين اللاجئين؛ من شكلت تجربتهم الصورة السالبة لذلك، وهو ما جعل عمليّاً من شعر محمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وسالم جبران، وحنا أبو حنا، شعراً فلسطينيّاً شاملاً وليس محليّاً. لكن ذلك لا يعني، بالطبع، عدم وجود ملامح مميزة للخطاب تعكس التجربة الذاتية للمواجهة في الداخل، خاصّة عبر تكرار الحديث عن البقاء والصمود ومقاومة سياسات الاقتلاع والمصادرة والتهجير . 

هذا الخطاب الشعري الوطني الذي تفتّح في دفيئة الحزب الشيوعي، والمهموم بالقضية الجمعية لفلسطين وأبنائها، أخذ يتحوّل تدريجيّاً إلى الخطاب المهيمن على الأغلبية العربية في الحزب، وكان يتزايد قوّة مع تزايد صعود نجم الشعراء الشباب المنشغلين بقضايا شعبهم وهمومه، توازياً مع وجود تراجع، بحدود معيّنة، في الخوف على المصير من ممارسات السلطات الإسرائيلية ومن مواجهة مصير اللاجئين.

 وفي هذا الإطار، جاءت الصدامات التي اندلعت في 30 أبريل 1958 في الناصرة لتعكس تزايد قوة التيار القومي على حساب نكوص الخطاب المدني-المواطناتي، ففي هذا اليوم، كما نشرت صحيفة “معاريف” العبرية في 30 أبريل 1958، بثّ أعضاء الحزب “الأغاني القومجية، وخطابات تحريض ضد سياسات التمييز ضد العرب، ونادوا أعضاء الحزب للنزول والتظاهر في شوارع الناصرة“،(٢) على حدّ تعبير الصحيفة، وقد تطورت التظاهرات إلى مواجهات شديدة بين المتظاهرين والشرطة، ووقعت أشد الاحتجاجات قبيل الاحتفالات بالاستقلال العاشر لإسرائيل التي نظمتها البلدية، وأدت إلى اعتقال عدد من نشطاء الحزب وقياداته، من بينهم إميل حبيبي وصليبا خميس. شكّلت هذه المواجهة تجسيداً لعودة التيار القومي للهيمنة على الأعضاء العرب في الحزب، والذي تحول إلى رأس الحربة المتصدية للتيارات المتعاونة، والمخاتير المدعومين من الدولة، ممن أطلق عليهم “أذناب السلطة”. 

وللمقارنة بين الخطاب السياسي الحزبي الرسمي الذي هيمن في بدايات قيام الدولة ثم بدأ يتراجع تدريجيّاً ليرتفع مكانه خطاب ذو بعد قومي؛ وبين الخطاب الثقافي، سأتناول دور الشعراء المناقض عمليّاً لدور القيادة الحزبية الرسمية في إعادة بناء الهوية الفلسطينية، وإعادة صياغة العلاقة بالمسألة القومية، وذلك من  خلال استعراض مختصر لخطابهم في ما يتعلق بالنكبة وإقامة إسرائيل، وصورة الآخر والعلاقة مع الأرض منذ 1956 وحتى  1965، والذي دفع، مع تصاعده، نحو الانقسام عام 1965 على أساس قومي، بين تيار ذي أغلبية عربية يقوده توفيق طوبي وماير فلنر، وتيار ذي أغلبية يهودية يقوده شموئيل ميكونس وموشيه سنيه.

 النكبة، الآخر والأرض: 

تظهر متابعة الكتابات الأدبية عامة، والشعرية خاصة، التي أنتجها مثقفو الحزب الشيوعي، هيمنة المفردات القومية على كتابتهم، وفهمهم للآخر على أساس ثنائيات المستعمِر والمستعَمر، والخير والشر، وتفيض بالمشاعر الجياشة تجاه الأرض والوطن وبالمناداة للتحرير والمقاومة. وإذا أخذنا، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة “القصيدة الناقصة” لسميح القاسم، التي نشرها في مجموعته الثانية «أغاني الدروب»، سنجد وصفاً للدمار الذي حل بالوطن عام 1948 بسبب إقامة دولة إسرائيل على أراضيه، وهو يرمز إليه بلغة مجدولة بثنائيات الخير والشر، لا سيما حين يقول: “شرذمة من الصلال… تسرّبت تحت خباء ليل/ إلى عشاش دوحها في ملتقى الدروب/ أبوابها مشرعة لكل طارق غريب/ وسورها أزاهر وظل/ وفي جنان طالما مر بها إله/ تفجّرت على السلام زوبعة/ هدّت عشاش سربنا الوديع/ وهشمت حديقة ما جددت سدوم/ ولا أعادت عار روما الأسود القديم.“

في وصفه ذاك، يستدعي القاسم الوطن قبل النكبة بوصفه صنواً للوادعة، مفتوحاً للغرباء، وآمناً تماماً كفردوس آدم الأول، حتى تتسرب شرذمة من الصلال إلى المكان، وتتفجر زوبعة تحيل الفردوس إلى خرائب ودمار. وفيما يحيل توصيف الوطن بـ”العشاش” المشرعة إلى البراءة والسذاجة الطفولية التي تسِم كلّ العلاقات الحميمية في الفردوس الأصلي فإن توصيف دخول “العدو” (إشارة إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين) على أنه فعل “تسرب”؛ يحيل إلى سلوك المستعمر المراوغ والمضلل الذي قام من خلاله باستغلال “وداعة” الضحية ليتسرب إلى حياتها، ليكون بذلك المستعمر عمليّاً صنو الشيطان الذي أسقط بمكره البشرية من الفردوس السماوي إلى الأرض المدنسة. 

دمجت كتابات الشعراء بين الحزن والغضب على الوطن المنكوب، وبين الحديث عن حتمية الخروج من واقع الهزيمة، وهو ما يعني أن كتابتهم لم تكن فقط بكاءً على الأطلال؛ بل تحريضاً على الخروج منه، وإيماناً بحتمية الولادة من جديد. هكذا، مثلاً، يكتب درويش في قصيدته ”ولادة“:

“إن قصفت عاصفة/ في تشرين../ ثالثهم/ فجذور التين/ راسخة في الصخر.. وفي الطين/ تعطيك غصوناً أخرى../ وغصون!”

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تصويرة (motif) “الجذري” شكّلت إحدى التصويرات المشكّلة للهوية الفلسطينية، بوصفها هوية أصلانية، إذ يدلل الجذر على التجذر في المكان، والعلاقة المجدولة، فوق الزمنية، بالأرض، مقابل العواصف العابرة والطارئة التي تشير عمليّاً إلى الغزاة. تظهر تلك الاستعارات جليّة في قصيدة درويش “بطاقة هويّة (محمود درويش 1988، ص74-75)” ، حينما ينشد في أحد مقاطعها: “جذوري../ قبل ميلاد الزمان/ وقبل تفتّح الحقب/ وقبل السرو والزيتون/ قبل ترعرع العشب.“

في استحضار الجذر وتحويله عمليّاً إلى حضور فوق تاريخي -قبل ميلاد الزمان رست وقبل تفتح الحقب- يعيد درويش صياغة العلاقة بين الزمن-التاريخ والفلسطيني، ويحوّل هذه العلاقة إلى فوق زمنية ليرد بذلك على خطاب المستعمر، الذي عمل على تحويل الزمن السماوي إلى زمن أرضي، وعلى ادّعائه بأنه “عائد من المنفى إلى وطنه” الذي يقول إنه عاش فيه وفق أسطورته قبل ألفي عام، ويبني عمليّاً شرعية مشروعه الاستعماري عليه. من خلال ردّه ذاك، يسخر درويش من ادعاء المستعمر ويتحداه، وهو يفعل ذلك من خلال لغة المكان-الأرض، عبر تصوّر العلاقة الحميمية والمباشرة مع الأرض، والتي لا تتوسطها أساطير العودة من المنافي، ولا تشكل أداه لإعادة بناء جسد اليهودي الجديد كما نظّر لها المستعمر؛ بل علاقة عضوية متشابكة بحياة الفلسطيني اليومية. وفي ذلك، يمضي درويش بالقول: “أبي من أسرة المحراث/ لا من سادة نجب/ وجدي كان فلاحاً/ بلا حسب ولا نسب../ يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب/ وبيتي، كوخُ ناطورٍ/ من الأعواد والقصب../ فهل ترضيك منزلتي؟/ أنا إسم بلا لقب!“

خطاب المثقف-الشاعر، على عكس المثقف-السياسي، كان خطاباً أصلانياً مفرداته الجذر والأرض، وسياقه العلاقة الحميمية بين الوطن والساكن الأصلاني؛ مقابل العلاقة المصطنعة للغريب. وحين يتحدث هذا المثقف عن حضور الآخر؛ فهو يرمّز إلى “إخلال” تتم مقاومته عبر التشبث بالجذر الذي يصور في الشعر باعتباره حصن المقاومة ومعقلها، لأنه، بحكم طبيعته، قادر على التشبث والضرب عميقاً في الأرض كما كتب الشاعر الشيوعي توفيق زيّاد في قصيدته “هنا باقون” (توفيق زياد 2000): “يا جذرنا الحي تشبث/ واضربي في القاع يا أصول.“

على محور الزمن يتربع الجذر إذن بلا خوف، واثقاً من ديمومته المستمدة من قدرته على التجدد المستمر. يواجه الحالة العابرة والمؤقتة للعاصفة، التي تدمر وتخرب لكنها تنتهي إلى زوال. حتى وإن عاودت الظهور، فإن ظهورها متقطع واعتباطي. يكتب توفيق زياد: “وطني مهما نسوا/ مرّ عليه/ ألف فاتح/ ثم ذابوا.. مثلما الثلج يذوب.” (توفيق زياد، م.س)

بناء على ما سبق، يمكن أن نلخص التمايز بين الخطاب الرسمي الحزبي، والذي مثّله -على أفضل وجه- توفيق طوبي في السنوات الأولى لإقامة إسرائيل؛ وبين الخطاب الثقافي الذي أنتجه “شعراء المقاومة”، الذين تصاعد دورهم تدريجيّاً بعد مجزرة كفر قاسم، ثم ما لبث أن هيمن تدريجياً على الخطاب الثقافي والسياسي للحزب، بالجدول التالي:

 

 

الخاتمة 

سنة 1965، الانقسام الحتمي:

في الثامن من كانون الأول من عام 1964، قُتل إبراهام جوري في كيبوتس “ياد حنة”، وهو جندي في العشرين من عمره من وحدة ”الناحال“، (٣) إثر عملية إطلاق نار من قبل القوة الأردنية الموجودة في الجانب الآخر من الخط الأخضر، (دافيد مرحاف 2011) (٤)، كما تذكر المصادر الإسرائيلية فقد كان للأمر أهمية خاصة في تاريخ الحزب الشيوعي، لسبب مهم؛ وهو أن هذا الجندي كان محسوباً على نشطاء شبيبة الحزب الشيوعية، (معاريف 1964) (٥) ومن سكان كيبوتس “ياد حنة” الذي أقيم عام 1950، وكان حينها الكيبوتس الوحيد التابع للحزب الشيوعي، وانتمى أغلب أعضائه لفكر الحزب (٦).

أظهرت تلك القضية كل التناقضات المرتبطة بالعامل القومي والاستعماري التي كان الحزب يحملها كلها في سلّته، ويحاول أن يناور بينها؛ فقد نظمت لجوري، الجندي الشيوعي المقتول بأيد عربية، جنازة عسكرية، ودفن بين صفوف الجنود الذين قتلوا بسبب الصراع القومي في “دفاعهم” عن إسرائيل. كان الحضور متنافراً بشكل لافت، فقد ضم من جهة جنود “الناحال” وهم بكامل لباسهم العسكري، ومن جهة أخرى رفاقاً عرباً من الحزب الشيوعي. وفي الجنازة، أطلقت الوحدة العسكرية ثلاث دفعات من النيران، فيما أنشد بعض الشبان اليهود النشيد القومي الصهيوني “هاتيكفاه”، وفي مقابلهم، أنشد بعض “الرفاق” نشيد الأممية الشيوعية.

لكن الأهم هو ما كشفته بعد تلك الحادثة صحيفة “معاريف”، وهو أن وحدة “الناحال” التي تمركزت في “ياد حنة” أقيمت نتيجة اتفاق بين عضو الكنيست عن “ماكي”، موشيه سنيه، وبين نائب وزير الأمن حينها، شمعون بيرس، وكان هدفها تنظيم الخدمة العسكرية لأعضاء حركة الشبيبة الشيوعية. وقد وقع الاتفاق المذكور في 1961، وتم تطبيقه بعد عام من توقيعه (دافيد مرحاف 2011)، ما زاد من الفجوة بين التيارين العربي واليهودي.

وما بين تصاعد الخطاب القومي في أوساط الأعضاء العرب، واندماج الأعضاء اليهود، بأغلبيتهم، في منظومة الدولة عبر التجند للجيش من جهة، وفي ظل تصاعد قوة القومية العربية التي مثّلها جمال عبد الناصر من، وفي مقابل استمرار سياسات القمع والتمييز والعدوانية الإسرائيلية المتمثلة بعمليات الانتقام التي انتشرت في سنوات الخمسينيات وبدايات الستينيات من جهة أخرى؛ أصبح الانقسام في الحزب مجدداً على خلفية المسألة القومية غير قابل للتفادي. 

وفي 23 يونيو 1964، انشقّ الحزب من جديد على أساس قومي، بعد أن استحال التغاضي عن هذا الصدع أو تجاوزه. في هذا السياق، أقامت الغالبية العربية من أعضاء الحزب، بقيادة طوبي وفلنر، حزب “راكاح”، بينما احتفظت الغالبية اليهودية، بقيادة سنية وميكونس، باسم الحزب “ماكي”، علماً أن تيارها ضم أكثر من نصف أعضاء الحزب. والمهم أن الحزب الشيوعي، الذي أصبح نظيراً لـ”راكاح” بعد التبخر التدريجي لتيار ميكونس، صار صنواً في الثقافة السياسة الإسرائيلية لحزب عربي؛ رغم محاولات عرضه كحزب يهودي عربي.

كان هذا القسم الثالث والأخير من الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد ١١٢، خريف ٢٠١٧.
القسم الأول
هنا، والثاني هنا.

الهوامش

١-  وذلك رغم وجود علاقة متوترة بين النظام الناصري والشيوعيين في مصر؛ إذ إن شعبية عبد الناصر طغت على أخبار الملاحقة والتضييق التي تعرض لها هؤلاء.
٢- مواجهات بين الشرطة وأعضاء ماكي في تظاهرة في الناصرة”، “معاريف”، ٣٠ نيسان/ أبريل ١٩٥٨
٣-  لواء “ناحال”: أحد ألوية ما تسمى بـ”النخب” في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويعني بالعبرية (نوعار حالوتسي لوحيم)، أي “شباب الطليعة المقاتلة” (بالعبرية נח”ל). هي كتيبة مشاة في الجيش الإسرائيلي. تاريخيّاً، يشير الاسم إلى برنامج يجمع بين الخدمة العسكرية وإنشاء مستعمرات زراعية جديدة، عادة في مناطق “نائية”. انشق البرنامج لاحقاً إلى مشاريع تطوع ورفاه اجتماعي.
٤-  “مقتل عضو الناحال، وإصابة صديقه بجروح خطرة من نيران أردنية، “معاريف”، ٩/١٢/١٩٦٤.

المراجع 


البديري، موسى، “تأملات في تاريخ مكتوم: الحزب الشيوعي الفلسطيني والأممية”، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد ٩٢ (خريف ٢٠١٢)، ص ٦٩-٧٨.
بشير، سليمان، “المشرق العربي في النظرية والممارسة الشيوعية، ١٩١٨- ١٩٢٨”، القدس: مطبعة الشرق التعاونية، ١٩٧٧.
تلحمي، داوود، “عودة الى خلفيات تغيّر موقف الإتحاد السوفييتي من المشروع الصهيوني في فلسطين في أواخر الأربعينيات الماضية” الحوار المتمدن، العدد ٣٧٠٨ (٢٥/٤/٢٠١٢) في الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=304840         
حجازين، إبراهيم، “مدخل جديد لدراسة تاريخ عصبة التحرر الوطني في فلسطين”، (الحلقة الأولى، ١٢/١٢/٢٠٠٦). موقع الحوار المتمدن” في الرابط الإلكتروني التالي: 
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=83249 
حسين، راشد،”حين يجوع التاريخ”، مجلة الفجر، العدد ١٢ (تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٥٩). ويمكن الرجوع إلى المقالة إلكترونياً في موقع “دنيا الوطن”، في الرابط التالي:
http://www.ajras.org/?page=show_details&Id=21&CatId=58&table=table_146 . 
الحواري، رائد، من تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني، “مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي” (٢٣/١/٢٠١٤)، في الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=397249&ac=1         
خليل، محمد. “إميل توما: ريادة في السياسة وفي النقد”. موقع الجبهة” الإلكتروني (٢٥/١٢/٢٠١٠)، في الرابط التالي: http://www.aljabha.org/index.asp?i 
درويش، محمود، قصائد”. موقع “الديوان” الإلكتروني (١٩٨٨)، في الرابط التالي: http://www.aldi wan.net/poem2284.html
زياد، توفيق، “الأعمال الشعرية الكاملة”. بيروت: دار العودة، ٢٠٠٠.
سعدي، احمد، “مداخلة في مؤتمر لندن حول الصهيونية والشيوعية”. “عرب٤٨” (١٤/٣/٢٠١٠) في الرابط الإلكتروني التالي: 
https://goo.gl/4EkoKg
سليمان، محمد، مجلة حيفا، ١٩٢٤- ١٩٢٥: أول صحيفة يسارية عربية”. رام الله: شبكة أمين الإعلامية، ط١، ٢٠١١.
 الشريف، ماهر. “الأممية الشيوعية وفلسطين (١٩١٩- ١٩٢٨) “بيروت: دار ابن خلدون، ١٩٨٠.
“فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن”. بيروت: دار المدى للثقافة والنشر، ٢٠٠٤. 
“عصبة التحرر الوطني في فلسطين (١٩٤٣-١٩٤٨): تجربة تنظيم شيوعي فريد”، موقع “حزب الشعب الوطني”، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.ppp.ps/ar_page.php?id=c3b619y12826137Yc3b619 
وأُلقي هذا النص في المؤتمر العلمي الدولي الذي نظمه المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، بعنوان: “التوتاليتارية الأوروبية في مرآة الفكر العربي”، ما بين ٦و ٨ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٠. 
“من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين”. (الحلقة الأولى). “الحوار المتمدن” (١٧/٦/٢٠١١)، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=263578&r=0&cid=0&u=&i=2230&q= 
“من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين، ١٩٢٤-١٩٣٦”. “رام الله: مركز فؤاد نصار لدراسات التنمية، ٢٠١٢.
العارف، عارف. “نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧- ١٩٥٢”. الجزء الأول. كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، ١٩٥٦.
عياش، سعيد. “من الأرشيف: مقابلة مع بن- غوريون، برنامج موكيد ١٩٧٠”. “قضايا إسرائيلية”، العدد ٦٣ (٢٠١٦)، ص ١٤١- ١٤٦.
فرح، بولس. “من العثمانية إلى الدولة العبرية”. الناصرة: الصوت، ١٩٨٥.
القاسم، سميح. “أغاني الدروب”. الناصرة: مطبعة الحكيم، ١٩٦٤.
كرزم، جورج. “الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين التناقض والممارسة، ١٩٤٨- ١٩٩١”. القدس: منشورات الشعلة، ١٩٩٣. 

بالإنجليزية
Budeiri, Musa, 2010, The Palestine Communist Party 1919-1948: Arab and Jew in the Struggle for Internationalism, Haymarket Books.
Sayegh, Fayez, “Zionist Colonialism in Palestine (1965)”. Settler Colonial Studies, vol. 2 issue 1 (2012), pp. 206- 225.

Veracini, Lorenzo. Settler Colonialism: A Theoretical Overview. United Kingdom: Palgrave Macmillan, 2010.
Wolfe, Patrick. Settler Colonialism and the Transformation of Anthropology: The Politics and Poetics of an Ethnographic Event. London: Cassell, 1999.
 “Settler colonialism and the elimination of the native”. Journal of Genocide research, vol. 8, no.4 (December 2006), pp. 387–409.

بالعربية 
غانم، هنيدة، إعادة بناء الامة، القدس: ماغنس، ٢٠٠٩.
مرحاف، دافيد، 2011، “إبراهام جوري: بين حقول ياد حنة وطرقات جنبن- لذكرى إبراهام جوري”، “مكور ريشون”، 29.4.2011. ومتوفر أيضا على صفحة مرحاف بوليطي: في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y9hqa4r2 
نوكديمون، شلومو، “إن كنت هناك حاجة لإطلاق النار عليهم فسنطلقها”، هآرتس، (١١/١١/٢٠١١)، في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1563189 
يعقوبسون، أليسكس وأمنون روبنشطاين. “إسرائيل وعائلة الأمم”. تل أبيب: دار شوكن، ٢٠٠٣. 

الكاتب: هنيده غانم

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع