تحسين الخطيب - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/14rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:41:32 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png تحسين الخطيب - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/14rommanmag-com 32 32 “قصائد سرقتها الكلمات من فمي”… مختارات لمارك ستراند (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/19748 Wed, 28 Aug 2019 08:55:05 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b5%d8%a7%d8%a6%d8%af-%d8%b3%d8%b1%d9%82%d8%aa%d9%87%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d9%81%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ae%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%84/ ■ الحارس    تغربُ الشّمسُ. والمروجُ تشتعلُ. النّهارُ الضائعُ، النّورُ المفقودُ. لِمَ أُحبّ الذي يَخْبُوْ؟    أنتَ يا مَن ذهبتَ، أنتَ يا مَن ترحلُ، أيّ غرفٍ معتمةٍ تقطنُ؟ يا حارسَ موتي،   يا حافظَ غيابي. إِنّيَ حَيّ.   ■ في خلوة البيت   تريدُ أن تنظرَ إلى نفسكَ جيّدًا. تقفُ أمامَ مرآةٍ، تخلعُ سترتكَ، تفكّ […]

The post “قصائد سرقتها الكلمات من فمي”… مختارات لمارك ستراند (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
■ الحارس
 

 تغربُ الشّمسُ. والمروجُ تشتعلُ.

النّهارُ الضائعُ، النّورُ المفقودُ.

لِمَ أُحبّ الذي يَخْبُوْ؟ 

 

أنتَ يا مَن ذهبتَ، أنتَ يا مَن ترحلُ،

أيّ غرفٍ معتمةٍ تقطنُ؟

يا حارسَ موتي،
 

يا حافظَ غيابي. إِنّيَ حَيّ.

 

■ في خلوة البيت

 

تريدُ أن تنظرَ إلى نفسكَ جيّدًا. تقفُ أمامَ مرآةٍ، تخلعُ سترتكَ، تفكّ أزرارَ قميصكَ، تحلّ حزامكَ، ثمّ تفتحُ سحّابَ السّروالِ. تسقطُ عنكَ الثيابُ الخارجيّةُ. تخلعُ نعليكَ والجوربينِ، وتعرّي قدميكَ. تشلحُ ثيابكَ الداخليّةَ. ثمّ ذاهلًا، تتقرّى المرآةَ، وقد أعيتكَ الحيلةُ. هَا أنتَ هناكَ، هَا إنّكَ لستَ هناك. 

 

■ الفستان 

 

تمدّدي على التلّةِ البرّاقةِ

ويدُ القمرِ على خدّكِ،

جسدُكِ عميقٌ في طيّاتِ فستانكِ البيضاءَ،

لن تسمعي الخُلْدَ الشهوانيّ

وَهْوَ يُطِيلُ عتمَهُ،

أوِ البومَ وَهْوَ يُهيّئُ الليلَ كلّهُ

(اللّيلَ الذي هُوَ حكمتُهُ) أوِ القصيدةَ

التي تملأُ وسادتكِ بريشاتها الزّرقاءَ.

ولكنّكِ لو خطوتِ خارجَ فستانكِ وتحرّكتِ في الظلّ،

فسوفَ يعثرُ عليكِ الخلدُ، ويعثرُ عليكِ البومُ، وتعثرُ عليكِ القصيدةُ،

وسوفَ تسقطينَ في عتمةٍ أخرى، تلكَ التي سوفَ تجدينَ

نفسكِ تخلقينَها وتُعيدينَ خلقَها حتّى تكتمل.

 

■ شتاء في المكتبة الشماليّة

 

يسّاقطُ الثلجُ، ويملأُ

الحقولَ التي أضاءَها القمرُ.

وطيلةَ اللّيلِ نسمعُ

الرّيحَ على أكوامِ الثلجِ

فنفكّرُ في الهروبِ

مِن هذي الغرفةِ، هذا البيتِ،

ومدَياتِ أنفُسِنا

التي غيّمها الشتاءُ. 

 

سراخِسُ وأزهارٌ شاحبةٌ

تتكوّنُ على النوافذِ

مثلَ تَذْكِراتٍ عابسةٍ

لصيفٍ تبدّدُ.

تطبقُ الجدرانُ.

نتمدّدُ منفردينَ طيلةَ اللّيلِ،

نفكّرُ في أينَ نحنُ.

ولا مكانَ نمضي إليهِ.

 

■ حكاية نجاح

 

لو عرفتُ في البَدْءِ بأنّ المُرتقى سيكونُ بطيئًا، وشاقًّا، ومضجرًا فَيْنَةً بعدَ أُخرى، لَاخترتُ السّيرَ على طولِ أحدِ الوديانِ المحليّةِ، مُسْلِمًا نفسي إلى وجهاتِ نظرٍ محدودةٍ، وأفكارٍ بَخْسةٍ، وحياةٍ لم تُلهم أيًا من خيباتِ الرّجاءِ الأسمى.       

 

ولكنْ، أنّى لي أن أعرفَ؟ بدتِ الأرضُ في البدءِ مستويةً، وكانتِ الخُطى واسعةً. وليسَ إلّا شيئًا فشيئًا حتّى أصبحتُ مدركًا للصّعودِ؛ صارَ الذّهابُ أشدّ، فصرتُ ألهثُ، وكانتِ الوقفاتُ القصيرةُ متواترةً. كنتُ كثيرًا مَا أقتفي آثارَ خَطوي ثانيةً حتّى وجدتُ سبيلًا  يُرجَى منهُ الخيرُ مزيدًا.    

 

واصلتُ عبرَ كلّ الفصولِ وأستطيعُ تذكّرَ كيفَ بدتْ يائسةً مجازفتي آناءَ ليالي الشّتاءِ الطويلةِ تلكَ وكيفَ كانَ عليّ، أثناءَ الرّبيعِ حينَ وهنتْ عزيمتي، أن أتخيّلَ الشتاءَ ثانيةً، البردَ، والوعثاءَ.

 

ولو كانتْ ثمّةَ أوقاتٌ خامرتني فيها ريبةُ الوصولِ، فإنّني أعرفُ الآنَ بأنّ مخاوفي كانتْ باطلة، فها أنا ذَا، في عنفوانِ جسدي، أشعرُ بيبابِ السّماءِ الأزرقِ العظيمِ يطوفُ بمُرتقَى مأثُرتي. أيّ مزيدٍ هناكَ؟ أحسِبُ نفسي بينَ المُبارَكينَ. فحياتي كلّها في النّزولِ. 

 

■ قصيدة عن الرّقص

 

إنّهم يرقصونَ الآنَ

كاملينَ في الهواءِ، يبدوْ ذلكَ،

ترفعهم أجواءٌ

مِن حشمةٍ خالصة.

 

جذلينَ في فيضِ

ما يلبسونَ، نفكّرُ

في أنهارٍ خفيفةٍ بعيدةِ الاحتمالِ،

تجري في الهواء.

 

لا تعبَ يصحبُ

بهجتهم؛ إنهم يرقصونَ في غايةِ الحُسْنِ

فتنهضُ ظلالهم وتنفتحُ على طولِ

الجدرانِ،

 

نبتهجُ

لأنّنا نشعرُ بثقلنا يتجندلُ

حولَ عظامنا وفي

كراسينا،

 

لأنّنا لن نبدّدَ حيواتنا

البتّةَ راقصينَ،

راقصينَ على (أنغامِ)

نهايةٍ سافلةٍ

غيرِ موسيقيّة. 

 

■ ضربٌ من الوهَن

 

إنّهُ يكبرُ عليكَ. على مهلهِ. شيئًا فشيئًا. حتّى لا تكادُ في البَدْءِ أن تراهُ. وفي آخرِ المطافِ، بالطّبعِ، لا تستطيعُ أن تفتقدهُ. إنّهُ يتفتّحُ. تأخذُ إليهِ أيّ عضوٍ طبيعيٍ من نفسكَ كيفَ تشاءُ. إنّهُ يأخذُ في أن يصبحَ جميلًا فتبدّدَ ساعاتٍ وأنتَ مستغرقٌ في الفكرةِ عنهُ. 

 

تسوءُ الأمورُ كثيرًا لأنّكَ تقضي أيامًا بأكملها أمامَ مرآةٍ ثمّ أخرى، مستديرًا على هاتهِ الشّاكلةِ وتلكَ، لتحصلَ على الزّاويةِ المناسبةِ ليسَ إلّا، تاركًا الضوءَ يسقطُ على هواهُ، جاعلًا الأثرَ أكثرَ حدّةً. تسمحُ لأصدقائكَ بالمجيء لينظروا. “أَحبّني، أحبّ هذا”، تقولُ. ثمّ تشيرُ. 

 

يتحدّثُ الجميعُ عنهُ. ثمّ يخرجُ عن السّيطرةِ، شيئًا فشيئًا، فلم تعُد تستطيع العثورَ على طريقةٍ لإبرازِ مزاياهُ. تشعرُ بالخديعةِ. تكرهُ نفسكَ. تغطّي مراياكَ بستائرَ قاتمةٍ. ترفضُ أن ترى أصدقائكَ. لا شيءَ يعملُ. إنّه يظلّ. إنّهُ يأكُلك.

 

■ تجوال

 

ولأنّني وصلتُ عبرَ البابِ ذاتهِ

الذي تركتُهُ، رحلتُ ثانيةً.

حفظتُ أسبابيَ عن ظهرِ قلبٍ،

ولم أفقدِ السّبيلَ حيثُ كنتُ أمضي قطّ.

 

أن أرحلَ وأصلَ، أن أصلَ وأرحلَ

كانَ كلّ الذي في البالِ.

كانت بواعثي بسيطةً بما يكفي—

مشيتُ من أجلِ التّجوالِ. 

 

حاصلُ حركتي العاصفُ،

أدهشتني نفسيَ

في العبورِ. واكبتُ خَطْوَ

الذي كُنْتُهُ. آهِ، كنتُ أندفعُ،

 

أو فكّرتُ بأنّيَ كنتُ، حتّى رأيتُ

المسافةَ التي توجّبَ عليّ أن أقطعَها

فرحتُ على نحوٍ أرتابُ 

بأنّ ماضيّ كانَ يلحقني.

 

أسرعتُ، غيرُ راغبٍ في رؤيةِ نفسي

تغادرُ قبلَ وصولي

حينَ، في بعضِ الأحيانِ أثناءَ تعجّلي

الرّجوعَ، شعرتُ بأنّ نفسي تحاولُ.

 

■ الحادثة

 

يدهسُني قطارٌ.

أَرثي لحالِ

المهندسِ

الذي ينحني 

ويهمسُ في أُذني

بأنّهُ بريءٌ.

 

يسمحُ جبيني،

ينفخُ الرّمادَ

عن شفتيّ.

وفي هواءِ المساءِ

يتصعّدُ دمي،

ويغبّشُ نظّارتيهِ.

 

يهمسُ في أُذني

تفاصيلَ حياتهِ—

بأنّ لديهِ زوجةٌ

وطفلٌ يحبّهما،

وبأنّهُ كانَ مهندسًا

أبدًا.

 

يتكلّمُ

حتى يجعلنا شعاعُ

المصباحِ الكاشفِ لأحدهم أبيضَيْنِ.

يقفُ.

ينفضُ سترتَهُ

ويأخذُ في الرّكضِ.

تطقطقُ الجِمارُ

تحتَ نعليهِ الطّويلينِ،

والهواءُ باردٌ

وثقيلٌ

على وجنتيهِ.

 

وفي البيتِ يجلسُ

في المطبخِ،

محدّقًا في العتمةِ.

وجهُهُ متورّدٌ،

ويداهُ مرصوصتانِ

بينَ ركبتيهِ.

 

يراني ممدّدًا،

بلا حراكٍ

قُربَ السكّةِ

ونُوّارُ أنفاسيَ

الشّاحبُ

قد جُرفَ بعيدًا؛

 

الحقولُ تتقوّسُ

تحتَ الملاءاتِ الثّقيلةِ

للرّيحِ

والعصافيرُ تتناثرُ

في روافدِ

الشّجرِ.

 

يهرعُ خارجًا

منَ البيتِ،

يرفعُ حطامَ

جسدي بين ذراعيهِ

ويعيدني.

أستلقي في السّريرِ.

 

يضعُ رأسَهُ

قُربَ رأسي

ويخبرني

بأنّني سأكونُ بخير.

ضوءٌ شاحبٌ

يلمعُ في عينيهِ.

 

أُصغي إلى الرّيحِ

وهيَ تضربُ بقوّةٍ على البيتِ.

لا أستطيعُ النّومَ.

ولا أستطيعُ أن أظلّ مستيقظًا.

المصاريعُ تخبطُ.

ونهايةُ حياتي تبدأُ.

 

■ ساعي البريد

 

إنّهُ منتصفُ اللّيلِ.

يظهرُ في الممشى

ويطرقُ الباب.

أهرعُ لتحيّتهِ.

يقفُ منتحبًا هناكَ،

ويهزّ رسالةً نحوي.

يخبرني بأنّها تحتوي

على أخبارٍ شخصيّةٍ مرعبة.

يخرّ على ركبتيهِ.

“سامحني! سامحني!” يتوسّلُ.

 

أسألُهُ الدّخولَ.

يمسحُ عينيهِ.

بزّتُهُ الكحليّةُ

كبقعةِ حبرٍ

على أريكتي القرمزيّةِ.

عاجزًا، متوتّرًا، وصغيرًا،

يتكوّمُ مثلَ كرةٍ

وينامُ فيما أُحبّرُ

مزيدًا من الرسائلِ إلى نفسي

على ذاتِ المنوالِ:

 

“سوفَ تحيا

مُثخنًا بالآلامِ.

وسوفَ تغفرُ.

 

■ الرّجل في الشجرة

 

جلستُ في الأوصالِ الباردةِ لشجرةٍ.

لا ثيابَ عليّ وكانتِ الرّيحُ تعصفُ.

وقفتِ أسفلَ في معطفكِ الثّقيلِ،

المعطفِ الذي كنتِ تلبسينْ.

 

وحينَ فتحتهِ، كاشفةً صدركِ،

فَرّ عَثٌّ، وأَيًّا كانَ الذي قلتهِ

في تلكَ اللحظةِ قد اسّاقطَ هادئًا على الأرضِ،

الأرضِ التي حولَ قدميكِ.

 

طفا ثلجٌ من الغيمِ في أُذنيّ.

والعثّ الذي مِن معطفكِ قد طارَ في الثّلجِ.

والرّيحُ لمّا تحرّكتْ تحتَ ذراعيّ، تحتَ ذقني،

تأوّهتْ كطفلٍ.

 

لن أعرفَ البتّةَ لماذا

تحوّلت حياتُنَا إلى الأسوءِ، ولا حتّى أنتِ.

غرقَ الغيمُ في ذراعيّ فقامتْ ذراعاي.

إنّهما تنهضانِ الآن.

 

أتمايلُ في الهواءِ الأبيضِ للشّتاءِ

وصرخةُ الزّرزورِ مطروحةٌ على جلدي.

حقلُ سراخسَ يغمرُ نظّارتي؛ أنفضها بعيدًا

كي أراكِ.

أستديرُ فتدورُ الشجرةُ معي.  

 

ليستِ الأشياءُ أنفُسَهَا في هذا الضّوءِ فحسبُ.

تُغمضينَ عينيكِ فيسقطُ

المعطفُ مِن فوقِ كتفيكِ،

 

وتنسحبُ الشجرةُ مثلَ يدٍ.

تصيرُ الرّيحَ أنفاسي، ولا شيءَ يقينًا بعدُ.

والقصيدةُ التي سرقتها هذي الكلماتُ من فمي

قد لا تكونُ هذي القصيدة.

 

■ سفينة الأشباح

 

عبرَ الشّارعِ المزدحمِ

تطفو،

 

حمولَتُها

الغامضةُ كالرّيحِ.

 

تنسابُ 

عبرَ حُزنِ

 

الأحياءِ الفقيرةِ

إلى الحقولِ القصيّةِ.

 

بطيئًا،

الآنَ قربَ ثورٍ،

 

الآنَ قربَ طاحونةٍ هوائيّةٍ،

تسيرُ.

 

عابرةً

في اللّيلِ كحلمِ

 

الموتِ،

لا يمكنُ أن تُسمَعَ؛

 

تحتَ النجومِ

تتسلّلُ.

 

يحدّقُ

طاقمُها

والرّكابُ؛

 

أبيضَ منَ العظمِ،

عيونُهم

لا تُغمَضُ أو تدورُ.

مارك ستراند (Mark Strand (1934- 2014، شاعر أميركي ذائع الصيت. من كتبه: النوم بعين مفتوحة (1964)، وقصة حيواتنا (1973)، والساعة المتأخّرة (1978)، والأثر الباقي (1978)، وميناء معتم (1993)، والإنسان والجَمل (2006)، وكأنّه محتجب (2012).

 

The post “قصائد سرقتها الكلمات من فمي”… مختارات لمارك ستراند (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
آنَسْتُ ريحًا خفيفةً بينَ أصابعي… شذراتٌ مختارةٌ لعزرا پاوند (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/19713 Thu, 01 Aug 2019 08:43:15 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a2%d9%86%d9%8e%d8%b3%d9%92%d8%aa%d9%8f-%d8%b1%d9%8a%d8%ad%d9%8b%d8%a7-%d8%ae%d9%81%d9%8a%d9%81%d8%a9%d9%8b-%d8%a8%d9%8a%d9%86%d9%8e-%d8%a3%d8%b5%d8%a7%d8%a8%d8%b9%d9%8a-%d8%b4%d8%b0%d8%b1%d8%a7/ طيفُ تلكَ الوجوهِ في الزّحامِ: بتلاتٌ على غصنٍ أسودَ رطبِ. ■ وليستِ الأيامُ تكفي لا ولا اللّيالي. تملصُ الحياةُ كفأر حقلٍ فلا عُشبَ يهتزّ. ■ أميركا مصحّةُ مجانين. ■ لطالما آمنتُ بأنّني قد عرفتُ شيئًا. بَيْدَ أنّني أدركتُ، ذاتَ يومٍ غريبٍ، بأنّني لم أعرف أيّ شيءٍ، أَجَلْ، لم أعرف أيّ شيءٍ البتّةَ. صارتِ الكلماتُ عقيمةً. […]

The post آنَسْتُ ريحًا خفيفةً بينَ أصابعي… شذراتٌ مختارةٌ لعزرا پاوند (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
طيفُ

تلكَ الوجوهِ

في الزّحامِ:

بتلاتٌ

على غصنٍ أسودَ

رطبِ.

وليستِ الأيامُ

تكفي

لا

ولا اللّيالي.

تملصُ الحياةُ

كفأر حقلٍ

فلا عُشبَ يهتزّ.

أميركا مصحّةُ مجانين.

لطالما آمنتُ بأنّني قد عرفتُ شيئًا. بَيْدَ أنّني أدركتُ، ذاتَ يومٍ غريبٍ، بأنّني لم أعرف أيّ شيءٍ، أَجَلْ، لم أعرف أيّ شيءٍ البتّةَ. صارتِ الكلماتُ عقيمةً. لقد تأخّرتُ كثيرًا في الوصولِ إلى الشكّ المُطلَق.

حينَ تكُفّ الكلماتُ عنِ التشبّثِ بالأشياءِ، تسقطُ الممالكُ، وتنحطّ الإمپراطوريّاتُ وتَفنى.

لَمْ أَدخُلِ الصّمتَ. قبضَ الصّمتُ عَلَيّ.

آنستُ ريحًا خفيفةً

تهبّ

متماوجةً

تحت أصابعي.

العبقريّةُ . . أن تكونَ قادرًا على رؤيةِ عشرةِ أشياءٍ في الوقتِ الذي لا يَرى فيهِ العاديّونَ إلّا شيئًا واحدًا فقط.

تكنيكُ العارِ أن تُروّجَ لكذبتينِ، في الوقتِ ذاتهِ، ثمّ تجعلُ النّاسَ يتجادلونَ، بحماسةٍ، أيّهما الكذبةُ الحَقّ.

الشّعْرُ هُوَ اللّغةُ وقَد تعرّتْ حتّى بَانَتْ أركانُها.

لا بُدّ أن يقتصرَ التّعليمُ الحقيقيّ على الذينَ يُلحّون في طلبِ المعرفةِ؛ أمّا بقيّةُ (التّعليمِ)، فَرَعْيُ أغنامٍ.

تُعرّفُ الديمقراطيّةُ في أوروبّا الآنَ بوصفها «البَلد الذي يديرهُ اليهودُ».

كانتِ الحروبُ تُخَاضُ، في الأزمنةِ الغابرةِ، لِأَسرِ العبيدِ. الوسيلةُ الحديثةُ لفرضِ العبوديّةِ هي الدّيُون.

إمّا أن تتحرّكَ أوْ تُحرّك.

لقد كانَ هتلر چانْ داركْ؛ قدّيسًا. لقد كانَ شهيدًا. كانت لديهِ، كجميعِ الشّهداءِ، أفكارٌ متطرّفة.

لِمَ تحاربُ مُنضويًا تحت رايةٍ ما، وأنتَ قادرٌ على شراءِ واحدةٍ بِنِكْلَةٍ.

المعبدُ مُقدّسٌ، لأنّه ليسَ للبيع.

واجبُ الفنّانِ أن يجعلَ الإنسانيّةَ واعية بذاتِها.

لم أعرف أحدًا قَطّ يستحقّ اللّعْنَ لم يكُن نَزِقًا سريعَ الغضب. 

المعضلة الحقيقيّةُ للحربِ (الحربِ المعاصرة) أنّها لا تمنحُ أحدًا الفرصةَ لِقَتْلِ النّاسِ المُناسبين.

وُجدَتِ الحربُ لِتُرهقَنا بالدّيون.

لا بُدّ للفنّانِ المعاصرِ أن يحيا بالصّنْعةِ (الفنيّةِ) والعُنْف. فآلهته آلهةٌ عنيفةٌ.

لعلّ عصرَ الأدب العظيمِ هُوَ دائمًا عصرُ الترجماتِ العظيمة.

مفهومُ أنّ العبقريّةَ مرادفةٌ للجنونِ صنيعُ عُقدةِ النّقصِ لدى الجماهيرِ.

الشّعرُ نوعٌ مِنَ الرّياضيّاتِ المُلهَمة التي تمنحنا معادلاتٍ ليستْ للأشياء المُجرّدةِ، والمثلثّاتِ، والمربّعاتِ، وما شابَهها، بل إنّما للعواطفِ الإنسانيّةِ. فَلَو امتلكَ المرءُ عقلًا يَخْلَدُ إلى السّحرِ بدلًا من العلمِ، فإنّه سوفَ ينطقُ هذهِ المعادلاتِ كأنّها رقىً أو تمائم؛ كأنّ الأمرَ سريٌ، غامضٌ، وملتبس.

حين يخشى المرءُ المجازفة،َ جهرًا، بآرائهِ؛ فَإمّا عقيمةٌ هذه الآراءُ، أو -لعَمْري- إنّه العقيمُ.

الأدبُ هُوَ الأخبارُ إذْ تظلّ أخبارًا.

سينتهي فنّ الأدب قبل سنةِ ألفينِ بعدَ الميلادِ.سأنجو بوصفي شيئًا نادرًا.

وفي هذه اللّحظةِ، عادةً ما يجلسُ القارئُ الضّعيفُ القلبِ في الطريقِ، يخلعَ نعليهِ ويبكي لأنّه “لُغويٌ سيّءٌ” أو لأنّه غير قادرٍ على تعلّمِ كلّ تلكَ اللّغاتِ. على المرءِ أن يُفرّقَ بين القرّاءِ الذين يرغبونَ في أن يصبحوا خبراءَ وبينَ أولئك الذينَ لا يودّونَ ذلك، وأن يُفرّقَ، كما هي الحال دومًا، بينَ أولئكَ الذينَ يريدونَ رؤيةَ العالَمِ وبينَ أولئكَ الذينَ لا يرغبونَ إلّا في معرفةِ أيّ بُقعةٍ من العالَم يعيشونَ فيها.

للعبقريّ الحَقّ في أيّ طريقةٍ في التّعبير.

أظنّ بأنّ تعريف المجنونِ هو الإنسانُ الذي يحيطُ بهِ المجانينُ.

لا أحدَ يفهمُ كتابًا عميقًا حتّى يكونَ على الأقلّ قد أبصرَ بعضَ ما فيهِ وعاشَهُ.

الصّورةُ أكثرُ مِن (مُجرّدِ) فكرةٍ. إنّها دوّامةٌ أو عنقودُ أفكارٍ منصهرةٍ، تحبلُ بالطّاقةِ. 

الكتّابُ الجيّدونَ هم أولئك الذين يُبقونَ اللغةَ فعّالةً. بعبارة أخرى: يُبقونَها دقيقةً، يُبقونَها واضحة.

تضعفُ الموسيقى حينَ تبتعدُ كثيرًا عن الرّقصِ . . ويَضمُرُ الشّعرُ حينَ يبتعدُ كثيرًا عن الموسيقى.

The post آنَسْتُ ريحًا خفيفةً بينَ أصابعي… شذراتٌ مختارةٌ لعزرا پاوند (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أكتاڤيو پاس… اسمُكِ يرتعشُ على كتفي (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/19625 Wed, 05 Jun 2019 14:18:07 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%83%d8%aa%d8%a7%da%a4%d9%8a%d9%88-%d9%be%d8%a7%d8%b3-%d8%a7%d8%b3%d9%85%d9%8f%d9%83%d9%90-%d9%8a%d8%b1%d8%aa%d8%b9%d8%b4%d9%8f-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%83%d8%aa%d9%81%d9%8a-%d8%aa%d8%b1/ ■ ليليّة   أيها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ، يا النهرَ الأسودَ الذي يجرّ مرمرَهُ الغريقَ. كيفَ أحكي عنِ الهواءِ القتيلِ، عنِ الكلامِ اليتيمِ، كيفَ أحكي عن الحُلمِ؟   أيّها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ. يا الميزانَ الأسودَ؛ ميزانَ السّوسنِ. كيفَ أحكي الأسماءَ، النجومَ، الطيورَ العاجَ؛ طيورَ البيانوهاتِ الليليّةِ، ومسلّةَ الصّمتِ؟   أيّها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ. يا […]

The post أكتاڤيو پاس… اسمُكِ يرتعشُ على كتفي (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
■ ليليّة

 

أيها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ،

يا النهرَ الأسودَ الذي يجرّ مرمرَهُ الغريقَ.

كيفَ أحكي عنِ الهواءِ القتيلِ،

عنِ الكلامِ اليتيمِ،

كيفَ أحكي عن الحُلمِ؟

 

أيّها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ.

يا الميزانَ الأسودَ؛ ميزانَ السّوسنِ.

كيفَ أحكي الأسماءَ، النجومَ،

الطيورَ العاجَ؛ طيورَ البيانوهاتِ الليليّةِ،

ومسلّةَ الصّمتِ؟

 

أيّها الظلّ، يا ظلّ الأصواتِ المرتعشَ.

يا التماثيلَ التي هارت منَ القمرِ.

كيف أنطقُ، يا كاميليا،

يا الزهرةَ الأقلّ بينَ الأزهارِ،

كيف أنطقُ هندسَتكِ البيضاءَ؟

 

كيفَ أنطقُ صمتَكِ، عاليًا، يا حلُمي؟

 

■ لقطة

 

تقفزُ الكلمةُ

أمامَ الفكرِ

أمامَ الصّوتِ

تقفزُ الكلمةُ كحصانٍ

أمامَ الرّيحِ

كثورٍ كبريتٍ

أمامَ اللّيلِ

إنّها ضائعةٌ في شوارعِ جمجمتي

آثارُ أقدامِ الوحشِ في كلّ مكانٍ

الوشمُ القرمزيّ على وجهِ الشّجرةِ

الوشمُ الجليديّ على جبينِ البُرجِ

الوشمُ الكهربائيّ على جنسِ الكنيسةِ

مخالبُهُ في عنقكِ

براثنهُ في بطنكِ

العلامةُ البنفسجيّةُ

زهرةُ عبّادِ الشّمسِ التي تستديرُ صوبَ الهدفِ

صوبَ الصرخةِ صوبَ الضّجِرِ

زهرةُ عبّادِ الشّمسِ التي تستديرُ كتنهيدةٍ مسلوخةٍ

توقيعُ الذي بلا اسمٍ على جِلدكِ

وفي كلّ مكانٍ الصرخةُ التي تعمي

الموجةُ السوداءُ التي تغمرُ الفكرَ

الجرسُ الغاضبُ الذي يرنّ في رأسي

جرسُ الدمِ في صدري

الصورةُ التي تضحكُ في أعلى البُرجِ

الكلمةُ التي تُفجّرُ الكلماتِ

الصورةُ التي تحرقُ جميعَ الجسورِ

المرأةُ التي تتلاشى في منتصفِ القُبلةِ

المهجورةُ التي قتلتْ أبناءَها

الأحمقُ والكذّابُ وابنةُ الحرَامِ

الظبيةُ المظلومةُ

الشحّاذةُ النبويّةُ

الفتاةُ التي توقظني في منتصفِ

حياتي وتقول: أتذكرُ.

 

■ مونولوغ

 

تحتَ الأعمدةِ المكسورةِ،

بينَ العدَمِ والحلمِ،

تعبرُ مقاطعُ اسمكِ

ساعاتِ نوميَ التي طارَ النّومُ مِن جفونها.

 

شعرُكِ الطويلُ الضّاربُ إلى الحُمرةِ،

برقُ الصّيفِ،

يرتعشُ عنيفًا عذبًا

على ظهرِ اللّيلِ.

 

تيّارُ الحلمِ المعتمُ

الذي يجري بينَ الأطلالِ

ويُوجدكِ منَ العدَمِ:

شريطًا ساحليّاً ليليّاً رطباً

حيثُ يضربُ البحرُ الأعمى،

وينتشرُ.

 

■ الحياةُ ملموحةً

 

برقٌ أمْ سَمَكٌ

في ليلِ البحرِ

والطيورِ، برقٌ

في ليلِ الغابةِ.

 

العظامُ برقٌ

في ليلِ الجسدِ.

آهٍ، أيّها العالَمُ، كلُّ شيءٍ ليلٌ

والحياةُ برقُ.

 

■ خريف

 

تستيقظُ الرّيحُ،

وتكنسُ الأفكارَ مِن عقلي

ثمّ تعلّقني

في ضَوءٍ لا يبستمُ لأحدٍ:

يا للجمالِ العشوائيّ!

أيها الخريفُ: في يديكَ الباردتينِ

يشتعلُ العالَمُ.

 

■ جسدان

 

جسدانِ وجهًا لوجهٍ

موجتانِ أحيانًا

والليلُ هُوَ المحيطُ.

 

جسدانِ وجهًا لوجهٍ

حجَرانِ أحيانًا

والليلُ هُوَ الصحراءُ.

 

جسدانِ وجهًا لوجهٍ

جِذرانِ أحيانًا

في اللّيلِ يتشابكانِ.

 

جسدانِ وجهًا لوجهٍ

سكّينانِ أحيانًا

واللّيلُ هُوَ البرقُ.

 

جسدانِ وجهًا لوجهٍ

نجمانِ يسقطانِ

في سماءٍ فارغة.

 

■ فجر

 

يدانِ باردتانِ عجولتانِ

تسحبانِ ضماداتِ العتمةِ

واحدةً تلوَ الأخرى

أفتحُ عينيّ ساكنًا

ما زلتُ أحيا في قلبِ

جرحٍ، طريّاً، لا يزالُ

 

■ هنا

 

خطواتي في هذا الشّارعِ

تتردّدُ في شارعٍ آخر

حيث أسمعُ خطواتي

تعبرُ هذا الشارعَ

حيثُ

 

لا شيءَ حقيقيّاً سوى السّديم

 

■ يقين

 

لو أنّ الضوءَ الأبيضَ

المنبعثَ من هذا المصباحِ حقيقيٌ، لو أنّ

اليدَ الكاتبةَ حقيقيّةٌ، هل حقيقيّةٌ

هي العيونُ التي تنظرُ إلى ما أكتبُ؟

 

مِن كلمةٍ إلى أخرى

يتلاشى ما أقولُ.

أعرفُ بأنّني أعيشُ

بينَ قوسينِ صغيرينِ.

 

■ صِنْوان

 

تُفتّشينَ الجبلَ في جسدي

عنِ الشّمسِ المدفونةِ في الغابةِ.

وفي جسدكِ، أبحثُ عن القاربِ

الذي ضَلّ سبيلَهُ في منتصفِ اللّيلِ.

 

■ الجسر

 

بينَ الآنَ والآنَ،

بينَ “أنا” و”أنتِ”،

كلمةُ “جِسرٍ”.

 

تدخلينَهُ،

فتدخلينَ نفسَكِ:

يحتشدُ العالَمُ

وينغلقُ كطَوْقٍ.

 

مِن ضفّةٍ إلى أخرى،

جسدٌ ممدودٌ أبدًا:

قوسُ قزحٍ.

 

سأنامُ تحتَ أقواسهِ.

 

■ داخل

 

أفكارٌ تحذيريّةٌ

تريدُ أن تفلقَ جمجمتي

 

هذي الكتابةُ تتحرّكُ

في شوارعَ من طيورٍ

 

يدي تفكّرُ عاليًا

كلمةٌ تنادي اختَها

 

وعلى الصفحة حيثُ أكتبُ

أرى كائناتٍ تأتي وتروحُ

 

كتابٌ وكرّاسٌ

يفردانِ أجنحتهما ويستريحانِ

 

لقد أُضيئَتِ المصابيحُ والسّاعةُ

كسريرٍ تُفتَحُ وتنغلقُ

 

بجوربَيْنِ حمراوَيْنِ ووجهٍ شاحبٍ

تأتينَ أنتِ واللّيلُ

 

■ فجرٌ أخير

 

ضائعٌ شَعرُكِ في الغابةِ،

وقدماكِ تلمسانِ قدميّ.

نائمةٌ أنتِ أكبرُ من اللّيلِ،

ولكنّ حلُمكِ يَسَعُ هذهِ الغرفةِ.

ما أكثرَنا نحنُ الصغيرينِ!

تعبرُ سيّارةُ أجرةٍ في الخارجِ

محمّلةً أشباحًا.

النهرُ الذي يجري قُربَنا

يجري إلى الخلفِ دائمًا.

 

هل سيكونُ الغدُ يومًا آخر؟

 

■ الآخر

 

صنعَ وجهًا لنفسهِ. عاشَ

خلفَهُ ثُمّ ماتَ ووُلِدَ مِن جديدٍ

عدّةَ مرّاتٍ. لوجههِ الآنَ

تجاعيدُ ذلكَ الوجهِ.

لا وجهَ لتجاعيدهِ.

 

■ قريةٌ

 

الحجارةٌ وقتٌ

ريحٌ

قرونٌ مِنَ الرّيحِ

والأشجارٌ وقتٌ

والنّاسُ أحجارُ

ريحٌ

تدورُ على نفسها وتُدفَنُ

في النهارِ الحجَرِ

 

لا ماءَ ولكنّ عيونَهم تلمعُ

 

■ تهليل

 

سكونٌ

ليسَ على الغصنِ

في الهواءِ

ليسَ في الهواءِ

في اللّحظةِ

طائرٌ طنّانُ

 

■ جارٌ بعيد

 

ليلةَ الأمسِ

كانتْ شجرةُ الدّردارِ

ترغبُ في أن تخبرني

بشيءٍ— فَلَمْ تفعلِ.

 

■ غزليّة

 

أكثرَ شفافيةً

مِن هذا الماءِ السّاقطِ

بينَ أصابعِ الكرمةِ المتشابكة

أفكاري تمدّ جسرًا

مِن نفسكِ إلى نفسكِ

أنظُرِي إلى نفسكِ

أكثرَ واقعيّةً من الجسدِ الذي تسكنينَهُ

راسخةً في صميم عقلي

 

لقد وُلدتّ لتعيشي على جزيرةٍ

 

■ بعينين مغمضتين

 

بعينينِ مغمضتينِ

تُشرقينَ فيكِ

أنتِ حجَرٌ أعمى

 

ليلةً إثرَ ليلةٍ أنحَتُكِ

بعينينِ مغمضتينِ

أنتِ حجرٌ صريحٌ

 

لقد أصبحنا هائلَيْنِ

لا نعرفُ بعضَنا

إلّا بعينينِ مغمضتينِ

 

■ اسمُكِ

 

وُلِدَ مِنّيْ، مِن ظلّيْ،

أيقظَهُ جِلديْ،

يا فجرَ الضّوْءِ السّائرِ في نومهِ.

 

اسمُكِ، أيّتها اليمامةُ البريّةُ،

يرتعشُ على كتفيْ.

 

أكتاڤيو پاس (Octavio Paz) شاعر ومفكّر مكسيكيّ، نال جائزة نوبل في الأدب للعام 1990. من كتبه الشعريّة: قمرٌ غابيّ (1933)، حجر الشمس (1957)، سلمندر (1962)، وشجرة في الداخل (1987).

The post أكتاڤيو پاس… اسمُكِ يرتعشُ على كتفي (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الوصول إلى اليابان (٢/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/19513 Mon, 10 Dec 2018 13:19:46 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b5%d9%88%d9%84-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d9%a2-%d9%a2-%d9%82%d8%b5%d9%91%d8%a9-%d9%84%d8%a3%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d9%85%d9%88%d9%86%d8%b1/ وبعد أن أنهى هذه القطعة، بدأ في أخرى. “لا أحبّهم أنا. سامٌ أنا”. ضحكت غريتا، لكنّ كيتي لم تفعل. شعرت غريتا بشيء من الخزي. لقد استوعبت الكلمات السّخيفة وهي تخرج من كتاب ما، ولكن ليس من فم أيّ شخص بلا كتاب. “معذرة”، قال الولد إلى غريتا. “نحن لم ندخل المدرسة بعد. هذا أدبنا”. مال، ثمّ […]

The post الوصول إلى اليابان (٢/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وبعد أن أنهى هذه القطعة، بدأ في أخرى. “لا أحبّهم أنا. سامٌ أنا”.

ضحكت غريتا، لكنّ كيتي لم تفعل. شعرت غريتا بشيء من الخزي. لقد استوعبت الكلمات السّخيفة وهي تخرج من كتاب ما، ولكن ليس من فم أيّ شخص بلا كتاب.

“معذرة”، قال الولد إلى غريتا. “نحن لم ندخل المدرسة بعد. هذا أدبنا”. مال، ثمّ تحدّث بجدّية ونعومة إلى كيتي.

“هذا كتاب جميل، أليس كذلك”.

“هو يعني إنّه يعمل مع الأطفال الذين لم يذهبوا إلى المدرسة بعد”، قالت الفتاة إلى غريتا. “أحيانًا يختلط أمرنا على النّاس، بالرّغم من ذلك”.

واصل الولد حديثه إلى كيتي.

“قد أستطيع تخمين اسمكِ الآن. ما هو؟ أهو “روفوس”؟ أهو “روفر”؟

قضمت كيتي شفتيها، لكنّها لم تستطتع حينئذ أن تقاوم ردّها العنيف.

“لستُ كلبةً”، قالت.

“كلّا. ما كان ينبغي عليّ أن أكون بمثل هذه الحماقة. أنا ولد واسمي “غريغ”. واسم هذه البنت هو “لوري”.

“لقد كان يغيظك”، قالت لوري. “هل أوسعه ضربًا؟”

فكّرت كيتي بالأمر، ثم قالت: “كلّا”.

“ستتزوّج ألِيس أحدَ الحَرَسْ”، واصل غريغ ترنيمه، “رهيبةٌ حياةُ الجنديِّ، قالتْ أَلِيسْ”.

رنّمت كيتي بنعومة ]كلمة[ “أليس” الثّانية.

أخبرت لوري غريتا بأنّهما كانا يطوفان برياض الأطفال، يؤدّيان المونولوجات. كان هذا يسمّى عمل الاستعداد للقراءة. كانا في الواقع ممثّلين. كانت على وشك أن تنزل عند “جاسبر Jasper”، حيث كانت تعمل نادلة في الصيف، وتؤدّي بعض المقاطع الكوميديّة. ليست الاستعداد للقراءة تمامًا. “تسلية الكبار”، هو الاسم الذي كانت تدعى به.

“يا إلهي”، قالت. ثمّ ضحكت. “خذي ما تستطيعين الحصول عليه”.

كان غريغ سائبًا، توقّف عند “ساسكاتون Saskatoon”. كانت عائلته هناك.

كانا جميلين، قالت غريتا في نفسها. طويلان، رشيقان، نحيفان على نحو غير طبيعيّ أو يكادان، هو ذو شعر أجعد فاحم، وهي ذات شعر أسود أملس كالسيّدة العذراء. وحين ذكرت أوجه الشّبه بينهما، فيما بعد، قالا بأنّهما يستفيدان من ذلك أحيانًا، حين يتعلّق الأمر بترتيبات السّكن. جعل هذا الأمر الأشياء سهلة إلى حدّ بعيد، لكنّ عليهما التذكّر دائمًا بأن يسألا الحصول على سريرين، وأن يحرصا على تركهما غير مرتّبين بين العشيّة وضحاها.

أمّا الآن، يخبرانها، فلا داعي للقلق قطّ. فلا شيء يمكن أن يفضحهما. كانا على وشك الانفصال، بعد ثلاث سنوات من العيش معًا. كانا عفيفين لأشهر، مع بعضها على الأقلّ.

“الآن، لا مزيد من “قصر باكنغهام”، قال غريغ إلى كيتي. “فلا بُدّ أن أقوم بتماريني”.

فكّرت غريتا بأنّ هذا يعني إنّه سيهبط السّلالم أو يمضي في الممرّ لأداء بعض ألعاب الجمباز، إلّا أنه ولوري قد رميا رأسيهما إلى الخلف، يمدّان عنقيهما، آخذان في الشّدْو والنّعيب، وينشدان أغنيات غريبة. كانت كيتي مسرورة، آخذة كلّ هذا بوصفه عرضًا خاصًّا، وفُرجة لمتعتها. تصرّفت كمشاهدة مثاليّة، أيضًا— هادئة على نحو ما حتّى انتهى العرض، ثمّ انفجرت ضاحكة.

كان بعض الذين على وشك صعود السّلالم قد توقّفوا في الأسفل، إنهم أقلّ انجذابًا من كيتي ولا يعرفون ماذا يفعلون بالأشياء.

“معذرة”، قال غريغ، بلا أيّ تفسير سوى إشارةِ وُدّ حميمة. مدّ يدًا إلى كيتي.

“لنرى إن كان ثمّة ملعب هنا”.

لحقتهما لوري وغريتا. كانت غريتا تأمل في ألّا يكون أحد أولئك البالغين الذين يقيمون الصداقات مع الأطفال ليختبروا جاذبيتهم الخاصّة في الغالب، ولكنّهم سرعان ما يسأمون ويغضبون حين يدركون كم هي لا تكلّ عواطف الأطفال ولا تملّ.

بحلول وقت الغداء أو قبله بقليل، أدركت بأن لا حاجة للقلق. لم يكن الذي حدث أنّ اهتمام كيتي بغريغ يثقل كاهليه، بل لأنّ أطفالاً عديدين التحقوا بالمنافسة، لكنّه لم يُبد أيّ إشارة تعب على الإطلاق.

هو لم يُقِم أيّ منافسة. تمكّن من إدارة الأشياء فحوّل الانتباه الذي استجلبه هو إلى وعي الأطفال ببعضهم، ثم إلى ألعاب كانت مرحة أو حتّى جامحة، ولكن ليست عنيفة. لم تكن ثمّة سورات غضب. كما إنّ الدّلال تلاشى. لم يكن ثمّة وقت بكل بساطة— فمزيد من الأشياء المثيرة كانت تدور. كان الأمر معجزة، كيف تمّت إدارة كلّ ذلك التّرويح المشوب بالجموح في مثل ذلك المكان الصغير. وعدتهم الطّاقة المبدّدة بقيلولات في الأصيل.

“إنّه رائع”، قال غريتا إلى لوري.

“إنّه في الغالب هناك فقط”، قالت لوري. “هو لم يدّخر نفسه. تعرفين؟ كثير من الممثّلين يفعلون ذلك. الممثّلون خاصّة. موتى خارج خشبة المسرح.

فكّرت غريتا، هذا ما أفعله. أدّخر نفسي، في غالب الأحيان. شديدة الحرص مع كيتي، شديدة الحرص مع بيتر.

في العِقد الذي قد دخلاه للتوّ، ولكنّها على الأقلّ لم تنتبه إلى ذلك كثيرًا، كانت ثمّة عناية شديدة على وشك أن تبذل على هذا النّوع من الأشياء. “أن تكون هناك” كانت تعني شيئًا لم تقصد أن يكون كذلك. أن تنجرف مع التّيار. أن تمنح. كان بعض الناس خيّرين، فيما البعض الآخر غير ذلك قطّ. كانت ثمّة حواجز بين داخل رأسك وخارجه على وشك أن تسقط. الحقيقة اقتضت ذلك. أشياء كقصائد غريتا، كانت الأشياء التي لم تأت عَفْو الخاطر، موضع ريبة، بل موضع سخرية حتّى. وممّا لا شكّ فيه أنّها واصلت فعل الأشياء بالطريقة التي تعوّدت عليها، متأفّفةً متسائلة، ثابتة الجَنان في السرّ كأظافر تحفر في الثقافة المضادّة. ولكنّ طفلتها، في هذه اللحظة، كانت قد استسلمت إلى غريغ، وإلى كلّ ما يفعله؛ كانت في غاية الامتنان تمامًا.

في الأصيل، كما توقّعت غريتا، ذهب الأطفال إلى النوم. وأمّهاتهم في بعض الأحيان كذلك. لعب آخرون الورق. لوّح غريغ وغريتا إلى لوري، حين نزلت عند جاسبر. أطلقت بعض القُبل من رصيف المحطة. ظهر رجل أكبر في السنّ، أخذ حقيبة سفرها، قبّلها بحنان، ثمّ نظر نحو القطار ولوّح إلى غريغ. فلوّح غريغ إليه.

“إنها في أزمة نفسيّة”، قال.

مزيد من التّلويح آن انطلق القطار. أعاد، هو وغريتا، كيتي إلى المقصورة، حيث خلدت إلى النوم بينهما، نائمة في منتصف مقعد متحرك. فتحا ستارة المقصورة لمزيد من الهواء، الآن حيث لا خطر أن تسقط الطفلة.

“مدهش أن يحظى المرء بطفلة ما”، قال غريغ. كانت تلك عبارة أخرى جديدة في ذلك الوقت، جديدة بالنسبة إلى غريتا على الأقلّ.

“يحدث ذلك”، قالت.

“أنت هادئة جدًّا. ستقولين تاليًا: هذي هي الحياة”.

“لن أقول”، قالت غريتا، ثمّ أطالت التحديق في عينيه حتى هزّ رأسه وضحك.

أخبرها بأنّه قد دخل مجال التمثيل عن طريق ديانته. انتمت عائلته إلى إحدى الطوائف المسيحيّة التي لم تسمع بها غريتا قطّ.  لم تكن الطائفة كثيرة العدد لكنّها بالغة الثراء، أو على الأقلّ كان بعضهم كذلك. شيّدوا كنيسة تضمّ مسرحًا في بلدة على المروج. كان ذلك حيث شرع في التمثيل قبل أن يبلغ العاشرة. كانوا يؤدّون حكايات رمزيّة ذات مغزى أخلاقيّ مستوحاة من الكتاب المقدّس، ومن الزمن الراهن أيضًا، عن الأشياء الرهيبة التي حصلت لأولئك الذين لم يؤمنوا بما فعلوا. كانت عائلته في غاية الفخر، وكان هو، بالطّبع، فخورًا بنفسه جدًّا. لم يحلم بأن يقول لهم كلّ الذي وقع حين جاء المهتدون الجدد لتجديد عهودهم ويحصلوا على المباركة التي تخلّصهم من خطاياهم. كان، على أيّة حال، قد أحبّ الحصول على التأييد، كما أحبّ التمثيل أيضًا.

حتّى خطرت بباله، ذات يوم، فكرة أنّ باستطاعته التمثيل دون أن يمرّ بكلّ أمور الكنيسة تلك. حاول أن يكون مهذّبًا بشأن ذلك، لكنّهم قالوا إنّ الشيطان قد تلبّسه. “هَا- ها”، قال، إنّني أعرف من الذي يتلبّسني.

وداعًا.

“لا أريد أن تعتقدي بأنّ الأمر كان سيّئًا كلّه. فأنا ما زلت أومن بالصلاة وبكلّ شيء. لكنّني لم أستطع إخبار عائلتي بشأن الذي جرى. كان أيّ شيء بين المنزلتين سيقتلهم. ألا تعرفين أُناسًا مثلك ذلك؟”

أخبرته بأنها حين انتقلت مع بيتر إلى فانكوفر، فإنّ جدّتها التي تعيش في أنتاريو، كانت قد تواصلت مع قسّيس إحدى الكنائس هناك.

جاء زائرًا ذات مرّة، لكنّ غريتا كانت في غاية التكبُّر. قال إنّه يستطيع الصلاة من أجلها، لكنّها أخبرته، كما ينبغي لها، بألّا يزعج نفسه. كانت جدّتها تحتضر في ذلك الوقت. شعرت غريتا بالخجل وبالغضب من شعورها بالخجل كلّما فكّرت في الأمر.

لم يفهم بيتر كلّ ذلك. لم تذهب أمّه إلى الكنيسة قطّ، على الرّغم من أنّ أحد الأسباب التي دفعتها لتحمله عبر الجبال كان على ما يبدو كي يصبحوا كاثوليك. قال إنّ للكاثوليك ميزة في أغلب الظنّ، حيث يستطيع المرء أن يحوّط نفسه ضدّ الخطيئة حتّى الرّمق الأخير.

وكانت هذه هي المرّة الأولى التي فكّرت فيها ببيتر منذ فترة.

كانت الحقيقة أنّها هي وغريغ يحتسيان الخمر فيما تواصل كلّ هذا الحديث الملتاع المريح على نحو ما. كان قد أحضر زجاجة أوزو ouzo ]خمر يونانيّة باليانسون[. كانت متحفّظة بعض الشيء، مثلما كانت إزاء أيّ كحول شربتها منذ حفلة الكتّاب، لكنّ تأثيرًا جاذبًا كان هناك. تأثيرًا كافيًا حتّى شرعا في تمسيد يديّ بعضهما منهمكان في التّقبيل والملاطفة.  كان كلّ ذلك قد جرى قرب جسد الطفلة النائمة.   

“من الأفضل أن نتوقّف”، قالت غريتا. “وإلّا صار الأمر باعثًا على الأسى”.

“لسنا نحن”، قال غريغ. “إنهما شخصان آخران”.

“أخبرهما إذن أن يتوقّفا. أتعرف أسماءهما؟”

“انتظري لحظة. ريغ. ريغْ ودوروثي”.

قالت غريتا: “كفّ عن ذلك، ريغْ. ماذا عن الطفلة البريئة؟”

“نستطيع الذهاب إلى مضجعي. هو ليس بعيدًا.

“ليس لديّ أيّ— “

“لديّ أنا”.

“مستحيل؟”

“بالتأكيد كلّا. أيّ نوع من الوحوش تظنّينني؟”

هندما ثيابها، ثمّ انسلّا خارج المقصورة، بعد أن أحكما كلّ زرّ في السرير الذي كانت تنام فيه كيتي، وبلامبالاة جامحة شقّا طريقها، خارجين من عربة غريتا متوجّهين إلى عربته. كان ذلك ضروريًّا أو يكاد—  فلم يقابلا أحدًا. كان الناس الذين لم يكونوا في العربة المقبّبة يلتقطون الصور للجبال الخالدة، متواجدين في العربة-البار، أو تأخذهم سِنة من النوم.

في حجرة غريغ المهملة، واصلا من حيث انتهيا. لم يكن ثمّة متّسع كي يستلقي شخصان كما ينبغي، لكنّهما نجحا في أن يتقلّبا فوق بعضهما. في البدء، كان ضحك مخنوق لا حدّ له، ثمّ هزّات مسرّة عظيمة، بلا أيّ مكان ينظران إليه سوى عينيّ بعضهما الواسعتين. كانا يعضّان بعضهما كي يتوقّفا حين يصدران جلبة عاتية.

“رائع”، قال غريغ. “حسنًا”.

“عليّ أن أرجع”.

“بهذه السّرعة؟”

“لا بُد أن كيتي قد استيقظت، وأنا لست هناك”.

“حسنًا. لا بأس. عليّ أن أستعدّ للنزول بساسكاتوون على أيّة حال. ماذا لو كنّا قد وصلنا إلى هناك ونحن في خضمّ ذلك؟ مرحبًا أُمّي. مرحبًا أبي. أعذراني للحظة، فيما أطلق صيحات الحماسة والدهشة!”

ارتدت ثيابها محتشمة وغادرته. لم تكترث، في حقيقة الأمر، كثيرًا بمن قابلها. كانت ضعيفة، مصعوقة، ولكن مبتهجة، كمجالدة— فكّرت بالأمر ثمّ تبسّمت— بعد جولة في الحلبة.

على أيّة حال، هي لم تصادف نفْسًا قطّ.

كان مشبك الستارة السفليّ محلولًا. كانت متأكدة من أنها قد أحكمت إغلاقه حسب ما تذكر. وعلى الرّغم من أنّه مفتوح فإنّ من الصعب على كيتي أن تخرج، أو تحاول ذلك بتاتًا. كانت غريتا، حين خرجت لبرهة إلى التّواليت ذات مرّة، قد فسّرت لكيتي مليًّا بألّا تحاول اللحاق بها، فقالت كيتي “لن أفعل”، كما لو أنّها تحاول القول إنها تعاملها كطفلة صغيرة.

أمسكت غريتا بالستائر كي تفتحها دفعة واحدة، وحين فعلت ذلك لم ترَ كيتي هناك.

جُنّ جنونها. نترت الوسادة، كما لو كانت طفلة بحجم كيتي قد غطّت نفسها بها. خبطت بيديها على الملاءة كما لو كانت كيتي مختبأة تحتها. سيطرت على نفسها ثمّ حاولت أن تفكّر أين توقّف القطار، أو إن كان قد توقّف أصلًا، خلال الوقت الذي كانت فيه مع غريغ. هل حين توقّف، إن كان قد توقّف أصلًا، صعد أحدهم إلى القطار واختطف كيتي؟

وقفت في الممرّ، محاولة التفكير بما يتوجّب عليها فعله لإيقاف القطار.

ثمّ فكّرت، مرغمة نفسها على ذلك، بأنْ لا شيء مثل ذلك يمكن أن يحدث. لا تكوني سخيفة. لا بُدّ أنّ كيتي قد استيقظت ولم تجدها هناك، فذهبت تبحث عنها. وحيدة، ذهبت تبحث.

هناك، لا بُد أن تكون في الجوار هناك. كانت الأبواب في طرفيّ العربة ثقيلة ولا تقدر على فتحها.

لم تكد غريتا أن تتحرّك. كان جسدها كلّه بلا جدوى، وعقلها فارغًا. لم يكن هذا ليحدث قطّ. ارجعي، ارجعي، إلى حيث ذهبت مع غريغ. توقّفي هناك. توقّفي.

كان ثمّة مقعد شاغر عبر الممرّ في الوقت الرّاهن. تُركت فوقه سُترة امرأة وإحدى المجلّات تذرُّعًا. وبعيدًا أطول، كان ثمّة مقعدٌ حُلّت مشابك ستائره، مثلما كانت ستائر مقعدها— مقعديهما. فرّقتهما بقبضة واحدة. تقلّب الرجل العجوز الذي كان ينام هناك على ظهره ولكنّه لم يستيقظ البتّة. من المستحيل أن يكون يخبّأ شخصًا ما هناك.

يا للغباء.

استبدّ بها حينئذ خوف جديد. مفترضة أن كيتي قد شقّت طريقها إلى نهاية إحدى العربات، ثمّ تمكّنت فعليًّا من فتح الباب. أو تبعت أحد الأشخاص الذين فتحوه أمامها. كان ثمّة ممشى بين العربات حيث يعبر المرء ماشيًا في المكان حيث تلتحم العربات. هناك، تستطيع الشعور بحركة القطار على نحو فجائيّ مفزع. باب ثقيل خلفك، وآخر أمامك، وفي طرفيّ الممشى صفائح معدنيّة ترنّ. كانت هذه الصفائح تغطّي الدرجات التي يتمّ إنزالها حين يتوقّف القطار.

دائمًا ما يهرع المرء عبر هذي الممرّات، حيث يذكّرك الدويّ والتّمايل كيف وُضعت الأشياء معًا بطريقة بدت غير محتومة في نهاية المطاف. يكاد الدويّ والتمايل أن يكونا عرضيّين، على الرّغم من السرعة الكبيرة التي تمشي بها.

كان الباب في النهاية ثقيلًا بالنسبة إلى غريتا. أم إنّ خوفها قد أنهكها. دفعت بكتفيها كثيرًا.

وهناك، بين العربات، على واحدة من تلك الصفائح المعدنيّة التي تصدر ضجيجًا متواصلًا— جلست كيتي. العينان مفتوحتان على قدر اتّساعهما، والفم مفغور قليلًا، ذاهلة ووحيدة. لا تبكي البتّة، ولكنّها حين رأت أمّها أجهشت في البكاء.

أمسكتها غريتا، رفعتها إلى وركها، ثمّ زلّت بها الخطى تجاه الباب الذي كانت قد فتحته للتوّ.

كانت لكلّ العربات أسماء، تخليدًا لذكرى المعارك أو الاستكشافات أو الكنديّين المرموقين. كان اسم عربتهم “كُنُت Connaught”.  هي لن تنسى ذلك البتّة.

لم تصب كيتي بأيّ أذى بالرّغم من كلّ شيء. لم تتأذى ثيابها كما قد ينبغي على الحوافّ الحادّة المتحوّلة للصفائح المعدنيّة.

“ذهبت أبحث عنك”، قالت.

“متى؟” منذ برهة مضت، أم بعد أن تركتها غريتا على الفور؟

كلّا بالطّبع. كان لا بُدّ لأحد ما أن يجدها هناك، وأن يلتقطها، ويقرع جرس الإنذار.

كان اليوم مشمسًا، ولكنّه ليس حارًّا بالفعل. كان وجهها باردًا ويداها باردتين على نحو ما.

“ظننتك على الدّرج”، قالت.

غطّتها غريتا بالملاءة التي في مهجعهما، فأخذت هي نفسها حينئذ بالارتعاش، كما لو أنّها مصابة بالحمّى. شعرت بالمرض، وذاقت طعم القيء في حلقها. قالت كيتي: “لا تضغطي عليّ”، ثمّ تلوّت بعيدًا.

“تفوح منك رائحة كريهة”، قالت.

أخذت غريتا ذراعيها بعيدًا، ثمّ استلقت على ظهرها.

كان ذلك مريعًا جدًّا، أفكارها حول ما قد جرى مريعة جدًّا. كانت الطفلة لا تزال تحتجّ بقسوة، مبعدة نفسها عنها.

لا بُدّ أنّ شخصًا ما قد وجد كيتي. شخصًا كريمًا، لا شخصًا شرّيرًا، وجدها هناك فحملها إلى حيث كانت آمنة. كانت غريتا ستسمع الإعلان المفزع، الأخبارَ التي تعلن أنّ طفلة قد وجدت وحيدة على متن القطار. طفلة تقول إنّ اسمها هو كيتي. وكانت ستهرع من حيث كانت في تلك اللحظة، مرتدية ثيابها باحتشام على قدر استطاعتها، مسرعة كي تطالب بطفلتها، ثمّ تكذب قائلة إنّها كانت قد ذهبت إلى الحمّام.

لا بُدّ أنها كانت خائفة، لكنها كانت قد ادّخرت الصورة التي عرفتها الآن، عن كيتي جالسة في المكان الصاخب، عاجزة بين العربات. لا تبكي، ولا تتذمّر، كما لو كانت ستجلس هناك إلى الأبد، ولا تفسير يُقدّم إليها، لا أمل. كانت عيناها بلا تعبير على نحو غريب، وفمها مفغورًا يتدلّى، في اللحظة قبل أن تصفعها حقيقة إنقاذها، فتقدر على الإجهاش في البكاء. ليس إلّا آنئذ تستطيع أن تستردّ عالمها، حقّها في المعاناة والشّكوى.

الآن قالت إنّها لم تكن نعسانة، أرادت أن تنهض. سألت أين كان غريغ. قالت غريتا إنّه كان يَقيل، كان متعبًا.

ذهبت هي وغريتا إلى العربة المُقبّبة، لقضاء ما تبقّى من العصر. قضياه في أغلب الأحيان لوحدهما. لا بُدّ أن الناس الذين يلتقطون الصور قد أرهقوا أنفسهم على جبل روكي، ومثلما علّق غريغ قائلًا، تركتهم المروج منبطحين.

توقّف القطار لوقت قصير بساسكاتوون، فنزل بعض الناس. كان غريغ بينهم. رأته غريتا وقد حيّاه شخصان لا بُدّ أنهما والداه. كما حيّته امرأة في كرسيّ متحرّك، لعلّها جدّته، ثمّ حيّاه أناس عديدون أصغر عمرًا كانوا يتسكّعون في الجوار، مبتهجين، خجولين. لم يبدُ أيّ منهم كأنّه ينتمي لإحدى الطوائف، أو يشبه أناسًا كانوا متزمّتين، غير مرحين، بأيّ شكل من الأشكال.

ولكن، كيف تستطيعين تعيين ذلك في المرء، من دون شكّ؟

استدار غريغ عنهم وراح يعاين بناظريه نوافذ القطار. لوّحتْ من العربة المقبّبة، لمحها غريغ فلوّح لها.

“ها هو غريغ”، قالت كيتي. “انظري هناك، إنّه يلوّح. هل لك أن تلوّحي له؟”

ولكنّ كيتي وجدت البحث عنه بعينيها أمرًا في غاية الصعوبة. أو هي لم تحاول ذلك على الأقلّ. استدارت بعيدًا مستاءة على نحو ما، ثمّ، وبعد تلويحة مثيرة للضّحك، استدار غريغ. تساءلت غريتا إن كانت الطفلة تعاقبه على هجرانه، رافضة أن تفتقده أو حتّى أن تقرّ بوجوده.

حسنًا، إن كانت الأشياء ستسير على هذا النّحو، انسِ الأمر.

“لقد لوّح غريغ إليك”، قالت غريتا، آنَ اندفع القطار بعيدًا.

“أعرف”.

***

وفيما نامت كيتي بالقرب منها على السرير في تلك اللّيلة، كتبت غريتا رسالة إلى بيتر. رسالة طويلة شاءت أن تكون ظريفة ومسليّة، عن كلّ أنماط البشر المختلفين الذين يمكن أن يتواجدوا على متن القطار. عن تفضيل كثير منهم النّظر عبر كاميراتهم، بدلًا من النظر إلى الشّيء الحقيقيّ بعينه، وهكذا دواليك. عن تصرّف كيتي المقبول عمومًا. ولا شيء عن الخسارة، بالطّبع، أو الخوف. أرسلت الرسالة بالبريد حين كانت المروج بعيدة خلفها وأشجار التنّوب السوداء تمتدّ إلى الأبد، حين توجّب عليهم التوقّف، لسبب ما، في بلدة “هورن باين Hornepayne”، الصغيرة الضائعة.

كان وقت صحوها طيلة مئات الأميال هذه قد كرّسته إلى كيتي. أدركت بأنّ هذا التكريس الذي أولته من جانبها لم يظهر قبل ذلك قطّ. كان حقيقيًّا أنها قد اهتمّت بالطفلة، ألبستها، أطعمتها، تحدّثت إليها، خلال تلك الساعات التي كانتا فيها معًا وبيتر في العمل. لكنّ غريتا كان لديها حينئذ أشياء أخرى في البيت ينبغي فعلها، فكان انتباهها متشنّجًا، وكانت رقّتها تكتيكيّة في أحيان كثيرة.

لم يكن ذلك عائد إلى العمل المنزليّ فقط. أفكار أخرى طردت الطّفلة من بالها. حتّى قبل انشغالها العبثيّ والمُضنِي والسّخيف بذلك الرجل في تورونتو، كان ثمّة عمل آخر، عمل الشّعر الذي بدا كأنّها كانت تديره في رأسها معظم حياتها. والذي يضرب في أعماقها الآن بوصفه عملًا غادرًا آخر— تجاه كيتي، وبيتر، وحياتها. والآن، وبسبب الصورة التي في رأسها عن كيتي وحيدة، كيتي وهي تجلس هناك وسط الصفائح المعدنيّة بين العربات— أنّ شيئًا آخر، كانت هي، أمّ كيتي، على وشك أن تتخلّى عنه.

خطيئة. لقد كانت مشغولة البال بمكان آخر. عاقدة العزم، يجتاح فكرها شيء آخر غير الطفلة. خطيئة.

***

وصلتا إلى تورونتو في منتصف الصباح. كان النهار معتمًا. كان رعد صيف وبرقٌ. لم تشاهد كيتي قطّ مثل تلك الفوضى على الساحل الغربيّ، لكنّ غريتا أخبرتها بأنْ لا شيء مخيفًا، فبدت كأنّها لم تخف. ولا حتّى من العتمة العظيمة المضاءة بالكهرباء التي قابلتهما في النفق حيث توقّف القطار.

قالت: “تصبحين على خير” .

قالت غريتا: “كلّا، كلّا، ينبغي عليهما المسير حتّى نهاية النفق، الآن بعد أن نزلتا من القطار. ثمّ يتوجّب عليهما صعود بعض الدّرجات، أو ربّما سيكون هنالك سلّم كهربائي متحرّك، ثم تحطّان في بناية كبيرة، ثم إلى الخارج، حيث تستطيعان الحصول على سيّارة أجرة. كانت سيّارة الأجرة حافلة ما، كان ذلك هو كلّ شيء، ثمّ ستقلّهما إلى بيتهما. إلى بيتهما الجديد، حيث ستعيشان لبعض الوقت. ستعيشان هناك لبعض الوقت ثمّ تعودان إلى “بابا Daddy”.

قطعتا طريقًا منحدرة، فكان ثمّة سلّم كهربائي متحرك. توقّفت كيتي، فحذت غريتا حذوها، حتّى وصل الناس إليهما. رفعت غريتا كيتي وأجلستها على وركها، ثم تمكّنت من حمل حقيبة السفر بالذراع الأخرى، منحنية الظهر ترتطم بها على السلالم المتحركة. وعندما وصلا إلى الأعلى، وضعت الطفلة على الأرض، فكانتا قادرتين على المشي ثانيةً بيدين متشابكتين، في الضوء البرّاق القصيّ المنبعث من “يونيون ستيشن Union Station” ]محطّة الاتّحاد[.

هناك، أخذ الناس الذين كانوا يمشون أمامهم بالتفرّق، ليلتحقوا بأولئك الذين كانوا في انتظارهم، والذين نادوا على أسمائهم، أو كي يلتقطوا بكل بساطة حقائب سفرهم.

الآن ثمّة من أمسك بحقيبتيهما. أمسك بها، أمسك بكيتي، ثمّ قبّلها لأوّل مرّة، بطريقة احتفاليّة، مقصودة.

هاريس.

اعترت غريتا هزّة في البدء، ثم وقع في أحشائها شيء ما، سكون عظيم.

كانت، في تلك اللحظة، تحاول التشبّث بكيتي، لكنّ الطفلة اندفعت بعيدًا مخلّصة يدها.

لم تحاول الهرب. وقفت هناك منتظرة الذي سوف يحدث تاليًا، ليس إلّا.

 

أليس مونرو  قاصة كنديّة، فازت بجائزة نوبل في الأدب للعام 2013.
(هذه القصة مأخوذة من كتابها، “عزيزتي الحياة “Dear Life، منشورات  Knopf، في نيويورك، سنة 2012).

The post الوصول إلى اليابان (٢/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الوصول إلى اليابان (١/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) https://rommanmag.com/archives/19512 Mon, 10 Dec 2018 13:15:10 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b5%d9%88%d9%84-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d9%a1-%d9%a2-%d9%82%d8%b5%d9%91%d8%a9-%d9%84%d8%a3%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d9%85%d9%88%d9%86%d8%b1/ وما إن أحضر پيتر حقيبة سفرها على متن القطار، حتّى بدا متلهفًا كي يبعد نفسه عن الطريق. ولكن دون أن يغادر. فسّر لها بأنه كان قلقًا بشأن القطار الذي سوف يبدأ في المسير. خارجًا، على رصيف المحطة، ناظرًا صوب نافذتهما، وقف ملوّحًا. مبتسمًا، وملوّحًا. كانت ابتسامته لكيتي منشورة على آخرها، مشمسة، وبلا أيّ ريبة البتّة، […]

The post الوصول إلى اليابان (١/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
وما إن أحضر پيتر حقيبة سفرها على متن القطار، حتّى بدا متلهفًا كي يبعد نفسه عن الطريق. ولكن دون أن يغادر. فسّر لها بأنه كان قلقًا بشأن القطار الذي سوف يبدأ في المسير. خارجًا، على رصيف المحطة، ناظرًا صوب نافذتهما، وقف ملوّحًا. مبتسمًا، وملوّحًا. كانت ابتسامته لكيتي منشورة على آخرها، مشمسة، وبلا أيّ ريبة البتّة، كما لو آمن بأنها ستبقى معجزته، وبأنه سيظلّ معجزتها، إلى الأبد. بدت ابتسامته لزوجته مفعمة بالأمل، مطمئنّة، وتشي بشيء من العزْم. شيء لا يمكن قوله بسهولة، ولا يمكن أن يكون كذلك حقًا. لو كانت غريتا هي التي ذكرت شيئًا من هذا القبيل، لقال لها: “لا تكوني سخيفة”. كانت ستوافقه، مفترضة بأنّ الأمر غير طبيعيّ، بالنسبة إلى أولئك الذين يشاهدون بعضهم يوميّاً، وبانتظام، أن يمضوا في تفاسير من أيّ نوع.

وحين كان بيتر طفلًا، حملته أمّه عبر أحد الجبال الذي دائمًا ما تنسى غريتا اسمه، كي تخرج من تشيكوسلوفاكيا السوفييتيّة إلى أوروبا الغربيّة. كان ثمّة أناس آخرون طبعًا. عقد والد بيتر العزم على أن يكون معهما، ولكنّه أرسل إلى إحدى المصحّات قبل موعد الرحيل السريّ. كان يتوجب عليه اللحاق بهما عندما يستطيع، ولكنه، عوضًا عن ذلك، مات.

“قرأت حكايات، كهذه”، قالت غريتا، حين أخبرها بيتر بذلك أوّل مرة. فسّرت كيف، في الحكايات، يأخذ الطفل بالبكاء، وكيف يكتمون صوته، أو يخنقونه، حتى لا يعرّض النّعير المجموعة اللّاشرعية كلّها للخطر.

قال بيتر إنّه لم يسمع بحكاية، كهذه، البتّة، ولن يقول ما الذي توجّب على أمّه فعله في مثل تلك الظروف.

ما فعلته هو الوصول إلى “بريتش كولومبيا”، حيث جوّدت لغتها الإنكليزية، ثم حصلت على وظيفة لتعليم ما كان يعرف في ذلك الوقت بممارسة الأعمال التجارية إلى تلاميذ المدرسة الثانوية. لقد ربّت بيتر لوحدها، وأرسلته إلى الجامعة، وهو الآن يعمل مهندسًا. وحين وصلت إلى شقتهما، ثمّ لاحقًا إلى بيتهما، كانت دائمًا ما تجلس في الغرفة الأمامية، ولا تدخل المطبخ البتّة حتى تدعوها غريتا. كان ذلك ديدنها. اتّسمت بعدم الاكتراث إلى أبعد الحدود. لا تكترث، لا تتطفّل، ولا تقترح، على الرّغم من أنها، وفي كلّ مهارة، أو أحد فنون التدبير المنزليّ، كانت تتفوّق على كِنّتها درجات ودرجات.

حتّى إنها قد تخلّصت من الشقّة التي ترعرع فيها بيتر وانتقلت إلى شقّة أصغر بلا غرفة نوم، مساحة تتسع لأريكة منطوية فقط. “حتى لا يستطيع بيتر العودة إلى أمّه؟”، مازحتها غريتا، لكنها بدت مشدوهة. آلمتها الدعابات. لعلّ المسألة كانت تتعلق بإشكالية في اللغة. لكن الإنكليزية كانت لغتها الطبيعية الآن، واللغة الوحيدة التي عرفها بيتر في واقع الأمر. لقد تعلّم ممارسة الأعمال التجارية (ليس من والدته) حين كانت غريتا تدرس “الفردوس المفقود”. تجنّبت كالطاعون أيّ شيء مفيد. بدا كأنه يفعل الضدّ.

بالزجاج بينهما، وكيتي لا تدع التّلويح يهدأ، انهمكا في نظرات رضا هزلية أو مجنونة. خطر ببالها كم كان وسيمًا، وكم كان جاهلاً جدّاً بذلك. كان شعره مقوصًا كما يفعل البحّارة، وفقًا لأسلوب الموضة الرائج في ذلك الوقت— خاصّة لو كان المرء أيّ شيء شبيه بمهندس— كما لم تتورّد بشرته الفاتحة قطّ مثلها، ولم تتبقّع من الشمس، بل هي، وفي كلّ الفصول، ضاربة إلى السمرة على حدّ سواء.

كانت آراؤه شبيهة بإهابه. حين ذهبا لمشاهدة فيلم ما، لم يرغب في الحديث حوله فيما بعد. كان يقول إنه جيّد، أو لا بأس فيه، أو حسَن. لم  يدرك مسألة الذهاب أبعد. كان يشاهد التلفاز، ويقرأ الكتب بذات الطريقة على نحو ما. كان يمتلك صبرًا حيال هذه الأشياء. ربما كان الناس الذين جمعوهما معًا قد فعلوا أفضل ما يستطيعون. اعتادت غريتا على المجادلة، تسأل طائشة إن كان سيقول الشيء ذاته حول جسر ما. الذين فعلوا ذلك، فعلوا كلّ ما في وسعهم، لكنّه لم يكن جيّدًا بما يكفي، فانهار كل شيء.

عوضًا عن جدالها، راح يبتسم.

لم يكن الشيء ذاته، قال.

كلّا؟

كلّا.

لا بُدّ أن غريتا قد أدركت بأنّ هاته الوضعيّة— اليدان مفتوحتان، مسامحتان— كانت نعمة بالنسبة إليها، لأنها كانت شاعرة poet، وكانت ثمة أشياء في قصائدها غير مرحة قطّ أو ليس من السهل تأويلها.

(ما زالت والدة بتير والناس الذين عمل معهم— أولئك الذين عرفوا عن ذلك— يلفظونها “شاعرة poetess”.  لقد درّبته على ألّا يقول ذلك. بخلاف ذلك، لا تدريب ضروريًّا. الأقارب الذين تركتهم خلفها في حياتها، والناس الذين عرفتهم الآن في دورها كربّة بيت وأمّ، لا يتوجّب تدريبهم لأنهم لم يعرفوا شيئًا حول هذه الميزة الخاصة).

سيصبح الأمر عصيّاً على التفسير، لاحقًا في حياتها، حول ما كان مقبولًا في ذلك الوقت وما لم يكن. قد تقول، حسنًا، لم تكن النّسوية أمرًا مقبولًا. ولكن، حينئذ، يتوجّب عليك تفسير بأنّ النسويّة لم تكن مجرّد كلمة استخدمها الناس. ثمّ تجد نفسك قائلًا، وأنت مشغول البال، إنّ امتلاك أيّة فكرة جدّية، ناهيك عن الطموح، أو ربّما قراءة كتاب حقيقيّ، يمكن أن يُعدّ شُبهةً، وله علاقة بإصابة طفلك بالتهاب رئويّ، وإنّ أيّ تعليق سياسيّ في حفلة عمل قد يكلّف زوجك ترقيته. لم يكن مهمّاً تجاه أيّ حزب سياسيّ قد أطلقت تعليقها. كان تَباهي امرأة بنفسها، وقد رفعت صوتها عاليًا، هو ما فعل ذلك كلّه.

سيضحك الناس، قائلين: “لا بُدّ أنك تمزحين”، ثمّ تقولين، حسنًا، ولكن ليس إلى ذلك الحدّ. ثم تقول، على الرغم من ذلك، بأنّك إن كنت تكتب الشعر فإنّه من الأسلم على نحو ما أن تكون امرأة أكثر من كونك رجلًا. كان ذلك حين حلّت كلمة “شاعرة poetess” في متناول اليد، كنسيج من سكّر معقود. لم يكن بيتر ليشعر على ذلك النحو، قالت، لكنها تذكر بأنه قد ولد في أوروبّا. سيدرك، على الرغم من ذلك، كيف من المفترض أن يشعر الرجال الذين عمل معهم حيال هذه الأشياء.

في ذلك الصيف، كان بيتر ذاهبًا لقضاء شهر، أو ربّما أكثر، مكلّفًا بوظيفة في لَنْد Lund، بعيدًا في الأقاصي، بقدر ما يستطيع المرء الذهاب شمالًا، على اليابسة. لم يكن ثمّة سكن ملائم لكيتي وغريتا.

لكنّ غريتا قد ظلّت على تواصل مع فتاة كانت تعمل معها في مكتبة فانكوفر، والتي هي متزوجة الان وتعيش في تورونتو. كانت هي وزوجها على أهبة الذهاب لقضاء شهر في أوروبّا في ذلك الصيف— كان زوجها يعمل مدرّسًا— فكتبت إلى غريتا متسائلة إن كان يمكن لها ولعائلتها أن يجزوا لهما معروفًا— كانت في غاية الأدب—  بالإقامة في بيتهما في تورونتو شطرًا من ذلك الوقت، فهي لا ترغب في ترك البيت خاليًا. فردّت عليها غريتا مخبرة إيّاها بشأن وظيفة بيتر، ولكنها تقبل العرض بالنسبة إليها وإلى كيتي.

لهذا كانوا يلوّحون ويلوّحون من رصيف المحطّة ومن القطار.

كانت ثمّة مجلة، آنئذ، تدعى “The Echo Answers”، (أجوبة الصّدى)، تصدر بانتظام في تورونتو. وجدتها غريتا في إحدى المكتبات، فأرسلت إليهم بعض القصائد. نشرت قصيدتين اثنتين، وكانت النتيجة أنّ محرر المجلة حين زار فانكوفر، في الخريف الفائت، أن دعيت إلى حلفة، رفقة كتاب آخرين، لمقابلته. كانت الحفلة في منزل كاتب بدا اسمه مألوفاً بالنّسبة إليها طيلة حياتها. أقيمت الحفلة في أواخر العصر، حين كان بيتر لا يزال في العمل، فاستأجرت جليسة أطفال، ثم استقلّت حافلة شمال فانكوفر عبر جسر “ليونز غييت”، ]بوّابة الأسود[، ثمّ عبر متنزّه ستانلي. ثمّ توجّب عليها الانتظار أمام خليج هدسن لتستقلّ حافلة في رحلة طويلة إلى الحرم الجامعيّ، حيث كان الكاتب يقيم. نزلت من الحافلة في آخر منعطف لها، فوجدت الشارع ثمّ مشت على طوله تُجيل الطّرْف باحثة عن رقم البيت. كانت ترتدي نعلين بكعبين عاليين، ممّا أبطأ خطوها إلى حدّ بعيد. كما ارتدت أكثر فساتينها السوداء أناقة، والذي كان مُزرّرًا بسحّاب عند الظهر، يزنّر الخصر، ومشدودًا بإحكام بالغ عند الوركين. خطر ببالها أنّ الثوب يجعلها تبدو سخيفة، آن زلّت بها الخطى قليلًا، عبر الشوارع المنحنية التي بلا أرصفة، وهي الشخص الوحيد الذي يمشي في الأصيل المتلاشي. بيوت حديثة، نوافذ كبيرة بألواح زجاجيّة أحاديّة، كما في أيّ ضاحية واعدة، ليست قطّ نوع الأحياء السكنيّة الذي توقّعته. بدأت تتساءل إن حصلت على اسم الشارع الخطأ، ولكنها لم تكن غير سعيدة بالتفكير في ذلك. تستطيع أن تعود إلى موقف الحافلات حيث ثمّة مقعد هناك. وتستطيع أن تخلع نعليها وتشرع في رحلة طويلة متوحدّة إلى البيت.

ولكنّها حين شاهدت السيّارات مركونة، رأت الرقم، وكان الوقت قد تأخّر على الرجوع. تسرّب الضجيج إلى الخارج حول الباب الموصد، فتوجّب عليها أن تقرع الجرس مرّتين.

رحّبت بها امرأة بدت كأنها تتوقّع شخصًا آخر. “الترحيب” كان الكلمة الخطأ— فتحت المرأة الباب، فقالت غريتا بأنّ هذا المكان لا بُدّ أنه الذي يقيمون فيه الحفلة.

“كيف يبدو؟”، قالت المرأة، ثمّ انحنت على إطار الباب. كانت الطريق مسدودة حتى قالت غريتا: “هل لي أن أدخل؟”. حينئذ وقعت حركة بدت كأنها تسبّب ألمًا بالغًا. لم تطلب من غريتا أن تتبعها، ولكنّ غريتا فعلت ذلك على أيّة حال.

لم يكلّمها أحد، ولم يلحظ وجودها أحد قطّ، لكنّ مراهقة قد اندفعت بعد وقت قصير حاملة صينيّة عليها كؤوس فيما بدا كأنه ليموناضة ورديّة اللون. تناولت غريتا واحدة، وتجرّعتها دفعة واحدة من العطش، ثم تناولت أخرى. شكرت غريتا الفتاة، ثم حاولت بدء حديث حول المسير الطويل الحارّ، لكنّ الفتاة لم تكن مهتمّة فاستادرت مبتعدة، تواصل عملها.

تحرّكت غريتا. ظلّت تبتسم. لم يرمقها أحد بنظرة تمييز أو فرح، ولمَ يفعلون ذلك؟ كانت عيون الناس تنزلق حولها، ثم يواصلون حديثهم. كانوا يضحكون. كان للجميع، إلّا غريتا، أصدقاء يطلقون النّكات والأسرار التي لا ضير من قولها. بدا كأن كلّ واحد قد وجد شخصًا ما يرحّب به، إلّا المراهقات اللواتي واصلن تقديم الشراب الورديّ عابسات دون كلل أو ملل.

ولكنّها، بالرّغم من ذلك، لم تيأس. كان الشراب يساعدها، فقرّرت تناول كأس أخرى آن تمرّ بها الصينيّة. نظرت باحثة عن مجموعة تتجاذب أطراف الحديث، علّها تعثر على فرجة ما تستطيع أن تحشر نفسها فيها. بدا كأنّها قد وجدت واحدة حين سمعت ذِكر أسماء بعض الأفلام. أفلام أوروبيّة، كالتي بدأت تعرض بفانكوفر في ذلك الوقت. سمعت اسم الفيلم الذي ذهبت هي وبيتر لمشاهدته. الضّربات الأربعمئة. “آه، لقد شاهدت ذلك الفيلم”. قالت ذلك عاليًا على نحو حماسيّ، فنظروا إليها جميعهم، ثمّ قال أحدهم، والذي من الواضح أنّه الشخص المتكلّم: “حقًّا؟”.

كانت غريتا سكرانة، بالطّبع. كأس من جِنّ Pimm ممزوجة بعصير ورديّ من الغريب فروت، أُنزلت على الفور.  لم تأخذ هذا التّجاهل البارد على محمل الجدّ مثلما قد تفعل في الأوضاع الطبيعيّة. راحت تجول، مدركة بأنها قد ضلّت طريقها على نحو ما، لكنها تشعر بأنّ أجواء طائشة من حريّة التّعبير تسود الغرفة، فلم تكترث بعدم كسب الأصدقاء. كانت لا تقدر إلّا على الطواف بأنحاء المكان، مطلقة أحكامها الخاصّة.

كانت ثمّة عصبة من أناس مهمّين في الممرّ المقنطر. رأت بينهم المضيف، الكاتب الذي عرفت اسمه ووجهه لفترة طويلة من الزمن. كان حديثه عاليًا ومتوتّرًا، فبدا كأنّ خطرًا يحيق به، وببضعة رجال آخرين، كما لو أنّهم عمّا قليل سيوجّهون إليك إهانة ما آن ينظروا نحوك. حدّثت نفسها بحقيقة أنّ زوجاتهم هُنّ اللواتي قد صنعن الحلقة التي حاولت اختراقها.

لم تكن المرأة التي فتحت الباب متواجدة في أيّ المجموعتين، فقد كانت هي نفسها كاتبة ما. رأتها غريتا تستدير حين سمعت من ينادي اسمها. كان الاسم لمساهمة في المجلّة التي نشرت فيها القصيدتين. على هذا الأساس، أليس ممكنًا أن تذهب وتقدّم نفسها؟ نِدّ، رغم المشاعر الباردة عند الباب؟

ولكنّ المرأة كانت قد أرخت رأسها على كتف الرجل الذي نادى اسمها، ولا يرحّبان بأيّ مقاطعة.

أدّى هذا التأمّل بغريتا إلى أن تجلس، وحيث لم يكن ثمّة مقاعد، جلست على الأرض. خطر ببالها فكرة ما. فكّرت بأنّها حين ذهبت رفقة بيتر إلى حفلة المهندسين، كان الجوّ بهيجًا بالرّغم من كون الحديث ممّلًا. كان ذلك لأنّ الجميع كانوا قد كرّسوا أهميّتهم ووطّدوها، في الوقت الرّاهن على الأقلّ. هنا، لم يكن أحد آمنًا. فالأحكام تطلق من خلف الظّهور، حتّى ضدّ الكتاب المعروفين، والذين نُشرت أعمالهم. كان جوّ من الدّهاء أو الأعصاب يعمّ المكان، بصرف النظر عمّن تكون.

وها هي الآن يائسة أن يفتح معها أحد أيّ حديث على الإطلاق.

وحين بلغت نظريتها في عدم الرضا مبلغها، شعرت بالرّاحة، فلم تكترث كثيرًا إن كان سيكلّمها أحد أم لا. خلعت نعليها، فكانت الرّاحة هائلة. جلست، ظهرها إلى الحائط ومنشبة ساقيها في أحد المماشي الصغيرة. لم تُرد المجازفة بدلق شرابها على السجادة، فتناولته على عجَل.

وقف رجل فوقها، ثم قال: “كيف وصلت إلى هنا؟”

أشفقت على قدميه الغليظتين العريضتين. أشفقت على كلّ شخص يتوجّب عليه أن ينهض.

قالت إنّها قد دُعيت.

“نعم. ولكن، هل جئت في سيّارة ما؟”

“لقد مشيت”. لم يكن ذلك كافيًا، وفي غضون برهة تمكّنت من سرد البقيّة.

جئت في حافلة عموميّة، ثمّ مشيت.

كان أحد الرجال الذين كانوا في الحلقة الخاصّة قد وقف الآن خلف الرجل ذي النّعلين العريضين. قال: “فكرة رائعة”. بدا مستعدّاً بالفعل كي يتحدث إليها.

لم يكترث الرجل الأوّل بهذا الشخص كثيرًا. التقط نعليّ غريتا، لكنها رفضت تناولهما، موضّحة بأنهما يؤذيانها كثيرًا.

“احمليهما. أو أفعل أنا. هل لك أن تنهضي؟”

بحثت عن الرجل الأكثر أهميّة ليساعدها، لكنّه لم يكن هناك. الآن تذكّرت ما كان قد كتبه. مسرحيّة عن “مجالدي الرّوح القُدُس” حقّقت حضورًا كبيرًا لأنّ “المجالدين” كان يتوجّب عليهم أن يتعرّوا. لم يكونوا “مجالدين” حقيقيّين الطّبع، كانوا ممثّلين. ولم يسمح لهم بالتعرّي قطّ.

حاولت تفسير هذا إلى الرجل الذي ساعدها على النهوض، لكنّه كان غير مهتمّ على نحو واضح. سألت عمّا كتبه. قال إنّه ليس ذلك النوع من الكتّاب، إنّه صحفيّ. يقوم بزيارة إلى هذا البيت رفقة ابنه وابنته، وأحفاد المضيفين. لقد كان الأطفال هم الذين يوزّعون الكؤوس.

“فتّاكة”، قال، مشيرًا إلى كؤوس الشراب. “مجرمة”.

كانا قد خرجا الآن. مشت بقدميها المجوربين عبر العشب، متفادية بُريكة بجهد كبير.

“لا بُدّ أن شخصًا قد أفرغ ما في جوفه هناك”، قالت لمرافقها.

“بالطّبع”، قال لها، مودعًا إيّاها في إحدى السيّارات. كان الهواء في الخارج قد بدّل مزاجها، مِن نشوة مضطّربة إلى شيء في حدود الحرَج، وحتّى الخجَل.

“شمال فانكوفر”، قال. لا بُدّ أنها قد أخبرته بذلك. “حسنًا؟ سننطلق. إلى “بوّابة الأسود”.

أملت ألّا يسألها ما الذي كانت تفعله في الحفلة. إن توجّب عليها القول بأنّها شاعرة، فإنّ وضعها الحالي، وتدليلها المفرط، سيؤخذان على محمَلٍ نمطيّ في غاية الكآبة. لم تكن قد عتّمت بعد، لكنّه المساء. بدا كأنهما ذاهبان في الاتّجاه الصحيح، عبر بعض المياه ثمّ فوق أحد الجسور. جسر شارع “بَرارد” Burrard. وكلما زادت حركة السير، كلّما ظلّت تفتح عينيها على الأشجار العابرة، ثمّ تغمضهما ثانيةً بلا أيّ معنى لذلك. أدركت حين توقّفت السيّارة بأنّهما سيصلان عمّا قليل إلى البيت. إلى بيتها.

تلك الأشجار العظيمة المورقة فوقهما. لا تستطيع أن ترى نجمة واحدة. لكنّ بعضها يلمع فوق الماء، بين أيّ مكان تتواجد فيه وأضواء المدينة.

“اجلسي وفكّري مليًّا فقط”، قال.

استخّفها الفرح لسماع الكلمة.

“فكّري مليًّا”.

“كيف ستدخلين إلى البيت، على سبيل المثال. أتستطيعين  تدبّر ذلك دون أن تفقدي وقارك؟ لا تبالغي في الأمر. لا تكترثي؟ أسلّم جدلًا بأن لديك زوج ما”.

“لا بُد لي أن أشكرك أوّلًا على توصيلك لي بالسيّارة إلى البيت”، قالت. “ولا بُد أن تخبرني باسمك”.

قال لها إنّه قد أخبرها بذلك من قبل. ربّما مرّتين. ولكن، لا بأس من مرّة أخرى. هاريس بينيت Bennett. بينيت. كان صهر الناس الذين أقاموا الحفلة. كان أولئك أطفاله الذين وزّعوا الكؤوس. كان هو وإيّاهم قادمين للزّيارة من تورونتو. هل شعرتْ بالرّضا؟

“هل أمّهم موجودة؟”

“بالطّبع. لكنّها في المصحّة”.

“إنّي آسفة”.

“لا عليك. إنها مصحّة جيّدة على نحو ما. إنها للمشاكل العقليّة. أو قد تقولين للمشاكل العاطفيّة”.

كانت على وشك إخباره بأنّ اسم زوجها هو بيتر وإنّه يعمل مهندسًا وإنّ لهما بنتًا اسمها كيتي.

“حسنًا، هذا شيء في غاية اللّطف”، قال، وقد أخذ في التراجع.

عند بوّابة الأسود، قال: “معذرةً لما بدوت عليه. كنت أفكّر إمّا أقبّلك أو لا، فقرّرت العدول عن ذلك.

فكّرت بأنّه كان يقول إنّ شيئًا فيها لا يريقى إلى حدّ أن تُقبّل. كان الشعور بالخزي كلطمة أعادتها إلى وعيها.

“هل نسلك الطريق البحريّ Marine Drive، حين نقطع الجسر؟” واصل حديثه. “سأعتمد عليك أن تخبريني بذلك”.

ولم يكد يمض يوم واحد، طيلة الخريف القادم والشتاء والربيع القادمين، لم تفكّر فيه. كان الأمر كمن يحلم ذات الحلم آن يخلد إلى النوم مباشرة. كانت تسند رأسها على الوسادة الخلفيّة للأريكة، متخيّلة أنها مستلقية بين ذراعيه. لن يعتقد المرء بأنها ستذكر وجهه، ولكنّه كان يتراءى فجأة بتفاصيله، وجه لرجل متغضّن، بل هو متعب، ساخر ويعشق الأماكن المغلقة. لم يكن جسده غائبًا، كان حاضرًا كجسد مرهق إلى حدّ معقول، ولكنّه قادر، ومشتهىً على نحو فريد.

كادت أن تبكي بلهفة. لكنّ صورته المتخيّلة تلاشت، ودخلت في سُبات عميق، حين جاء بيتر إلى البيت. حينئذ، انبعثت العواطف اليوميّة الجيّاشة بينهما بقوّة، جديرة بالثّقة كما هو شأنها دائمًا.

كان الحلم في الواقع شبيهًا بطقس فانكوفر إلى حدّ بعيد— شيء من لهفة موحشة، حزن مَطير حالم، ووطأة تنقّلت حول القلب.

وماذا عن رفض التّقبيل، والذي ربّما يبدو صفعة وضيعة؟

شطبت بكلّ بساطة الفكرة من رأسها. نسيتها تمامًا.

وماذا عن شِعرها؟ لا بيت، لا كلمة. ولا حتّى إلماعة كانت قد اكترثت لأمرها قطّ.

لا ريب أن هذه الأشياء قد أقلقتها في الغالب حين كانت كيتي غافية. كانت أحيانًا تلفظ اسمه عاليًا، لقد أسلمت نفسها للبلاهة. تبع ذلك شعور عارم بالخجل فاحتقرت نفسها. البلاهة حقًّا. أيتها البلهاء.

ثمّ جاءت هِزّة ما، احتماليّة الحصول على وظيفة في لَنْد، وتحقُّق ذلك فعلًا، ثمّ عرض الإقامة بذلك البيت في تورونتو. انطلاقة واضحة، ومنفذ إقدام وجسارة.

وجدت نفسها تكتب رسالة ما. لم تبدأها بطريقة تقليديّة. لا “عزيزي هاريس”. ولا “أتذكرني”.

كتابةُ هذه الرسالة كوضع مكتوب في زجاجة—

على أمل

أن يصل إلى اليابان.

كانت، بعد بريهة، أقرب إلى القصيدة منها إلى أيّ شيء آخر.

لم تكن لديها أدنى فكرة عن العنوان. كانت جريئة وحمقاء بما يكفي لتهاتف الناس الذين أقاموا الحفلة. ولكن، حين أجابت المرأة، نشف ريقها وشعرت بأنّها كتُندرا، فأغلقت السمّاعة. ثمّ حملت كيتي بالعربة إلى المكتبة العموميّة، وعثرت على دليل هواتف مدينة تورونتو. كان ثمّة كثيرون ممّن يحملون اسم بينيت، دون أيّ ذِكر لاسم هاريس أو هـ. بينيت.

ثمّ خطرت حينئذ فكرة صاعقة، أن تبحث في إعلانات النّعي. لم تستطع أن تمنع نفسها. انتظرت حتّى فرغ الرجل الذي يقرأ نسخة المكتبة. لم تشاهد صحيفة تورونتو، لأن المرء يتحتّم عليه في الغالب أن يقطع الجسر لجلبها، وكان بيتر دائمًا ما يجلب إلى البيت صحيفة فانكوفر صنّ. وهي تقلّب الصفحات سريعًا، عثرت على اسمه في أعلى أحد الأعمدة. لم يكن ميّتًا إذن. عمود صحفيّ. هو لن يرغب، بطبيعة الحال، في أن يزعجه أناس يطلبونه بالاسم على الهاتف، في البيت.

كتب في السياسة. بدت كتابته ذكيّة، لكنّها لم تكثرت بها قطّ.

أرسلت رسالتها إلى هناك، إلى الصحيفة. لم تستطيع التيقُّن إن كان هو الذي يفتح بريده الخاصّ، خطر ببالها أنّ وضع كلمة “شخصي” على المظروف قد يجلب المشاكل، فلم تكتب سوى تاريخ وصولها وزمن القطار، بعد النُّتفة التي عن الزجاجة. لا اسم. فكّرت بأنّ أيّما شخص يفتح المظروف سيعنّ على باله قريب كبير في السنّ ذو تعابير غريبة. لا شيء يورّطه، حتّى لو افترضنا أن هذا البريد الغريب قد أرسل إلى بيته وفتحته زوجته، التي كانت قد خرجت لتوّها من المصحّة.

لم تدرك كيتي بوضوح أنّ وجود بيتر في الخارج على رصيف المحطّة يعني بأنّه لن يسافر معهما. وحين بدءا بالتحرّك وهو لم يفعل، وحين بسرعة فائقة تركاه خلفهما، تقبّلت الهجران بصعوبة بالغة. لكنّها هدأت بعد برهة، مخبرة غريتا بأنه سيكون هناك في الصباح.

وحين جاء ذلك الوقت كانت غريتا قلقة، لكن كيتي لم تأت على ذكر غيابه قطّ. سألتها غريتا إن كانت جائعة، فقالت نعم، ثمّ فسّرت لأمّها— مثلما فسّرت غريتا لها قبل أن تصعدا إلى القطار— بأنّ عليهما الآن أن يخلعا مناماتيهما ويبحثا عن فطورهما في غرفة أخرى.

“ماذا ترغبين على الفطور؟”

“حبوبًا هشّة”. هذا يعني حبوب أرز مقرمشة (ماركة Rice Krispies).

“سأرى إن كان لديهم ذلك”.

يوجد عندهم.

“سنذهب الآن ونعثر على أبي؟”

كانت ثمّة منطقة لعب للأطفال، لكنها كانت صغيرة جدًّا. ولد وبنت— أخ وأخت، يشي بذلك زيّاهما الأرنبان— قد استوليا عليها. كانت اللعبة أن يُطلقا سيّارات صغيرة باتّجاه بعضهما ثمّ ينعطفا بها في اللّحظة الأخيرة. اصطدام. ارتطام. اصطدام.

“هذه كيتي”، قالت غريتا. “أنا والدتها. ما اسمكما؟”

أشتدّت حدّة تحطّم السيارات لكنّهما لم يرفعا عيونهما.

“أبي ليس هنا”، قالت كيتي.

قرّرت غريتا إنّه من الأفضل أن تعودا أدراجهما وتحضرا كتاب كيتي، “كريستوفر روبين”، ثمّ تأخذانه إلى السيّارة المُقبّبة وتقرآنه. لم ترغبا في إزعاج أحد لأنّ الفطور لم يجهز، وكان المشهد الجبليّ الجليل لم يبدأ بعد.

كانت المعضلة تكمن في أنّ كيتي آن تفرغ من “كريستوفر روبين”، فإنّها ترغب في قراءته من جديد، على الفور. لقد كانت هادئة أثناء القراءة الأولى، لكنّها الآن أخذت في ترنيم نهايات الأسطر. ثمّ راحت تُنشد كلمةً كلمةً على الرّغم من أنها ما زالت غير مستعدّة لتجريب ذلك لوحدها. تخيّلت غريتا كم سيكون الأمر مزعجًا للنّاس حال تمتلئ السيّارة المُقبّبة. لم تكن لدى الأطفال الذين في عمر كيتي أيّة مشكلة مع تنغيم الكلام. في الواقع، لقد رحّبوا بذلك، منهمكين فيه، يلفّون الكلمات المألوفة حول ألسنتهم، كما لو كُنّ حلوى قد تدوم إلى الأبد.

صعد ولد وبنت السّلالم وجلسا قبالة غريتا وكيتي. قالا “صباح الخير” بمرح عامر، فردّت غريتا التحيّة. لكنّ كيتي أبت التّسليم بوجودهما، فواصلت التّرتيل بنعومة وعيناها على الكتاب.

ثمّ عبر الممرّ جاء صوت ولد ما، هادئًا كصوتها إلى حدّ بعيد:

إنّهم في قصرِ باكنغهامَ يبدّلونَ الحَرَسْ

إلى هناكَ مضى، كريستوفر روبينْ مَعْ أَلِيسْ

The post الوصول إلى اليابان (١/٢)… قصّة لأليس مونرو (ترجمة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كارلوس دروموند جِي أندراجِي… ضجيجٌ يقفز من قلبي (قصائد مختارة) https://rommanmag.com/archives/19481 Thu, 08 Nov 2018 10:14:49 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%83%d8%a7%d8%b1%d9%84%d9%88%d8%b3-%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%85%d9%88%d9%86%d8%af-%d8%ac%d9%90%d9%8a-%d8%a3%d9%86%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%ac%d9%90%d9%8a-%d8%b6%d8%ac%d9%8a%d8%ac%d9%8c-%d9%8a%d9%82%d9%81/ على سبيل التقديم على الوجه الأماميّ للعملة البرازيليّة، فئة الخمسين ريالًا، الصادرة في العام 1989، وتحديدًا على تلك التي تحمل الرقم المتسلسل (A3000033873A) نطالع رسمةً كبيرة لوجه كارلوس دروموند جِي أندراجِي (Carlos Drummond de Andrade)، بنظّارتيه العريضتين، تجاورُ توقيعَه الطويل، وأربعةَ أبياتٍ من قصيدة “صلاة عامل المنجم في خِيُوْ”. ثمُ نقرأُ، على ظهر الورقة، قصيدتَهُ […]

The post كارلوس دروموند جِي أندراجِي… ضجيجٌ يقفز من قلبي (قصائد مختارة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
على سبيل التقديم

على الوجه الأماميّ للعملة البرازيليّة، فئة الخمسين ريالًا، الصادرة في العام 1989، وتحديدًا على تلك التي تحمل الرقم المتسلسل (A3000033873A) نطالع رسمةً كبيرة لوجه كارلوس دروموند جِي أندراجِي (Carlos Drummond de Andrade)، بنظّارتيه العريضتين، تجاورُ توقيعَه الطويل، وأربعةَ أبياتٍ من قصيدة “صلاة عامل المنجم في خِيُوْ”. ثمُ نقرأُ، على ظهر الورقة، قصيدتَهُ الذائعة الصّيت، “أغنيةٌ قلبيّة“، كاملةً، دونَ نقصانٍ، بأبياتها التسعة عشر، وبخط يده المتعرّج، بالهيئة التي كتبها فيها لأوّل مرّة، على يمين رسمة أخرى للشاعر، وهو جالس على مكتبه، ظهره للرّائي، ممسكًا بالقلم على صفحة بيضاء. رسمة تحاكي صورته الشهيرة، تلك. لا شيء آخرَ، على وجهيّ العملة الورقيّة، إلّا منظر طبيعيّ صغير، في الخلفيّة، يُخلّد مسقط رأس الشّاعر، وتخطيطة صغيرة لوجهه، في أقصى الطرف الأعلى من الورقة، بلا ملامح واضحة هذه المرّة، إلّا من إطار نظّارتيه، كان الشّاعر قد رسمها، بنفسه، ذات يوم. هكذا قرّرت الحكومة البرازيليّة أن تحتفي بشاعرها الأكبر، شاعرها الوطنيّ: لا شيء آخر يصحب الشاعر، في الصّورة، إلّا القصيدة. هكذا تحتفي الأُمم الحيّة بشعرائها وقصائدهم: تُشِيعهم بين النّاس، تخرجهم من غبار المتاحف والغرف المغلفة، ودفاتر المحفوظات، حافرةً أشعارهم في ذاكرة الأجيال المتعاقبة.

وفي مدخل شاطئ الكوباكابانا، في خيو جي جانيرو، يجلس كارلوس دروموند (31 أكتوبر 1902- 17 أغسطس 1987) في تمثاله البرونزيّ، على مقعد حجريّ طويل، السّاق على السّاق، مرخيًا يديه على كتاب يرتاح فوق ركبته اليمنى، وظهره إلى البحر، محدّقًا في البعيد، صوبَ جبال مسقط رأسه، ميناس جيرايس، في محاكاة بارعة لصورته الشهيرة الأخرى، تلك؛ في بنطاله الأسود وقميصه المقلّم، حين كان يخرج للتنزّه على الشاطى، ثم يجلس على مقعد وظهره إلى البحر، شاخصًا بأبصاره إلى بيته الأوّل وراء الجبال. ثم نقرأ، في المسافة التي تفصل بين الشاعر في جلسته، هذه، والفراع الممتدّ حتى نهاية الحجر المستطيل الأسود، الذي يجلس في طرفه، بيتَه الشعريّ الشهيرَ، محفورًا: “كانتْ مدينةٌ قد كُتِبَتْ في البحر”. ظهر الشاعر أمام البحر، إذن، في انتظار أن تهبّ الريح من ميناس جيرايس. أن تهبّ من جهة القلب!

 

في منتصف الطريق

في منتصف الطريق كان ثمّة حجر

ثمّة حجر كان في منتصف الطريق

كان ثمّة حجر

في منتصف الطريق كان ثمّة حجر.

لن أنسى البتّة تلك الحادثة

في حياة شبكيّتَيّ عينَيّ المتعبتين.

لن أنسى البتّة أنّ في منتصف الطريق

كان ثمّة حجر

كان ثمّة حجر في منتصف الطريق

في منتصف الطريق كان ثمّة حجر.

 

تدوينات اجتماعيّة

يصل الشاعر إلى المحطّة.

يترجّل الشاعر من القطار.

يستقلّ الشاعر سيّارة أجرة.

يذهب الشاعر إلى الفندق.

وفيما يفعل الشاعر كلّ هذه الأشياء

كأيّ بشر دنيويّ،

تلاحقه الصّيحات

صاخبة مدويّة.

يتباعدُ حملة الرّايات الملوّحة

ليفسحوا له الطريق.

وتعزف الفرق الموسيقيّة. ثمّة ألعاب ناريّة.

خطابات. وأناس بقبّعات من قشّ.

الكاميرات جاهزة لالتقاط الصور.

السيّارات واقفة لا تتحرّك.

هتافات . . .

الشّاعر مكتئب.

وفي شجرة في المتنزّه العموميّ

(الذي أقامته الحكومة الحاليّة)

في شجرة ضخمة سجنتها

ملصقات ملوّنة،

في شجرة عاديّة لا يراها أحد،

يغنّي زيز الحصاد.

زيز حصاد لا يسمعه أحد يغنّي.

أغنية لا يصفّق لها أحد.

إنّه يغنّي، في الشمس الحرّاقة.

يدخل الشاعر إلى المصعد

يصعدُ الشّاعر.

يحبس الشاعر نفسه في غرفته.

الشاعر مكتئب.

 

بحيرة

لم أرَ البحر قطّ.

لا أعرف إن كان جميلًا.

لا أعرف إن كان هائجًا.

لا يهمّني البحر.

رأيتُ البحيرة.

البحيرةَ، نعم.

البحيرة  كبيرة

وهادئة أيضًا.

مطر الألوان

المنهمر من الأصيل المنفجر

يجعل البحيرة تتلألأ

يجعلها بحيرةً مرسومة

بكلّ لون.

لم أرَ البحر قطّ.

رأيتُ البحيرة . .

 

طفولة

انطلق أبي على صهوة جواده إلى الحقول.

جلست أمّي في أحد الكراسي وحاكت.

نام أخي الصغير.

وأنا، وحيدًا مع نفسي بين أشجار المانغو،

قرأت حكاية روبنسن كروزو.

حكاية طويلة لا تنتهي البتّة.

وفي الضوء الأبيض للظهيرة، دعانا لشرب القهوة

صوت تعلّم التهويدات

في أكواخ أيّام العبوديّة ولم ينسها قطّ.

قهوةٍ سوداء سوادَ الخادمة العجوز السوداء،

قهوةٍ برائحة نفّاذة،

قهوةٍ لذيذة.

ولكنّ أمّي، التي ما زالت تجلس هناك وتحيك،

نظرت إليّ قائلةً:

“صَهٍ . . لا توقظ الطفل”.

ثمّ عندَ المَهْد حيث حطّتْ ناموسةٌ.

أطلقتْ تنهيدةً . . يا لها من زفرة عميقة!

كان أبي في البعيد لا يزال على صهوة جواده

في مرعى المزرعة الذي لا ينتهي.

لم أعرف أنّ حكايتي

كانت أكثر جمالًا من حكاية روبنسن كروزو.

 

قصيدةٌ مُسَبّعَة

حين ولدتُ، قال لي أحد أولئك الملائكة

العابسينَ الذين يعيشون في الظّلال:

“كارلوس، كُنْ مستعدًا لتكون منبوذًا في الحياة!”

البيوت تراقب الرجال

الذين يطاردون النساء.

لو لم تكُن الشهوة هائجة،

لربّما كان الأصيل أزرق.

سيّارة الأجرة العابرة طافحة بالسّيقان:

سيقان بيضاء وسوداء وصفراء.

يسأل قلبي: لماذا، يا إلهي، هذه السّيقان الكثيرة؟

ولكنّ عينيّ

لا تسألان البتّةَ.

الرّجل ذو الشاربين الكثّين

جادّ وبسيط وقويّ.

لا يكاد يتكلّم البتّة.

ليس للرّجل ذو الشارب الذي يرتدي نظّارتين

إلّا أصدقاء قليلين جدًّا.

يا إلهي، لماذا تخليّت عنّي

ما دمت تعرف بأنني لم أكُن إلهًا،

ما دمت تعرف بأنني كنت ضعيفًا.

العالم كبير جدًّا، العالم واسع جدًّا،

لو كان اسمي كْلايد،

لكان قافيةً وليس جوابًا.

العالم واسع جدًّا، العالم كبير جدًّا،

ولكنّ قلبي أكبر.

لا يتوجّب عليّ أن أخبرك،

ولكنّ هذا القمر

ولكنّ هذي البْراندي

تجعلانّي عاطفيّا إلى حدّ بعيد.

 

قصيدة مثيرة للشفقة

أيّ ضجيج ذاك الذي على الدرج؟

إنه الحُبّ وقد شارف على النهاية،

إنه الرجل الذي أوصد الباب

وشنق نفسه بالستائر.

 

أيّ ضجيج ذاك الذي على الدرج؟

إنها غيوماخ التي غطّت عينيها

وتمخّطت عاليًا.

إنه القمر الهاجع فوق الصحون

وفضيّات المائدة التي تلمع في الخزانة.

 

أيّ ضجيج ذاك الذي على الدرج؟

إنه الماء يقطر من الحنفيّة،

إنه العويل الخافت

لشخص خسر رهانه

وموسيقى الفرقة

تنخفض، وتنخفض، وتنخفض.

 

أيّ ضجيج هذا الذي على الدرج؟

إنها العذراء صاحبة الترمبون،

والطفل صاحب الطبل،

والمطران صاحب الجرس،

والشخص الذي، برقّة متناهية، يعزف الضجيج

الذي يقفز من قلبي.

 

رقصةٌ رباعيّةٌ

أحبّ جُوَاوْ تيريزا التي أحبّتْ هايموندو

الذي أحبّ ماريّا التي أحبّتْ جواكيم الذي أحبّ ليلي

التي لم تُحبّ أحدًا.

ذهبَ جُوَاوْ إلى الولايات المتّحدة، وذهبت تيريزا إلى أحد الأديرة،

مات هايموندو في حادث مفاجئ، وظلّت ماريّا عزباء لم تتزوّج،

انتحرَ جواكيم، وتزوّجت ليلي ج. بينتو فِهْنَانْجِسْ

الذي لا علاقةَ له بالحكاية البتّة.

The post كارلوس دروموند جِي أندراجِي… ضجيجٌ يقفز من قلبي (قصائد مختارة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
نيكانور پارّا: رسائل من شاعر ينام في كرسي، وشذرات أخرى https://rommanmag.com/archives/19088 Mon, 29 Jan 2018 14:29:59 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%86%d9%8a%d9%83%d8%a7%d9%86%d9%88%d8%b1-%d9%be%d8%a7%d8%b1%d9%91%d8%a7-%d8%b1%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d9%85%d9%86-%d8%b4%d8%a7%d8%b9%d8%b1-%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d9%83%d8%b1%d8%b3/ رحل الشاعر التشيلي عن عالمنا في ٢٣ من هذا الشهر، عن ١٠٣ أعوام، وهذه نصوص اختارها وترجمها عن الإنكليزية تحسين الخطيب أنا مكتشفُ غابريلّلا مسترال فلا أحدَ قَبْلِي كان يعرفُ كُنْهَ الشّعر رياضيٌ أنا: أركض مئات الأمتار في لمح البصر. *** أخبرتُ تشي غيفارا: “بوليڤيا، كلّا” *** اِجعلوني حارسَ المقابر *** ليسَ خارجَ الدائرةِ إلّا […]

The post نيكانور پارّا: رسائل من شاعر ينام في كرسي، وشذرات أخرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
رحل الشاعر التشيلي عن عالمنا في ٢٣ من هذا الشهر، عن ١٠٣ أعوام، وهذه نصوص اختارها وترجمها عن الإنكليزية تحسين الخطيب

أنا مكتشفُ غابريلّلا مسترال
فلا أحدَ قَبْلِي كان يعرفُ كُنْهَ الشّعر
رياضيٌ أنا: أركض مئات الأمتار
في لمح البصر.
***
أخبرتُ تشي غيفارا: “بوليڤيا، كلّا”
***
اِجعلوني حارسَ المقابر
***
ليسَ خارجَ الدائرةِ إلّا أمداءٌ هائلة من الحريّة
***
الصّليبُ الآنَ طيّارةٌ
امرأةٌ تفرّج ساقيها
***
نساءٌ كثيراتُ الشّعر يركضن عرايا
***
عاصفة كهربيّة تضرب
تصل ذروتها على شاكلة امرأة مصلوبة
***
يبدو الموتى متعبين
يغطّي الثرى أقدامهم
دون أن يغادروا قبورهم
يتكلّمون بحماسٍ فيما بينهم
كرياضيّين في الحمّام.
***
الشيء الوحيد الذي يسمحون لنا بفعله
أن نتعلّم كيف نحكي على نحوٍ صحيح
***
أستيقظُ بوجهٍ كسحابةٍ تبرقُ وترعد.
***
من الصعب الإيمان بإلهٍ
يترك مخلوقاته
وحدها
تحتَ رحمة عُباب الهَرَم
وجميع العِلل
ناهيكَ عن الموت.
***
أيها الشعراء الشباب
اكتبوا كيفما تريدون
وبأيّ أسلوب تشاءون
فكثير من الدم جرى تحت الجسر
***
السّقمُ
والشيخوخة
والموت
يرقصون
كعذارى بريئات
حول بحيرة البجع
نصف عرايا
ثملات
بشفاههنّ المرجانيّة الدّاعرة
***
 الحقيقة خطأ جماعيّ.
***
مِن سُحبِ الإفطار الرعديّة
إلى رعد الظهيرة
إلى برق العشاء.
***
واجبُ الشاعر
أنْ يتفوّق على الصفحة البيضاء
أشكّ في أنّ ذلك ممكنٌ.
***
يجازفُ
المسافرُ الذي ينظر خلفه
بألّا يلحقه ظلُّه.
***
لا أعرف حقّاً ما الذي يجري
فإمّا أن تساعدني
أو تطلق رصاصةً على رأسي.
***
لعلّنا في الجحيم
ولا بُدّ أنّ كنيسة
تحت ذلك الصّليب.
***
لقد أساء القساوسة
في الأزمنة الحديثة
كفايةً إلى مسائل الدّين.
***
الهواءٌ ثقيلٌ ثقيل
حتّى إنّهم يُقطّعونه بالسكّين.
***
الخَلْقُ قضيّة خاسرة
ولكنّني لن أجلس هنا فاردًا ذراعيّ
وأواصل ترديدَ نشيدي
***
المتقاعدون بالنسبة إلى الحَمَام
كالتماسيح بالنسبة إلى الملائكة
***
مِنَ الواضحِ كفايةً
أنّها ليستْ ندوبًا التّجاعيدُ
***
لا سِيَرَ للشّعراء
***
اللهُ صديق طيّب للفقراء
***
الموتُ عادةٌ جماعيّة
***
إنّهُ ليلٌ، ولكنّهُ ليسَ كاللّيلِ
وإنّه نهارٌ، ولكنّهُ ليسَ كالنّهارِ.
***
حدّق جيدًا وسوف ترى
بأنني أضحكُ دمًا ودموعًا.
***
تُغنّي قصائدنا عن مآثر
الأبطال،
وليس عن خطايا
كيوپيد في سرير ڤينوس.
***
ليسَ الجسدُ إلّا حقيبة من ترابٍ
ترابِ التّراب— ترابِ الدّود.
***
يا حَمَلَ الله الذي يحمل خطايا العالم
كَمْ تفّاحةً في الفردوس.
***
أنا الشخص ذاته في مكانين مختلفين
***
دمُ قمرٍ وضيع
يتقاطر
في حديقة غطّاها الثلج.
***
خلق الله العالم في سبعة أيّامٍ
وأنا دمّرته في لحظة واحدة.
***
لستُ من أهلِ اليسار ولا من أهلِ اليمين
إنّني أكسّر القوالبَ، فحسب.
***
كلمةٌ تتغوّط على الپيانو.
***
يا الطّائرَ بفمٍ طافح بالرّيش!
***
جوازُ السّفر رمزٌ قضيبيّ.
***
لا أريد أن أرانِي
في مرايا مرشوشة بالدّم.
***
سيّداتي، سادتي
هذه كلمتنا الأخيرة
(كلمتنا الأولى والأخيرة)
لقد هبطَ الشعراءُ من الأوليمپوس.
***
ليس الشاعرُ خيميائيّاً
الشاعرُ كباقي البشر
بنّاءٌ يشيّد جداره:
صانعُ أبوابٍ ونوافذ.
***
هذه رسالتنا الأخيرة.
نشجب الشاعر السماويّ
الشاعر الصّرصار
الشاعر الذي ينذر نفسه للكتُب. 
***
نتبرّأ من
شِعر الكؤوس الدّاكنة
شِعر السّيف والرداء المطروح فوق الكتفين
شِعر القبّعة المُريّشَة
ونقترح عوضًا عنه
شِعر العين المُجرّدة
شِعر الصّدر الطافح بالشّعر
شِعر الرأس الأصلع.
***
يتوجبُ على الشِّعر أن يكونَ:
صبيّةً في حقل من الحنطة—
أوْ لا شيءَ أصلًا.
***
على الشّعر أن ينبع من ثورة الأفكار—
شِعر الدائرة السرمديّة.
***
مَن يخافُ الشّعرَ، بعد كلّ شيء.
***
كانوا يجنحونَ 
إلى شِعر الشّفق
شِعر منتصف الليل
وكنّا نجنحُ إلى 
شِعر الفجر.
هذه رسالتنا:
تنتمي أنوارُ
الشّعر إلى الجميع
فالشعر يعتني بنا كلّنا.
***
ندينُ
شِعر الآلهة التافهين
شِعر البقرة المقدّسة
شِعر الثور الغاضب.
***
ضدّ
شِعر الغيوم
نُعِدُّ شِعر اليابسة
أيتها اليد الباردة، أيها القلبُ الدافئ)
فنحن، بلا ريب، أهلُ يابسةٍ)
ضدّ شِعر المقاهي نُعِدُّ
شِعر الهواء الطّلق
ضدّ شعر غرفة الرّسم:
شِعر الساحة العامّة
شعر الاحتجاج الاجتماعي.
***
أنا راعي الجحيم،
الملاكم الذي غلبه ظلّه.
***
أنا الشيوعيّ، أنا الرجعيّ،
أنا جامعُ قطع النقود القديمة
***
الاستمناء بدلًا من الانتحار
***
البدر عانةُ السماء
***
ضع إكليلَ وردٍ
على قبر شاعر مجهول.
***
أنتمي إلى عصر الأفلام الصامتة.
***
السيّارة كرسي متحرك.
***
وحده الموت يقول الحقيقة.
***
أنعسُ حين أقرأ قصائدي
حتى لو كُتبتْ بالدم.
***
أحلم بالنساء طيلة الليل.
***
أنا واحدٌ من أولئك الذين يُحيّون عربةَ نقل الموتى.
***
كلّ شيء في الشّعر مباح.
***
الأفق طافح بالصّلبان.
***
احلبِ البقرةَ
وانثرِ الحليب في وجهها.
***
أتسّكع مع الجَمال
فالبشاعة تؤلمني.

The post نيكانور پارّا: رسائل من شاعر ينام في كرسي، وشذرات أخرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كارلوس إدموندو دي أوري: أجرامٌ سماويّةٌ https://rommanmag.com/archives/18899 Thu, 14 Sep 2017 06:27:20 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%83%d8%a7%d8%b1%d9%84%d9%88%d8%b3-%d8%a5%d8%af%d9%85%d9%88%d9%86%d8%af%d9%88-%d8%af%d9%8a-%d8%a3%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d8%a3%d8%ac%d8%b1%d8%a7%d9%85%d9%8c-%d8%b3%d9%85%d8%a7%d9%88%d9%8a%d9%91%d8%a9/ لا يستطيعُ الشاعرُ أن يجيبَ عن أيّ شيءٍ البتّةَ. هو العنقاءُ. إنّهُ يطرحُ أسئلةً. يدومُ الإلهامُ في بعضِ الأحيانِ الزمنَ الذي يستغرقهُ فأرٌ في اجتيازِ المسافةِ المفتوحةِ بينَ قطعتَي أثاثٍ. لِمَ لا تعيشي معي كما لو كنّا ملاكَيْنِ؟ الحمقى مجانينُ في السّاقينِ على حدّ سواءٍ، والشعراءُ مجانينُ في واحدةٍ فحسبُ. الوسائدُ مزاميرُ النّومِ. اعشقِ المطرَ […]

The post كارلوس إدموندو دي أوري: أجرامٌ سماويّةٌ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لا يستطيعُ الشاعرُ أن يجيبَ عن أيّ شيءٍ البتّةَ. هو العنقاءُ. إنّهُ يطرحُ أسئلةً.

يدومُ الإلهامُ في بعضِ الأحيانِ الزمنَ الذي يستغرقهُ فأرٌ في اجتيازِ المسافةِ المفتوحةِ بينَ قطعتَي أثاثٍ.

لِمَ لا تعيشي معي كما لو كنّا ملاكَيْنِ؟

الحمقى مجانينُ في السّاقينِ على حدّ سواءٍ، والشعراءُ مجانينُ في واحدةٍ فحسبُ.

الوسائدُ مزاميرُ النّومِ.

اعشقِ المطرَ كنفسك.

تعكسُ المرايا وجوهَنا، وليسَ أسماءنا.

الشعرُ كسيركٍ جوّالٍ.

قصيدةٌ كصرخةِ مولودٍ جديد.

الصراحةُ كتكنيكٍ شعريّ.

لقد رأيتُ النّملَ. أنا النّملُ.

إن بكيتُ فذاكَ لأنّ لي دموعًا.

أُودين ظمآنٌ ويطلبُ كأسَ ماءٍ. أعطوهُ إيّاها مقابلَ إحدى عينيهِ.

الطيورُ أفكارٌ محكمة.

المخيّلةُ، تلكَ الإسفنجةُ الأزليّةُ.

موسيقى أكلتها الآذانُ.

أشكرِ الأشجارَ حاملةَ الثمارِ.

حينَ كنتُ صغيرًا، كانت القطط تأتي إليّ من الأفقِ. اليومَ تهربُ القططُ منّي، القططُ ذاتها.

مصنعُ جثامين. ثمّة اليومَ خبراءُ يعرفونَ الجثامينَ الحَقّةَ من تلكَ المزيّفة.

ما نُسميّهِ “الغموضَ” هو البابُ الموصدُ لمُنتهَى الفكرِ.  أولئك الذينَ يعرفونَ الأكثرَ قد أبصروا البابَ. لا أحدَ فتحَهُ ومضى فيهِ.

بيدينِ فضوليّتينِ ألمسُ حشرةَ المجهولِ.

حينَ تنامُ لا تنسى أن تستيقظ.

لِمَ غموضٌ أكثرُ والليلُ قد أعطانا للتوّ كلّ ما نحتاجهُ؟

التاريخُ الحزينُ لفتاةٍ لا دميةَ عندها.

وجوهُ الرّاهباتِ الوضيئةُ.

اقتربَ رجلٌ من ديوجين وقال: “عثرتُ عليكَ أخيرًا!” سألهُ ديوجين: “وما الذي كنتَ تبحثُ عنهُ؟” أجابَ الرجلُ: “لقد كنتُ أطوفُ في الجوارِ أبحثُ عن مصباحٍ “.

الشعراءُ، ملائكةٌ قديمة.

الإنسانُ، الحيوانُ الذي يحدّقُ في النجومِ.

حينَ يعطشُ المرءُ ولا يجدُ ماءً يشربهُ، فإنّ أقربَ شيءٍ للفطرةِ التوقّفُ عن البكاءِ.

كانتِ السّيكلوبات أوّلُ الكائناتِ الموضوعيّةِ على نحوٍ خالص.

ألا تلعن؟ ألا تلعن؟ لمَ لا تلعنُ هاتينِ اليدينِ المسوّدتينِ اللتينِ ينبعثُ منهما الدخانُ؟ حتى لو كانتا يديّ!

أسمعُ جنيّاتِ البحرِ في الليلِ، فأُوجَدُ.

الذهبُ حثالةُ الشمسِ.

الأيدي عيونُ القلبِ.

أشجارُ روحيَ السّوداءُ.

لليدِ خمسُ أصابعَ─ لماذا؟

الموتى─ كيف يبدّدونَ الوقت!

الشوارعُ الخاليةُ في الليل.

ثيودورا، الامبراطورةُ البيزنطيّةُ، زوجةُ جستينيان الأوّلِ، ابنةُ ناطورِ دبّ السيرك، راقصة البالييه السابقة.

ينهمرُ المطرُ على البحيراتِ العظيمةِ وبُريكاتِ الوحلِ على حدٍ سواء. الشمسُ تدفءُ الفيلةَ والنّملَ على حدٍ سواء.

انفجرتْ قنبلةٌ نوويّةٌ في يديّ اليوم.

الشاعرُ دِيكُ الشّفق. 

إنّنا نتحرقُ كي نذعنَ، حتى لو منحَنا العصيانُ الحياة.

حديثٌ بينَ ممسوسَيْن:
أنا أكثرُ جنونًا منك.
حسنًا، وأنا أكثرُ جنونًا مِنّيَ أيضًا.

صوفيّونَ يعشقونَ العدم.

نفايةُ الضّجيجِ الصوتيّةُ.

السّحرُ الأبيضُ: الاشتغالُ على الآلهة.

عظامي المسيحيّةُ القديمة.

غثيانٌ حتى الغثيان.

إنّنى على حافةِ العيش.

كيف تبدو رايةُ الجحيم؟

كانَ في غايةِ التشاؤمِ حتّى إنّهُ قد آمنَ بالله.

من الواضحِ أنّ الإنسانَ جُرثوم.

كلّ الألمِ حقيقيّ.

ثاناتوس، خبيرٌ في فنّ الجَزّ.

اِسأل بستانيًا إِن كانَ رأى زَهْرًا أسودَ قطّ.

قالَ الواعظُ الدومينيكانيّ لاكوردين إنّ الحياةَ قطرةُ حليبٍ وأَفنِسْتين.

القلبُ لا تاريخيّ.

السّكارى هم الميتافيزيقيّونَ الودودونَ الوحيدون.  

تمرّد ضدّ الدّليل.

المطرُ والنحيبُ مترادفان.

يقصّ عليّ ملاكيَ الحارسُ نُكاتًا في الليل.

يبتسمُ الموتى إلينا من قبورهم حينَ نزورهم.

أَيْرُ أوزيريس وقد نهشتهُ الأسماك.

أشجارٌ─ في غايةِ الجِدّةِ وفي غايةِ الحكمة.

كي تقبّلَ زرافةً تحتاجُ إلى سلّم.

عرضتُ عليهِ مبادلةَ عندليبٍ بغراب.

اخترِع صمغًا يستطيعُ أن يلتصقَ بالماء.

لطالما اعتقدتُ بأنّ المرايا تتنفّس.

ثمّةَ في الولايات المتحدة عياداتٌ للناسِ الخجولين.

لا شيءَ أكثر عالميّةً من الغباء.

كانَ القمرُ رائجًا منذُ بدايةِ العالم.

الشّرفُ، الابنُ الشرعيُّ للكبرياء.

تواضعُ النّائمين.

متّى 10:30: “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ”. لا تذكرُ ]الآيةُ[ الصّلعان.

كرامةُ الخنزيرِ المقدّسةُ على نحوٍ ما.

خاتمةُ رسالةٍ من موتسارت إلى زوجته: “أُقبّلُ يديكِ، وجهكِ، ركبتيكِ، وَ . . .”

أن تمزّقَ ثُقبًا في فضاءٍ فارغ.

إخلاصُ الرّيحِ الفَجّ.

مثل أسكتلنديّ: “حتى لو طارَ خنزيرٌ فإنّه لن يكونَ عصفورًا”.

سُمّيَ مالارمي إرهابيّ الاقترانات.

في 28 يناير 1984، وحينَ أصحو في الصباحِ أسمعُ الكلمةَ الغريبةَ “hequioate” أو “ekioate”. كأنّها يونانيّة.

أطلالٌ بابليّةٌ. نقشٌ متروكٌ على رقيمِ صلصالٍ: “اُنظر حولكَ، سوفَ ترى جميعَ النّاسِ بلهاء”.

لا تنسَ البتّةَ أُمثولاتِ الهراطقةِ ومحطّمي الأيقونات.

ميزانٌ لزنةِ بيوتِ العنكبوت.

مذهبٌ أورفيسيّ: الجسدُ ضريح.

وعيٌ شيوعيّ: كانَ اللّاوعيُ محظورًا في المجتمعِ السّوفيتي.

أنا حورائيٌّ.

أموتُ ليلًا.

لمن يصلّي المجانين؟

مِن بينِ الفاكهةِ يعجبني الموزُ والتّين.

أن تفقدَ ذاكرتك كأنّكَ تفقدُ طفلًا.

هل ثمّةَ شيءٌ أكثر ذاتيّةً من الماء؟

لغتي المفضّلةُ هي المُوشّحةُ.

حقيقةٌ مِن أرسطو: “يكذبُ الشعراءُ كثيرًا”.

تُسمّي الكابالا الأرضَ: “العروسَ الإلهيّة”.

“اِفعل ما تريدُ” (پلاوتوس)─ “وليسَ ما تفعلُ هو ما تظنُّ أنّكَ فاعلٌ” (أنطونيو پورشيا).

سألوا غورجييف: “يا مُعلّمُ، ما الفرقُ بينَ الشرقِ والغرب؟ فأجابَ: “الخراءُ ذاتُهُ، برائحةٍ مختلفة”.

قبلَ أن يقرّرَ مارينيتي تسميةَ حركته الطّليعيّةَ بالمستقبليّةِ، فكّرَ في تسميتها بالكهربائيّة.

الخيرُ خيرٌ لأنّهُ كذلك. والشّرُ شرٌ لأنّهُ ليسَ خيرًا.

لا بُدّ من اِنقاذِ اللهِ مهما كلّفَ الأمر.

الأشجارُ تماثيلُ الرّيح.

وحدَهُ الجنونُ يستطيعُ شفاءَ المجانين.

السّكونُ المَهيبُ لذئبٍ في الغابة.

فقدانُ الذاكرةِ المزمنُ للإنسان: هُوَ ينسى أنّهُ دودةٌ.

لبعضِ الأزهارِ شَعرٌ.

أن تشتغلَ في معملِ الرّوح.

أوغست رينوار: “إنّني أرسمُ بقضيبي”.

كمنجةٌ صُنعتْ من سبعِ أخشابٍ مختلفة.

لا ملائكةَ مُسِنّةٌ.

قارنَ أحدهم الياپانيّةَ بالمطر.

لم أسأمْ مِن مشاهدةِ القمرِ قطّ.

لا أثقُ بالنّاسِ الذينَ لا يضحكون.

شعراءُ فرنسيّونَ حضروا القُدّاس: پول كلوديل، پيير ريفيردي، ماكس جاكوب، فرانسيس جانيس، جان كوكتو.

نقيضُ الماءِ العطشُ.

كلُّ امرأةٍ عاريةٍ متّشحةٌ بامرأةٍ ]أُخرى[.

لا يمكنُ الخلط بينَ العبقريّةِ والعَوْرة. 

“الرّومانتيكيّون─ أولئك الحمقى” (هيرمان بروخ).

لا تأخذِ الجِدّةَ على محملِ الجِدّ.

يشتري الأغنياءُ الحياةَ، والفقراءُ يبيعونَها.

الإنسانُ هو الحيوانُ الوحيدُ الذي يعرفُ العار.

لا يتذمّرُ البتّةَ الأثاثُ المكسور.

الإنسانُ الغربيّ بربريّ ميكانيكيّ جديد (homo occidentalis mechanicus neobarbarus)

موسيقى فلسفيّةٌ: كَانْتَاتَا. 

النّومُ الرضيعُ الأصغرُ للموت.

هل حدثَ في التاريخِ أَنِ اعتذرَ إلى الإنسانيّةِ أيّ طاغيةٍ ضاقَ ذرعًا بالجرائم؟

الكوابيسُ الأظافرُ على أصابعِ النّوم.

إنّنى أَنبشُ الأحياء.

في كتابِ الفَمِ، للابتسامةِ فصلُها.

كلماتُ متشائمٍ لا يَبرأُ: ما أهميّةُ الشمسِ بالنسبةِ إليّ؟

أجعلُ الكلماتِ ألسنةَ لهيب.

بالنسبةِ إلى فالنتين الغنوصيّ، فإنّ المسيح قد “أكلَ وشربَ ولكنّهُ لم يتغوّط”.

وحينَ كنتُ أقرأُ بيركلي، الأُسقف المتفلسف، كنتُ أستطيعُ خبطَ الجدارِ بقبضتي قويًا فلا تؤلمني.

كلّ ابنِ آدمَ خطّاءٌ (Errare divinum est).

قام نوربير غوترمان وهنري لوفيفر، العالمان الاجتماعيّان، بجرد عدد صفائح القمامة في نيويورك.

الآلُ─ قدَرُ الموتِ ─ عشقُ القدَر (Fata morgana – Fatum Fata – Amor fati).

بيتٌ من قصيدة “قادِش” لغينزبيرغ: فرانكو قتلَ لوركا الابنَ الخرافيّ لويتمن.

يُقبّلُ العشّاقُ وعيونهم مغمضة: الحُبُّ أعمى.

لم يعرف شارلمان حتّى أن يكتبَ اسمه.

الرّيحُ هي اللهُ يعبرُ راقصًا.

المطرُ، منهمرًا من السماءِ، لا يُبلّلُ الله.

لو استطعنا رؤيةَ الله، لرأيناهُ يبكي محيطات.

كانَ جبّارو العصورِ الغابرةِ يعدمونَ حاملي الأخبارِ السيّئة.

لِمَ نقولُ “أن نموتَ من الضحك” بدلًا من “أن نحيا من الضحك”؟

لا يمكن للحجرِ أن يكونَ دلالةً.

هل ثمّةَ شيء أكثرُ سلبيّةً من كرسيّ؟

أرى عمالقةً كأنّهم طواحينُ الهواء.

في پيرغوس (اليونان) ثمةَ شوارع من رخام.

لا يساعدني اللهُ على تغيير العالم.

أرفضُ التفسيرات العلميّةَ للعالَم.

تحيا الحيواناتُ فوقَ القوانينِ المفروضةِ على الإنسانيّة.

للملائكة رائحةٌ طيّبة.

لا تستيطعُ أن تلمسَ دلالةً بيدك كبرتقالة.

لا شيءَ أكثر سعادةً من حجرٍ فقير.

يستطيعُ بايرون أن يسبحَ في المحيطِ وهو يدخّنُ سيكارًا.

تخرجُ الصرخاتُ من بينِ الأسنانِ، والآهاتُ من الرئتينِ، والصمتُ منَ العيون. 

الحلمُ المجنونُ عن أن نُجَنّ.

اخترعتِ المرأةُ الحُبّ والسّلام، والرجلُ الپورنوغرافيا والحرب.

يأسرني بنّاؤو القواربِ وصانعو الكمنجات.

أولئك الذينَ لا يستطيعون رؤيةَ المحجوبِ عميانٌ.

إشارات:
ثاناتوس Thanatos: إله الموت الرحيم في الميثولوجيا الإغريقيّة.
كانتاتا Kantata: أنشودة طويلة.

كارلوس إدموندو دي أوري (Carlos Edmundo de Ory) شاعر إسبانيّ، ولد بقادش في إسبانيا سنة 1923، وتوفي في فرنسا سنة 2010، بعد صراع مع اللوكيميا. كان أحد الشعراء الأساسيّين في الحداثة الشعرية في حقبة ما بعد الحرب الأهلية، بانهماكه في طرائق التعبير الطليعيّة كالمستقبليّة والدادائيّة والسورياليّة. أسّس مع إدواردو شيشارو والشاعر الإيطالي سيلفانو سيرنيسي الحركةَ الشعريّة التي عرفت باسم “Postismo” التي جاءت ضدّ الرومانتيكيّة الجديدة السائدة في الثقافة الأدبية الرسمية، معليةً من شأن اللغة (وألعابها) كتكنيك شعريّ. يُشبّه النقاد تأثير دي أوري في الشعر الإسباني بذاك  الدور الذي لعبه ألِن غينزبيرغ وجيل البِيْت في الشعريّة الأميركية، من حيث أنه قد “فتح الشعر الإسباني على احتماليّات جديدة للغة الشعريّة ومحتواها”.  

The post كارلوس إدموندو دي أوري: أجرامٌ سماويّةٌ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أليخاندرا بيسارنيك… «جسد أخرس يتفتّح» (15 قصيدة) https://rommanmag.com/archives/18763 Fri, 23 Jun 2017 04:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%84%d9%8a%d8%ae%d8%a7%d9%86%d8%af%d8%b1%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d9%86%d9%8a%d9%83-%d8%ac%d8%b3%d8%af-%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d8%b3-%d9%8a%d8%aa%d9%81%d8%aa%d9%91%d8%ad/ في الطرف الآخر كساعةٍ رمليّةٍ تسقطُ الموسيقى على الموسيقى. حزينةٌ أنا في ليلِ أنيابِ الذئابِ. تسقطُ الموسيقى على الموسيقى كسقوطِ صوتي على أصواتي.   كماء على حجَر على تلكَ التي تعودُ باحثةً عمّا كانت تبحثُ في القديمِ يُرخى الليلُ سدولَهُ كماءٍ على حجَرٍ كهواءٍ على طائرٍ كجسدينِ يهبطانِ على بعضهما في الحُبّ.   غنائيّة الحجر […]

The post أليخاندرا بيسارنيك… «جسد أخرس يتفتّح» (15 قصيدة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الطرف الآخر

كساعةٍ رمليّةٍ تسقطُ الموسيقى على الموسيقى.

حزينةٌ أنا في ليلِ أنيابِ الذئابِ.

تسقطُ الموسيقى على الموسيقى كسقوطِ صوتي على أصواتي.

 

كماء على حجَر

على تلكَ التي تعودُ باحثةً عمّا كانت تبحثُ في القديمِ

يُرخى الليلُ سدولَهُ كماءٍ على حجَرٍ

كهواءٍ على طائرٍ

كجسدينِ يهبطانِ على بعضهما في الحُبّ.

 

غنائيّة الحجر الباكي

ضاحكًا يموتُ الموتُ ولكنّ الحياةَ

باكيةً تموتُ ولكنّ الموتَ ولكنّ الحياةَ

ولكنّ العدَمَ العدمَ العدمْ

 

قصيدة

تختارُ موضعَ الجُرحِ

حيثُ نقولُ صمتَنا.

هَا أنتَ تجعلُ حياتي

هذا الطّقْسَ الذي في غايةِ النّقاءِ.

 

تجليّات

في اللّيلِ، قُرْبَكَ،

تصيرُ الكلماتٌ أدلّةً، مفاتيحَ.

والشّوقُ إلى الموتِ مَلِكًا يصيرُ.

فَلْيَكُنْ جسدُكَ أبدًا

مهبطَ التجلّياتِ؛ المهبطَ المعشوق.

 

في ذكراك السنويّة

خُذْ وجهيَ، أخرسَ يتوسّلُ.

خُذْ هذا الحُبّ الذي أسألُ.

خُذْ بَعْضِيَ الذي هُوَ أنت.

 

عاشقان

زهرةً

ليستْ بعيدةً عنِ اللّيلِ

ينفتحُ

جسدي الأخرسُ

على النّدى وإلحاحهِ الهَشّ.

 

عرفان

جعلتَ صمتَ اللّيلكِ يرفرفُ

في مأساةِ الرّيحِ التي في قلبي.

وجعلتَ حياتي حكايةَ أطفالٍ

حيثُ الموتُ والخيباتُ

ذرائعُ للطقوسِ المعشوقةِ.

 

لقاء

شخصٌ يذهبُ في الصمتِ ويهجرني.

ليستْ وحيدةً هِيَ العزلةُ الآنَ.

كاللّيلِ تحكي.

وتُعلِنُ نَفْسَكَ كالعطَشِ.

 

أغنية

للزّمنِ خوفُهُ

وللخوفِ زمنُهُ

خوفٌ

يطوفُ دمي 

يقطفُ ثمرتي الأحسنَ

ويدكّ جداريَ الرّحيمَ

لا شيءَ إلّا الخرابُ

خرابُ أخربةٍ

وخوفٌ

حوفٌ كثيرٌ

وخوفُ. 

 

أصل

لا بُدّ أن ننقذَ الرّيح

فالعصافيرُ تحرقُ الرّيح

في شَعرِ امرأةٍ وحيدةٍ

تعودُ من الطبيعةِ

وتحيكُ التّباريح

لا بُدّ أن ننقذَ الرّيح

 

صوتك

كامنًا في كتابتي

وفي قصيدتي تُغنّي.

يا أسيرَ صوتِكَ العذبِ

المحفورِ في ذاكرتي.

يا الطّائرَ المُنكبّ على طيرانهِ.

يا الهواءَ الموشومَ بالغيابِ.

ويا السّاعةَ التي تدقّ معَ نبضي

كي لا أستيقظُ.

 

عدَم

تموتُ في جرحيَ الريحُ.

وإلى دمي يتوسّلُ اللّيلُ.

 

أن أُسمّيك

ليستْ قصيدةَ غيابكَ،

بَلْ رسمةٌ، صدعٌ في الجدارِ،

شيءٌ في الرّيحِ، وطعمٌ مُرُّ.

 

لافتات

كلُّ شيءٍ يطارحُ الصّمتَ الغرام.

وعدوني بصمتٍ كالنّارِ— بيتٍ مِن الصّمتِ.

فجأةً، المعبدُ سيرك والضوءُ طبل.

أليخاندرا بيسارنيك (Alejandra Pizarnik): شاعرة أرجنتينة، ولدت في التاسع والعشرين من شهر أبريل لسنة 1936، وماتت منتحرةً، بجرعة زائدة من سيكوباربيتال الصوديوم، في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر لسنة 1972. صدر لها: البلد الأغرب (1955)، والبراءة الأخيرة (1956)، والمغامرات الضائعة (1958)، وشجرة ديانا (1962)، وأعمال وليالٍ (1965)، واستخلاص حجر الجنون (1968)، وجحيم موسيقيّ (1971)، والكونتيسّة الدمويّة (1971).

ترجمها تحسين الخطيب عن الإنكليزية.

ملحوظة: يُلفظ اسم (Pizarnik)، في الإسبانية المنطوقة في الأرجنتين: “بيسارنيك“؛ وليس “بيثارنيك”، كما هي الحال في الإسبانيّة القاعدية.

The post أليخاندرا بيسارنيك… «جسد أخرس يتفتّح» (15 قصيدة) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“إيروتيكا” يانيس ريتسوس https://rommanmag.com/archives/18662 Wed, 26 Apr 2017 02:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a5%d9%8a%d8%b1%d9%88%d8%aa%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d9%8a%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%b3-%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%b3%d9%88%d8%b3/ صدر الكتاب أخيراً عن دار المتوسط بميلانو، ننشر هنا قسماً من المقدمة وبعضاً من نصوصه «تدور عينُ ريتسوس، ذات الأوجه المتعدّدة، في زاوية من 360 درجة، فتنغلق على نفسها تدريجيًا، لتلتقط تفصيلًا تلو آخر، ثمّ ترتدُّ إلى نفسها، فتنفتح على اتّساع محجرها، كاشفةً عن تصميم لا بُدّ أنّها قد أبصرته من علوٍّ شاهق، ليكون مفسّرًا […]

The post “إيروتيكا” يانيس ريتسوس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
صدر الكتاب أخيراً عن دار المتوسط بميلانو، ننشر هنا قسماً من المقدمة وبعضاً من نصوصه

«تدور عينُ ريتسوس، ذات الأوجه المتعدّدة، في زاوية من 360 درجة، فتنغلق على نفسها تدريجيًا، لتلتقط تفصيلًا تلو آخر، ثمّ ترتدُّ إلى نفسها، فتنفتح على اتّساع محجرها، كاشفةً عن تصميم لا بُدّ أنّها قد أبصرته من علوٍّ شاهق، ليكون مفسّرًا على نحو بالغ الوضوح. إنّ تغلغلها المجهريّ يفتّت التفاصيل في تفاصيل أخرى، وهذا حقيقيّ، بالنسبة إلى التمييز السيكولوجيّ، مثلما هو، كذلك، بالنسبة إلى التمييز الماديّ، أيضًا. وليست رؤيته، على أية حال، هي تلك التي لعالِم -مثلما قد يشي بذلك تصويري لها- بل إنها لواحد يعشق جيدًا التنوّع المطلق للحياة في كل تجليّاتها، فلا تفصيل ينبغي أن  يظلَّ غير مرصود، أو غير محتفىً به البتّة، بل يتوجّب مقاربته بتبجيل ورهبة وحُبّ، ثم ملاطفته وضمّه، والانشداه منه والذهول، كذلك، أيضًا. إنّ الأشياءَ في ذواتها، في كينونتها ليس إلّا، معجزة وجديرة بحبّ الإنسان. لذلك، نرى كيف تنبض أبياته بدفء جُوَّانيٍّ وبرَّانيٍّ، وكيف تتّقد بالحسيّة. كالمرايا، تعكس الأبياتُ مصدر الضّوء والحبّ المتأصّل في عينيّ الشاعر وفي رؤيته. آنئذ، ندرك، كدهشة عظيمة، كهزّة أو تكادُ، بأنّ قصائد الحبّ، أو القصائد الإيروتيكيّة، في حدّ ذاتها، غير موجودة، على نحو عمليّ، في آثار ريتسوس الضخمة.

في الواقع، وحسب ما أعرف، فإنّه لم يكتب سوى ثلاث قصائد من هذا النّوع. إنّها تشمل العمل الحاليّ، حيث تبلغ قصيدتاه السّابقتان ذروتيهما. يذكّرنا عنوان القصيدة الأولى، «نشيد إلى إيروتاس Erotas» -والتي كتبت في 1934، عندما كان الشاعر في الخامسة والعشرين، ونشرت في كتابه الثّاني، أهرامات (1935)- بتمييز جرى عبر اليونانيّة القديمة إلى الحديثة، والذي يبدو أنّ اللّسان الأنغلو-أميركيّ لم يكن في حاجة إليه البتّة. فَـ erotas وَ aghapi تستخدمان، في اليونانيّة، بما يربطه الأنغلو-أميركيّون من عواطف وغراميّات بكلمة «حُبّ love»؛ وعلى الرّغم من أنّ erotas، في اليونانيّة، تحمل تلميحات/تضمينات حسيّة أكثر من aghapi، فإنّها غير مقصورة تمامًا، كما في الإنجليزيّة، على الجانب الجنسيّ للحُبّ. إنّ «قصيدة غنائيّة إلى إيروتاس» تمرينٌ أدبيّ في رباعيّات إيامبيّة مقفّاة تستحضر المفهوم المجرّد للحبّ الحسيّ (غير الجنسيّ) كما تمّ إنشاده على نحو أبديّ في السّرائر الرومانتيكيّة للشعراء. فعدم الإشارة إلى حادثة معيّنة، وعدم مناجاة جسد معشوق أو حبيبة، هما الاستحضار الأمثل لعاطفة بلا تجسيد.

ولا يعني ذلك القول إنّ القصيدة لا تستلهم أيّة تجربة بعينها. هنا، كان ريتسوس يؤدّي الدّور التقليديّ للشّاعر في التفكير المثاليّ وفي التجريد، وفي إضفاء بُعْدٍ كونيّ أيضًا. فبعد بضع سنين، على أيّة حال، في 1937-38، كتب قصيدة طويلة في سبعة وثلاثين جزءًا، بعنوان «سيمفونيّة الرّبيع»، حيث نستطيع، عبر موتيفاتها الموسيقية وتفاصيلها الغنائيّة، رؤيةَ حادثة محدّدة عن عشّاق أحبّوا بعضهم حسيًّا، ثمّ افترقوا محزونين. يتكلّم الشاعر عن عزلته اللّانهائية فوق قمّة ثلجية (كان ريتسوس، في ذلك الوقت، قد أدخل، لقضاء سنتين اثنتين، للعلاج من مرض السلّ، في مصحّة على جبل بارنيثا قرب أثينا)، وعن قدره المأساويّ الكئيب (فقد ماتت أمّه وأخوه بداء السلّ)، وعن العالم الفتّاك في الخارج (كانت ديكتاتوريّة ميتاكساس في أوج استبدادها). تأتي المحبوبة إليه في الضّوء والأمل، وحبّهما «يملأُ الصّدع اللّانهائيّ/ بأجنحةٍ وأزهارٍ». إنها تجلب له المسرّة والحبّ في غرفة يجعلانها كونهما، فيحتفي بجسدها العاري الذي من خلاله ينهمك في وحدة الكون. يعقب ربيعَ الحبّ صيفُ الوفاء والتحقُّق، ثمّ، وعلى نحو حتميّ، خريفُ القمر الأصفر لشهر نوفمبر، حين تسقط أوراق الأشجار والموت «يختبئ تحت سريرنا/ ويصنع مزامير من عظام/ سنونوات ميّتة». بأمل متجدّد، يدرك الشّاعر بأنّ حبّه لها ليس سوى حبّ رمزيّ يدلّ على حبّه للخلق والإبداع، وبأنّ «خلف حديقتنا حدائقُ أخرى»، وأنّه لا يفترق عنها إلّا لينجز قدره الحتميّ كشاعر، متحرّر من كلّ القيود.»

من “مقدّمة” كيمون فريار

 

مقتطفات من الكتاب

أسفلَ السّريرِ

نعلاها

يحفظانِ شكلَ قدميها

دفءَ قدميها

إنّهما تتنفّسانِ

وطائرانِ أبيضانِ

بعيونٍ سوداءَ فاحمةٍ

وطوقٌ منَ النِّيْكِل

حولَ عنقيهما.

***

العينانِ جائعتانِ

الأُذنانِ جائعتانِ والمَنْخَرانِ

الفمُ اللّسانُ

جائعٌ هُوَ الجسدُ

يشمُّ ينصتُ يتلمّسُ طريقَهُ

على الرّكبتينِ الثّيابِ الجيوبِ

الشّكلِ الجسدِ الآخرِ

الرّموشِ واحداً واحداً

في اللّيلِ تماثيلٌ تركضُ

رجالٌ براياتٍ

أعمدةُ مصابيحَ

الجسدُ الصّابئُ يتلمّسُ طريقَهُ

في ملتقَى إيماءةٍ واحدةٍ

يتلمّس طريقهُ أبعدَ منَ الموتِ

داخلَ الموتِ

ينصتُ إلى قَطْرِ البالوعةِ

في الحمّامِ المرمرِ

بالمناشفِ الكبيرةِ الحمراءَ

منقوعةً بالماءِ.

***

كيفَ يكبُرُ

في اللّيلِ

هذا الجسدُ

القدمانِ

تنتآنِ من السّريرِ

تنتآنِ من النّافذةِ

نجمةٌ تُولَدُ

مفتاحٌ يضيعُ

ينغلقُ البابُ

خارجًا أظلُّ

يدُ التّمثالِ تسقطُ

على رُكبتيّْ.

***

كم أنتِ جميلةٌ. إِنَّ جمالكِ يُفزعني. أَجوعُكِ. أَظمَؤُكِ.
أُناشدكِ، اِحتجبي؛ اِحتجبِي على الكُلِّ، ولا تتجلِّي إِلاّ لِي أنا وحدي. مُغطّاةً
مِن رأسكِ حتّى أخمصَي قدميكِ بحجابٍ مُعتمٍ شفّافٍ
مُرقّطاً بتنهيداتٍ فضيّةٍ من أقمارِ الرّبيعِ. مسامُكِ تبعثُ
حروفَ علّةٍ، حروفاً صحيحةً مُشتاقةً؛ لقد لُفِظَتْ كلماتٌ سريّةٌ،
انفجاراتٌ ورديّةٌ مِن مطارحةِ الغرامِ. حجابُكِ يعلو، يلمعُ
فوقَ المدينةِ التي أدركها الليلُ بحاناتها التي تنوسُ فيها الأضواءُ، فوقَ أماكنِ البحّارةِ المألوفةِ؛
كشّافاتٌ خضراءُ تُنيرُ الصّيدليّاتِ اللّيلةَ، وكرةُ زجاجٍ
تُدوّمُ مُسرعةً فتكشفُ المنظرَ الطبيعيَّ لِكُرةِ الأرضِ. السكّيرُ يترنّحُ
في عاصفةٍ هبّتْ مِن أنفاسِ جسدكِ. لا تذهبي. لا تذهبي. 

واضحةً جدًّا. ومراوغةً جدًّا. ثورٌ حجريٌّ

يثبُ مِنَ القَوْصَرَةِ إلى العشبِ النّاشفِ. امرأةٌ عاريةٌ تصعدُ السّلالمَ الخشبيّةَ
حاملةً طَسْتَ ماءٍ ساخنٍ. والبخارُ يحجبُ وجهَها. عالياً في الهواءِ
مروحيّةُ استطلاعٍ تَسُفُّ مواضعَ عشوائيّةً. اِحترسِي.
إنّهم يطلبونكِ. اختبئِي عميقاً أكثرَ في يديَّ. فَرْوُ

البطّانيةِ الحمراءَ التي تغطّينا يكبرُ ويكبرُ،
فتصيرُ البطّانيةُ الحمراءُ دُبّةً حبلى. تحتَ الدُّبةِ الحمراءَ

نتطارحُ الغرامَ إلى الأبدِ، أبعدَ منَ الزمنِ وحتّى أبعدَ منَ الموتِ،

في اتّحادٍ كونيٍّ متوّحدٍ. كم أنتِ جميلةٌ. إِنَّ جمالكِ يُفزعني.
وأجوعُكِ. وأظمؤُكِ. وأناشدكِ: اِحتجبِي.

***

كلُّ الأجسادِ ٱلّتي لمستُهَا، ٱلّتي رأيتُهَا، ٱلّتي نِلتُهَا، ٱلّتي حلمتُ بها— كلُّها— 

تكاثفتْ في جسدكِ. آهِ يَا دِيُوْتِيْمَا الشّهوانيّةَ
في سِمْبُوزْيَم الإغريقِ العظيمِ. لقد رحلَ عازفو المزاميرِ،
رحلَ الشّعراءُ والفلاسفةُ. والشّبابُ الوسيمونَ للتوِّ قد ناموا
بعيداً في غرفِ نومِ القمرِ. وحيدةٌ أنتِ
في ابتهاليَ الصّاعدِ. صندلٌ أبيضُ
بسيورٍ بيضاءَ طويلةٍ مربوطٌ برجلِ الكرسيِّ. أنتِ نسيانٌ مُطلَقُ.

ذاكرةٌ مُطلقةٌ أنتِ. وأنتِ رِقّةٌ لا تنكسرُ. إنَّ النّهارَ ينبلجُ.
إِجَّاصاتٌ شوكيّةٌ مُكتنزةٌ تَشْطَأُ مِنَ الصّخرِ. شمسٌ ورديّةٌ
تستلقي ساكنةً فوقَ بحرِ مُوْنُوْڤاسْيَا. ظلّنا الثّنائيُّ
بَدَّدهُ الضَّوْءُ على أرضيّةِ الرّخامِ بسجائرها الكثيرةِ المُداسَةِ،
بأزهارِ ياسمينها الصّغيرةِ المُعلّقةِ على إِبَرِ الصّنوبرِ. آهِ يَا دِيُوْتِيْمَا الشّهوانيّةَ،
يا مَنْ وَلَدتِني ويا مَنْ وَلدتُكِ، آنَ أنْ نَلِدَ الأدوارَ والقصائدَ، أنْ نمضي في العالمِ.

ولا تَنسَيْ، في الواقعِ، حينَ تذهبينَ إلى السّوقِ، أنْ تشتري كومةَ تفّاحٍ،
ليسَ ذهبيَّ الحوريّاتِ، بَلِ الأحمرَ الكبيرَ، ذاكَ أنّكِ حينَ تقضمينَ
لُبّها القاسيَ بأسنانكِ اللامعةِ، تظلُّ ابتسامتُكِ الحيويّةُ
عالقةً كأبديّةٍ فوقَ الكُتُبِ.

***

The post “إيروتيكا” يانيس ريتسوس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>