فايد بدارنة - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/167rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:42:07 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png فايد بدارنة - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/167rommanmag-com 32 32 موسيقى البحر… عن دور الأغنية في انتشال البحر من الغرق https://rommanmag.com/archives/20324 Sun, 20 Dec 2020 12:26:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%8a%d9%82%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%b1-%d8%b9%d9%86-%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ba%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%b4%d8%a7%d9%84/ شكّل البحر على مرّ التّاريخ البشريّ وفي حاضره بمساحته العظيمة مادّة خصبة لنشوء الحكايات والأساطير، ليكون مركبا مركزيّا في قصص الأمم والشّعوب. كذلك، كانت المساحة البحريّة حلبة لصراعات ولنزاعات بين تلك الأمم وشعوبها، وشكّل مصدراً للعيش والرّزق، ورافداً للتّواصل. لم يكن البحر يوما حياديّا في السّياق التّاريخيّ والسّياسيّ والقومي. لم يقف عند صورته وتصوّراته الرّومانسيّة، […]

The post موسيقى البحر… عن دور الأغنية في انتشال البحر من الغرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
شكّل البحر على مرّ التّاريخ البشريّ وفي حاضره بمساحته العظيمة مادّة خصبة لنشوء الحكايات والأساطير، ليكون مركبا مركزيّا في قصص الأمم والشّعوب. كذلك، كانت المساحة البحريّة حلبة لصراعات ولنزاعات بين تلك الأمم وشعوبها، وشكّل مصدراً للعيش والرّزق، ورافداً للتّواصل. لم يكن البحر يوما حياديّا في السّياق التّاريخيّ والسّياسيّ والقومي. لم يقف عند صورته وتصوّراته الرّومانسيّة، فقد كان وسيلة لإخضاع الكثير من الشّعوب للمشاريع الكولنيالية ونشوء وقائع استعماريّة ضخمة، سخّرت المياه لخلق تغييرات وتحولات جذريّة في مسارات شعوب وتركيباتها البشريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. في كل عملية هيمنة كولنياليّة على البحر كان هناك الفقدان وتغييب الشّعوب الأصلانيّة عن بحرها، وبالتّالي كان لعمليات الهيمنة والإقصاء أيضا تأثير على شكل وجوهر الفنون المتعلّقة بالبحر. توفّرت بالبحر كلّ الظّروف لإطلاق الخيال الإنسانيّ وتبلور المواد الفنّيّة التي تعكس عوالمه. غذّى البحر مضامين وصورا لكمّ هائل من الانتاجات الثّقافيّة، فتأثير عملية التّشتيت هو أكثر اتّساعاً وعمقاً فيطال المشهد العمرانيّ والثّقافيّ، وتبرز محاولات للتّمسّك بمكانة وصورة البحر ما قبل الفقدان. تحاول هذه المقالة تناول تجربة الأغاني في تعاملها مع المشهد البحريّ الفلسطينيّ، تسليط الضّوء على دور الأغنية في استعادة البحر المُصادر، وهي محاولة للمساهمة في خلق مساحة نقديّة للحراك الفنّيّ الفلسطينيّ وعلاقاته الرّومانسيّة والجدليّة مع الحراكات الوطنيّة.

“هذا البحر لي”

تشكّل مقولة “هذا البحر لي” للشّاعر محمود درويش تعبيرا مركزيّا في المساهمة الإبداعيّة الفلسطينيّة للحفاظ على الهويّة الوطنيّة للبحر. وهي تلخّص أيضا محاولة بعض هذه المساهمات بتكثيف مجهودات التّشبّث بالمكان والانتماء من خلال توثيق البحر في القصيدة، الرّواية، الفنّ التّشكيليّ والفوتوغرافيّ والموسيقى. كانت الأغنية المحاولة الأبرز والأوسع انتشارا من بين هذه التّجارب، وقد يكمن السّبب في سهولة رواجها وانتشارها وترديدها. لكن باعتقادي، إنّ التّغني بالبحر هو حالة شعبيّة قاعديّة متجذّرة، هو حيّز لالتقاء الناس بأوقات التّرفيه ومدعاة لإطلاق الأهازيج في هذا الحيّز. والأهم أنّه دائما كان هناك مكان لأغاني البحر الأصليّة، وأقصد أغاني الصّيّادين والبحّارة، فتلك الأغاني هي الأغاني الأولى للتّواصل مع البحر. غالبا ما يعتبرها النّاس أغان للتّسلية، إلّا أنّها من فئة أغاني العمّال، الأغاني التي تحمل الهموم اليوميّة للعامل، أغان بظاهرها “للتّسلية” أمام سطوة صاحب العمل وحالة القهر اليوميّة للعمال. فالصّيّاد، كباقي قطاعات العمل التي قد تملك أغان خاصة بها، يطلق الأغاني للتّعاطف مع حالته ولرفع معنويّاته أمام مخاطر وغموض يومه مقابل عائلة تنتظر عودته سالما غانما. لذلك، نجد أنّ أغاني الصّيّادين بمعظمها تحمل ذكرا واستدعاء وتوسّلا وتوكّلا على الله وطلب وفرة الرّزق اليومي. هنا نحن بصدد الحديث عن أغان طبقيّة ليست بالبساطة المتخيّلة لنا.

تتطرّق هذه المقالة، من خلال بعض النّماذج الغنائيّة، لطابع الأغاني التي ارتبطت بالبحر لفنّانين ولمجموعات موسيقيّة (فلسطينيّة وعربيّة) ما بعد النكبة. لا تتطرّق هذه المقالة لأغاني الصّيّادين، إلّا أنّها تأخذ بالحسبان السّياق الضّروريّ لتلك الأغاني، أي سياق غيابها واندثارها القسريّين في سياقنا الفلسطينيّ، باستثناء حالة صيّادي غزّة. هذا السّياق يحتّم علينا ذكر محدوديّة الدّراسات والأبحاث الفلسطينيّة حول فولكلور البحر، بما في ذلك أغاني الصّيّادين، ما قبل النّكبة تحديدا وعدمها ما بعد النّكبة، فغياب دراسات التّراث البحريّ هو قصور نوعي في توثيق الحالة الفلسطينيّة في كافة مستوياتها. بهذا الصّدد، لا بدّ أن أذكر كتابات لخالد جمعة وزكي العيلة حاولت التّنبه لهذا القصور وأدركت الوزن النّوعيّ لمكانة البحر السسيولوجيّة والسّياسيّة أمام ما شهده عالم البحر الفلسطينيّ من ضياع وتهديد متواصل. بعض التّجارب التّوثيقيّة لأغاني التّراث البحريّ يمكن رصدها في الخليج العربيّ وخصوصا في الكويت والبحرين، وهي أغان متطوّرة بالإيقاعات الموسيقيّة والسّرد الملحميّ مستعينة بمساهمات صوتيّة وأداء جماعيّ يستحق الالتفات إليه والاستفادة منه.

الهيمنة على الفضاء 

غالبا ما يتم التّطرّق لعمليّة السّيطرة في سياق التّفتّت السّكّانيّ، الإقصاء والتّشريد وتغييب أهل البحر عن موارده المتعدّدة. لكن، إلى جانب ذلك تعمل المنظومة الاستعماريّة على تفتيت وشرذمة أكثر اتّساعا، فهي تطال المشهد العمراني والثّقافيّ للبحر. فتشمل عملية الإقصاء تبديلا ممنهجا للصّورة البحريّة لدى أهل البلاد. عموما، البيئة الاجتماعيّة التي تنشأ على ساحل البحر جراء تفاعل الدّيموغرافيا بمركّباتها الطّبقيّة مع الجّغرافيا تنتج ثقافات وأشكال حياة ستجد انعكاسا لها في مواد فنيّة وليدة هذا المناخ. هو مناخ العمّال، الطّبقات الكادحة، المقاهي الحاضنة لشرائح ناس مختلفة في المدينة، ورشات الحرفيّين وكلّ مناخ آخر مرتبط بالبحر الذي ينتج الموسيقى والغناء الخاصّ بسمات المكان. هذا هو الحال في العديد من الإنتاجات الموسيقيّة التي ولدت من رحم بيئاتها. 

الحدث الكولنياليّ في حالة المدن الفلسطينية السّاحلية كان ديناميكيا ويحمل رؤية للهيمنة على تفاصيل المكان انعكست في مخطّطات سلخت سوسيولوجيا البحر الفلسطينيّ وثقافته عن أهل البحر. تمت عمليات السلخ بشكل ممنهج بالسّيطرة على فضاءات من تمّ تهجيرهم، وبواسطة عسكرة البحر وتحويله لمؤسّسة أمنية تنتشر على مساحات شاسعة من السّاحل يمنع الدخول إليها. هكذا فإنّ ما تبقى من علاقة فعليّة، جسدية وبصرية مع البحر هو مسارات وشواطئ للتّرفيه من إنتاج المدن الجديدة المخطّطة والمرسومة بالعبريّة. هذا يشمل الإبقاء على ما تبقّى من ميناء عكا ويافا كفولكلور سياحيّ محدود خاضع للدّولة بسياساتها البحريّة، الأمنيّة والتّخطيطيّة. أدّت عملية الفصل والإقصاء للقضاء على الفضاء الموسيقيّ المفترض أن ينمو ويغازل بحره وعالم مدينته البحريّ، بحالته الطّبيعيّة، كباقي المدن البحرية في العالم. هذا لا يعني عدم نشوء موسيقى “أخرى” داخل هذه المدن، وإنّما نقصد هنا تعطّل العلاقات الطّبيعية الجدليّة مع البحر والحوارات الإبداعيّة داخل هذه العلاقة. فعمليّات محو التّفاصيل والذّاكرة البحريّة بما تحمله من صور حسيّة وبصريّة تشكّل حالة فقدان للمادة الفنيّة عامة والموسيقيّة تحديدا في سياق المقالة. 

أغاني المخيال الجمعيّ والانتماء

على الرّغم من الاستقواء الكولنياليّ على الحيّز وربما أيضا بسببه، كانت هناك محاولات مضادّة مقاومة لاستحضار البحر الفلسطينيّ من خلال الأغنية. محاولات دخلت ضمن سياقات جغرافيّة مختلفة للإبقاء على الذّاكرة وحالة الاشتباك الحسّيّة مع السّاحل. تثبت القراءة لهذه التّجارب الموسيقيّة في محاكاة البحر والسّاحل الفلسطينيّ أهمّيّة الأغنية والموسيقى عموما في لعب دور توثيقيّ، في بلورة الهويّة المشتّتة أو المهدّدة وهي مساهمة في مشروع فنيّ للإبقاء أو لاسترجاع هوية المكان. يمكن الحديث عن إمكانيات الأغنية في إحداث اختراق رمزيّ نوعيّ أمام عسكرة السّاحل، إمكانيات تكون فاعلة في إسناد الرّواية التّاريخيّة للمكان. يكتسب دور الأغنية وباقي الفنون أهمّيّة خصوصا وأنّ الهيمنة على المكان لا تتم فقط بتجييشه المتواصل وإنما بإنتاج ثقافيّ موسيقيّ وشعريّ وروائيّ عبريّ مكثّف مقابل إنتاج عربيّ محدود. قد تكون عمليّة الابتعاد والإبعاد القسريين عن البحر عاملا أساسيّا في حديثنا عن كمّ محدود من موسيقى البحر الفلسطينيّة، إلّا أن هذا العمليّة من المفترض أن تواصل بحثها في ذاكرة وحاضر البحر الفلسطينيّ وتفاصيله كجزء من التّصدي لماكنة القوّة وإثراء سرديّة النّكبة بالمنتوج الثّقافي.

قد يبدو الخطاب النّقديّ تجاه حالة الشّحّ الموسيقيّ حول البحر والسّاحل في الإنتاج الموسيقيّ كتوجيه سياسيّ أو عقائديّ حول ماهيّة الأغنية وماهيّة إنتاجها وكأنّ هناك تصنيفات وقوالب لما يجب أن تكون عليه. إلّا أنّنا في الحقيقة نحاول تسليط الضوء حول ما هو مفقود أو ما هو قليل أمام غزارة في الإنتاج الكولنياليّ، وأيضا مقابل إنتاج فلسطينيّ أكثر كثافة في التّغني بالأرض، وبالتّراب وبالقرى والمدن عامّة، وفي تقديم طروحات حول دور الموسيقى في تحفيز المخيال الوطنيّ وتعزيز الانتماء للبحر وفتح نوافذ أمام خطابات موسيقيّة جديدة. في حديثنا عن الخطابات والمؤلّفات الموسيقيّة البحريّة، هناك ضرورة لتحرير الأغنية من التزامها لقوالب معينة وجمل موسيقيّة مألوفة، فيمكن التّحرر من التّراث والصّور التّقليديّة وخلق لغة تخاطب شرائح مختلفة من الجمهور. وقد تستعين الأغنية المعاصرة بتفاصيل من التّراث البحريّ أو إعادة إنتاج أغاني الصّياّدين بقوالب جديدة. أي أنّ تحرير الأغنية من الأنماط الكلاسيكيّة شعرا أو تلحينا قد يفتح منافذ لجمهور أوسع للّتواصل والانتماء رغم من جدران الإقصاء. 

نماذج مركزيّة

من أهم التجارب التي قدّمت مساهمة موسيقيّة نوعية، وانتشرت على المستوى العربيّ عموما، هي تجربة الرّحابنة والغناء ليافا ولميناء يافا. وربما تكون هذه التّجربة الأولى والأبرز والأكثر تأثيرا. استطاعت الأغنية اللّبنانيّة التّسلّل إلى يافا، والصيد ببحرها. أغنية حواريّة بين المؤدّي المركزيّ جوزيف عازر والكورس مستخدمة لحنا يتّسم بالفخامة والإتقان قريبا من المارش تؤديه أوركسترا متماسكة وكاريزما عازر الصّوتيّة. لم تنل هذه الأغنية ما تستحقه من دراسة في أسبقيتها لطرح الميناء والسّاحل الفلسطينيّ بهذه القوة واستحضار مكانة الصّيّاد ابن مدينة يافا من خلال “ملحمة صيد” موسيقيّة قصيرة ثاقبة، ولا تطرح الحنين الرّومانسيّ فحسب، بل تقدّم نموذجا موسيقيّا سياسيّا خطابيّا ينادي بالعودة ويردّد حتميّتها.

لبنانيّا أيضا، وفلسطينيّا، قدّما مارسيل خليفة وخالد الهبر، كلّ على حدة، ملحمة محمود درويش الشّعريّة “أحمد الزّعتر”. حيفا وبحرها يشكّلان الملاذ الآمن لأحمد من المذبحة. في “أحمد الزّعتر” لمارسيل خليفة تلعب الموسيقى دورا في استحضار المشهد البحري. في مقطع “نازلا من نحلة الجرح القديم” وباستخدام تسجيل لصوت البحر وبمرافقة صوت أميمة الخليل يقترب أحمد من تفاصيل البلاد. في غنائيّة أحمد العربي يقدّم درويش شعريّا ومارسيل خليفة موسيقيّا بحر حيفا كهويّة أحمد المشرّدة بين الرّصاص في المخيّم. في هذا الإنتاج، وهو برأيي العمل الأضخم موسيقيّا، تُقدّم حيفا أيضا ك”عاصمة” أحمد العربيّ، وبحرها هو جداره الاستناديّ وصورته. القصيدة والموسيقى معا يقدّمان مخيالا للبحر، للمدينة وللكرمل. تحوّل الملحمة الغنائية حيفا بوصلة أحمد. نموذج عربيّ إضافي قدّمه الفنان السّوري سميح شقير في إصداره الموسيقيّ “زهر الرّمان” حيث تضمنت عملا موسيقيّا حسّيّا مرهفا مليئا بالحلم والحنين في أغنية ” بحرك يافا”، ويسأل شقير في أغنيته “وين غنانينا البحريّة نغنّيها صبح ومسويّة…” تساؤلا مرتبطا بموضوع هذه المقالة.

كان للأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة في الشّتات مساهمات في تقديم الأغنية الملحميّة التي شكّل فيها البحر رمزا مركزيا من رموز البلاد. من أبرز هذه المساهمات أغاني فرقة العاشقين كأغنية “مشينا الدرب” وأغاني الفنّان الرّاحل أبو عرب كأغنية “هدّي يا بحر هدّي”. في هذه الأغاني يظهر جليّا التّمييز بين بحر الشّتات والتّشرد وبين بحر الوطن، بين ميناء المنفى وميناء الوطن. قدّمت الأغاني حنين العودة من البحر إلى البحر. قُدّم البحر في معظم هذه الأغاني كبوّابة العودة لبرّ البلاد. إلّا أن هذه الأغاني، بخلاف الأغاني العربيّة التي ذكرت سابقا، لم تتوسّع في تفاصيل البحر، المدينة أو الميناء وركّزت على رمزيّة البحر ضمن الفعل المقاوم.

التّجربة الفلسطينيّة الأبرز في التعامل مع البحر ومدن الساحل هي تجربة فرقة “ولّعت” العكيّة. فرقة “ولعت” التي تأسّست في مدينة عكّا من موسيقيّين أبناء المدينة قدّمت نموذجا متقدّما في الخطاب الموسيقيّ البحريّ، خطابا يتوغّل في حياة أبناء المدينة، يلامس الحياة الاجتماعيّة، حياة البؤس والفقر تحت واقع سياسيّ واضطهاد قومي. مستخدما اللهجة العكيّة المرتبطة لدى الفلسطينيين بلهجة أهل البحر (بالإضافة الى لهجة أهل يافا) يدمج هذا النموذج بين معاني الصّمود، العيش والبقاء، وتقدّم المدينة كحارسة البحر. هذه اللهجة الأصيلة والتّعابير في مبنى الأغاني توحي تلقائيّا بانتماء الموسيقيّين للميناء وللبحر ولأغاني الصّيّادين. في أغاني “كيف”، ” شوه القصّة”، “عكّا على راسي” و “لو شربوا البحر” نجد وصفا صوريّا يرمز للتحولات التي فرضت على المدينة وقلبت مجرى حياتهم إلى خطاب الصّمود والمرابطة في المدينة. أغاني فرقة ولّعت بكلماتها وموسيقاها بالإضافة لرمزيّة عكّا ومكانتها حوّلت أغاني الفرقة لأغان “وطنيّة” يردّدها الكثير من الفلسطينيّين.

مما تقدم، يمكن للقارئ وللمستمع أن يلمس دور الأغنية في الحفاظ على الذّاكرة الجمعيّة من جهة وعلى بلورة الهويّة الجمعيّة من جهة أخرى. في حمايتها للذّاكرة فهي تتحوّل لمادة توثيقية، أمّا في دورها في تشكيل وبلورة هويّة حول البحر فهي تتحوّل لأغنية سياسيّة فاعلة في الحراكات الوطنيّة المعاصرة. لكن وجود بعض الأغاني وتميز بعض التجارب (كفرقة ولعت تحديدا)، لا يعني، باعتقادي، أن الحالة الفلسطينية نجحت بإنتاج مشهدا موسيقيا بحريا وباحتضان حكاية الساحل الفلسطيني موسيقيا،  فهناك شبه غياب نوعي لسواحل غزة وعسقلان وأسدود مثلا (وبهذا السياق فهناك قصورا بالكتابة عن بحيرة طبريا)، بل هناك إخفاق في كثافة الإنتاج وتنوعه مدارسه. تداعيات الكارثة الديموغرافية، الاجتماعية والثقافية التي حلت بمدن الساحل بعد النكبة، تداعيات ما زالت مستمرة، تلعب دورا مركبا وحاسما في عرقلة هذا الإنتاج. من هنا تصبح هناك ضرورة لتكثيف البحث الأكاديمي الجاد حول النكبة التي حلت بالمشهد الثقافي الفلسطيني عام 1948 كمساهمة نوعية في بناء مشروع ثقافي جمعي.
 

ننشر المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطيني»، المشترك بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة» والفنون الذي تنظّمه الجمعيّة خلال هذا شهر.
 

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.
 

The post موسيقى البحر… عن دور الأغنية في انتشال البحر من الغرق appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
عن الحالة الزّفت… في معرض “فاصلة” https://rommanmag.com/archives/19471 Tue, 30 Oct 2018 09:57:31 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%91%d9%81%d8%aa-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b9%d8%b1%d8%b6-%d9%81%d8%a7%d8%b5%d9%84%d8%a9/ ضمن مهرجان «قلنديا الدولي»

The post عن الحالة الزّفت… في معرض “فاصلة” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

التضامن هو عنوان الدورة الرابعة من فعاليات “قلنديا الدولي” حيث أطلقت الدورة الحالية لهذا الحدث الثقافي دعوة للخوض في أشكال وإشكاليات التضامن Solidarity في ظل واقع جديد، واقع يحتل فيه الحيز الاجتماعي والحياتي الحيز الرئيسي في المشهد الفلسطيني. فلسطين التي رزحت ومما زالت ترزح تحت سيطرة القوى الاستعمارية خاضت تجارب متعددة مختلفة ومركبة من أشكال التضامن العربي والدولي وكان على هذه التجارب التضامنية أن تتعامل مع تغيرات وقائع وإيديولوجيات أحدثت تحولات بأشكال التضامن: من المد الاشتراكي والمد القومي العربي وصولاً للمد الإسلامي. مع تصاعد الإسلام السياسي في حاضرنا ومع تحول “العولمة” لتكون الوجه المركزي للعالم الرأسمالي وتسلل الحل “السياسي التفاوضي” للمشهد الفلسطيني، لا بد أن تتأثر أشكال ومستويات التضامن العربية والعالمية مع قضية فلسطين الإنسانية العالمية، التحولات والتغييرات تبدل الهم “الثوري التحرري” بالهم ” المعيشي”. هل يمكن للفن أن يستمر بالتعبير عن الحالة الكولنيالية وآلتها القمعية؟ هل يمكن للفن أن يراوغ ويكيف نفسه مع الوقائع الجديدة دون أن يفقد بوصلته الأساسية ألا وهي زوال الاستعمار؟

في صالة جاليري الحوش الفلسطيني في القدس أقيم معرض “فاصلة” لمجموعة من الفنانين، تقدم الأعمال قراءات متعددة ومختلفة للواقع الفلسطيني أو للغلاف المحيط ذات الصلة بفلسطين، تتطرق الأعمال أيضاً لتفاصيل إنسانية للفرد الفلسطيني، لهمومه ولحالات الرعب، الخوف والقمع والتحدي التي تُفرض على الإنسان العادي. سنقدّم في هذه المقالة قراءة لبعض الأعمال المشاركة في المعرض.

زفت – هاني زعرب – غزة – 2016
 

الفنان الغزاوي هاني زعرب قدم نموذجاً متميزاً “سوداوياً” من حيث الأدوات والمواد والموضوع. تربط أعمال زعرب ربطاً وثيقاً بين التعبير الفني للعمل، الظهور النهائي على الحائط وبين موضوع العمل. الزفت هو المركب الأساسي للشكل والمضمون.

“الزفتة” هي المادة الأساسية في تفصيل العمل وتقنياته، مع الزفتة كتعبير أساسي والإكليريك كمادة مساعدة قدم زعرب لوحاته. الزفت مصطلحنا اليومي، الزفت حالتنا السياسية الاجتماعية والاقتصادية. “زفت” هو جوابنا الطبيعي لـ “كيف الحال؟“، زفت هي حالة الإنسان الفلسطيني في حالة الانحدار وفي حالة الغموض وفي حالة السقوط. و”زفت” تعبير الغضب وتعبير خيبة الأمل، والزفت هو بحثك عن الأساسيات، الأساسيات الخدماتيه بوجود شارع إسفلتي أو عدمه. “الزفت” كلمة عربية معناها العبري “زيفت”، تشابه لغوي مقابل هوة في موازين القوى. الاحتلال المساهم والراعي الأول لحالتك “الزفت” يدخل “مقاولين ثانويين” للمشهد الفلسطيني لتصير الحالة أكثر تركيباً وأكثر سوداوية وأكثر “زفتاً”.

العمل يبدو متجهما بالسواد، السواد “المزفت” يخلق أوجه لوحات ما بين التوحش والخوف، ما بين التقوقع بالسوداوية وبين فسحة الامل بالوان فاتحة. “زفتة” زعرب مادة ناجحة فنيا وموفقة تعبيريا، وبرايي تعبر عن هم وهاجس الفنان بالبحث عن الجديد الفني.
 

Zeft 6, tar and pigments on canvas, 2016

       

Zeft 18, tar and pigments on canvas, 2016

 

Zeft 14, tar on canvas, 2016

 

Zeft 16, tar and pigments on canvas, 2016

 

Zeft 9, tar and pigments on canvas, 2016

ورق جدران – تيسير البطنيجي – غزة – 2015

يعالج الفني تيسير البطنيجي المشهد غير الاعتيادي من رعب، تفجير، قتل وذبح، وكيفية تحوله لمشهد اعتيادي، عابر. يقوم تيسير بتجميع صور إنترنت “غير اعتيادية” ويحولها لورق حائط، يذهب البطنيجي إلى تحويل الاستثنائي إلى اعتيادي، فبدل أن يجعل من الاستثناء لوحة استثنائية على الحائط، يتنازل عن “البرواز” ويحول الحائط إلى لوحة بيئة اعتيادية. ورق الحائط هو وضع اعتيادي للعامة، تتابع رسماته بشكل روتيني، معتاد على وجوهه رغم غرابته. لذلك يقوم الفنان الغزي بتحويل مشهد الذبح إلى لوحة كبيرة عبر ورق الحائط، آملاً من الناس التفرس بالمشهد ليتحول الناس لحالة صحو، ذهول من الكم المرعب من القتل. يراهن الفنان على قراءة مجددة من قبل المشاهد ليكتشف عمق المأساة.

تعكس الأعمال مجريات وأحداث تاريخية ألقت بظلالها على الحالة الفلسطينية وحالة التضامن معه. تشير أعمال “ورق الحائط” إلى وقائع الموت والذعر كوقائع الذبح الداعشي باللون البرتقالي والأسود، يوميات الذبح التي اعتدنا عليها تدريجياً ولربما نسيانها. تحاكي أعمال تيسير البطنيجي بشكل مباشر ثيمة قلنديا الدولي الذي يعالج أشكال التضامن مع فلسطين في ظل أحداث ومتغيرات دولية. ولا شك أن الإرهاب الديني الداعشي أثّر سلباً على مستويات التضامن مع فلسطين لوجود خلط في ذهنية الرأي العام الغربي ما بين “الإرهاب” و”المقاومة”. موضوع الاعتيادي والاستثنائي في أعمال البطنيجي تحفز المشاهد لاستحضار الحالة الفلسطينية، وهكذا يصبح “الحاجز” اعتيادياً، تلاشي في الاكتراث للوجود اليومي للحاجز في ظل هم حياتي ومعيشي، وهكذا هو الحال مع الجدار. فهل نحدق بورق الحائط الاعتيادي لنكتشف عمق الجريمة؟
 

 

 

 

29 نوفمبر – توم بوجارت – بلجيكا – 2018

يقدم البلجيكي توم بوجارات عملاً تركيبياً من خلال مجال الفيديو آرت. حيث يقدم تعابير مرئية من على شاشة في غرفة معتمة جزئياً يرافقها مقطع صوتي متكرر من خلال مكبر صوت لربما يرمز لصوت الإنسان في المظاهرات أو لنداءات قوى الأمن لتفريق المظاهرات. مركبات الفيديو آرت التي يقدمها بوجارت تشكل عملاً احتجاجياً على حجم “التعاطف” العالمي مع الشعب الفلسطيني. يذهب لدراسة أحداث “29 نوفمبر، اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، ليجد أن القائمة مزدحمة بمناسبات، تواريخ ، أحداث وظواهر ومواضيع أخرى تكرس لها الأمم المتحدة برامج وندوات وأيام وحملات وأيام تضامنية.

ويستحضر بوجارت مواضيع تستحق الاهتمام الأممي والإنساني، لا ينتقص من أهميتها، وإنما يتابع التحولات والتغييرات التي طرأت على يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني. هي صرخته ضد أن يتحول هذا اليوم ليوم اعتيادي، وأن تتحول قضية شعب يرزح تحت الاستعمار لقضية هامشية.
 

 

شاباس – روان أبو غوش – القدس – 2018

تقدم الفنانة روان أبو غوش مجسماً من الحديد والقماش، كتب عليه بالعبرية ”مصلحة السجون“. يعكس العمل الحالة الصدامية بين سجان يمتلك كل وسائل القمع وبين أسرى فلسطينين عزل من أي شيء سوى أجسادهم. يتحول جسد الأسير الأعزل لسلاح يواجه به آلة القمع في سجون الاحتلال. تقدم أبو غوش جسد الأسير ككيان يمتلك وعي وإدراك وهوية يستعين الأسير به لرفض محاولات سجانه تحويله لآلة جوفاء. يفرض عليه السجان حرباً ليصادر منه إنسانيته فيحول الأسير الفلسطسني جسده الأعزل لسلاح حديدي للدفاع عن إنسانيته أمام آلة الحديد الاستعمارية التي تحتجزه. هذه الحالة الصدامية تستحضرها أبو غوش عن طريق هذا العمل الفني ليقول السجين: حديد يحاول كسر إنسانيتي، فيصبح جسمي حديدياً لأحمي إنسانيتي.
 

 

بدون عنوان – نور أبو عرفة – القدس – 2010-2011

تقدم أعمال نور أبو عرفة بواسطة ألوان وأقمشة على خشب. تقول نور إن اللوحات “ترفض التلاعب بها وتصنيفها أو إعطاءها مسميات، الخطوط المجردة تخفي أي صفات معينة مما يجعلها تفتح سبلاً للرؤيا المجازية المختلفة.” وبالفعل فإن أعمالها المقدمة لا تبقي العمل في مساحة واحدة للتأويل والاستيعاب. قراءتي الخاصة تميل لتحليل واستيعاب العمل كتعابير جندرية لحالة “الصمت” النسائية، للخنق الذكوري الممارس ضد النساء، فألوان القماش مستوحاة من الملابس الخاصة للنساء ومن الأقمشة المستعملة في تضميد ومعالجة الكسور في الجسد، والدوائر في الأعمال قد ترمز لـ “الدورة الشهرية”، وهذه المواد والإيحاءات مقدمة بالأعمال ما بين الشد المحكم الخانق وما بين محاولات الرفض والتمزق.

نتيجة الهيمنة الذكورية، هي ليست فقط إقصاء النساء من الحيز الاجتماعي والسياسي وإنما اأيضاً إقصاء النساء من الحيز الوطني في مواجهة الاحتلال. ترفض اللوحات التلاعب بها وإعطاءها مسميات لكنها لا يمكن أن تتحكم بالباب الذي قد يفتح للتفسير والتفكيك.
 

 

 

غير متصل – نور عابد – رام الله – 2018

يقدم عملاً مختلفاً عن باقي الأعمال في المعرض، أكثر تعقيداً ومحاكاة للمباني الاجتماعية. من خلال الفيديو يقدم حالة الركود في الحاضر الاجتماعي الفلسطيني، حاضر ملتصق بالماضي. يستعين العمل بالمفكر البريطاني مارك فيشر الذي تحدث عن “الحنين إلى المستقبل” معتمداً على ”الهونتولوجيا Hauntology” للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا.  فيشر قدم نقداً فلسفياً للرأسمالية ودورها في إعاقة التقدم نحو المستقبل، lost futures، وإحداث قلق وإرباك للثقافة.

يتم تقديم الحالة الفلسطينية كحالة تعيش الماضي دون توق للتجديد عن طريق مراسيم العرس الروتينية، مقابل أنماط أخرى “أجنبية” لكنها بلا ملامح ومعالم بارزة، إلا أنها تُظهر بالفيديو محاولة كسر النمطية عن طريق المحاولات المتجددة لخلق انطلاقات جديدة. ويمكن لمن يشاهد فيديو آرت “غير متصل” أن يذهب نحو توجيه نقد للمؤسسة السياسية الفلسطينية “الرأسمالية” التي تساهم في حالة الإرباك التي يعيشها الشارع الفلسطيني وتعيق أشكال التقدم الفلسطيني نحو المستقبل ورؤية الارتباط هذه المؤسسة بالكيان الكولنيالي كحالة أعمق لهذا الركود. ويبقى العمل مفتوحاً للتفسيرات والقراءات.
 

 

 

The post عن الحالة الزّفت… في معرض “فاصلة” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«أبولو غزة»: تجنّب السياسة، وطرح سينمائي إشكالي https://rommanmag.com/archives/19459 Sat, 20 Oct 2018 07:45:23 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d8%a8%d9%88%d9%84%d9%88-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%aa%d8%ac%d9%86%d9%91%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9%d8%8c-%d9%88%d8%b7%d8%b1%d8%ad-%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7/ ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

The post «أبولو غزة»: تجنّب السياسة، وطرح سينمائي إشكالي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

“كان ثقيلا…”

سرعان ما أدرك الصياد الغزي أن ما رأته عيناه في الماء، أثناء معاينته لشباك صيده، هو صنم، تمثال على هيئة إنسان، وليست جثة بشرية. مع استدعاء “عونة”عائلية انتشل الصياد التمثال الصنم من قاع البحر مقابل مخيم النصيرات في خان يونس، واصطحبه إلى بيته، لينتقل بعدها “التمثال” إلى وجهات أخرى. سرعان ما تبين أن التمثال مجهول الهوية هو تمثال الإله اليوناني ”أبولو“، إله النبؤات والجمال والفن، ولاحقاً ستختفي آثاره عن الأعين داخل غزة. من هنا يبدأ مسار تحقيق سينمائي للاستكشاف وللبحث عن تمثال أبولو في غزة في محاولة للوصول إلى محتجزيه.

السينما الوثائقية وإشكالية البحث عن الحقيقة:

من السمات المركزية للسينما هي قدرتها على تحويل العرض المرئي-الصوتي إلى ظاهرة قابلة للاستيعاب والتحليل، والتي تتبلور من خلال تجربة المشاهدة. هذا العرض بمركباته الشكلية والجمالية واستراتيجيات بنائه كما يتم استيعابها لدى المشاهد هو الأساس لفهم الفضاء السينمائي. وبالتوازي مع شكل البناء السينمائي هناك مصطلحات ومقولات فلسفية في صناعة السينما تساهم في عملية الاستيعاب والتحليل والتبلور. وهناك أيضاً قضايا سياسية اجتماعية واقتصادية تحرك الفعل السينمائي. ويذهب البعض إلى اعتبار السينما شكلاً تكنلوجياً معاصراً من أشكال صناعة الفلسفة أو من يقول إنها الفلسفة بإحدى تجلياتها (philmosophy). عملية العرض، الاستيعاب والتبلور بموازاة واقع سياسي واجتماعي تتعرض أيضاً لاشكاليات ومخاطر. “أبولو غزة” هو نموذج سينمائي يمكن التطرق من خلاله لعملية العرض والإشكاليات.

في السينمائي الوثائقي “أبولو غزة” (إخراج: نيكولاس فاديموف – إنتاج: سويسرا- كندا) تجري عملية بحث عن الحقيقة وسط واقع سياسي وجغرافيا سياسية اجتماعية “مبهمة” يتجنب الفلم بشكل مبالغ فيه الخوض بتفاصيلها. يطرح الفلم قصة اكتشاف “أبولو” واختفائه من خلال روايات متعددة مختلفة ومتضاربة يفترض بها أن تساهم في عملية تبلور المعرفة لدى المشاهد. يذكر أن تبلور المعرفة من خلال التجربة السينمائية يعتمد أيضاً على شكل العلاقة بين المشاهد وشخصيات الفلم. في السينما الروائية المسافة بين الشخصيات والمشاهد هي مسافة بعيدة وكبيرة، والعلاقة مع شخصية الفلم تعتمد بالأساس على تجربة المشاهدة، ومن خلالها يتكون الموقف من هذه الشخصية، ويدرك المشاهد أن هذه الشخصيات “وهمية”، وبالتالي تتكون مستويات معينة من التضامن والتعاطف مع شخصيات الفلم. بالمقابل في السينمائي الوثائقي، وفي سياق “أبولو غزة” فإن البحث عن الحقيقة، وبناء المعرفة والتعاطف هو من خلال مسافات أقصر مع مادة الفلم وشخصياته، فعلاقتك بهما تعتمد أيضاً على ثقافة ومعرفة مسبقة بالمادة وقد تعتمد أيضاً على نقص بالثقافة والمعرفة. “أبولو غزة“ يطرح للعرض أمام أنواع مشاهدين مختلفة: من يمتلك المعرفة، من يمتلك معرفة جزئية، ومن لا يمتلكها، وبالتالي مستويات التعاطف مع الفلم ستكون مختلفة ومعقدة. والحقيقة التي يبحث عنها الفلم من شأنها أن تؤدي لإفرازات عن الحقيقة الذاتية والحقيقة الموضوعية. الحقيقة الجزئية والحقيقة المطلقة.
 

السينما الوثائقية التي يقدمها ”أبولو غزة“ تفرز قضايا جدلية متفاوتة لدى المشاهد. فمركّبات الفلم والأدوات المستعملة ابتداءً من المكان وصولاً للإنسان تطرح تساؤلات عن الحقيقة وعن المعرفة وماهيتها. تشكل غزة مادة سينمائية لطرح التساؤلات حول حدود المعرفة. مكانة الإنسان من المعرفة، وبالتالي عن دور الكم المعرفي هذا في بناء الحقيقة الذاتية أو الموضوعية كما ذكرنا سابقاً. إلا أن الإخراج والشكل الكلي لـ “أبولو غزة” يقع في إشكاليات جدية في عمليات البحث وعملية التحليل والتأويل. فالفلم أخفق، بشكل مقصود أو غير مقصود، بتقديم مواد من شأنها أن تساهم في في استيعاب وجود أجهزة هيمنة سياسية عليا وعملية إقصاء ذات طابع استعماري لها دور حاسم في مجريات القصة، إلا أنها غابت إلى حد كبير. دور حاسم غائب لكنه حاضر في ذهنية المشاهد الفلسطيني ودور حاسم غائب في حلقة المعرفة لدى الكثير من المشاهدين الأجانب. وبالتالي التعاطف مع غزة وشخصياتها سيكون خاضعاً للهيمنة التي مورست على المادة السينمائية والتي من شأنها خلق تعاطف مع “أبولو المخطوف”، عدم التعاطف، أو أقل تعاطفاً، مع بيئته الغزاوية.
 

مزاج استشراقي

We travel throught the darkness in search of the light… من فلم أبولو غزة

كثيراً ما تسلك الأفلام الروائية والوثائقية الغربية مساراً إنتاجياً مشبعاً بالصور النمطية الاستشراقية. الصور التي تبحث عن الضوء في عتمة الشرق. السينما التي تتسلل للشرق وسط الغموض والمخاطر. إنتاجات سينمائية اعتادت أن تفتتح أفلامها بصوت الأذان وصور الجوامع، وبالتالي تكرير وترسيخ “البوم الصور” النمطي في ذهنية المشاهد الغربي. فالأفلام التي تركز على الإنسان المصري الذي يبيع قطعة أثرية فرعونية مقابل المال متجاهلة المشهد الكلي الاقتصادي والمجتمعي والسياسي نجد لها انعكاساً في “أبولو غزة”، حيث لا تكترث بعض الشخصيات في الفلم بقيمة التمثال الحضارية والإنسانية، وما يهمها هو مقايضة التمثال بمقابل مادي. كذلك يعرض الفلم المواطنَ الغزي الذي لا يفقه قيمة أبولو، لكن هاجسه الأساسي هو تغيير “طقم حياته” كما عبر عن ذلك الصياد الذي عثر على التمثال، في حين لا يلامس الفلم واقع غزة، بل حتى يبتعد عن المعالجة السطحية.

الفلم لا يتوانى عن تقديم مشاهد تخدم الصورة النمطية عن الإنسان العربي الشرقي، المافيا، اللص، المسلح، الإرهابي. فتظهر الجدران في غزة عليها صور لمسلحين (الشهداء) والحديث يدور عن احتمال وقوع أبولو بأيدي الذراع العسكري (لحماس) أو مجموعات أخرى إجرامية. ولم تخضع هذه المشاهد لمعالجة سينمائية أو أدوات سينمائية من شأنها أن تزود المشاهد الأجنبي بأشكال معرّفة تساعده على أحداث التوازنات اللازمة في المشهد المعروض. صورة “حضارية” نقيضة لـ “فوضى غزة” تقدم بالفلم من خلال متحف إسرائيل في القدس حيث الاهتمام، المهنية. الخبرة، الحرص والمعرفة والاستعداد لتقديم المساعدة للحفاظ على “أبولو”. هذا الفكر الاستشراقي السينمائي الذي يظهر “القرصنة” في غزة، يترك المشاهد دون أدنى معرفة عن القرصنة “الرسمية” التي تقوم فيها إسرائيل على أراضي شعب محتل لتجميع القطع الأثرية وكيف تتم عمليات الإقصاء والهيمنة على تراث النساني الفلسطيني.
 

الطغيان الغائب في البناء السينمائي

كيف يمكن لفلم سينمائي وثائقي أن يتعامل بهذه الطريقة المخبرية لفصل الاحتلال عن واقع غزة؟ يحتوي الفلم على مظاهر محدودة عابرة من مظاهر الاحتلال لكن دون لغة سينمائية تمكن المشاهد الأجنبي من فهم التعقيد وتفكيكه وتحليله. مشهد يستغرق ثانيتين معدودتين لجنود يفتشون شباناً أوجههم نحو الحائط، والمشهد الثاني، لمدخل حاجز إيريز، خالي من الناس ومن الشاحنات ومن اللافتات ومن الجنود، ومشهد الجدار “اللطيف” المؤدي إلى القدس، على طريق الأبرتهايد 443 حيث يقع سجن عوفر الذي يحتجز مئات الفلسطينيين. مادة مرئية تمر كلمح البصر، يستصعب على المشاهد الأجنبي استيعابها وتفكيكها وربط خيوطها في ظل نهج إخراجي يبدو قد تجنب تقديم سينما سياسية تزعج أحد الأطراف وأدى بذلك إلى تشتيت صور الصراع. وردت في الفلم كذلك بعض الإشارات التعبيرية، إلا أنها كانت مبهمة السياق كذكر “قصف”، “تفجير” وكان القصف يتم من قبل جهة مجهولة الهوية. يمكن أيضاً الاستعانة بالمشهد العام لمدينة غزة الذي يطل على الشاشة مع بداية الفلم، بيوت المدينة كاملة مطلية بلون الإسمنت، ليس لأنه ذوق معماري اختياري يحفظ للمدينة طابعاً موحداً، بل لأنه الحصار الذي يحتجز باقي الألوان والأذواق. غزة تبدو كرقعة بؤس وشقاء وعنف دون كشف المشاهد البعيد، المجرد من المعرفة النوعية والكمية، للواقع الكولنيالي الذي يفرز هذه “العتمة” الغزاوية التي تحتجز “أبولو”.

حتى حرارة تعليقات الغزيين والغزيات، المختصين بالآثار، بدت لنا حذرة من الخوض في مقولات سياسية صريحة. هذا لا يعني أن تعابيرهم لم تكن مؤثرة وموجعة. فقد كانت مقولة “رغيف الفلافل ما بيقدر يعبر إيريز” مقولة مؤثرة وذات دلالات، إلا أن دلالاتها ذات وقع أكثر على المشاهد المحلي المطلع على مجريات الأمور وعلى دراية بالتفاصيل فتبدو له السينما الوثائقية هذه قريبة جداً من حياته. فتلك المقولة تبقى عاجزة عن خلق خارطة سياسية تجعل من اختفاء أبولو قضية سياسية من الدرجة الأولى تخص حقيقة الواقع الاحتلالي، وأن التأويلات السينمائية في البحث عن الحقيقة تخلق تشويهاً للأمور.
 

حالة شغف

رغم الإشكاليات الجدية التي تقع فيها المعالجة الوثائقية السينمائية إلا أنها قدمت من خلال رحلة التحقيق والبحث الوثائقي وجوهاً غزية لديها شغف كبير لـ”عناق” أبولو صاحب الهوية الغزاوية، وتبحث عن الحقيقة انطلاقاً من فلسطينيتها، تحلم بفلسطين التي تحتضن حضاراتها وتراثها الإنساني. تلك سيدة، خبيرة آثار تصطحب طالباتها للتعرف على تاريخ أبولو وآثار غزة، وهذا يجمع قطعاً أثرية وذاك يصنع قطعاً “عتيقة”. هذه الوجوه التي تلتئم مع وجه ذاك الصياد على شاطئ خان يونس الذي يحلم بحياة كريمة أو كما قال: “تغيير طقم حياته”، كان بإمكانها أن تشكل سقفاً أعلى للمادة السينمائية المركبة للفيلم إلا أن المخرج اختار أن يكون “الظلام” في غزة في حين يكون “النور” في متحف اللوفر ومتحف إسرائيل.
 

 

The post «أبولو غزة»: تجنّب السياسة، وطرح سينمائي إشكالي appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
محطّات من الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة https://rommanmag.com/archives/19311 Sat, 09 Jun 2018 15:11:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%85%d8%ad%d8%b7%d9%91%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ba%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86/ لعبت الموسيقى العربيّة دورًا في حياة الفرد والجماعة، وساهمت الموسيقى العربيّة في تعبئة الحيز السياسي للحراك القوميّ واليساريّ العربيّ على امتداد تاريخه بنماذج موسيقيّة هامّة تستحق التوقف عندها. وعرفت الموسيقى انتقالات ما بين التعبير عن روحانيات الفرد إلى التعبير عن طموحات الجماعة. وقد عرفت الموسيقى العربية أيضًا، كمعظم أشكال الموسيقى في العالم، تعابير طبقيّة ودينيّة […]

The post محطّات من الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لعبت الموسيقى العربيّة دورًا في حياة الفرد والجماعة، وساهمت الموسيقى العربيّة في تعبئة الحيز السياسي للحراك القوميّ واليساريّ العربيّ على امتداد تاريخه بنماذج موسيقيّة هامّة تستحق التوقف عندها. وعرفت الموسيقى انتقالات ما بين التعبير عن روحانيات الفرد إلى التعبير عن طموحات الجماعة. وقد عرفت الموسيقى العربية أيضًا، كمعظم أشكال الموسيقى في العالم، تعابير طبقيّة ودينيّة تعكس المباني الاجتماعيّة والدينيّة للبلدان العربيّة.

النكبة وتشريد الموسيقى الفلسطينيّة

فلسطينيًا، شهدت الموسيقى تحولات وأحداث هامّة على المستويين الفردي والجماعي، الروحاني والوطني. كانت الموسيقى الفلسطينيّة، كغيرها من مركبات البناء الفلسطيني، ضحية الاستعماري الذي حلّ على فلسطين، ويمكننا الحديث عن النكبة التي حلت بالموسيقى الفلسطينيّة، حيث شكّلت فلسطين مساحة هامة للموسيقيّين الفلسطينيّين والعرب، وكانت على وشك تحقيق انطلاقات كبيرة لكن أدماها وقوع النكبة. مع تأسيس الكيان الكولينالي رسميًا عام 1948 و”تثبيت” حالة التشرد والتشتت، غاب حضور الموسيقى الفلسطينيّة إلى حد كبير مع بقاء مساهمات لموسيقيّين كبار على مستوى الموسيقى العربيّة والعالميّة: سلفادور عرنيطة، روحي الخماش، أوغسطيوس لاما، رياض البندك ويوسف خاشو في المنفى، ريما ناصر ترزي وأمين ناصر في بير زيت. وحضرت بالأساس الموسيقى العربيّة، ببعض انتاجاتها، لتعبّر عن الفقدان الفلسطيني من خلال أغاني قوميّة ووطنيّة تعبر عن حالة الصراع والاشتباك.

مع انطلاقة العمل الثوري الفلسطيني، الذي عُرف باسم “العمل الفدائي” في أواسط الستينيات، من أجل استعادة الأرض المسلوبة، بدأت حراكات موسيقيّة لبعض الموسيقيّين والشعراء؛ حراكات موسيقيّة سياسيّة، التحمت مع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بانطلاقتها. بعدها، وعلى مدار فترات متباعدة، وبإعداد محدودة، ازدادت الإنتاجات الموسيقيّة الغنائية السياسيّة الفلسطينيّة، وصولًا لتكثيف الإنتاج الموسيقي السياسي في فترات متأخرة. تحاول هذه المقالة تقديم قراءة مختصرة لمحطات مركزيّة في الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة ومكانتها في الحيز الوطني والثقافي العامين.

عن الأغنية الثوريّة

تأتي الأغنية لتعمّق ارتباط الإنتاج الثقافي الموسيقي بالحدث الملحمي، فالكلمة الشعريّة والجملة الموسيقيّة تصقلان المعاني ويعملا على ترتيب مفردات الارتباط بالأمكنة وبالهوية وموضعتهما في مشاريع مطلبيّة نضاليّة. يمكن للأغنية أن تبلور المعرفة والوعي وتحولهما لشكل من أشكال الإدراك الهوياتي الجمعي. تحوّل الأغاني السياسيّة التعابير الحسيّة الفرديّة والجماعيّة من آلام، أحزان، غضب، شعور بالقمع، بالإذلال، الفقدان أو التمييز إلى تعابير خطابيّة تُختصر بالشكل الموسيقي. توثّق الأغنية لذاكرة جماعيّة تتوارثها الأجيال وتبلور عمليات المعرفة بالتفاصيل العامّة والخاصة وتحوّلها لشكل من أشكال الإدراك الهويّاتي والـ “نحن” الجماعيّة.

لا يقتصر دور الأغنية على التمجيد للفعل الثوري والتحريض عليه، بل هي بالأساس بمثابة بيان سياسي نضالي، وفي الحالة الفلسطينيّة هي جزء من الخطاب التحرري. وهي أيضًا مخزون للذاكرة الجمعيّة في واقع شهد ويشهد رداءة في الحالة السرديّة التوثيقيّة، فتقوم الأغنية بوظيفة تثقيفو تعبئة والتفاف الجماهير حول الخطاب السياسي. انتشرت في صفوف الفدائيّين والطلبة والأعراس والمناسبات الوطنية. كانت الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة رافدًا مساهمًا في إعلاء قضية فلسطين عربيًا.
 

 

“طلّ سلاحي من جراحي” والانطلاقة

مع مرور حوالي خمسين عامًا على انطلاقتها، لا تزال أغنية “طلّ سلاحي من جراحي” هويّة ووثيقة تاريخيّة لحقبة هامّة في تاريخ الأغنية الثوريّة الفلسطينيّة، لحقبة في تاريخ النضال السياسي والعسكري الفلسطينيّ وكذلك هي تؤرخ للسياق الشعري والموسيقي الفلسطيني لفترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

كانت “طلّ سلاحي” إلى جانب مجموعة مهمّة من الأغاني نتاجًا لنشاط موسيقي وشعري لمجموعة الكورال التابعة لحركة فتح مع انطلاقتها. من الأغاني المعروفة : يا شعبي كبرت ثورتي، يا شعبنا هز البارود، ما بنتحول، مدي يا ثورتنا مدي، عهد الله ما نرحل، ع الرباعية، جر المدفع، ابن فتح، ويا جماهير الأرض المحتلة“، وكان من أهم الشخصيات المساهمة في نتاج الفرقة: من الشعراء أبو الصادق الحسيني، محمد حسيب القاضي، سعيد المزين، ومن الملحنين مهدي سردانة ووجيه بدرخان.

انطلاق كورال الثورة سجّل المحطّة الرئيسية للغناء الفلسطيني المقاوم بعد النكبة. كانت هذه الأغاني متأثرة بالأغنية الوطنيّة المصريّة التي تصاعدت في فترة المواجهة بين مصر ناصر والدول الاستعماريّة. كانت الألحان والكلمات منسجمة انسجامًا تامًا مع مناخ وتفاصيل العمل الفدائي، محرّضة على الانضمام والالتحام بصفوف الثورة، ألحانًا يطغى عليها الطابع العسكري والتغني بمواجهة العدو. كانت الأغاني سريعة سهلة الترديد وجمل شعريّة موسيقيّة مباشرة.

كانت أغاني الثورة تبثّ من صوت العاصفة ولاحقًا من صوت فلسطين في القاهرة بعد دمج الوسائل الإعلامية التابعة لمختلف الفصائل في إطار سُمي بالإعلام الموحد.

هناك ضرورة للتطرق لحقيقة أن هذه الأغاني هي أغاني المنفى واللجوء، لم يكن الداخل الفلسطيني مؤثرًا في إنتاجها الشعري والموسيقي خصوصًا أن قيام إسرائيل أجهز على الحالة الموسيقيّة داخل مناطق الـ 48 والحركة الشعريّة لم تتسلل للعالم العربي بشكلها الحالي إلّا بعد الستينيات. كذلك فإن وصول أغاني الثورة الفلسطينيّة كان متاحًا عبر إذاعات صوت فلسطين من بغداد والقاهرة، الأمر الذي شكّل صعوبة في التقاطها وترويجها تحت الحكم والقمع العسكري الإسرائيلي في الداخل.
 

السبعينيات: مرحلة أغاني العاشقين

بعد منتصف السبعينيات كان هناك ازدياد في الحراك الموسيقي والشعري لناشطين داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة، وازديادًا في عدد الشباب الفلسطيني في مجالي العزف والغناء، والتفتت الدائرة الإعلاميّة لهذا النبض وللحاجة لوجود فرقة موسيقيّة تمثيلية للمنظمة. كان لقاء الملحن الكبير حسين نازك مع الشاعر الكبير الراحل أحمد دحبور نقطة انطلاق فكرة الفرقة المركزيّة الفلسطينيّة.  تأسّست في العام 1979، وغنّت لشعراء فلسطينيّين: توفيق زيّاد، سميح القاسم، محمود درويش، حسين حمزة، نوح إبراهيم وأبو الصادق صلاح الحسيني. وقد لحن معظم أعمال الفرقة حسين نازك، وفي الغناء حسين منذر وكانت أيضًا مشاركة  الانطلاقة مع الموسيقار المغني السوري سمير حلمي.

أحدثت أغاني العاشقين وقعًا في الفضاء الفني الفلسطيني وفي المزاج الشعبي، فكانت بمثابة فعلًا جماليًا يستفز الذاكرة، يستذكر التاريخ والمكان بلغة الفعل الحاضر، وكانت الكثير من الأغاني انعكاسًا للألوان الغنائيّة الشعبيّة التراثيّة مع بصمات حسين نازك الموسيقيّة التي صقلت وطوّرت اللون الشعبي، مما سهل على تواجدها في الوجدان الجماهيري العامّ من جهة، وحضورها الموسيقي الجاد المتميّز من جهة أخرى. هذا التواجد باختلافه عن الفترة السابقة لكورال الثورة دخل أكثر في تفاصيل النكبة وما قبلها، حيث نجحت الأغاني بالتوثيق لشخصيات هامّة بالنضال الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونيّة. حملت أغنية العاشقين السياسيّة أيضًا تطرقًا للحركة العماليّة الفلسطينيّة وخلدت لوقائع عسكريّة وفدائيّة في التاريخ الفلسطيني. وكانت هناك محطّات غنائية هامّة للفرقة قدّمت من خلالها ألحان موسيقيّة مركبة ومتطورة، أذكر منها غنائيّة “سرحان والماسورة” للشاعر توفيق زيّاد التي خلدت قصة نضال سرحان العلي ضد الاستعمار. غنائيّة “الأرض” لمحمود درويش التي خلدت شهيدة يوم الأرض خديجة شواهنة وأغنية “من سجن عكا”. وكان للشاعر أحمد دحبور دورًا مركزيًا بانتشار أغانيها، بداية من “اللوز الأخضر” وصولًا لأغنية الفرقة الشهيرة “اشهد يا عالم” ومجموعة أغاني “الكلام المباح”.
 

لغة العاشقين هذه الجراح    من فلسطين أرسلتها الرياح

هبت النار والندى حملتها    والعتابا والميجانا والسماح

الكلام المباح ليس مباحاً      ونغنيه فالاغاني سلاح

سرنا راية على راس رمح     فاذيعي أسرارنا يا رياح

من يلتفت إلى تاريخ العاشقين بمجمله يلحظ التحولات في انتقاء الألحان والنصوص والمضامين، وأحد أهم تلك التحولات هو دخول شعراء الأرض المحتلة إلى فضاء أغنية المنفى السياسيّة الثوريّة بشكل خاص والأغنية السياسيّة العربيّة بشكل عام. هذا الدخول أحدث تغييرًا نوعيًا في التعابير الشعريّة والحسيّة للأغنية السياسيّة التي تعكس صورة الإنسان العادي وليس المقاتل فقط.

أعطت فرقة أغاني العاشقين زخمًا ثقافيًا للتواصل الفلسطيني الفلسطيني بالشتات، حيث عرضت الفرقة في عدة دول عربيّة وأوروبيّة ولاتينيّة، وازداد حضور العاشقين في المشهد الثقافي الفلسطيني أيضًا داخل الأرض المحتلة خصوصًا بعد المدّ الوطني الذي أحدثته انتفاضة يوم الأرض 1976. لعبت الفرقة دورًا سياسيًا ثوريًا مركزيًا في الأغنية السياسيّة لغاية العام 1993 وتوقيع اتفاقيات أوسلو، حيث شهدت تراجعًا وتشتتًا لأعضائها، وإن كانت حاولت استجماع تركيبتها لبعض العروض. ظلّت مضامين أغاني العاشقين حاضرة بخطابها الوطني التحرري وخطاب العودة، كحالة فنيّة نقيضة لحالة أوسلو، واشتد حضورها خصوصًا في الفترات التي تشهد تصعيدًا في المواجهات مع الاحتلال.

لم تكن فرقة العاشقين الظاهرة الغنائيّة الثوريّة الوحيدة في تلك الفترة، فقد كان هناك عدد من الفرق والمغنيّن، لكن في هذه المقالة نحاول رصد أهم المؤثرين على تلك الحقبة. من الفنانين الكبار الذين ساهموا في ترك بصماتهم على الأغنية السياسيّة، كان الزجال الشعبي محمد إبراهيم صالح المعروف بأبو عرب، ابن قرية الشجرة المهجرة، قرب طبريا.
 

بعد مساهمات متفرقة في الأغنية الوطنيّة، انضم أبو عرب في العام 1978 إلى إذاعة صوت فلسطين ليركز على عطائه الموسيقي الثوري. في العام 1980، أسس فرقة فلسطين للتراث الشعبي، التي أصبح اسمها لاحقًا فرقة ناجي العلي، بعيد اغتياله. كانت الأغنية الشعبيّة لأبو عرب سهلة الانتشار للونها الشعبي المألوف، الزجل الشعبي الفلسطيني، المميز بآلة اليرغول. فغنى أسطورة  “ظريف الطول” وحملها تعابير سياسية فدائية انتشرت في القرى المدن والمخيمات وفي أوساط التنظيمات الفلسطينية. وكان الزجال الشعبي، أبو عرب من الرياديّين الذين حملت أغنيتهم السياسيّة انتفاضة يوم الأرض في الجليل، فخلّدها ووثّقها بأغنية “كرمالك يا يوم الأرض”. ومن أغانيه المشهورة والمنتشرة لغاية اليوم، أغنية “هدي يا بحر”، “ما نسيتك يا دار أهلي”،” يا يمّا في دقة عبابنا”. لم تبتعد أغاني أبو عرب عن المضامين التي عملت عليها الفرق الوطنيّة الفلسطينيّة، ظلّت هي تلك الأغاني التي تتحدث عن الحلم الجماعي بالتحرير والعودة للديار.

لا يمكن التحدث عن الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة دون ذكر تجربة فرقة صابرين المقدسيّة. حيث أسّست تلك الفرقة للون موسيقي جديد في الأغنية الوطنيّة يقودها الملحن سعيد مراد والمغنية كميليا جبران. وغنّت لشعراء نذكر منهم محمود درويش وسميح القاسم وحسين البرغوثي، أحد المزودين المركزيّين لأغنيتهم السياسية. بدت موسيقى سعيد مراد متأثرة بألوان شرقيّة وغربيّة متداخلة، التي أعتبرها برأيي إحدى التجارب المهمّة التي أحدثت تحولًا في اللون الموسيقي للأغنية السياسيّة الفلسطينيّة. فكانت ألبومات “دخان البراكين” و”موت النبي” و”جاي الحمام” مساهمة نوعيّة للموسيقى الفلسطينيّة خاصّة، والإنتاج الثقافي الفلسطيني عامّة. وكانت أغنياتهم تحولًا من حيث إحداث العلاقة بين معاناة الشعب ومعاناة الفرد، موسيقى صابرين تعمّقت في تفاصيل الإنسان الفلسطيني، تراثه، وحتى تقديم نصوص شعرية مغناة ترسم شخوص ومجموعات مركبة للمجتمع الفلسطيني: “عن إنسان”، “أبو حبلة” و“النوري”، وخطاب إنساني وعاطفي لهموم الإنسان الفلسطيني، مثل أغاني “وصلّي علي”، “ثلاثين نجمة” و”يماي”. انتهت تجربة صابرين مع مغادرة المغنيّة كاميليا جبران لمتابعة مشوارها الموسيقي خارج فلسطين في حين استمرت مؤسّسة صابرين بالعمل في مجال التربية والتثقيف الموسيقي. تركت أغنية “صابرين” السياسيّة بصماتها في الموسيقى الفلسطينية وما زالت تردد في أوساط شبابيّة وأوساط المثقفين والموسيقيّين.
 

تجارب أخرى والانتفاضة الأولى، 1987

في أواسط الثمانيات، تأسست فرقة الفنون الشعبيّة من قبل مركز الفن الشعبي في رام الله، وقد قدّمت الفرقة الرقص ممزوجًا بالكلمة السياسيّة. ومن المساهمين في التلحين والكتابة الشعرية للفرقة؛ الموسيقار سهيل خوري والشاعر وسيم الكردي، قدّمت أغاني التراث في أعمال “مشعل”، “وادي التفاح” و”زريف”، والمميز في هذه التجربة للأغنية السياسيّة، هو إدخال التراث الشعبي في قوالب وأشكال موسيقيّة جديدة لم تعهدها موسيقى التراث.

مع بداية الانتفاضة الشعبيّة الأولى في العام 1987 وإدراك الفلسطينيّين أن المواجهة مستمرة وعارمة، تبلورت أشكال لمواجهة الاحتلال، فبدا بعض الموسيقيّين علنًا وسرًا بنشر أغان وطنيّة توصف الحالة الجديدة غير المسبوقة. أغان تحثّ على التحرك المواجهة والصدام، وقامت قوات الاحتلال باعتقال العديد من الموسيقيّين لقمع الأغنية الوطنيّة التحريضيّة التحرريّة. برز من بين هذه الاعمال: شريط كاسيت “حجر بلادي مقدس”، وهو مجهول هوية الموسيقيّين والمغنّين والمؤلفين، وبرز المغني الزجال ثائر البرغوثي بمجموعة أغاني أبرزها “شدي انتفاضة” ونزلوا صبايا وشبان”. كذلك انتشرت مجموعة أغاني الفنان الموسيقي وليد عبد السلام وابرزها “نزلنا عَ الشوارع”.
 

في أواسط ثمانينات القرن الماضي، ما قبل وبعد الانتفاضة، كان هناك حراك للأغنية السياسيّة في أوساط فنيّة إضافية. برز الفنان المقدسي مصطفى الكرد بأغانيه الوطنيّة. وقد تميّز الكرد بربط الأغاني الوطنيّة بمعاناة الإنسان الفلسطيني. وقدّمت أغنيته السياسيّة الأغاني الطبقيّة اليساريّة التي خاطبت جماهير العمال والفلاحين فاشتهرت أغانيه ومنها “هات السكة”، “عادل” و”منتهى”. برز كذلك في الأوساط اليساريّة الفنان جميل السايح الذي قدّم أعمالًا غنائيّة هامّة من ألحانه، ركزت أغانيه على قراءة أوجاع المكان والإنسان وتفاصيل المدن فغنى مثلاً أغنيته الشهيرة “رصيف المدينة” و”يمّا القدس عريانة”.

الداخل الفلسطيني

في الوقت الذي مارس شعراء الداخل الفلسطيني دورًا مركزيًا حاسمًا ومتقدمًا في تزويد الأغنية الفلسطينيّة بالنصوص، سواء كان ذلك في الشتات أو في الضفة الغربية فقد كان المشهد الغنائي السياسي الوطني في أراضي الـ 48 متخلفًا إلى حد كبير مقارنة بالحالة الشعرية. حتى أواخر السبعينات، لم تظهر الأغنية السياسيّة إلّا لدى بعض الحالات التي من المهم ذكرها، حيث وضعها زجّالون كسعود الأسدي وعوني سبيت، اللذين قدما أغاني الالتصاق بالأرض والصمود والثبات. ويمكن ذكر الأغاني والأهازيج الشعبيّة الفولكلوريّة التي حملت مضامين وطنيّة وأُنشدت في الأعراس، واشتدت أكثر بعد يوم الأرض. ويمكن أن نرجح انتشار هذا النوع من الغناء السياسي لمصادره الشعبيّة الفطريّة كحالة عضويّة أساسيّة للتراث الغنائي الفلسطيني، وكونها أغاني الأعراس والحارات والحواكير التي كان من الصعب محاصرتها وملاحقتها بشكل دائم باختلاف الأغاني الوطنية التي تؤدى في النوادي الحزبيّة والقاعات، ويُسهل لأجهزة المخابرات ملاحقتها.

شهدت ثمانينيات القرن الماضي نهوضًا ملحوظًا في الأغنية السياسيّة داخل مناطق الـ 48، عُرفت تلك المرحلة بصعود فرقة “يعاد” من قرية الرامة في الجليل، التي قدّمت أغاني شعراء الداخل وأغاني فرقة العاشقين. هذه الفترة شهدت بداية صعود ثلاث فنانات شابات ليتحولن لثلاث مغنيات مركزيات في الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة خلال العشرين سنة التالية. ونتحدث عن الفنانة الراحلة ريم بنّا، الفنانة أمل مرقص والفنانة ريم تلحمي. وإن تحدثنا عن نساء مغنيات في مجال الأغنية السياسيّة، فإننا نستطيع أن نشير بذلك إلى مركزيّة الداخل الفلسطيني في مجال الغناء النسائي، حيث افتقدت الساحة السياسيّة الفنيّة العنصر النسائي في الغناء الوطني كعنصر ريادي على المسرح. بالإضافة لهؤلاء الثلاث، يمكن إضافة مغنية فرقة صابرين، الفنانة كميليا جبران، ابنة الرامة الجليليّة، ليتحوّلن بذلك إلى رباعي نسائي أثّر على حاضر الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة.
 

إن محاولتي لتحليل أسباب تأخر انطلاق الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة في الداخل يفترض وجود عدة أسباب؛ السنوات الطويلة لأيام الحكم العسكري التي قمعت النشاط الثقافي كانت عاملًا معيقًا للنهضة الفنيّة، في بداية الثمانيات ازدادت اللقاءات السياسيّة والحزبية بين الفلسطينيّين من الـ 48 والضفة الغربية، التي تخللتها أنشطة ثقافيّة حفزت تطوّر الأغنية السياسيّة في الداخل. توجّه الشباب العرب للدراسة في القدس والالتقاء مع الحيز الثقافي الفلسطيني، دفع أيضًا نحو تطوّر الإنتاج الموسيقي السياسي.

جواز سفر

تحاول المقالة تسليط الضوء على محطّات مركزية في تاريخ الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة وموضعتها في سياقها الفلسطيني الأدبي، السياسي والوطني، لكن برأيي هناك ضرورة للتحدث عن أغنية فلسطينيّة تحمل “جواز سفر” عربي، أيّ حال الأغنيّة العربيّة الوطنيّة منذ منتصف السبعينيات التي أدّت نصوصًا فلسطينيّة. غنّت أصوات غنائيّة عربيّة لفلسطين وارتبط اسمها بفلسطين رغم أنها ليست فلسطينيّة، وهنا أتحدث على سبيل المثال للحصار عن مارسيل خليفة، أحمد قعبور، خالد الهبر وفرق عربيّة أخرى كفرقة الطريق العراقيّة، حيث تحوّلت أغانيهم إلى بوصلة الجماهير العربيّة نحو فلسطين. وكانت أغانيهم ذات حضور مركزي في التاريخ الطويل للأغنية الثوريّة الفلسطينيّة.
 

لم ينته المشوار…

رغم النكسات السياسيّة العميقة التي تعرضت لها حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ما زالت الأغنية السياسيّة الثوريّة تلعب دورًا في الحراكات الوطنيّة والثقافيّة. ورغم اختلاف شكلها الموسيقي، واختلاف تطورها، فهي ما زالت صاحبة دور في تثقيف أجيال موسيقيّة. ونشهد في القرن الواحد والعشرين نشاطًا غنائيًا متميزًا بلغات موسيقيّة وتعبيريّة وحسيّة متعددة. أذكر مثلًا فرقة “ولعت” التي تطرح أغنية سياسيّة تركز على مدينة عكا، كما وفرقة “دام” التي تحترف موسيقى الراب ذات الأصول الأمريكيّة مقدّمة أغاني الاحتجاج السياسي. وبالتأكيد هناك الكثير من المغنّين والفرق التي لم آت على ذكرها، والتي تلعب دورًا في الصورة الكليّة للأغنية الوطنيّة السياسيّة.

أخيرًا، وعن الموسيقى الفلسطينيّة، من المهم أن لا نبالغ في وصف الموسيقى الفلسطينيّة كموسيقى صمدت رغم النكبة، وأن نتجنب الأوصاف الرومانسيّة التي تحولها لبقاء بطولي وأسطوري. علينا أن نتعامل بجدية مع الأذى الاستعماري والجريمة الثقافيّة التي سببها الاستعمار الكولنيالي لفلسطين، وأن نتحدث عن دوره بقطع أوصال النمو الطبيعي للموسيقى الفلسطينيّة وتشتيت قدراتها، هذه الجريمة الكولنياليّة الثقافيّة التي دفعت نحو نشوء الأغنية السياسية الثائرة المقاومة.

مراجع:
– سهيل خوري: الموسيقى الفلسطينية. امتزاج الموسيقى الشعرية بعنفوان الشعر (مقالة الكترونية).
– صفحة الموسيقار حسين نازك.

هذا المقال هو جزء من ملف “الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان” إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.

The post محطّات من الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>