“كان ثقيلا…”
سرعان ما أدرك الصياد الغزي أن ما رأته عيناه في الماء، أثناء معاينته لشباك صيده، هو صنم، تمثال على هيئة إنسان، وليست جثة بشرية. مع استدعاء “عونة”عائلية انتشل الصياد التمثال الصنم من قاع البحر مقابل مخيم النصيرات في خان يونس، واصطحبه إلى بيته، لينتقل بعدها “التمثال” إلى وجهات أخرى. سرعان ما تبين أن التمثال مجهول الهوية هو تمثال الإله اليوناني ”أبولو“، إله النبؤات والجمال والفن، ولاحقاً ستختفي آثاره عن الأعين داخل غزة. من هنا يبدأ مسار تحقيق سينمائي للاستكشاف وللبحث عن تمثال أبولو في غزة في محاولة للوصول إلى محتجزيه.
السينما الوثائقية وإشكالية البحث عن الحقيقة:
من السمات المركزية للسينما هي قدرتها على تحويل العرض المرئي-الصوتي إلى ظاهرة قابلة للاستيعاب والتحليل، والتي تتبلور من خلال تجربة المشاهدة. هذا العرض بمركباته الشكلية والجمالية واستراتيجيات بنائه كما يتم استيعابها لدى المشاهد هو الأساس لفهم الفضاء السينمائي. وبالتوازي مع شكل البناء السينمائي هناك مصطلحات ومقولات فلسفية في صناعة السينما تساهم في عملية الاستيعاب والتحليل والتبلور. وهناك أيضاً قضايا سياسية اجتماعية واقتصادية تحرك الفعل السينمائي. ويذهب البعض إلى اعتبار السينما شكلاً تكنلوجياً معاصراً من أشكال صناعة الفلسفة أو من يقول إنها الفلسفة بإحدى تجلياتها (philmosophy). عملية العرض، الاستيعاب والتبلور بموازاة واقع سياسي واجتماعي تتعرض أيضاً لاشكاليات ومخاطر. “أبولو غزة” هو نموذج سينمائي يمكن التطرق من خلاله لعملية العرض والإشكاليات.
في السينمائي الوثائقي “أبولو غزة” (إخراج: نيكولاس فاديموف – إنتاج: سويسرا- كندا) تجري عملية بحث عن الحقيقة وسط واقع سياسي وجغرافيا سياسية اجتماعية “مبهمة” يتجنب الفلم بشكل مبالغ فيه الخوض بتفاصيلها. يطرح الفلم قصة اكتشاف “أبولو” واختفائه من خلال روايات متعددة مختلفة ومتضاربة يفترض بها أن تساهم في عملية تبلور المعرفة لدى المشاهد. يذكر أن تبلور المعرفة من خلال التجربة السينمائية يعتمد أيضاً على شكل العلاقة بين المشاهد وشخصيات الفلم. في السينما الروائية المسافة بين الشخصيات والمشاهد هي مسافة بعيدة وكبيرة، والعلاقة مع شخصية الفلم تعتمد بالأساس على تجربة المشاهدة، ومن خلالها يتكون الموقف من هذه الشخصية، ويدرك المشاهد أن هذه الشخصيات “وهمية”، وبالتالي تتكون مستويات معينة من التضامن والتعاطف مع شخصيات الفلم. بالمقابل في السينمائي الوثائقي، وفي سياق “أبولو غزة” فإن البحث عن الحقيقة، وبناء المعرفة والتعاطف هو من خلال مسافات أقصر مع مادة الفلم وشخصياته، فعلاقتك بهما تعتمد أيضاً على ثقافة ومعرفة مسبقة بالمادة وقد تعتمد أيضاً على نقص بالثقافة والمعرفة. “أبولو غزة“ يطرح للعرض أمام أنواع مشاهدين مختلفة: من يمتلك المعرفة، من يمتلك معرفة جزئية، ومن لا يمتلكها، وبالتالي مستويات التعاطف مع الفلم ستكون مختلفة ومعقدة. والحقيقة التي يبحث عنها الفلم من شأنها أن تؤدي لإفرازات عن الحقيقة الذاتية والحقيقة الموضوعية. الحقيقة الجزئية والحقيقة المطلقة.
السينما الوثائقية التي يقدمها ”أبولو غزة“ تفرز قضايا جدلية متفاوتة لدى المشاهد. فمركّبات الفلم والأدوات المستعملة ابتداءً من المكان وصولاً للإنسان تطرح تساؤلات عن الحقيقة وعن المعرفة وماهيتها. تشكل غزة مادة سينمائية لطرح التساؤلات حول حدود المعرفة. مكانة الإنسان من المعرفة، وبالتالي عن دور الكم المعرفي هذا في بناء الحقيقة الذاتية أو الموضوعية كما ذكرنا سابقاً. إلا أن الإخراج والشكل الكلي لـ “أبولو غزة” يقع في إشكاليات جدية في عمليات البحث وعملية التحليل والتأويل. فالفلم أخفق، بشكل مقصود أو غير مقصود، بتقديم مواد من شأنها أن تساهم في في استيعاب وجود أجهزة هيمنة سياسية عليا وعملية إقصاء ذات طابع استعماري لها دور حاسم في مجريات القصة، إلا أنها غابت إلى حد كبير. دور حاسم غائب لكنه حاضر في ذهنية المشاهد الفلسطيني ودور حاسم غائب في حلقة المعرفة لدى الكثير من المشاهدين الأجانب. وبالتالي التعاطف مع غزة وشخصياتها سيكون خاضعاً للهيمنة التي مورست على المادة السينمائية والتي من شأنها خلق تعاطف مع “أبولو المخطوف”، عدم التعاطف، أو أقل تعاطفاً، مع بيئته الغزاوية.
مزاج استشراقي
We travel throught the darkness in search of the light… من فلم أبولو غزة
كثيراً ما تسلك الأفلام الروائية والوثائقية الغربية مساراً إنتاجياً مشبعاً بالصور النمطية الاستشراقية. الصور التي تبحث عن الضوء في عتمة الشرق. السينما التي تتسلل للشرق وسط الغموض والمخاطر. إنتاجات سينمائية اعتادت أن تفتتح أفلامها بصوت الأذان وصور الجوامع، وبالتالي تكرير وترسيخ “البوم الصور” النمطي في ذهنية المشاهد الغربي. فالأفلام التي تركز على الإنسان المصري الذي يبيع قطعة أثرية فرعونية مقابل المال متجاهلة المشهد الكلي الاقتصادي والمجتمعي والسياسي نجد لها انعكاساً في “أبولو غزة”، حيث لا تكترث بعض الشخصيات في الفلم بقيمة التمثال الحضارية والإنسانية، وما يهمها هو مقايضة التمثال بمقابل مادي. كذلك يعرض الفلم المواطنَ الغزي الذي لا يفقه قيمة أبولو، لكن هاجسه الأساسي هو تغيير “طقم حياته” كما عبر عن ذلك الصياد الذي عثر على التمثال، في حين لا يلامس الفلم واقع غزة، بل حتى يبتعد عن المعالجة السطحية.
الفلم لا يتوانى عن تقديم مشاهد تخدم الصورة النمطية عن الإنسان العربي الشرقي، المافيا، اللص، المسلح، الإرهابي. فتظهر الجدران في غزة عليها صور لمسلحين (الشهداء) والحديث يدور عن احتمال وقوع أبولو بأيدي الذراع العسكري (لحماس) أو مجموعات أخرى إجرامية. ولم تخضع هذه المشاهد لمعالجة سينمائية أو أدوات سينمائية من شأنها أن تزود المشاهد الأجنبي بأشكال معرّفة تساعده على أحداث التوازنات اللازمة في المشهد المعروض. صورة “حضارية” نقيضة لـ “فوضى غزة” تقدم بالفلم من خلال متحف إسرائيل في القدس حيث الاهتمام، المهنية. الخبرة، الحرص والمعرفة والاستعداد لتقديم المساعدة للحفاظ على “أبولو”. هذا الفكر الاستشراقي السينمائي الذي يظهر “القرصنة” في غزة، يترك المشاهد دون أدنى معرفة عن القرصنة “الرسمية” التي تقوم فيها إسرائيل على أراضي شعب محتل لتجميع القطع الأثرية وكيف تتم عمليات الإقصاء والهيمنة على تراث النساني الفلسطيني.
الطغيان الغائب في البناء السينمائي
كيف يمكن لفلم سينمائي وثائقي أن يتعامل بهذه الطريقة المخبرية لفصل الاحتلال عن واقع غزة؟ يحتوي الفلم على مظاهر محدودة عابرة من مظاهر الاحتلال لكن دون لغة سينمائية تمكن المشاهد الأجنبي من فهم التعقيد وتفكيكه وتحليله. مشهد يستغرق ثانيتين معدودتين لجنود يفتشون شباناً أوجههم نحو الحائط، والمشهد الثاني، لمدخل حاجز إيريز، خالي من الناس ومن الشاحنات ومن اللافتات ومن الجنود، ومشهد الجدار “اللطيف” المؤدي إلى القدس، على طريق الأبرتهايد 443 حيث يقع سجن عوفر الذي يحتجز مئات الفلسطينيين. مادة مرئية تمر كلمح البصر، يستصعب على المشاهد الأجنبي استيعابها وتفكيكها وربط خيوطها في ظل نهج إخراجي يبدو قد تجنب تقديم سينما سياسية تزعج أحد الأطراف وأدى بذلك إلى تشتيت صور الصراع. وردت في الفلم كذلك بعض الإشارات التعبيرية، إلا أنها كانت مبهمة السياق كذكر “قصف”، “تفجير” وكان القصف يتم من قبل جهة مجهولة الهوية. يمكن أيضاً الاستعانة بالمشهد العام لمدينة غزة الذي يطل على الشاشة مع بداية الفلم، بيوت المدينة كاملة مطلية بلون الإسمنت، ليس لأنه ذوق معماري اختياري يحفظ للمدينة طابعاً موحداً، بل لأنه الحصار الذي يحتجز باقي الألوان والأذواق. غزة تبدو كرقعة بؤس وشقاء وعنف دون كشف المشاهد البعيد، المجرد من المعرفة النوعية والكمية، للواقع الكولنيالي الذي يفرز هذه “العتمة” الغزاوية التي تحتجز “أبولو”.
حتى حرارة تعليقات الغزيين والغزيات، المختصين بالآثار، بدت لنا حذرة من الخوض في مقولات سياسية صريحة. هذا لا يعني أن تعابيرهم لم تكن مؤثرة وموجعة. فقد كانت مقولة “رغيف الفلافل ما بيقدر يعبر إيريز” مقولة مؤثرة وذات دلالات، إلا أن دلالاتها ذات وقع أكثر على المشاهد المحلي المطلع على مجريات الأمور وعلى دراية بالتفاصيل فتبدو له السينما الوثائقية هذه قريبة جداً من حياته. فتلك المقولة تبقى عاجزة عن خلق خارطة سياسية تجعل من اختفاء أبولو قضية سياسية من الدرجة الأولى تخص حقيقة الواقع الاحتلالي، وأن التأويلات السينمائية في البحث عن الحقيقة تخلق تشويهاً للأمور.
حالة شغف
رغم الإشكاليات الجدية التي تقع فيها المعالجة الوثائقية السينمائية إلا أنها قدمت من خلال رحلة التحقيق والبحث الوثائقي وجوهاً غزية لديها شغف كبير لـ”عناق” أبولو صاحب الهوية الغزاوية، وتبحث عن الحقيقة انطلاقاً من فلسطينيتها، تحلم بفلسطين التي تحتضن حضاراتها وتراثها الإنساني. تلك سيدة، خبيرة آثار تصطحب طالباتها للتعرف على تاريخ أبولو وآثار غزة، وهذا يجمع قطعاً أثرية وذاك يصنع قطعاً “عتيقة”. هذه الوجوه التي تلتئم مع وجه ذاك الصياد على شاطئ خان يونس الذي يحلم بحياة كريمة أو كما قال: “تغيير طقم حياته”، كان بإمكانها أن تشكل سقفاً أعلى للمادة السينمائية المركبة للفيلم إلا أن المخرج اختار أن يكون “الظلام” في غزة في حين يكون “النور” في متحف اللوفر ومتحف إسرائيل.