عبدالله حسن - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/77rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:40:40 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png عبدالله حسن - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/77rommanmag-com 32 32 حقاً “لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟” https://rommanmag.com/archives/18934 Tue, 03 Oct 2017 18:52:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%ad%d9%82%d8%a7%d9%8b-%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d9%8e%d9%86%d8%ad%d8%a7%d8%b2-%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ab%d9%82%d9%81%d9%8a%d9%86-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b4/ تحت هذا العنوان «لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟» نشرت مجلة رمان الثقافية في التاسع من أيلول/سبتمبر مقالاً لعدي الزعبي علّلَ من خلاله الكاتب السوري والباحث في الفلسفة سببيّة انحياز بعض المثقفين عموماً إلى الديكتاتوريات أو الأشرار بأشكالهم، واتخاذِهم (المثقفون) مواقفاً أقل ما يقال عنها أنها تطعن في أحقّية تقرير الشعوب لمصائرها، ونَيلِها الحرّية، أو لنقل […]

The post حقاً “لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
تحت هذا العنوان «لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟» نشرت مجلة رمان الثقافية في التاسع من أيلول/سبتمبر مقالاً لعدي الزعبي علّلَ من خلاله الكاتب السوري والباحث في الفلسفة سببيّة انحياز بعض المثقفين عموماً إلى الديكتاتوريات أو الأشرار بأشكالهم، واتخاذِهم (المثقفون) مواقفاً أقل ما يقال عنها أنها تطعن في أحقّية تقرير الشعوب لمصائرها، ونَيلِها الحرّية، أو لنقل الكرامة على أقل تقدير.

ينطلق عدي في مقاله من أن ما وصفها بـ «علوم الإدراك الحديثة» تخبرنا أن المَلَكَات المعطاة لنا بيولوجياً عند الولادة هي متعددة ومتمايزة، منها المَلَكات الأخلاقية، واللغوية، ومَلكة التفكير العلمي، ومَلكة الموسيقى، ومَلكة التواصل الاجتماعي… إلخ «قد تتطور ملكة محددة بشكل كبير، في حين تبقى بقية الملكات ضامرة» وهي «تفسّر» لنا انحياز بعض المبدعين إلى الشر؛ ويَذكر مثالاً لذلك أن يكون المرء مبدعاً في الموسيقى وأحمق في العلوم، أو عالماً في الفيزياء كآينشتاين «غير قادر» على تذوّق الأدب، لأنه (آينشتاين) أقر بصعوبة فهم «المحاكمة ١٩٢٥» لـ كافكا.

دون الخوض في جدليّة الوجود والماهيّة، وأسبقيّة أي منهما على قرينتها، أو عما إذا كان الإنسان يولد كصحفة بيضاء ثم يملأ نفسه بخياراته وبمحض إرادته وتقديراته ومسؤولياته، أو أنه يولد كـ صندوق صغير فطريّ الملَكَة الأخلاقية، فطريّ التشفّي من القطط الضالة، فطريّ الكذب، فطريّ التكبّر، فطريّ النزعة إلى العبودية، فطريّ الانحياز أو عدم الانحياز؛ لستُ أدري إن كانت المواقف النبيلة هي الأخرى يمكن تعليلها وفق ما اعتمد عليه الكاتب في مقاله أم لا!، ولست أدري كذلك فيما إذا كنا قادرين مع هذا الطرح أن نلوم أحداً لسوء ما أسماه الكاتب «ملكته» الأخلاقية، أو أن نمدح ونثني ونشيد بآخَر لجودتها… دعنا نقول إنني فهمت من هذا الطرح أنه يرمي إلى عزل مسؤولية الإنسان عن وجهات نظره في القضايا بأشكالها.

لكن إذا ما اعتبرنا فعلاً أن المواقف الأخلاقية هي ملكة فطرية، يتمحور سؤال جوهري هنا: من هو المسؤول عن نمو أو ضمور ملَكَة على حساب الأخرى؟ الوراثة؟ الغذاء؟ النمو العضوي؟ دعكَ من المثقفين.. هل الإنسان عموماً يكتسب القدرة على التفرقة بين ما هو خيّر وشرير؟ أم أنه فطريّ الإرادة والاختيار؟ يقول عدي إن المخرج السويدي إنغمار بيرغمان كان «جاهلاً» بالسياسة، وهذا بطبيعة الحال ينفي فطرية المعرفة، ولا يعفيه مسؤولية جهله، لا بل يُدينه إن أبدى رأياً أو قال: «أرى»، أو «لا أرى». 

على أية حال، ربما من غير الممكن أبداً اعتبار أن الأخلاق ملكة أو مهارة عقلية تخضع لمنطق أو خوارزميّة كَمَلَكة فهم الأدب من قِبَل عالم فيزياء، أو فهم السياسة من قبل مخرج سينمائي؛ إنما هي حسبما أراها ككل القرارات تصدُر عن القلب (بما فيه جملة مكتسباتنا من تعاطفات وتطلّعات وتوجّسات وتنطّعات ونزوات أحياناً) يبررها العقل وفق منطق بحيث يمكن الدفاع عنها بالمنطق نفسه إذا ما اقتضت الحاجة؛ ولكي لا يؤخَذ عليّ أني اخترت كلمة «القلب» سأستبدلها بـ «النفس» أو للتحديد الـ«هو/ Id» في إشارة إلى أول أقسام النفس حسب نظرية فرويد البنيويّة.

إننا -ببساطة- نشعر بدايةً، ثم نتّخذ قراراتنا؛ نشعر “بالحاجة” مثلاً، ثم “نرغب”، ثم “نريد”، ثم نستخدم كلمة “سوف”، ثم “نفعل” بطريقة ما، ثم -إن اقتضت الحاجة- “نبرّر” ما فعلنا أو ما أحسسنا… إننا “نشعر بالخوف”، ثم نقول “منحبّك يا كبير” ثم “نؤيّد” جهةً ما فـ “نصوّت” لليمين أو اليسار؛ وهنا الأجدى أن نسأل: ألا يشعر المنحازون إلى الشرير بالحياء من مدى أنانيّتهم؟

يقوم عدي بعد ذلك عبر عدة أمثلة بربط الإبداع (كملَكَة تنمو أو تضمر) مع مواقف أخلاقية دنيئة ومنحطّة اتخذها مبدعون على مر التاريخ، وذلك للتشديد على ضرورة اعتبار الأخلاق ملكةً فطرية، بدلاً من أن يَفْصل بين الإبداع الرياضي وبين الملكات الأخرى كالصوت الجميل مثلاً من جهة، وبين الإبداع والمواقف من القضايا الإنسانية من جهة أخرى، وهو ماكان يجب أن يقوم به فعلاً، إذ أن الفصل بين إبداع المبدع ونُبل تعاطيه مع قضية بشرية ما، وتناول كل منهما (الإبداع، ونبل الموقف) بمعزل عن الآخر كان ليوفّر على الكاتب ثلاثة أرباع مقاله حين أردتُه أن يختصر عليّ المسافة بأن يقول مثلاً: ليس بالضرورة أن يكون المبدع نبيلاً، ولا أن يكون كل نبيلٍ مبدعاً؛ أما أن يبرر ذلك باعتباره مَلَكة فطريّة يمكن أن يتذرّع بها القاصي والداني كالقضاء والقدر، والحظ، واللوح المحفوظ.. إلخ، فهذا أمر موغل في الجبريّة إلى حد كئيب قد يحرّضني على الانتحار بين ليلة أو أخرى.

يتابع عدي حديثه بالقول إن «الإنتاج الفني المتراكم يومياً لشباب انخرطوا في الثورة مُضر للشباب حيث ينفقون وقتهم في أعمال لا قيمة فنية لها، بدلاً من التركيز على ما يستطيعون إنجازه في مجالات أخرى. يجب كبح جماح هؤلاء فوراً، والأخذ على أيديهم، بدلاً من تشجيعهم. واجبنا يقتضي أن نقول لهم بأن الموقف الأخلاقي لا يؤدي إلى فن ناضج، وأن عليهم أن يرحمونا ويرحموا أنفسهم من هذا الإنتاج الفني».

بعيداً عن دعوة الكاتب إلى كبح جماح الشباب «فوراً»، والأخذ على أيديهم من أجل أن ينفقوا وقتهم على أعمال ذات قيمة فنيّة -لا أدري مَن يحدد هذا حين تكون معظم دور النشر أشبه بإناث الأرانب- بدلاً من إضاعة الوقت… إلخ؛ ما يهمّنا فعلاً هو قوله «إن الموقف الأخلاقي لا يؤدي إلى فن ناضج»، وهنا لا بد أن نفصل بين أمرين لضمان ضبط المسألة وعدم تعدّيها: 

١- إن الموقف المنحَط أخلاقياً لفنان أو مبدع من قضيّة ما، هو بمعزل عن مفرزه الفني الذي يعالج قضية أخرى، ولا ترابط بينهما بالتأكيد إلا بما هو عمومي، وهنا يمكن الأخذ بقول عدي مع التعديل الطفيف: «إنّ الموقف الأخلاقي لا يؤدي (بالضرورة) إلى فن ناضج».

٢- لكن إذا ما كان الموقف المنحَط لمفرَز فني يرتكز ويناقش أساساً قضية أخلاقية ويسيء إليها، فهنا لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يكون منزوع القيمة مهما كان بديعاً في طريقة تمجيده للشر، إذ أن الموقف الأخلاقي هو حجر الأساس في تكوين أي مفرَز فني يسعى لأن يكون ناضجاً؛ إن الفن ينطلق في جوهره من الإنسان كقيمة عُليا، والفن الناضج يُشترط ألا يُسيء إلى هذه القيمة (قيمة الإنسان) كحد أدنى.. البقية قطعاً متهاوية ومتهالكة ينخرها الدود؛ ما معنى أن تحرّض الأفكار الإنسان على قتل الإنسان، أو إزالة الفوارق بينه وبين الكائنات الحية الأخرى؟.

تخيّل فيلماً لبيرغمان كـ«باغية وتتبدَد» لنجدت أنزور بذات الأفكار لكن بطريقة إخراجية أخرى من بطولة ليڤ أولمان، وماكس ڤون سيدو على سبيل المثال؟ سنقول إذ ذاك إن هذا الفيلم (جميل، لكنه مسيء؟)… ما رأيك بـ لارس ڤون ترير الذي يصوّرنا كحيوانات نادمة وناقمة على وجودها وعلى العالَم بأسره من حولها؟ أي فنان هذا الذي يسعى جاهداً لأن ينزع عنا قيمتنا كبشر، أو يقلل من قيمة ما نختاره، أو يرانا حتى جزءاً من حتمية تاريخية محدّدة مسبقاً بالوراثة أو بالقضاء والقدر؟! ما رأيك بفن يدعو للكراهية؟ لا تصالح على الدم إلا بدم؟ اقتلوهم حيث ثقفتموهم؟ أو شعراء يلعنون الواقع الذي ساهم في صناعتهم، ولا يرون منه قيمة سوى الجنس وعدميّة المستقبل، لا بل يسعون جاهدين عبر الكتابة إلى تعميم ما يَرونه حتميّة فشلهم وفشل المسعى الإنساني عموماً.

الأجدى أن نستثني دعوة كبح جماح الشباب التي أطلقها عدي (على المدى القريب والبعيد) ونضعها إلى جانب فطريّة الملكات غير العقلانية، ثم نتقدّم بدعوة للجميع لأن يأخذوا على عاتقهم الدفاع عن كل تلك الركائز والقيم والمفاهيم التي -بدونها- تصبح الحياة خالية من أي معنى، ويصبح الإنسان فيها كائناً غير جدير بالاحترام (أعتقد أني قد استخدمت هذه الجملة في أكثر من ١٠ مواضع).. ما رأيكم بالحب؟ بربّكم لو كان لـ أدونيس مثلاً الرغبة في أن يبادلنا الحب، أكنّا قد سمعنا آنذاك عبارته الشهيرة: «أنا ضد ثورة تخرج من عتبات المساجد»؟ شتّان بين التفكير الموضوعي السليم وبين أدوات (عسى، ليتَ، ولعلّ) مستر علي إسبر، هذا خللٌ وظيفي في منطقك أنت المسؤول عنه؛ أمَا من مُبلغٍ يُبلغُك قول باسكال: «إن الحقائق خلفَ جبال البيرينيه ليست بالضرورة أن تكون صحيحة في ما وراءَها»؟

The post حقاً “لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟” appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في انتقاده لسارتر.. عدنان إبراهيم يكرّس حتميّة ما نمر فيه https://rommanmag.com/archives/18765 Sat, 24 Jun 2017 05:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%82%d8%a7%d8%af%d9%87-%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d8%aa%d8%b1-%d8%b9%d8%af%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%a5%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85-%d9%8a%d9%83%d8%b1%d9%91%d8%b3/ في الوقت الذي تبدو فيه المرحلة الحالية بما تتضمنه من تخبّط وضياع لمعنى الإنسان وفحوى وجوده، بحاجة ماسة إلى من يبث في داخلها روح المقاومة والاستمرار، ويضمن للإنسان فيها قدرته على اختيار مصيره، ويبيّن له بجدّية أن طرائق الانتحار (مادياً كان أم معنوياً) هي نفيٌ للمشكلة وليست حلاً لها، يرى الداعية الإسلامي «عدنان إبراهيم» من […]

The post في انتقاده لسارتر.. عدنان إبراهيم يكرّس حتميّة ما نمر فيه appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
في الوقت الذي تبدو فيه المرحلة الحالية بما تتضمنه من تخبّط وضياع لمعنى الإنسان وفحوى وجوده، بحاجة ماسة إلى من يبث في داخلها روح المقاومة والاستمرار، ويضمن للإنسان فيها قدرته على اختيار مصيره، ويبيّن له بجدّية أن طرائق الانتحار (مادياً كان أم معنوياً) هي نفيٌ للمشكلة وليست حلاً لها، يرى الداعية الإسلامي «عدنان إبراهيم» من جهته أن منطق سارتر هذا هو “تافه”، متذرّعاً بقدريّة وحتميّة ما يجري؛ وضارباً بدعوة فولتير الشهيرة “لم يسبق أن تعرّض النوع البشري لمثل هذه الإهانة.. اصرخوا، فليصرخ الجميع” عرضَ الحائط.

إن هذا المقال ينطلق في جوهره من قيمتين اثنتين؛ محاولة إثراء العقلية النقدية بالدرجة الأولى حيث الجميع يؤخذ من قوله ويُرد عليه، وتبيان خطورة ما ذهبَ إليه إبراهيم في ردوده العاطفية والماورائية على الوجودية كفلسفة انتشلت الملايين من الضياع في الأداتيّة خلال حقبة مريرة من التاريخ كان الإنسان فيها بأمس الحاجة إلى إنقاذه كما هو على الدوام؛ بينما كانت معظم أشكال الفهم الديني ولا تزال أيضاً -جنباً إلى جنب مع الفلسفات الشمولية- تبرر ذاك الاضمحلال وتكرّسه بالماورائيات تارة، والتعاطي السطحي مع المادية التاريخية تارة أخرى.

دون الدخول في العمق أكثر مما ينبغي، يتمسّك الوجوديون (مؤمنون وغيرهم) كما هو معلوم بأسبقية وجود الإنسان على ماهيته؛ أي أنه (الإنسان) ليس كقلم الرصاص يُصنَع وفق مخطّط يحدد وظيفته وطريقة عمله، وإنما هو يُوجَد أولاً ثم يختار لنفسه مصيره بعد ذلك بحرية ومسؤولية، فيؤمن أو ينكر، يتعلّم أو “يبقى” جاهلاً، يكون أو لا يكون… إلخ؛ يقول سارتر في «الوجود والعدم» (١٩٤٣) إنه “لا معنى للحياة في اللحظة التي تفقد فيها وهم أنها أبدية؛ لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً إلا إذا كان قد فهم أولاً أنه لا يجب أن يعوّل على أحدٍ إلا على نفسه؛ إنه وحده، مهجور على الأرض في محيطه اللامتناهي بالمسؤوليات، دون مساعدة، بلا هدف غير الذي يضعه لنفسه، وبلا أية مصائر غير تلك التي يزج بها نفسه في هذا العالم”. وبالتالي فالتبريرات من قبيل “حظي مش حلو”، “القدر ما ساعدني”، “الفرصة ما إجتني”، “وُلدت لطبقة فقيرة” هي مرفوضة تماماً.

بالمرور سريعاً على قضية الولادة لطبقة فقيرة، ولربما هي الأكثر تذرّعاً بها (مادياً) لدى الماركسين وغيرهم، كان سارتر قد ردّ على مقتضاها بسؤال ذكي في محاضرة شهيرة له “إنْ كانَ پول ڤاليري هو پول ڤاليري (شاعر وكاتب فرنسي) لأنه ابن عائلة برجوازية، فلماذا لا يكون كل أبناء العائلات البرجوازية پول ڤاليري (شعراء وكتّاب)؟” في إشارة إلى ضرورة تعويل المرء على ذاته قبل كل شيء، وإلى أن الاعتبارات الأخرى ما هي إلا مساحة لعمل أكثر جودة. 

في عدة مقاطع فيديو منشورة على يوتيوب تناول الداعية الإسلامي (العقلاني) -كما يصفه أتباعه- الوجودية وسارتر واصفاً الأخير بـ”الملحد العتي” تارةً، و”التافه” تارةً أخرى؛ نسبَ له عبارة قال إنها “قاسية وذكية” تقول: “حتى المعوّق على كرسي مدولب، إن حدثَ وأن شارك في سباق ماراثوني فإنه يتوجب عليه أن يبذل قصارى جهده ويفوز”.

يمكننا أن نحصر ما ذهب إليه إبراهيم في أمرين، حديثه عن عدم امتلاك المرء للشروط البدئية المادية التي تخوّله تحقيق ذاته، وعن القدَر كقضية تشغل علماء الدين ودعاته بشكل عام، ولعل إبراهيم كما هو حال المتدينين ممن يسمون بالعقلانيين قد استخدم الذريعة الأولى للتحسين من صورة التبرير الثاني وتسويغه بـ “عقلانية” يراها وأتباعُه صائبة.

لدى تَقدِمتهِ لإشكالية العلل المادية وعدم امتلاك الإنسان للشروط البدئية، استخدم إبراهيم عبارة المعوق والسباق الماراثوني الواردة أعلاه، والتي لن تجدها في أي مما كتبَ سارتر، ليقول إن المنطق الوجودي في جوهره ناقص، إذ كيف للمعوق أن يفوز بالسباق الماراثوني للأصحّاء؟، ويتابع: “كيف يدّعي سارتر أني من أصنع قدري، وأن الشروط البدئية في يدي؟ ما هي البداية وأنا معوق؟ فلان يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وفلان فقير؛ هل اختارَ المحاصَرون في سوريا أقدارهم؟ إن سيف سارتر الوجودي موجه على من لا حظ لهم، على رقاب الضعفاء والمساكين.. إلخ”.

حسناً.. دون أن نسأل إبراهيم بما عنده عن الله كيف فرض الصلاة على قعيد الفراش، وساوى في أجرها وأجر المصلي صحيح الجسم، ولم يفرّق بينهما، بل ووعدَهما الفوز بالجنة؛ افترِضْ معي فعلاً أني في سباق ماراثوني بكامل صحتي ولياقتي البدنية، إنّ الهدف الذي يدفعني لخوض السباق هنا هو الفوز بالمرتبة الأولى، وهذا الفوز (بالمرتبة الأولى) هو بمثابة الهدف النهائي والغاية الأسمى بالنسبة لي، وكل الاعتبارات الأخرى هي غير مهمة؛ لكن لو أن هدفي مثلاً هو المشاركة، أو تنمية قدراتي البدنية، أو لأغراض أخرى كإنقاص الوزن مثلاً، فإن تحقيق هذا الهدف أياً كان (المرتبة الأولى أو إنقاص الوزن) هو بالنسبة لي فوز بالسباق، وعليه كيف يمكن فهم هذه الجملة التي أوردها إبراهيم؟ هل من الممكن منطقياً أن يهدف المعوق للفوز بالدرجة الأولى مثلاً ولا يكون بذلك مجنوناً؟

إن الوجودية هي فلسفة الممكن، وليست كما يصوّرها إبراهيم؛ ولـ كامو جملة شهيرة توضح ذلك حين يقول: “يا روحي لا تطمحي إلى المستحيل، بل استنفدي حدود الممكن”، وعليه فالوجودية أيضاً لم تُبنَ على ضرورة اختيارك لملامح وجهك قبل الولادة، وإنما على ما اخترتَ مما تملكه وما لا تملكه من الممكن.

يتابع إبراهيم بجبريّة موغلة: “سأذهب أبعد من ذلك.. يا سيدي لا الأفعال ولا النتائج في أيدينا، ولستُ جبرياً.. أنا أعلم ما أقول.. هل أنت من اختار دينه واختار أبويه؟” وكأن إبراهيم يسأل هنا لماذا العقل إذاً إن كان القدر أو الله قد اختار كل ذلك؟ لماذا الدعوة إلى الإسلام إن كان الله قد اختار الدين؟ ولماذا الهجرة إن كان الله قد اختار الموقع الجغرافي؟، وكأن العدل هو في أن يُخلق الناس على دين معين ويُهدَد الآخرون على الدوام بدخول النار، وليس في أن يخضع الجميع لنفس المقياس بتساوي واجبات البحث والتفكر!.

هكذا يرى إبراهيم أن على هذا العالم أن يظل متماهياً مع ما يجري إلى أبعد حد بوصفهِ مُقدّر مسبقاً، ولا قدرة للبشر على تغيير شيء أو صناعة حتى فنجان القهوة دون مشيئة من الإرادة العليا.

بالدخول أكثر، ما الذي سيتغيّره إيمانك بالقدر إن كنت مطالباً في الوقت ذاته بالكشف عن نفسك بخياراتك؟، كيف لإبراهيم أن يؤمن بأن أشياء كثيرة قُدّرت على الإنسان وانبثقت في وجهه صدفة، في حين يرى أن العالم لم يأتِ بشكل مصادف وأن يد الله هي من صنعته؟، وكيف تدل البعرة على البعير، وتدل الخطى على المسير فيما يخص صناعة الله للعالم، ولا يؤخذ بقدرة الإنسان على حك ظفره إلا أن يشاء الله؟ وكيف لك أن تعلم إن كان حكّ الظفر مقدّراً أم هو غير مقدّر دون أن تهم بذلك أولاً؟ أي رعب هذا؟!

ناهيك عن ذلك كله، يعزو إبراهيم الإلحاد لأسباب ساكولوجية دون أن يتوقع سؤالاً مقابلاً عن إمكانية كون أسباب الإيمان سايكولوجية كذلك! ويؤمن بالقدرة على إشعال المصابيح الكهربائية بـ”بعقلانية” دون الحاجة للطاقة! يؤمن بما هو أبعد من الباراسيكولوجيا نفسها.

في النهاية سعى إبراهيم لإيجاد أي مفارقات في شخصية الفيلسوف الفرنسي، فنسبَ له عبارة أخرى تقول: “يبدو أن في رأس كل منا ثقب لا يملؤه إلا الإيمان بالله”. أراد إبراهيم بهذه العبارة أن يدعّم أقواله في أن الشك والبحث هو أمر مضنٍ، وأن سارتر يعلم أن الإيمان هو راحة واستقرار، ثم أردف بالقول إن سارتر مات معمّداً.

العبارة هذه وردت على لسان باسكال في «الخواطر»، ونسبت لمونتسيكو صاحب «روح القوانين»، ووردت بمعنى مقارب على لسان القديس أوغسطين، إلا أنها ألصقت لدى إبراهيم بسارتر عنوةً، وهو الذي لم يقاربها أصلاً، قال:

«Our existential dilemma would leave humanity conscious of a hole the size of God»

«إن معضلتنا الوجودية ستترك الضمير الإنساني في حفرة بحجم الإله».

إن اجتزاء هذه العبارة ونزعها عن سياق ما جاءت ضمنه هو تشويه بالغ القبح؛ ففي الوقت الذي يشعر فيه معظم البشر -إن لم يكن جميعهم- بالحاجة العميقة لمعنى في حياتهم يقلل حجم الهوّة التي تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم بين الإنسان وعالمه، يبحث آخرون عن الإسفين خارج أنفسهم، في شيء أكبر وأوسع (الأسرة، العائلة الكبرى، العشيرة، المجتمع، الدولة، الكنيسة، الكون) أو أي انتماء آخر؛ وللدقة ربما هو يبحث عن نوع من الوفاء أو الولاء يقدّمه لأحد بأسرع وقت ممكن في رحلة اغترابه التراجيدية.

الأزمة الوجودية في جوهرها أزمة ثقة، إن عدم قدرة الإنسان على الانتماء لنفسه أو للدائرة الأكبر.. ونزعته الدائمة للهروب بعيداً عن الحقائق غير الرحيمة، وتوقهُ المستمر لتخطّي ذاته والانفلات من ضعف حرّيته ومسؤوليته الأصلية، وسوء التفاهم الحاصل بينه وبين العالم، كلها ستترك ضميره في ثقب أسود بحجم الإله «يا إلهي إنها هاوية سحيقة بحجم نصائحك» يقول جان كالفن.

ختاماً، حين كتبت سيمون دي بوفوار «المثقفون»، كانت تتحدث عن روح العصر على أعقاب الحرب العالمية الثانية، عن مرحلة سادَ فيها القلق واليأس، وعن مثقفين شكلوا حياة المجتمع الفرنسي، كان تأثيرهم فيها -سيما لدى الشريحة الشابة- هائلاً، صارَ خلالها سارتر وكامو ودي بوفوار وغيرهم أيقونات رأت فيهم فرنسا ممثلاً لعصر مغاير ومستقبل آخر أوجدَ إجابات عن أسئلة بات يفرزها واقع لم يعد يشبه بأي شكل واقع ما قبل الحرب، كانت تعبّر عن ضمير إنساني يقظ، يحاكِم ويقاوم إلى أبعد حد، لا أن يبحث عن الذرائع والمسوّغات هنا وهناك.

The post في انتقاده لسارتر.. عدنان إبراهيم يكرّس حتميّة ما نمر فيه appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
«الاكتشاف» فيلم عن مسؤولية أن تقول «أدري» https://rommanmag.com/archives/18742 Thu, 08 Jun 2017 03:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%83%d8%aa%d8%b4%d8%a7%d9%81-%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85-%d8%b9%d9%86-%d9%85%d8%b3%d8%a4%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d9%86-%d8%aa%d9%82%d9%88%d9%84-%d8%a3%d8%af/ قدمت خدمة مشاهدة الأفلام عبر الإنترنت «Netflix» مؤخراً لمشتركيها فيلماً أمريكياً/بريطانياً بعنوان «The Discovery» (الاكتشاف)، أقل ما يقال عنه أنه يعالج بطريقة بارعة ويعيد طرح بعض الأسئلة الكبرى التي أشغلت مفكرين كثر على مر تاريخ الإنسان القديم والمعاصر. الفيلم الذي لم يصنَّف بأكثر من ٦.٣ حتى الآن على موقع IMDB لا يحتّم علينا أو يدفعنا […]

The post «الاكتشاف» فيلم عن مسؤولية أن تقول «أدري» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

قدمت خدمة مشاهدة الأفلام عبر الإنترنت «Netflix» مؤخراً لمشتركيها فيلماً أمريكياً/بريطانياً بعنوان «The Discovery» (الاكتشاف)، أقل ما يقال عنه أنه يعالج بطريقة بارعة ويعيد طرح بعض الأسئلة الكبرى التي أشغلت مفكرين كثر على مر تاريخ الإنسان القديم والمعاصر.

الفيلم الذي لم يصنَّف بأكثر من ٦.٣ حتى الآن على موقع IMDB لا يحتّم علينا أو يدفعنا إلى التطرق كثيراً بالحديث عن إنتاجه من تكلفة ومواقع تصوير، أو طرائق تفكير القائمين عليه، أو حتى وجهات نظرهم بقدر ما يصب من اهتمامنا أولاً على موضوعه الفريد.

يستهلّ الفيلم الذي أخرجه تشارلي ماكدويل بمشهد للطبيب توماس في مقابلة تلفزيونية على إحدى القنوات، بعد مضي عامين على انتحار ٤ ملايين إنسان في الولايات المتحدة في ظل ازدياد متواصل للأعداد، وذلك إثر إثبات الطبيب علمياً وجود حياة أخرى بعد الموت.

إحدى حالات الانتحار تلك تمت على الهواء مباشرةً، قام خلالها أحد تقنيّي الصوت من طاقم المحطة بشكر الطبيب عقب المقابلة التي أُجريت معه، وقتلَ نفسه، بينما يتم الحديث عن مريضة بسرطان دماغي اعتبرت هذا الاكتشاف من الدكتور توماس هو بمثابة «ورقة يانصيب رابحة» وأقدمت على قتل نفسها هي كذلك، وآخَر كان طَقسُه أكثر متعة، تمثّلَ بجرعة زائدة من مادة مخدرة.

وسط هذا الكرنڤال الصاخب بصرخات المغادرة إلى العالَم الجديد، نتذكر فيلمين للمخرج السويدي جان ترويل، من بطولة العملاقين ماكس ڤون سيدو، وليڤ أولمان، «The Emigrants 1971» و «The New Land 1972» اللذين تحدثا بشكل مفصّل عن مطلع القرن التاسع عشر حيث عاهرتان، وعدد من المزارعين، والقساوسة، يهيّئون أنفسهم للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، (أرض الأحلام) الصغيرة والكبيرة والمتوسطة والمتطرفة، التي تنتظر بفارغ الصبر ما سيصنع هؤلاء لدى العيش على أرضها.

وسط هذا العرس بليغ الوصف أيضاً يشير الفيلم إلى أن عمليات الانتحار الجماعي هذه عززت بالمقابل علاقة الناس بأقربائهم، بينما جمعت علاقةٌ عاطفية ابنَ الدكتور توماس بفتاة حاولت الانتحار بعد فقدانها لابنها غرقاً، ولك أن تعتبر هذين الاثنين (آدم وحواء) عند هذه الدقيقة، أو أن تتعامل مع القصة على نحوها الجاري؛ لكن ثمة ما هو وراءَها يحتاج الكثير للوقوف عنده.

عالجَ الفيلم عبر أسئلة كثيرة وكبيرة خطورةَ الخروج إلى الناس ببعض الأفكار التي من شأنها أن تودي بهم، أو تهدد الوجود البشري في ذاته، أو تتعهّد بإزالة الفوارق الكبرى بينه وبين الحيوان، إلى ما هناك من مفاهيم الخير والشر، الخطأ والصواب، وهكذا دارَ الحوار بين توماس وابنه: إننا مخطئون يا والدي، مخطئون لأن الملايين من البشر ماتوا.. لقد تحوّل اكتشافك هذا إلى عقيدة.

فعلاً.. لدى تلك النقطة الزمنية بالذات، عمل الدكتور توماس على جمع البعض ممن حاولوا الانتحار والذين استقبلهم في منزله، وذلك بعد حوار أجراه معهم واختارهم وفقاً لأسئلة محددة؛ جمعهم الطبيب في إحدى الغرف ليطلعهم على «الآخرة» حسبما قال أحد الحضور، الذي رفضَ الحديث بتفصيل عن هذه القضية… كان هؤلاء المدعوّون إلى غرفة الدكتور توماس بمثابة مبشِّرين، أو سمّهِم أبواق، أو «شبّيحة» بكلمات معاصرة.

ينتقل الفيلم بعدها لطرح أسئلة من قبيل: ماذا لو كان الميت يعيش في الآخرة حياته الحالية في هذا العالم بحذافيرها دون زيادة أو نقصان؟ ماذا لو كان ذلك فقط لدفعهم كي يتعلّموا معنى أن حياة الاختيار تُعاش لمرة واحدة، وأن الآخِرة هي جبريّة؟ ماذا لو كان الناس يعيشون هناك فقط ما يتذكرونه؟ أو الذكريات والأمنيات غير القابلة للاسترجاع فقط؟ ماذا لو كانت الآخرة هي فرصة ثانية لتصحيح ما جرى؟.

إن ما تطرّق إليه فيلم «الاكتشاف» لا يختلف كثيراً عما نعيشه اليوم مع التَوق وأنواع التَرف اللغوي المغازِل للنيزك المرتقب، أو المسيح الدجال وعيسى، أو المهدي المنتظَر، أو حتى دونالد ترامب، أو فلاديمير بوتين، كيم جونغ أون، رودريغو دوتيرتي، أو نزولاً أكثر إلى وضاعة بشار الأسد.. كذبٌ -أو سمِّهِ جنوناً- بحجم السماء، لا تتعدى الغاية منه سوى الهرب؛ إن هذا الجنون هو إغواء، بكل ما فيه من مستحيل وعجائبي وغرائبي ولاإنساني وغير معقول… إنه التعبير عن السخط الكوني، والسعار الدامس الكامن في قلب الإنسان، إنه حرية الأحلام، إنه فتنة زوال العقل، إنه نشوة أن يتوقّف العالَم كلياً في لحظة بوهيميّة، إنه حرية الرغبة بالهروب بعيداً عن حقائق غير رحيمة.

The post «الاكتشاف» فيلم عن مسؤولية أن تقول «أدري» appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
الفيلم كاستعارة للرواية وكخروج عن نصّها https://rommanmag.com/archives/18585 Wed, 08 Mar 2017 02:00:00 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85-%d9%83%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b9%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%83%d8%ae%d8%b1%d9%88%d8%ac-%d8%b9%d9%86-%d9%86%d8%b5%d9%91/ إذا ما أراد أحدنا أن يشاهد فيلماً مستنداً إلى رواية، فالأجدر به أولاً أن يمنح نفسه وقتاً كي يتجرد بعض الشيء مما يتذكره منها، بما في ذلك الأحاسيس التي انتابته، أو تلك الصور التي تراءت له أثناء قراءتها؛ إن الأمر أشبه ما يكون بمقارنة الشجرة مع كرسي خشبي. مئات الأفلام استندت في طرحها إلى روايات، سنتناول الشيء اليسير منها باختصار، […]

The post الفيلم كاستعارة للرواية وكخروج عن نصّها appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
إذا ما أراد أحدنا أن يشاهد فيلماً مستنداً إلى رواية، فالأجدر به أولاً أن يمنح نفسه وقتاً كي يتجرد بعض الشيء مما يتذكره منها، بما في ذلك الأحاسيس التي انتابته، أو تلك الصور التي تراءت له أثناء قراءتها؛ إن الأمر أشبه ما يكون بمقارنة الشجرة مع كرسي خشبي.

مئات الأفلام استندت في طرحها إلى روايات، سنتناول الشيء اليسير منها باختصار، ونتحدث (إن صح التعبير) عن جواز المقارنة بين العملين من عدمه، لكن لا بد أن نشير هنا إلى أن الرواية كعمل فني قادر على التأثير، يكتسب هذه القدرة من النقص الذي فيه؛ فالرواية لا تلامس الفعل إنما هي تشير إليه باللغة والاستعارات، ما يترك المجال الواسع للعقل البشري كي يسرح ويتخيل ويُكمل ما لم يكن له أن يُقال، وهذا “النقص” هو أبرز صفات الجمال عموماً… خذ مثلاً قصيدة يتركك كل شطر فيها أمام مئات الصور وإشارات التعجب، ما يجعلك تمتع نفسك بنفسك إلى ما لانهاية، وإلى ما لم يخطر في بال الشاعر حتى.

لعل السبب الذي دفع النقاد السينمائيين مؤخراً إلى اعتبار فيلم Mulholland Drive على رأس قائمة أفضل ١٠٠ فيلم للقرن الحالي يكمن في كونه أشبه بقصيدة سوريالية لا بداية لها، ولا نهاية، وليس لها أي تفسير قابل للتحديد؛ ومن هنا تدخل صفة “الجمال” البارزة التي أوردناها حيّز التنفيذ في السينما، رغم أن الصورة هي محدودة عادةً ومباشرة وصارخة الوضوح.. لكن خذ أيضاً على سبيل المثال الأفلام الصامتة التي تتركك مع نفسك طوال الوقت تتنبّأ… تبتسم تارةً، وتبكي تارة أخرى.

في كانون الثاني/ يناير ١٨٦٦ صدرت رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، لا أعتقد أن قارئاً استثنى هذه الرواية من قائمته، على أية حال.. أكثر من ١٢ فيلماً استند منذ العالم ١٩١٣ حتى اليوم على هذه الرواية، ناهيك عن المسلسلات والأفلام القصيرة؛ شاهدتُ منها ٦ أفلام لمقارنة وجهات نظر مخرجيها فقط… أسئلة كثيرة روادتني قال بعضها: على ماذا تنافسَ مخرجو تلك الأفلام فيما بينهم؟ على القدرة في تحويل (كل) ما كتُب بين دفتي الجريمة والعقاب إلى صورة؟ أم اعتمدت أفلامهم على ما يريد المخرج إظهاره؟ أم أن الفيلم هو تعبير عن وجهة نظر المخرج بذاك العمل الروائي لا أكثر؟

في نسخة العام ٢٠٠٢ من بطولة (John Simm) وإنتاج هيئة الإذاعة البريطانية، يبدأ الفيلم بمشهد وداع الأم والأخت لراسكولينكوف أثناء الأخذ به إلى السجن؛ وفي نسخة العام ١٩٣٥ يبدأ الفيلم بمشهد منح راسكولينكوف إجازة جامعية، علماً أنه مفصول من الجامعة لعدم قدرته على دفع مستحقاتها في الرواية، وركز من بدايته على إعجاب راسكولينكوف بنابليون بونابرت؛ وفي نسخة العام ١٩٧٠ ابتدأ الفيلم أول مشاهده ليُظهر الحالة النفسية التي يمر بها بطل الرواية بعد تنفيذه جريمة القتل؛ ولم يبدأ أي من المخرجين المتبقين فيلمه بالحدث الأول في الرواية، ولم تتسلسل أحداث الفيلم بأي شكل من الأشكال كما هي هناك، وإنما التزم الجميع بالنقاط الأساسية في السرد المرئي، وأخذوا من الرواية ما يناسب تحويلها وفق هذه النقاط إلى فيلم حسب الشكل: مرحلة البناء (يتم فيها التعريف أو التمهيد)، ثم الـ Routine Killer (فعل يقوم به البطل أو يطرأ ليكسر رتابة الربع الأول من الفيلم)، ثم الـ Act 1 Plot Twist وهي النقطة التي ينحرف فيها مسار الفيلم من البناء إلى المغامرة، ثم الـ Act 2 Plot Twist وهي النقطة التي يتم عندها تحول مسار الفيلم مجدداً من المغامرة إلى أولى ملامح الحل، ثم الـ Climax وهي أعلى نقاط التوتر في الفيلم كبداية لنهايته.. وهكذا لم تخرج قصة مفهومة عن إطار طريقة البناء هذه؛ والروايات القابلة لتكون فيلماً تحتوي كحد أدنى على ما (يتطابق) مع هذه النقاط، والاختلاف الحاصل في طريقة الطرح هو اختلاف بين وجهات نظر المخرجين في (تقدير) ما يناسب طريقة السرد المذكورة.

إذا ما أراد مخرج تقديم الجريمة والعقاب كفيلم ناجح من منظور قراء الرواية التقليديين إن صح التعبير، هل يرتبط نجاح تقديم هذا العمل بالتزامه بالرواية أم ببعده عنها؟ هل يجب أن يتم تقديم شخصية راسكولينكوف أولاً مثل الرواية، ويُتابع السرد السينمائي مثلها، وينتقل بعدها إلى شخصية أخرى مثلاً ثم يعود إلى راسكولينكوف ثم دونيا وهكذا؟؟.. والآن.. كيف سيبدو الفيلم لدى أولئك الذين لم يقرؤوا الرواية؟ كيف هو سينمائياً؟ وأية ذاكرة هذه التي يجب أن يتحلى بها مُشاهد الفيلم كي يستطيع الربط بين كل تلك “السكيتشات” أو الأجزاء في نهاية الفيلم ويصل إلى نتيجة مفيدة؟

في فيلم Loin des hommes المنتَج عام ٢٠١٤ والذي تستند أحداثه إلى قصة “الضيف” للفرنسي ألبير كامو، ابتعد المخرج -على غير عادة المخرجين في تعاطيهم مع الرواية- عن أحداث القصة الأصلية بشكل كبير جداً.

على الطريق المؤدي إلى مركز الشرطة في بلدة “تاغيت” الجزائرية، يمر شرطي مع شاب عربي قتل ابن عمه، للاستراحة في مدرسة يقطنها أستاذ فرنسي.. يفضّل الشرطي أن يبيت العربي في المدرسة على أن يسلمه الأستاذ إلى مركز الشرطة في اليوم التالي، إلا أن الأخير رفضَ بعد مبيت العربي لديه أن يسلمه، معتبراً ذلك أمراً منافياً للأخلاق، وهو ما أوقعه في إشكال كبير بين الشرطة الفرنسية وأبناء عمومة الرجل.

يدور محور القصة حول رغبة الأستاذ المستمرة في فتح الطريق أمام العربي للهروب واختيار مصيره دون الذهاب إلى قدره المحتوم لدى أبناء العمومة أو المحاكمة في تاغيت، وعن تمكنه من ذلك في نهاية المطاف حين أعطى العربيَّ زاداً وأشار له بيده إلى مركز الشرطة ليذهب بمفرده، وحال عودة الأستاذ وجد على سبورة الصف عبارة تقول: ستندم.. لقد سلّمتَ أحد رجالاتنا.

يرى كثيرون أن هذه القصة هي تعبير عن المعضلة والتورط الذي واجهه كامو شخصياً بين مناصرة ثورة الجزائر، والوقوف إلى جانب انتمائه الفرنسي، وليس هذا موضوعنا على أية حال، وإنما الطريقة التي “عالج” فيها الفيلم “فحوى” القصة وجوهرها.

سيقول البعض إن الشخصية الرئيسية مثلاً لم تكن تدخن في القصة، بينما هي كذلك في الفيلم، أو أن القصة كانت تتحدث عن عاصفة في حين أن الفيلم لم يشهد عاصفة.. وما إلى ذلك… وسيقال أيضاً أن المدرسة لم تتعرض لهجوم من قبل طلبة الثأر في القصة، إلا أنها تعرضت لذلك في الفيلم…. إلخ.

إن معالجة Loin des hommes لفحوى قصة (L'Hôte) هو مثالي للغاية لأسباب عديدة، منها أن جوهر القصة وجودي بحت.. أسيرٌ في مكان ما، يخشى أن يُترك حراً لأنه خائف من مصير محتوم، في حين أن خيارات أخرى لديه (الهرب مثلاً) لكنه يخشى أن يكون مسؤولاً.. حوارات كثيرة أوردها الفيلم تصب في هذا الموضوع إلا أنها غير موجودة البتة في القصة؛ حتى أن المدرس في الفيلم، لا القصة، دافع عن العربي مقابل فرنسيين آخرين جاؤوا مسلحين يريدونه بتهمة أُخرى، وهذا ما يضعك كمشاهد أمام الـ “أنا” لدى المدرّس في أفضل حالاتها.

لقد أتى الفيلم بالكثير الكثير لكي يوضح لك فقط ما جاء في ٢٠ صفحة كتبها كامو، ويخبرك بصريح العبارة: لن يُسلّم المدرسُ السجين لأحد إلا لحرية السجين ذاتها ليختار رغماً عن أنفه بمفرده.

لقد اضطر المدرس لقتل عربي صادفهم عن طريق الخطأ حين أشهر الاثنان أسلحتهما كلٌّ في وجه الآخر، في تلك اللحظة حالَ تأكُّد المدرس من وفاة الرجل، نظر إلى السجين وقال: إنه خطؤك.. لقد مات هذا الرجل لأنه جبان لا أكثر.

وهذا أيضاً خارج عن سياق القصة إلا أنه امتداد وتعبير حقيقي إلى أبعد الدرجات عما أراده الرواي.

الفيلم كذلك عرّف المدرس بطريقة أخرى في منتصف الفيلم، أظهرَ أنه كان رائداً في الجيش، وأنه مولود في الجزائر وينتمي إليها، وأنه معروف بشهامته من قبل الثوار الجزائريين أنفسهم، والذين كانوا يخدمون إلى جانبه.. في حوار دار بين المدرس وأحد الثوار، أراد الأخير من المدرس الانضمام إليهم، ليجيب المدرس:

– إني مع استقلال هذه البلاد، وأنا بطبيعة الحال أناصركم بتعليم الأطفال على القراءة والكتابة. 

– لابد أن نكون قد تجاوزنا الآن مرحلة القراءة والكتابة، ولا أحسب أننا بحاجة إليها يا حضرة الرائد! وعليك أن تختار جانباً. 

– لن أختار إلا الجانب الذي أراه صائباً، أنا مع استقلال هذه البلاد.. قبر والدي لا يبعد سوى ٢٠ كيلو متراً عن هذا المكان.. لكنني مدرس ولدي أطفال ينتظرونني لكي أعلمهم.

مستعرضاً الفيلم جانباً بارزاً في “تكوين” تلك الشخصية، ومدى تناقضها الكلي مع العربي الذي اختار وفضّل ما هو محتوم على ما هو ممكن.

وهذا مثال آخر عن حرية المخرج في تقدير ما يراه مناسباً لتدعيم ما يريد تقديمه من رواية يراها من جانبه، فيلم The Kite Runner لمارك فوستر عن رواية خالد حسيني.. شتان بين العملين، ولا يمكن الأخذ بجمال أحدهما على حساب الآخر.. ثم أخيراً فيلم The Patience Stone لـ عتيق رحيمي عن رواية عتيق رحيمي نفسه.. هذا خير شاهد يمكن ذكره. فارق كبير بين العملين للشخص ذاته.

أرى ختاماً أن الفيلم الذي يستند في بنائه إلى رواية أو قصة، يفشل حين يظل مرتبطاً بتلك القصة لا العكس.. إن الابتعاد عما جاء في الرواية من تفاصيل تترك أولاً للعقل حرية انتقاء الجمال واستشعاره كما أسلفنا، وثانياً لا يمكن مقابلتها بالصورة الصارخة والواضحة التي لا تحتمل أية أشكال أخرى للتخيل كذلك.. لذا كلما كثر التفصيل في الفيلم، وكلما كثر تجسيد الكلمات وملاءمتها مع الصورة زاد ذلك من “وقاحة” العمل السينمائي. والخطابات العقلية البحتة لم تكن يوماً ما جميلة؛ كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن الشريحة التي تخاطبها الرواية هي أقل بكثير من تلك التي تعنى بها السينما أو تصلها، ثم إنه ليس المطلوب من المخرج الذي يعمل على إنتاج فيلم يستند إلى رواية وأن يضع نصب عينيه تجسيد خيالات قارئها، وإنما أن يُبقي على شيء من لوازمها على سبيل الاستعارة المكنيّة.

The post الفيلم كاستعارة للرواية وكخروج عن نصّها appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>