حقاً “لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟”

الشاعر السوري أدونيس

عبدالله حسن

كاتب من سوريا

يتابع عدي حديثه بالقول إن «الإنتاج الفني المتراكم يومياً لشباب انخرطوا في الثورة مُضر للشباب حيث ينفقون وقتهم في أعمال لا قيمة فنية لها، بدلاً من التركيز على ما يستطيعون إنجازه في مجالات أخرى. يجب كبح جماح هؤلاء فوراً، والأخذ على أيديهم، بدلاً من تشجيعهم. واجبنا يقتضي أن نقول لهم بأن الموقف الأخلاقي لا يؤدي إلى فن ناضج، وأن عليهم أن يرحمونا ويرحموا أنفسهم من هذا الإنتاج الفني».

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

03/10/2017

تصوير: اسماء الغول

عبدالله حسن

كاتب من سوريا

عبدالله حسن

تحت هذا العنوان «لماذا يَنحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟» نشرت مجلة رمان الثقافية في التاسع من أيلول/سبتمبر مقالاً لعدي الزعبي علّلَ من خلاله الكاتب السوري والباحث في الفلسفة سببيّة انحياز بعض المثقفين عموماً إلى الديكتاتوريات أو الأشرار بأشكالهم، واتخاذِهم (المثقفون) مواقفاً أقل ما يقال عنها أنها تطعن في أحقّية تقرير الشعوب لمصائرها، ونَيلِها الحرّية، أو لنقل الكرامة على أقل تقدير.

ينطلق عدي في مقاله من أن ما وصفها بـ «علوم الإدراك الحديثة» تخبرنا أن المَلَكَات المعطاة لنا بيولوجياً عند الولادة هي متعددة ومتمايزة، منها المَلَكات الأخلاقية، واللغوية، ومَلكة التفكير العلمي، ومَلكة الموسيقى، ومَلكة التواصل الاجتماعي… إلخ «قد تتطور ملكة محددة بشكل كبير، في حين تبقى بقية الملكات ضامرة» وهي «تفسّر» لنا انحياز بعض المبدعين إلى الشر؛ ويَذكر مثالاً لذلك أن يكون المرء مبدعاً في الموسيقى وأحمق في العلوم، أو عالماً في الفيزياء كآينشتاين «غير قادر» على تذوّق الأدب، لأنه (آينشتاين) أقر بصعوبة فهم «المحاكمة ١٩٢٥» لـ كافكا.

دون الخوض في جدليّة الوجود والماهيّة، وأسبقيّة أي منهما على قرينتها، أو عما إذا كان الإنسان يولد كصحفة بيضاء ثم يملأ نفسه بخياراته وبمحض إرادته وتقديراته ومسؤولياته، أو أنه يولد كـ صندوق صغير فطريّ الملَكَة الأخلاقية، فطريّ التشفّي من القطط الضالة، فطريّ الكذب، فطريّ التكبّر، فطريّ النزعة إلى العبودية، فطريّ الانحياز أو عدم الانحياز؛ لستُ أدري إن كانت المواقف النبيلة هي الأخرى يمكن تعليلها وفق ما اعتمد عليه الكاتب في مقاله أم لا!، ولست أدري كذلك فيما إذا كنا قادرين مع هذا الطرح أن نلوم أحداً لسوء ما أسماه الكاتب «ملكته» الأخلاقية، أو أن نمدح ونثني ونشيد بآخَر لجودتها… دعنا نقول إنني فهمت من هذا الطرح أنه يرمي إلى عزل مسؤولية الإنسان عن وجهات نظره في القضايا بأشكالها.

لكن إذا ما اعتبرنا فعلاً أن المواقف الأخلاقية هي ملكة فطرية، يتمحور سؤال جوهري هنا: من هو المسؤول عن نمو أو ضمور ملَكَة على حساب الأخرى؟ الوراثة؟ الغذاء؟ النمو العضوي؟ دعكَ من المثقفين.. هل الإنسان عموماً يكتسب القدرة على التفرقة بين ما هو خيّر وشرير؟ أم أنه فطريّ الإرادة والاختيار؟ يقول عدي إن المخرج السويدي إنغمار بيرغمان كان «جاهلاً» بالسياسة، وهذا بطبيعة الحال ينفي فطرية المعرفة، ولا يعفيه مسؤولية جهله، لا بل يُدينه إن أبدى رأياً أو قال: «أرى»، أو «لا أرى». 

على أية حال، ربما من غير الممكن أبداً اعتبار أن الأخلاق ملكة أو مهارة عقلية تخضع لمنطق أو خوارزميّة كَمَلَكة فهم الأدب من قِبَل عالم فيزياء، أو فهم السياسة من قبل مخرج سينمائي؛ إنما هي حسبما أراها ككل القرارات تصدُر عن القلب (بما فيه جملة مكتسباتنا من تعاطفات وتطلّعات وتوجّسات وتنطّعات ونزوات أحياناً) يبررها العقل وفق منطق بحيث يمكن الدفاع عنها بالمنطق نفسه إذا ما اقتضت الحاجة؛ ولكي لا يؤخَذ عليّ أني اخترت كلمة «القلب» سأستبدلها بـ «النفس» أو للتحديد الـ«هو/ Id» في إشارة إلى أول أقسام النفس حسب نظرية فرويد البنيويّة.

إننا -ببساطة- نشعر بدايةً، ثم نتّخذ قراراتنا؛ نشعر “بالحاجة” مثلاً، ثم “نرغب”، ثم “نريد”، ثم نستخدم كلمة “سوف”، ثم “نفعل” بطريقة ما، ثم -إن اقتضت الحاجة- “نبرّر” ما فعلنا أو ما أحسسنا… إننا “نشعر بالخوف”، ثم نقول “منحبّك يا كبير” ثم “نؤيّد” جهةً ما فـ “نصوّت” لليمين أو اليسار؛ وهنا الأجدى أن نسأل: ألا يشعر المنحازون إلى الشرير بالحياء من مدى أنانيّتهم؟

يقوم عدي بعد ذلك عبر عدة أمثلة بربط الإبداع (كملَكَة تنمو أو تضمر) مع مواقف أخلاقية دنيئة ومنحطّة اتخذها مبدعون على مر التاريخ، وذلك للتشديد على ضرورة اعتبار الأخلاق ملكةً فطرية، بدلاً من أن يَفْصل بين الإبداع الرياضي وبين الملكات الأخرى كالصوت الجميل مثلاً من جهة، وبين الإبداع والمواقف من القضايا الإنسانية من جهة أخرى، وهو ماكان يجب أن يقوم به فعلاً، إذ أن الفصل بين إبداع المبدع ونُبل تعاطيه مع قضية بشرية ما، وتناول كل منهما (الإبداع، ونبل الموقف) بمعزل عن الآخر كان ليوفّر على الكاتب ثلاثة أرباع مقاله حين أردتُه أن يختصر عليّ المسافة بأن يقول مثلاً: ليس بالضرورة أن يكون المبدع نبيلاً، ولا أن يكون كل نبيلٍ مبدعاً؛ أما أن يبرر ذلك باعتباره مَلَكة فطريّة يمكن أن يتذرّع بها القاصي والداني كالقضاء والقدر، والحظ، واللوح المحفوظ.. إلخ، فهذا أمر موغل في الجبريّة إلى حد كئيب قد يحرّضني على الانتحار بين ليلة أو أخرى.

يتابع عدي حديثه بالقول إن «الإنتاج الفني المتراكم يومياً لشباب انخرطوا في الثورة مُضر للشباب حيث ينفقون وقتهم في أعمال لا قيمة فنية لها، بدلاً من التركيز على ما يستطيعون إنجازه في مجالات أخرى. يجب كبح جماح هؤلاء فوراً، والأخذ على أيديهم، بدلاً من تشجيعهم. واجبنا يقتضي أن نقول لهم بأن الموقف الأخلاقي لا يؤدي إلى فن ناضج، وأن عليهم أن يرحمونا ويرحموا أنفسهم من هذا الإنتاج الفني».

بعيداً عن دعوة الكاتب إلى كبح جماح الشباب «فوراً»، والأخذ على أيديهم من أجل أن ينفقوا وقتهم على أعمال ذات قيمة فنيّة -لا أدري مَن يحدد هذا حين تكون معظم دور النشر أشبه بإناث الأرانب- بدلاً من إضاعة الوقت… إلخ؛ ما يهمّنا فعلاً هو قوله «إن الموقف الأخلاقي لا يؤدي إلى فن ناضج»، وهنا لا بد أن نفصل بين أمرين لضمان ضبط المسألة وعدم تعدّيها: 

١- إن الموقف المنحَط أخلاقياً لفنان أو مبدع من قضيّة ما، هو بمعزل عن مفرزه الفني الذي يعالج قضية أخرى، ولا ترابط بينهما بالتأكيد إلا بما هو عمومي، وهنا يمكن الأخذ بقول عدي مع التعديل الطفيف: «إنّ الموقف الأخلاقي لا يؤدي (بالضرورة) إلى فن ناضج».

٢- لكن إذا ما كان الموقف المنحَط لمفرَز فني يرتكز ويناقش أساساً قضية أخلاقية ويسيء إليها، فهنا لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يكون منزوع القيمة مهما كان بديعاً في طريقة تمجيده للشر، إذ أن الموقف الأخلاقي هو حجر الأساس في تكوين أي مفرَز فني يسعى لأن يكون ناضجاً؛ إن الفن ينطلق في جوهره من الإنسان كقيمة عُليا، والفن الناضج يُشترط ألا يُسيء إلى هذه القيمة (قيمة الإنسان) كحد أدنى.. البقية قطعاً متهاوية ومتهالكة ينخرها الدود؛ ما معنى أن تحرّض الأفكار الإنسان على قتل الإنسان، أو إزالة الفوارق بينه وبين الكائنات الحية الأخرى؟.

تخيّل فيلماً لبيرغمان كـ«باغية وتتبدَد» لنجدت أنزور بذات الأفكار لكن بطريقة إخراجية أخرى من بطولة ليڤ أولمان، وماكس ڤون سيدو على سبيل المثال؟ سنقول إذ ذاك إن هذا الفيلم (جميل، لكنه مسيء؟)… ما رأيك بـ لارس ڤون ترير الذي يصوّرنا كحيوانات نادمة وناقمة على وجودها وعلى العالَم بأسره من حولها؟ أي فنان هذا الذي يسعى جاهداً لأن ينزع عنا قيمتنا كبشر، أو يقلل من قيمة ما نختاره، أو يرانا حتى جزءاً من حتمية تاريخية محدّدة مسبقاً بالوراثة أو بالقضاء والقدر؟! ما رأيك بفن يدعو للكراهية؟ لا تصالح على الدم إلا بدم؟ اقتلوهم حيث ثقفتموهم؟ أو شعراء يلعنون الواقع الذي ساهم في صناعتهم، ولا يرون منه قيمة سوى الجنس وعدميّة المستقبل، لا بل يسعون جاهدين عبر الكتابة إلى تعميم ما يَرونه حتميّة فشلهم وفشل المسعى الإنساني عموماً.

الأجدى أن نستثني دعوة كبح جماح الشباب التي أطلقها عدي (على المدى القريب والبعيد) ونضعها إلى جانب فطريّة الملكات غير العقلانية، ثم نتقدّم بدعوة للجميع لأن يأخذوا على عاتقهم الدفاع عن كل تلك الركائز والقيم والمفاهيم التي -بدونها- تصبح الحياة خالية من أي معنى، ويصبح الإنسان فيها كائناً غير جدير بالاحترام (أعتقد أني قد استخدمت هذه الجملة في أكثر من ١٠ مواضع).. ما رأيكم بالحب؟ بربّكم لو كان لـ أدونيس مثلاً الرغبة في أن يبادلنا الحب، أكنّا قد سمعنا آنذاك عبارته الشهيرة: «أنا ضد ثورة تخرج من عتبات المساجد»؟ شتّان بين التفكير الموضوعي السليم وبين أدوات (عسى، ليتَ، ولعلّ) مستر علي إسبر، هذا خللٌ وظيفي في منطقك أنت المسؤول عنه؛ أمَا من مُبلغٍ يُبلغُك قول باسكال: «إن الحقائق خلفَ جبال البيرينيه ليست بالضرورة أن تكون صحيحة في ما وراءَها»؟

الكاتب: عبدالله حسن

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع