قدمت خدمة مشاهدة الأفلام عبر الإنترنت «Netflix» مؤخراً لمشتركيها فيلماً أمريكياً/بريطانياً بعنوان «The Discovery» (الاكتشاف)، أقل ما يقال عنه أنه يعالج بطريقة بارعة ويعيد طرح بعض الأسئلة الكبرى التي أشغلت مفكرين كثر على مر تاريخ الإنسان القديم والمعاصر.
الفيلم الذي لم يصنَّف بأكثر من ٦.٣ حتى الآن على موقع IMDB لا يحتّم علينا أو يدفعنا إلى التطرق كثيراً بالحديث عن إنتاجه من تكلفة ومواقع تصوير، أو طرائق تفكير القائمين عليه، أو حتى وجهات نظرهم بقدر ما يصب من اهتمامنا أولاً على موضوعه الفريد.
يستهلّ الفيلم الذي أخرجه تشارلي ماكدويل بمشهد للطبيب توماس في مقابلة تلفزيونية على إحدى القنوات، بعد مضي عامين على انتحار ٤ ملايين إنسان في الولايات المتحدة في ظل ازدياد متواصل للأعداد، وذلك إثر إثبات الطبيب علمياً وجود حياة أخرى بعد الموت.
إحدى حالات الانتحار تلك تمت على الهواء مباشرةً، قام خلالها أحد تقنيّي الصوت من طاقم المحطة بشكر الطبيب عقب المقابلة التي أُجريت معه، وقتلَ نفسه، بينما يتم الحديث عن مريضة بسرطان دماغي اعتبرت هذا الاكتشاف من الدكتور توماس هو بمثابة «ورقة يانصيب رابحة» وأقدمت على قتل نفسها هي كذلك، وآخَر كان طَقسُه أكثر متعة، تمثّلَ بجرعة زائدة من مادة مخدرة.
وسط هذا الكرنڤال الصاخب بصرخات المغادرة إلى العالَم الجديد، نتذكر فيلمين للمخرج السويدي جان ترويل، من بطولة العملاقين ماكس ڤون سيدو، وليڤ أولمان، «The Emigrants 1971» و «The New Land 1972» اللذين تحدثا بشكل مفصّل عن مطلع القرن التاسع عشر حيث عاهرتان، وعدد من المزارعين، والقساوسة، يهيّئون أنفسهم للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، (أرض الأحلام) الصغيرة والكبيرة والمتوسطة والمتطرفة، التي تنتظر بفارغ الصبر ما سيصنع هؤلاء لدى العيش على أرضها.
وسط هذا العرس بليغ الوصف أيضاً يشير الفيلم إلى أن عمليات الانتحار الجماعي هذه عززت بالمقابل علاقة الناس بأقربائهم، بينما جمعت علاقةٌ عاطفية ابنَ الدكتور توماس بفتاة حاولت الانتحار بعد فقدانها لابنها غرقاً، ولك أن تعتبر هذين الاثنين (آدم وحواء) عند هذه الدقيقة، أو أن تتعامل مع القصة على نحوها الجاري؛ لكن ثمة ما هو وراءَها يحتاج الكثير للوقوف عنده.
عالجَ الفيلم عبر أسئلة كثيرة وكبيرة خطورةَ الخروج إلى الناس ببعض الأفكار التي من شأنها أن تودي بهم، أو تهدد الوجود البشري في ذاته، أو تتعهّد بإزالة الفوارق الكبرى بينه وبين الحيوان، إلى ما هناك من مفاهيم الخير والشر، الخطأ والصواب، وهكذا دارَ الحوار بين توماس وابنه: إننا مخطئون يا والدي، مخطئون لأن الملايين من البشر ماتوا.. لقد تحوّل اكتشافك هذا إلى عقيدة.
فعلاً.. لدى تلك النقطة الزمنية بالذات، عمل الدكتور توماس على جمع البعض ممن حاولوا الانتحار والذين استقبلهم في منزله، وذلك بعد حوار أجراه معهم واختارهم وفقاً لأسئلة محددة؛ جمعهم الطبيب في إحدى الغرف ليطلعهم على «الآخرة» حسبما قال أحد الحضور، الذي رفضَ الحديث بتفصيل عن هذه القضية… كان هؤلاء المدعوّون إلى غرفة الدكتور توماس بمثابة مبشِّرين، أو سمّهِم أبواق، أو «شبّيحة» بكلمات معاصرة.
ينتقل الفيلم بعدها لطرح أسئلة من قبيل: ماذا لو كان الميت يعيش في الآخرة حياته الحالية في هذا العالم بحذافيرها دون زيادة أو نقصان؟ ماذا لو كان ذلك فقط لدفعهم كي يتعلّموا معنى أن حياة الاختيار تُعاش لمرة واحدة، وأن الآخِرة هي جبريّة؟ ماذا لو كان الناس يعيشون هناك فقط ما يتذكرونه؟ أو الذكريات والأمنيات غير القابلة للاسترجاع فقط؟ ماذا لو كانت الآخرة هي فرصة ثانية لتصحيح ما جرى؟.
إن ما تطرّق إليه فيلم «الاكتشاف» لا يختلف كثيراً عما نعيشه اليوم مع التَوق وأنواع التَرف اللغوي المغازِل للنيزك المرتقب، أو المسيح الدجال وعيسى، أو المهدي المنتظَر، أو حتى دونالد ترامب، أو فلاديمير بوتين، كيم جونغ أون، رودريغو دوتيرتي، أو نزولاً أكثر إلى وضاعة بشار الأسد.. كذبٌ -أو سمِّهِ جنوناً- بحجم السماء، لا تتعدى الغاية منه سوى الهرب؛ إن هذا الجنون هو إغواء، بكل ما فيه من مستحيل وعجائبي وغرائبي ولاإنساني وغير معقول… إنه التعبير عن السخط الكوني، والسعار الدامس الكامن في قلب الإنسان، إنه حرية الأحلام، إنه فتنة زوال العقل، إنه نشوة أن يتوقّف العالَم كلياً في لحظة بوهيميّة، إنه حرية الرغبة بالهروب بعيداً عن حقائق غير رحيمة.