لعل مصطلح “الإبادة المدينية”، لتراكبية مضمونه ومحمولاته، وثقل واقعه علينا من كل مرة تخوضه البشرية، يفترض بداية ما لفهمه؛ وهي “المدينة”، بما هي لازمة لغوية واصطلاحية ومفاهيمية. ومن هنا يمكن اعتبار المدينة مدخلًا منطقيًا لفهم الإبادة، أو ما يسمى بالبراديغم بما هي طريقة لرؤية العالم، وتجسيد/تمثيل لبنية العلاقات في ظاهرة من ظواهره. فالبراديغم (أو النموذج، كما تميل بعض الترجمات المترددة) يحدد فهمنا لما نعرفه، وما يمكننا معرفته، وكيف يمكننا معرفته. واختيار “المدينة” لفهم منطق الإبادة في النظام الاستعماري الإسرائيلي وتجليها غير الأوحد، ليس فقط لأنها براديغم، ولكن لأن إبادة الشيء تقتضي امتلاكه قبلًا، فهل امتلكنا المدينة قبل أن تباد؟
المدينة مدخلًا
في البداية كانت الإمبراطوريات، ومن ثم الدول وأخيرًا المدن.
المدينة تَجمُع الغرباء، والتخطيط هو جهاز ضبط علاقات القوى بينهم وبين المكان. والضبط وجه من أوجه المأسسة، فلنضبط علاقة ما علينا تنميطها وتنظيمها ومراقبتها، وهو ما تقوم على فكرة مأسسة العلاقة بين المكان ومن فيه، أي عقلنة العلاقة الجسدية – المكانية، من خلال التمدن والتحضر، بالمستوى الفردي والجمعي.
إلا أن مسار العقلنة في تلك العلاقة، لم يأت فقط من خلال الروابط بين المكان والجسد، إنما أضاف عنصرًا ثالثًا لتلك العلاقة، وهو السياق. وعليه بات فهم الرابط بين تحولات المنظومات العلائقية من الإمبراطورية في البدء، إلى الدولة وصولًا إلى المدينة، بما هي علاقات قوى أمرًا مفهومًا.
يتنبه المؤرخ وعالم الاجتماع الحضري الأمريكي لويس ممفورد، مؤلف “المدينة على مر العصور”(1)، إلى أن إضفاء الطابع المؤسسي على الحرب الحديثة؛ أي تحديث وسائل شن الحرب وإيقاعها، أصبح أمرًا متحققًا وممكنًا بظهور المدن، مشيرًا إلى أن إقرار القانون في إطار الحضارات الحضرية/المدينية اقترن في بادئ الأمر بالقوانين المتعلقة بالحروب، لغايات تأمين (تلك) المدن. فيما يزيد بول فيريليو الأمر بقوله: “خوض الحرب وقيادتها هو تنفيذ مشروع عقلاني، أو وضع مسعى عقلاني موضع التنفيذ؛ إنه عمل مؤسسي”(2) في إشارته إلى المدينة بما هي مشروع معقلن.
فإذا تنبهنا إلى “الدولة القومية الحديثة”، بما هي استعارة الحداثة الأساسية، وبالنظر إلى مفهوم الإقليم Territory، أو المجال Domain، وكيف أن بروز الدولة القومية الحديثة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا كان بوصفها “نطاقات حدودية”(3)، تحتكر العنف. كانت المدينة بما هي نطاق مركزي للدولة، أو مجالها المكثف على مستوى الإجراء الزمني: أي البيروقراطية الدولانية الإجرائية، وعلى مستوى الاجراء الجغرافي: حيث ارتفاع نسبة السكان، ووجود البنى التحتية، المرتبطة بالنقل والحركة والعسكر، تقوم بالأساس على تدوير وتداول العنف وتفويضه.
ولأن العنف الجسدي هو المقياس الإدراكي الأول للعنف المجرد، كان الجسد وتطبيقاته المدينية: المسكن، الممشى، الأرصفة، وغيرها هي أولى تطبيقات العنف، ندرك كيف أن التخطيط هو أداة هذا العنف بشكله المجرد والمركب. ولعل مخطط تطوير باريس على يد جورج إيغوين هاوسمان بتكليف من نابليون الثالث بين الأعوام 1853 و1870 باعتباره مشروعًا حداثيًا(4)، هو النموذج الأساسي لهذا العنف وتداوليته الحداثية، بما هو نموذجنا الأساسي لفهم هذا العنف الخطي والتخطيطي العضوي في جسد الحداثة والدولة لهندسة المجتمع.(5)
الإبادة والمدينة
الرابط بين الإبادة والمدينة، ليس فقط في المبنى الاصطلاحي واللغوي والمفاهيمي، لكنه كذلك في بنية الإبادة بما هي التطور الإبادي للحرب. ولفهم موقع الإبادة المدينية كتكنولوجيا حربية منبثقة في ذاتها من المدينة كآلة حربية.
ولولا مفهوم ال”التحول المكاني”(6) Spatial Turn الذي شهدته العلوم الاجتماعية والإنسانيات في العقود الأخيرة، لما استطعنا الربط بين حقلين علميين لا ارتباط -ظاهري، أوبنيوي- بينهما؛ وهما علم اجتماع الحرب والتخطيط الحضري. ففي الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت تحولًا دراماتيكيًا في تقنيات الحرب، ومجال التأثير المكاني فيها، في ما عرف لاحقًا بـ”الـحرب الشاملة”، وفيها أصبحت المدن وسكانها هدفًا فعليًا للحرب، حيث انتقل القصف، كما يقترح مارتن شو(7)، من التدمير الانتقائي لمواقع رئيسية داخل المدن إلى شن هجمات واسعة النطاق على المناطق الحضرية المأهولة. وأخيرًا، إلى القضاء الفوري على مساحات حضرية كاملة بسكانها، وبنيتها التحتية.
يحاجج كينيث هوويت بأن الحرب العالمية الثانية كانت “حربًا تسعى على الدوام إلى القضاء على الأماكن التاريخية المستقرة التي شكلت القلب النابض للحياة المدينية في حينه، حتى وإن لم تحقق مساعيها تلك بشكلٍ كامل”(8). صحيح أن باريس كانت قد شهدت العدد الأقل من التفجيرات في تلك الحرب، إلا أن درزدن وبرلين، قد شهدتا ما لم يصطلح بعد في حينه “إبادة مدينية”. باريس فقط التي شهدت تفجيرًا واحدًا، بينما خسرت لندن، ولا سيما برلين ودريسدن، أعدادا كبيرة من سكانها خلال الحرب. وكان تدمير المساكن هائلاً، كما انخفض عدد السكان أيضًا. قام هيويت بصياغة “إبادة المكان” Space Annihilation لوصف الدمار الهائل، وفي كثير من الحالات الدمار الشامل الذي حدث في العديد من المدن الكبرى حول العالم، مثل هيروشيما، وناغازاكي، وبرلين ، ودريسدن في الحرب العالمية الثانية 1945. وهكذا أصبحت المدينة الصناعية “بكاملها” حيزًا للحرب. غير أن هذه الأدبيات ظلت محصورة إلى حد كبير في الدمار الذي تسبب فيه القصف الجوي أثناء الحرب العالمية الثانية ولم يتخطاها إلى أشكال وأنماط وحالات أخرى من الإبادة المكانية والمدينية، لتحيزات رأسمالية واستشراقية والأهم استعمارية، في طورها الجديد من الرأسمالية، وتأثيراتها على انتاج المعرفة في الأكاديميا.
ويقول ستيفين غراهام إن الحرب الحديثة تنطوي على صلة مباشرة مع تدمير المدن والتركيز على تدمير المدينة وأحياناً على الإبادة الكاملة للمدينة. ويشير كذلك إلى أن التحضر التاريخي بأعمق معانيه وجوهره كان هدفاً للحرب.
الإبادة المدينية
يستلزم مفهوم الإبادة الجماعيّة فهْم فعل التدمير – فعلًا ومنهجيّة – في إنتاج مكان مدينيّ، في ما يتعلّق بما يجري تدميره، ويُفْهَم ضمنًا من فهمنا للقتل جزءًا من منطق الإبادة الجماعيّة. بكلمات أخرى؛ إبادة الجسد في الإبادة الجماعيّة ليست محدودة بإفنائه بوصفه كيانًا مادّيًّا فقط، بل كيانًا رمزيًّا ومعنويًّا، وبالتالي؛ فإنّ الهدم هنا بصفته فعل إبادة للمدن ليس إلّا إعادة إنتاج لها في المخيال المشترك؛ أي أنّ دمار مدينة غزّة جزء من مقولة إنتاج غزّة حربيًّا، باعتبارها مدينة وجسد وبيت ومكان أدنى (أو أقل) حداثة وتطورًا وفيزيولوجيةً وتخطيطًا من المدينة والجسد والبيت والمكان الحداثي، وممكناته التأويلية والتفاوضية المتنوعة.
تتنبه الجغرافية النسوية السوداء، كاثرين ماكتريك، إلى السياسات الخطابية في مصطلح “الإبادة المدينية” باعتباره يقوم على الفصل بين البشر والمكان في فعل الإبادة المدينية، ولو كان ذلك عن غير قصد، فهو يزيل العنصر الشخصي في عملية الإبادة. ومع ذلك، فإنه لا يزال ينطوي بصورة أساسية على أعمال مجسدنة ومشخصنة. وهذا الربط يفترض مسبقاً علائقية ما Relationality وثيقة ومأرضنة بين المكونات البشرية وغير البشرية داخل مجتمع منظم تنظيمًا مكانيًا. وفقاً لماكيتريك، ينبغي أن تُفهم الإبادة المدينية، في إطار “الإمبريالية، العنف، والإرهاب الاقتصادي، والعرقي، والإثني”.(9)
ولو كانت الحرب تُفكك الفضاء الحضري، محولةً البيئات السلمية المدنية إلى ساحات قتال. إلا أنها تزيد البنية الضبطية المهيمنة على الجسد والحركة في المدينة، وبالتالي فهي لا تدمر المدينة كآلة ضبطية، إنما تعيد توجيهها لغايات إفنائية للجسد والحركة. ونموذجنا هنا هو ما أسمته إسرائيل بالمناطق الآمنة، أو مناطق العبور الآمنة في حرب الإبادة الجارية الآن في قطاع غزة، والتي شهدت جرائم قتل نفذها الاحتلال الإسرائيلي من خلال الطائرات المسيرة أو القناصة، في المساحات المدينية المخصصة للحركة والعبور. ما يؤكد استخدامه للنسيج الحضري كآلة إبادة مدينية، تتكون من مكونات مادية (البنية التحتية، العمارة، الجغرافيا) ومكونات تعبيرية (كالقوانين والأعراف الاجتماعية المكانية والرموز الثقافية).
وهذا النموذج الضبطي والرقابي القائم على المحو، له امتدادات تاريخية لدى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وبالذات في لحظة النكبة وما تلاها في المدن الفلسطينية المركزية. فمن غيتو حيفا، إلى مع اغلاقات يافا والتدمير الحضري في القدس. إلا أن هذا الشكل من الهيمنة المجالية الإستعمارية لم يتقيد بلحظات الحرب المتطرفة.
ولو نظرنا إلى أطروحات الجغرافي الإسرائيلي أورن يفتاحئيل، عن الإثنوقراطية،(10) نرى أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي يعتمد بالأساس على افتراضات اثنية مؤقلمة، تقوم بالأساس على “إنشاء أساس مكاني صريح للمطالبات المتعلقة بالهوية الإثنية والحقوق الثقافية والسلطة السياسية عن طريق تحديد وبناء بعض الأماكن أو الأقاليم التي تنتمي إلى فئات إثنية قومية معينة من الناس والممارسات أو تكون ملائمة لها، وبالتالي حل فئات أخرى محلها”.(11) وكما يوضح آدم مور ، يمكن أن تتخذ سياسات التشريد والترحيل المصاحبة للغايات والأهداف الإثنية – الإقليمية أشكالاً مختلفة، “تتراوح بين التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وبين الترحيل القسري لجماعة إثنية من حدود الدولة إلى قرارات التخطيط الحضري التي تقيد استخدام الأراضي واستيطانها بفئة مستهدفة، والمطالبة بالسماح بممارسات ثقافية منحرفة أو تقييدها في بعض الأحياء أو القرى “.(12) والهدف من ذلك هو تهيئة بيئة “نقية” إثنيًا، حيث يتعين القضاء على الرموز والروابط المتصلة بالجماعة الإثنية “الغير مرغوب فيها” أو الاستعاضة عنها بكيانات جديدة تُحمِّل الانتماء الرمزي والمادي للفئة الإثنية “المهيمنة” أو تؤكد حقها “الطبيعي” في الإقليم وعملية انتاجه، وهو ما أكدته اللحظة الأساسية في انتاج الإقليم المؤثنن: النكبة، بكل محمولاتها المكانية والزمانية والجسدية.
وعليه؛ يمكننا فهم الحرب باعتبارها سياسة مدينية، تقوم على أثننة المدينة كإقليم، عبر ثلاثية:
المحو/الإزالة والطمس/انعدام الرؤية والتحجيم/التقييد، من خلال التحكم في البنية المادية للبئية الحضري، بين طرفين: البناء / الكتابة والهدم/المحو. وهنا يمكننا الدفع بالمقاربة الأساسية في هذا العمل بشأن السياسات المكانية والمدينية التخطيطية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين التاريخية، باعتبار الإبادة المدينية أداة أساسية ومستمرة في تشكيل الإقليم المديني المؤثنن في فلسطين ضمن آلة الاستعمار الاستيطياني الإسرائيلي، بحيث أنها لا تعتمد حصرًا على فكرة المحو بالهدم والحرب والتهجير، بل كذلك من خلال الكتابة والتخطيط والتصميم.
أي أن ما يحدث في غزة، بدأ منذ النكبة، ولا يزال!
الهوامش والإحالات:
- يُنظر: Mumford, Lewis, 1961. “The City in History: Its Origins, Its Transformations, and Its Prospects”, San Diego, United States: Houghton Mifflin Harcourt Publishing House. و قد تُرجم الكتاب: ممفورد، لويس. 2016، “المدينة على مر العصور: أصلها وتطورها ومستقبلها”: جزأين، ترجمة إبراهيم نصحي، القاهرة: المركز القومي للترجمة.
- Virilio. Paul., 2002. “Ground Zero”, trans. C. Turner, London and New York: Verso, p 25.
- المصدر نفسه، ص 36.
- يُنظر: https://doi.org/10.1080/21650020.2023.2246541
- تتعدد الأبحاث التي تتناول مخططات هاوسمان للعاصمة الفرنسية بما هي مخططات عنيفة، ننتقي منها: Rideout. Amy, Beyond the Façade: Haussmannization in Paris as a Transformation of Society, Pursuit – The Journal of Undergraduate Research at The University of Tennessee, vl. 7, Iss. 1, Article 20, April, 2016.
- التحول المكاني” هو تحوير بنيوي نظري في العلوم الاجتماعية والإنسانية ينطلق من أهمية المكان بالمعنى الأوسع والعلاقات المكانية في فهم السلوك البشري، والثقافة، والمجتمع. حيث قدم الجغرافي والباحث الحضري الأمريكي إدوارد سوجا، اسهاماته الأساسية في تطوير هذا المفهوم. ويبرز عمله الحاجة إلى اعتبار المكان جانباً أساسياً من جوانب النظرية الاجتماعية، إلى جانب التركيز التقليدي على الوقت والعمليات التاريخية.كما بينه إدوارد سوجا، إلى الآثار الهامة للمقاربات المكانية أو المعتمدة على التحليل المكاني على مختلف الميادين، بما في ذلك الجغرافيا، والدراسات الحضرية، وعلم الاجتماع، والدراسات الثقافية، والتاريخية. ويشجع الدارسين على إدماج التحليل المكاني في بحوثهم، مع الاعتراف بالدور المحوري للمكان في تشكيل التجارب البشرية والهياكل المجتمعية. وهي بذلك تفتح سبلا جديدة لفهم تعقيدات الحياة الاجتماعية ومعالجة أوجه عدم المساواة والظلم المكاني.
- يُنظر: Shaw, Martin., 2005. “New Wars of the City”, In graham, S. (ed.), Cities, War . .and Terrorism: Towards an Urban Geopolitics, Oxford: Blackwell, p 143
- Hewitt, K, 1987. “The Social Space of Terror: Towards a Civil Interpretation of Total War,” Environment and Planning D: Society and Space, 5 (4): p 446
- McKittrick, Katherine. 2011. “On Plantation, Prisons, and the Black Sence of Place.” Social and Cultural Geography 12, no. 8: 952.
- يُنظر: يفتاحئيل، أورن، الإثنوقراطية: سياسات الأرض والهوية في إسرائيل/فلسطين، ترجمة سلافة حجاوي، رام الله: مدار، 2012.
- Moore, Adam. 2016. “Ethno-territoriality and Ethnic Conflict.” Geographical Review 106, no. 1: 92 – 108, p 95. https://doi.org/10.1111/j.1931-0846.2015.12132.x.
- المصدر نفسه، ص