الفن في زمن الحرب: نحو جمالية معاصرة للخراب

The Great War, Rene Magritte, 1964

وسام جبران

مؤلف موسيقي وشاعر من فلسطين

لا يتوقف الأدب عن انتهاك المسألة الإنسانية من خلال استحضار آراء أولئك الذين أرادوا رقابة الفن، بدءًا من أفلاطون، مرورًا بالتحيزات المناهضة للمسرح وصولًا إلى مؤيدي الرقابة الحكومية الحديثة. لكن مرة أخرى، فإنني أبرر هذه الجمالية، ليس بالإشارة إلى أعداء الفن، بل من داخل ممارستها وقدرتها على التأثير والإقناع

للكاتب/ة

كم من الملايين يحتاج سينمائي بارع لإعادة إنتاج مشهد قطعان المستوطنين يقتحمون بلدة فلسطينية مثل "حوّارة"، يحرقون جمادها وحيّها، يقتلعون أشجارها، يبيدون ويُرعبون عائلاتٍ بأطفالها ونسائها؟ كيف يُقاس السؤال الفني هنا إن لم يكن بالأثر؛ هذا الأثر الذي يوجّه الفن نحو لعب دورٍ في الحرب بقصدٍ أو بغير قصد

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

28/11/2024

تصوير: اسماء الغول

وسام جبران

مؤلف موسيقي وشاعر من فلسطين

وسام جبران

في أوقات الحرب، كتب هيرمان هِسِّهْ (سبتمبر 1914) عن كيفية تدمير الحرب لأسس التراث الثقافي الثمين في أوروبا، وبالتالي مستقبل الحضارة نفسها. 

يمثل هِسِّهْ ما يسميه نهجًا “فوق وطني” (Supranational) من الثقافة الإنسانية، والذي تنبع منه أفكار إنسانية بحتة، وإيمان بجمالية فنية تتجاوز الحدود الوطنية. 

حتى في خضم الحرب، يؤكد هِسِّهْ أنه يجب على الألماني أن يفضل كتابًا إنجليزيًا جيدًا على كتاب ألماني سيء. بعد ثلاث سنوات، يكتب بطريقة مشابهة إلى أحد وزراء الحكومة، يخبره أنه سيكون قائدًا أكثر إنسانية في هذا الوقت من الصراع لو قرأ “العظماء من المؤلفين” واستمع إلى عبقريات موسيقية من مثل بيتهوفن (1).

في وقت لاحق (1946)، يعلق هِسِّهْ على هذه الكتابات وغيرها من كتاباته المماثلة:

” عندما أطلق على (هذه) [الكتابات] صفة “سياسية”، فإنني أضعها دائمًا بين قوسين، إذ ليس هناك ما هو سياسي فيها سوى السياق الذي كُتِبت فيه. بينما في جميع جوانبها الأخرى، هي نقيض السياسة، لأنني في كل واحدة من هذه المقالات سعيت لتوجيه القارئ، لا إلى مسرح العالم بمشكلاته السياسية، بل إلى أعماق كيانه، واضعًا إياه فوق منصة ضميره الشخصي. هنا، أجد نفسي في صراع مع المفكرين السياسيين من جميع الاتجاهات، وسأعترف دائمًا، بلا أمل في التغيير، بوجود مساحاتٍ داخل النفس البشريّة، لا تصل إليها الدوافع والبُنيات السياسية”.(2)

ثمة تعبير صارم عن تلك الفردانية الروحية، الجذرية، التي كانت تدعم إنسانية هِسِّهْ العالمية بقدر ما تجعلها متشنجة. كذلك، تتجلى النتيجة المترتبة على كلٍّ من الإنسانية والفردانية في التشكيك العميق بالسياسة والسياسيين؛ ثمة خطابٌ سياسيّ نفعيّ لاأخلاقيّ وهدّام، وثمّة خطابٌ ثقافي أخلاقيّ بنّاء. في هذا الفرز الثّنائي العامودي إجحافٌ يُبسّط على حساب الحقيقة الأكثر تعقيدًا، لكن يمكن فهمه وضبطه في سياق مقاربة هِسِّهْ، وهو سياق الحرب، حيث يتعاظم الاستقطاب بين خطاب الحرب السياسي التجييشي من جهة، وخطاب المثقف المستقل الفرداني من جهة ثانية؛ أقول يمكن فهمه، لا الاتفاق معه بالضرورة.

كان هِسِّهْ معارضًا بلا هوادة للقومية الوحشية في بلاده منذ حوالي عام 1914 فصاعدًا. دخل في منفى اختياري عام 1919، ولم يعد إلى ألمانيا أبدًا. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1946، لكنه قضى معظم حياته كاتبًا منفيًّا مكافحًا. 

هل يموت الفن إذًا زمن الحروب؟ هل تنكسر روح الفنان؟

في عام 1943، تم حظر كتبه في ألمانيا، مما شكل ضربة شديدة له. يبدأ رسالة شكره لجائزة نوبل بأسباب عدم تمكنه من الحضور شخصيًا: “صعوبات فترة النازية الوطنية، التي دُمِّرت خلالها مُنجزات حياتي في ألمانيا، وأُثْقِلْتُ، يومًا بعد يوم، بواجبات شاقة أدت إلى تدهور صحتي إلى الأبد. ومع ذلك، فإن روحي لم تنكسر…”(3)

في حوارها مع الفنان التشكيلي سمعان خوام،(4) استهلت نور حطيط(5) أسئلتها بسؤال هام: سؤال “موت الفن”. فبعد الربيع العربي وتداعياته (بدءًا من 2010)، وبعد ثورة 17 تشرين في لبنان وشعارها “فن الثورة، ثورة على الفن”، وبعد انفجار بيروت الكارثي وما خلفه من دمار وأسئلة كبرى تمّ إسكاتها (قضائيًّا)، يقول سمعان خوام، إن “ما كان قبل ذلك ما عاد ممكنًا، فنيًّا”، وإن “لا من لوحة يمكنها أن تحمل هذا المشهد”. إن الفن، من منظور خوام هو فعل لا-عُنفيّ يظلّ عاجزًا أمام هول العنف والانتهاك. 

ليس الفن في مواجهة العنف فقط، بل هو السؤال “الجويسيّ”، إن صحّ التعبير، حول إمكانية الكتابة عن لحظةٍ يعيشها الفنان هنا والآن، أم إن الفن مُطالبٌ بالخروج من لحظة “الشعور/ الصّدمة/ الانعتاق…” كي يكتب عنها؛ إن لغة الفن، بحسب جويس، هي لغة الماضي والمستقبل، أما الحاضرُ فهو المُعاشُ وحسب. 

ثمة نبرة هامة ترافق حوار حطيط/ خوام الذي يلخص ويؤسس لمرحلة هامة في تاريخ لبنان الفني الحديث، هي نبرة “التواضع” في التعاطي مع دور الفن، ربما بحكم هول المرحلة وتدحرج الكوارث فيها، لكنها تتخطى “التواضع” بالمعنى الأخلاقي البسيط، نحو “المراهنة على الذات” و”المراهنة على الجماليّ” وسط هذا الخراب. 

“رجل العصفور” في حالة سمعان خوام، هو الصورة التي يختزل فيها الفنان الفرد هُويّته، لا انطلاقًا من انتماءاتها الموروثة، بل انطلاقًا من فعل الإبداع الشخصي، المحض شخصي. على ضوء هذه النبرة التي تتخلى عن الشعارات الكبرى، والمراهنات على الآخر الوهمي، لصالح العودة إلى الذات بوصفها وحدة البناء الأصغر، لكن الأكثر وعدًا، في معمارية المجتمعات الإنسانية – على ضوء ذلك ينبغي أن نبحث في خصائص الفن للمرحلة الآتية.

الشعور بالعجز؛ عجز الفن، اللاعُنفيّ، أمام هول شهده ويشهده لبنان من انتهاك وتدمير وكوارث، يُعيدنا بالزمن إلى السؤال الذي طرحه ألبرت أينشتاين على سجموند فرويد عام 1932، وهو: “هل ثمة وسيلة تنقذ البشرية من كارثة الحرب؟”، وهو سؤال ينبثق عند أينشتاين عن الشعور بالعجز، والبحث، ربما في تجربة وخبرة فرويد التحليليّة، عن إجابةٍ نافعةٍ يُستدَلُّ بها. وبالفعل، جاء ردّ فرويْد ليؤكّد “فكرة العجز” هذه، حين أجاب في مستهلّ ردّه: “لكنّكم فاجأتموني عما يمكن القيام به لدرأ كارثة الحرب عن البشريّة. فأُصبتُ بالرّعب في البدء بفعل انطباعي، وكدت أقول بفعل انطباعنا، بأننا عاجزون عن ذلك…”.(6)

الفن في زمن الحرب: التعدديّة الثقافية والعُدوانيّة

يشير عنوان “الفن في زمن الحرب” إلى اللقاء بين مقولتي الفن والحرب. كذلك، يُشير إلى الطريقة التي أجبرت بها الحروب في القرن الماضي الفنانين والمفكرين على إعادة التفكير في الجمالية – نطاقها، قوتها، ومخاطرها. هناك سؤال أساسي: هل يكون الفن أو الأدب أكثر إقناعًا عندما يتماهى مع “الأخلاق” الإنسانية ويخدمها، أم عندما يميّز نفسه عنها؟ 

ثمة أهمية كبيرة للجمالية الإنسانية التي تزداد وضوحًا بالنسبة لفنانين كثر بطريقة لم تتضح في المشاحنات داخل التقليد النقدي الأدبي الإنجليزي في الربع الأخير من القرن العشرين، على سبيل المثال. على نحو أدقّ، فإن النقد الموجه نحو الإنسانية (Humanism) الذي ساعد في إثارة تلك المشاحنات لم يتعامل بشكل صحيح مع أمثال هيرمان هِسِّهْ، مفضلًا بدلًا من ذلك أهدافًا أكثر سهولة في النقد الأدبي الأكاديمي. للتوضيح، دون إسهاب، فقد كان هيرمان هِسِّهْ، المعروف بموضوعاته الوجودية والإنسانية في أعمالٍ مثل “سيدهارتا” (Siddhartha) و”ذئب السهوب” (Steppenwolf)، يمثل تحديًا للنقد الأدبي التقليدي. فقد وجد النقاد الذين تبنوا الجماليات الإنسانية معنى أعمق وأهمية في استكشاف هِسِّهْ للفردانية والنمو الروحي والأزمات الوجودية.

الآن، بات من المهم إعادة النظر في حياة وكتابات دعاة الإنسانية الأوروبية العالية أمثال هيرمان هِسِّهْ. وهناك عدة أسباب لذلك، بما في ذلك الحقيقة الواضحة بأن النقاشات حول صلة الثقافة الفنية بالعديد من الصراعات المعاصرة باتت أكثر إلحاحًا وتناقضًا من أي وقت مضى، وبعد حربين عالميتين طاحنتين، وسلسلة أحداث دراماتيكية كبرى في الشرق الأوسط، وهو الذي يهمنا، والذي ما زال عالقًا في مُقارباتٍ أيديولوجية عُنفية مدمّرة. 

اخترت هيرمان هِسِّهْ والفضاء الأوروبي كمدخل لأتساءل عن الدور الثقافي والجمالي فوق الوطني، إن وجد، الذي يلعبه الفنان في خضم الصراعات والحروب. هذا الدور الذي تم “تبنّيه” سياسيًّا في إعادة صياغة أوروبا “فوق وطنية” موحّدة (تدريجيًّا) بعد حربين تهارست فيها النزعات القومية والأيديولوجيات والعصبيات.

نعلم الكثير عن طبيعة التمركز حول الذات واللامبالاة الإنسانية الغربية بالاختلافات الثقافية والعرقية، لا سيما داخل فضاءاتها الاستعمارية. هذه إحدى الأسباب التي تجعل الإنسانية اليقينيّة والاستعلائية في الديمقراطيات الغربية تفسح المجال لأخلاق التعددية الثقافية؛ بالتأكيد، لا يمكن إنكار افتراض وجود تشابهات أساسية، لكنها تأتي في مرتبة ثانوية مقارنة بقبول حذر للاختلاف الثقافي. وهذا هو السبب في أن رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، بينما كان يجوب العالم في أكتوبر 2001 لدعم التحالف ضد الإرهاب، سمح بأن يُعرف أنه خلال رحلاته، كان يقرأ ترجمات للقرآن.

هنا، نفتح قوسًا على الفوارق بين رؤية النُّظم الكولونيالية المهيمنة لمفهوم التعدد الثقافي (Cultural Pluralism) وأهداف هذه النُّظم من خلفه وكيفية توظيفه، وبين رؤية الفن وتوظيفاته المتعددة والإبداعية التي أزاحت الدوافع الخبيثة عن مساراتها المرسومة في كثير من الأحيان، وأنتجت فنونًا مناهضة للمنظومة السياسية الاقتصادية المهولة التي تقف خلف كليشيه “التعدد الثقافي”.

هنا مربط التقاطع بين ما يُسمى “فوق وطني” وما يُسمى “إنساني”، وهو ما يقف في وجه الرأسمالية التي رأى إليها عدد من المفكرين والأدباء والفنانين بوصفها عدوًّا للإنسانية. على نحو ما، تحتاج الرأسمالية العالمية إلى التعددية الثقافية، بل وتغذيها، وقد حلت محل الإنسانية؛ وفي مستوى آخر، تعزز الإمبريالية الثقافية التي تتسم بقدر أكبر من الغرور مقارنة بالإنسانية، مدعومة بالثقافة الشعبية بدلًا من الثقافة الرفيعة. هذه الإمبريالية الاقتصادية والعسكرية إنما تعمق العُدوانيّة (antagonisms) الثقافية. وهذا يعني أن التعددية الثقافية (أو الهجانة فيما بعد) يمكن أن تتحول بسرعة من كونها تأثيرًا مهدئًا على تلك العُدوانيّة إلى فرصة لتصعيدها وتأزيمها. 

قد يزدهر الإرهاب تحت ظلال التعددية الثقافية؛ فبعض أنواع الإرهاب تفترضها التعدّدية ذاتها. مثالًا ليس حصرًا، فإن العُدوانيّة “العالمية”، من النوع الذي تكثف في قضية سلمان رشدي، قد تم طمسها إلى انفجرت مرة أخرى في الحادي عشر من سبتمبر، وبشراسة مروعة. 

إن صورة هيسه للإنسانية فوق الوطنية (Supranational humanity) التي تعمل كوحدة فوقية عبر الصراع وفوقه، تحل محلها هنا صورة توحي بوجود كيان تحت الأرض يختبئ منه؛ كيان المجزأين والمشتتين. وثمة وصف لهذه الاتصالات بأنها “ساخرة”: ربما، في نظرة إلى الوراء، لم يكن هناك شيء أكثر دلالة على تضاؤل ​​الإيمان بالخلاص الإنساني لأوروبا من التحول إلى السخرية. في الفن، وبما لا يقل عن الإيمان بالخلاص الإنساني لأوروبا، لا سيما في كتابات زميل هيسه المعاصر والمنفي، توماس مان، حيث تصبح السخرية جزءًا من الاعتراف بفشل هذه الرؤية، وجزءًا من مناهضتها. هنا، تصبح السخرية عكاز الإنسانية “المتأخرة”، وضمانة لتطورها، واعتراف بعدم اليقين في آنٍ معًا. ليس من المستغرب إذن أن يقلل أودن (Auden) لاحقًا من أهمية الفن والفنان؛ “نحن نعيش في عصر جديد”، كما كتب بعد عقد من الزمان، “حيث لا يمكن للفنان أن يتمتع بتميّزٍ بطوليٍّ فريد، ولا يؤمن بإله الفن بما يكفي ليرغبه.(7)

سؤال الجمال وسؤال الأخلاق: مشهديّة 11 سبتمبر، داعش و”حُوّارة”

تطرق كارل هاينس شتوكهاوزن، المؤلف الموسيقي الألماني، إلى أحداث 11 سبتمبر بشكل أثار الجدل عند الكثيرين ممن لم يحبذوا الفصل بين الجمالي والأخلاقي. في تصريحاته، أشار إلى أن الهجمات كانت أعظم مشهد جمالي يمكن صناعته، وفي حديث شخصي لي معه (بوصفه أحد أساتذتي السابقين) قال إنها بمثابة “عمل موسيقي” درامي بالمعنى الواسع للكلمة. وقد رأى أن الجمالية المتفجرة في تلك اللحظة كانت تعكس عناصر من الفن والموسيقى. ألا يمكن أن يكون في داخل الصدمة التي قوبلت بها تصريحاته، والقرارات السريعة لإلغاء عروض أعماله، ثمة إنكار؟

شتوكهاوزن اعتبر أن الطريقة التي تم بها تنفيذ الهجمات، من خلال اختطاف الطائرات وضربها للأبراج، حملت أبعادًا جمالية معقدة. تعليقات مثل هذه أثارت ردود فعل قوية واحتجاجات، حيث اعتبر الكثيرون أن مثل هذه الرؤية تُظهر عدم حساسية تجاه الضحايا وأسرهم؛ ثمة لا أخلاق في هذه المقاربة! هنا، يصير من المهم أن نتساءل حول تميّز سؤال الفن عن سؤال الأخلاق، وكيف يفترق عنه دون أن يُلغيه!

نعلم أن الملايين حول العالم تابعوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل قهري، مرارًا وتكرارًا، معبرين عن مجموعة من المشاعر: الغضب، والصدمة، والرحمة، والفتنة المرعبة بمشهد بدا أنه يتجاوز أكثر المؤثرات الخاصة روعة في السينما، مما أعطى معنى جديدًا، فظيعًا، لفكرة أن الحياة قد تحاكي الفن.

حين يرغب الفنان بتصوير “حوارة” (المدينة الفلسطينية) تحترق وقد غزاها المستوطنون الفاشيون، فإنه (في كتابته، موسيقاه، رسمه، رقصه أو سينمائيته أو مسرحه الخ…) سيطرح على نفسه سؤالًا واحدًا: كيف يمكنني أن أعبر عن هذه البشاعة بأجمل وأبلغ الطرق الفنية؟ كيف نرى إلى “جمالية الخراب”! (التي تناولها حوار حطيط/ خوام سابق الذكر). هنا، البحث عن الجمالية بمعناها الرّفيع (Profound) يأتي لرفع منسوب الأثر لا لإلغاء الأخلاقيّ؛ إنه يأتي كي يُشعر المتلقي بأكبر قدرٍ من القرف والغضب، ليؤثر في نفسه ويحرّضها شعوريًّا وأخلاقيًّا، بأبلغ لغة فنيّة جمالية محرّضة وممكنة.

الإمعان في البشاعة يستدعي إمعانًا في التعبير الجمالي. أليس كذلك!

إننا لا نتحدثّ عن المؤثرات (الحرائق، الانفجارات، سقوط الأبنية، الدمار، الدخان، الدماء، الأشلاء البشرية، الدموع، لُهاث طواقم الإنقاذ والصحافيين، صمت الرّكام الخ…) هذا كلّه كفيلٌ بمشهديّة لها ما لها من أثر في الأعمال الفنيّة، لكننا نتحدّث هنا عما هو أعمق؛ عن التقاطعات التي تشكّل ما نسميه “الدّور” أو “الأثر”، بمعنى سبر تقاطعات القيمة الفنية، دورها وأثرها، في السياقات الإنسانية للحرب: الاجتماعية، النفسية، الأخلاقية الخ… لكن، هذا كله يجري تحت سقف السؤال الفني، لا فوقه. هذا ما يفسّر نظرة أمثال هِسِّهْ حين يميزون بين عملٍ فنيٍّ رفيع أنجزه “الجلاد”، وعمل فنيٍّ سخيفٍ وركيك أنتجته “الضحيّة”. وهذا ما لاحظه والتفت إليه شتوكهاوزن في وصفه لمشهديّة 11 سبتمبر التي بدت وكأنها من إخراجٍ هوليووديٍّ مُتقن وباهظ الكُلفة. الفارق بين “تُحفة” صانعي الكوارث و”تُحفة” الفنان المناصر لصانعي الكوارث، أن ما يحدث على أرض الواقع لا يُراعي الفعل الجمالي، لا يأبه بكماله واستكماله، لا ينشغل بإحكام تفاصيله؛ هنا، يأتي دور الصُّدفة، والفوضى، وزاوية نظر الكاميرا.

كم من الملايين يحتاج سينمائي بارع لإعادة إنتاج مشهد قطعان المستوطنين يقتحمون بلدة فلسطينية مثل “حوّارة”، يحرقون جمادها وحيّها، يقتلعون أشجارها، يبيدون ويُرعبون عائلاتٍ بأطفالها ونسائها؟ كيف يُقاس السؤال الفني هنا إن لم يكن بالأثر؛ هذا الأثر الذي يوجّه الفن نحو لعب دورٍ في الحرب بقصدٍ أو بغير قصد.

 تذكروا! من منكم بحث عن الصورة الأكثر أثرًا لانفجار بيروت! من منكم عدّد نظرته مع زوايا الكاميرات المختلفة للمشهد ذاته، مشهد سقوط بناية في غزة! من منكم حرص، رغم كلّ المشاعر الضديّة المتخيّلة، أن يعثر على مشهد قطع رأس صحفيٍّ أمريكيٍّ على يد داعش! كم منكم أعاد مشاهدة سقوط التوأمين فوق رأس نيويورك؟ لكن، من منكم سأل نفسه لماذا؟ ما الذي أبحث عنه في هذه المشاهد؟ ما الذي “يجذبني” فيها رُغم البشاعة والخراب وسادية الدماء؟ فهل نتوقف عند الفضول؟ 

لا داعي للفن في هذا الزمن، بعد أن بتنا نشاهد الحدث مُخرَجًا بزمنه الجاري والحيّ عبر نشرات الأخبار وزوايا التصوير المتعددة لكاميرات شهود العيان المُتناقلة فوريًّا عبر وسائل الإنترنت التفاعلية. فهل تم إلغاء الفن فعلًا في مشهدية تتصاعد فيها الوسائل التكنولوجية الحديثة وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، على حساب المعرض أو السينما أو الكتاب، وجميعها ستلحق بالحدث متأخرة، ومتأخرة جدًّا أمام وتيرة إيقاع هذا الزمن وتكنولوجياته الحديثة المتسارعة؟ ما الذي “يجذبنا” إذًا لمتابعة نشرات الأخبار، والعَوْد التكراري متعدّد الزوايا للمشهد ذاته حيث الدمار والدم في “أبهى” تجلياته الدراماتيكية المُفجعة؟ ما الذي يجعلنا، نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة، نتلذذ سرًّا عند المشاهدة، ولو كان تلذّذًا بالألم؟ كيف تتفاعل ساديّتنا المكبوتة، مازوخيتنا الخجولة، شعورنا بالخلاص والنجاة، إطفاء حقدنا بتضرر “عدوّنا” أو موته، استثارة كُرهنا أو رغبتنا بالثأر عند تفجّعنا وانهزامنا، الخ…؟ كيف تتفاعل كل هذه المشاعر مع منسوب الأثر الفنيّ في هذه المشهديّة المركبة والمتسارعة؟ ثمة بعد ذهني ونفسي شخصي هنا، يُضاف إلى كلّ ما سبق، أليس كذلك؟

إنسانية / لاإنسانية: الفردانية بوصفها سؤالًا

بالعودة إلى هيرمان هِسِّهْ، فعلى الرغم من أن إيمانه لم يتزعزع أبدًا، إلا أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية بات إيمانًا مشوبًا. في رسالة القبول لجائزة نوبل، وكذلك جائزة غوتة، التي حصل عليهما عام 1946، يؤكد مرة أخرى اعتقاده بأن “الثقافة فوق وطنية ودولية”، لكنه يتحدث أيضًا عن “أوروبا المريضة حتى الموت” وإغراءه بالتخلي عن الثقافة الأوروبية تمامًا والتحول إلى حكمة الشرق. لم يكن انزياحه نحو “الشرق” انزياحًا استسهاليًّا، كما لم يكن هروبًا من واقع مُقلقٍ إلى غيْبٍ مُطمئن وواعد، إنه إغراء قاومه هِسِّهْ بشدة، وعبر مكابداتٍ فكرية وذهنية عميقة، إلى أن أصبح للشرق تأثيرًا مركزيًا في إدراكه الجديد، وبأن الرسالة الأساسية لأعظم لمعلمي الإنسانية هي الرّواقية، أي التنكر الروحي للأشياء الدنيوية كشرط مسبق لتمييز الوحدة الصوفية في كل كائن. ثمة رهان على الذات الفردانية هنا، وربما على حساب “الأفكار الكُبرى”، كما في “الرجل العصفور” الخواميّ. 

في سنواته الأخيرة، اتضح إصرار هِسِّهْ أكثر فأكثر على الروح الفردية كمعيار للنزاهة، والآن، ربما على حساب الإنسانية (Humanism). (8)

بالنسبة للكثيرين، أكدت الحرب العالمية الثانية إفلاس الإنسانية التنويرية. والآن نتحدث ليس فقط عن عجزها عن منع البربرية، بل عن تواطؤها معها. اكتشف ثيودور أدورنو وآخرون في مدرسة فرانكفورت أن الإنسانية التنويرية تحمل في طياتها أصول المشاكل التي تخيل هِسِّهْ أنه أجاب عنها. (9) 

أعلن أدورنو عن عدم قيمة “الثقافة التقليدية”، حيث أصبحت الآن “محايدة وجاهزة”، مضيفًا أن “كتابة الشعر بعد أوشفيتس هو بربرية”.(10) لاحقًا، أخذ آخرون، مثل بودريار، هذه الوجهة النقديّة إلى حدها الأقصى: “الـ ‘إنسان’ هو من البداية مؤسسة ثنائية الهيكلية، الـ ‘غير إنسان’. هذا هو كل ما في الأمر: تقدم الإنسانية والثقافة هما ببساطة سلسلة من التمييزات التي تُستخدم لوصم ‘الآخرين’ باللاإنسانية وبالتالي بالعدم”.(11) حتى كملخص بسيط للإنسانية الغربية، فإن هذا يظل مختزلًا بشكل كبير؛ بالفعل، هذا التأكيد – “هذا هو كل ما في الأمر… ببساطة سلسلة من التمييزات” – هو مختزل للغاية ليكون نوعًا من الإرهاب، وهو النظير الفكري للاختزالية الأصولية للإرهابيين الفعليين. هل جربنا أن نطبق ذلك على خطاب “الصهيونية الدينية” أو خطاب “ولاية الفقيه” وإسقاطاتهما على واقعنا الشرق أوسطي مثلًا!

لا أعتمد على مقاربة مشبوهة مثل مقاربة بودريار، أو حتى على وجهات نظر أمثال أدورنو؛ لكنني أتجاوز هذا الاستقطاب في حروب الثقافة من خلال استحضار مقالات جورج ستاينر (Steiner) العاطفية والرائدة في الستينيات التي تم جمعها في “الأدب والصمت”. 

يقدم ستاينر توضيحًا صريحًا وغير نظري لحجة أدورنو: لم يدمر النازيون “الإنسانية الأوروبية المركزية” فحسب، بل إن بربرية القرن العشرين “قد سادت على أرض الإنسانية المسيحية، وثقافة النهضة، والعقلانية الكلاسيكية”. نذكر هنا بنصيحة هيرمان هِسِّهْ الواثقة لذلك القائد الحربي في عام 1917، ونقارنها بما كتبه ستاينر في عام 1966: 

“نعلم الآن أن الرجل يمكنه قراءة غوته أو ريلكه في المساء، وفي الصباح يمكنه عزف باخ وشوبرت، ثم الذهاب لممارسة عمله في أوشفيتس. القول بأنه قرأهم دون فهم، أو أن أذنه خرقاء، هو كلام فارغ.” يتساءل ستاينر: “ما هي الروابط، التي لا تزال غير مفهومة، بين العادات النفسية العقلية للممارسات الرفيعة، وإغراءات اللاإنسانية؟”. (12) 

في النزعات الشيطانية للعقل الإبداعي 

لا يتوقف الأدب عن انتهاك المسألة الإنسانية من خلال استحضار آراء أولئك الذين أرادوا رقابة الفن، بدءًا من أفلاطون، مرورًا بالتحيزات المناهضة للمسرح وصولًا إلى مؤيدي الرقابة الحكومية الحديثة. لكن مرة أخرى، فإنني أبرر هذه الجمالية، ليس بالإشارة إلى أعداء الفن، بل من داخل ممارستها وقدرتها على التأثير والإقناع.

بالمثل، يمكنني تقديم حجتي حول النزعات الشيطانية للعقل الإبداعي بالإشارة إلى أنواع الكتابة المشبوهة. 

سأعود إلى هذا، لكن أولاً، كوسيلة لمتابعة مصير الإنسانية بشكل أكبر، أود أن أتناول الفرضية الأساسية للجمالية الإنسانية، وهي أن الفن قوة إنسانية عميقة. أين الانسداد هنا إذًا؟ ربما هو ليس بين الإنسانيين والمناهضين للإنسانية، بل بين إنسانية محافظة وأخرى تقدمية!

بالإضافة إلى ذلك، من مثال إنساني حديث مثل ريتشارد أ. إيتلين (Richard A. Etlin)، يمكننا أن نرى كيف أن الإنساني قد تنازل بالفعل عن بعض الأرض لصالح الأجندة السياسية/الأخلاقية للماديين. يدافع إيتلين عن روائيي القرن التاسع عشر ضد ادعاء إدوارد سعيد بأنهم كانوا متواطئين مع الإمبريالية. لكن بعيدًا عن القول، كما كان قد يفعل أسلافه، بأن هذه الاعتبارات السياسية غير ذات صلة بالجمالية، لا يكتفي إيتلين بتجميع المشاعر المناهضة للإمبريالية ومناهضة العبودية لدى هؤلاء الروائيين، بل يقرأ رواياتهم بحثًا عن أدلة على ذلك. ومن ثم، فإنه يمد الأجندة الإنسانية بشكل ضمني لتتوافق جزئيًا مع أجندة خصومه، حتى وهو يحاول تفنيد حججهم.

من الصعب ألا نستنتج أن الماديين قد فازوا بالفعل بالأرضية العالية، على الرغم من أنهم قد وسعوا أيضًا من نطاقها. على الأقل، فإن الحجة القديمة بأن مثل هذه الاعتبارات السياسية غير ذات صلة بالرؤية الجمالية قد انتهت إلى الأبد. بينما يرفض إيتلين قبول تأكيد سعيد بأن السياسة والثقافة، بعيدًا عن كونهما مجالات مختلفة، هما “في النهاية نفس الشيء”، لا يمكنه إلا الرد عليها بتعميم متملص: يرفض الإنساني دمج المجالين “في جميع الأوقات وفي جميع الجوانب”.

الجماليّ في موقع “العدوّ”

في معرضها “لحظات متبقيّة” عرضت يُخباد ليشبيتس، بنت الثالثة والثمانين، في متحف إسرائيل ما تبقى من مجموعة صورها بعد أن تعرض بيتها للدمار والحرق في كيبوتس “نير عوز”، في السابع من أكتوبر.

ليشبيتس يسارية داعمة لحقوق الفلسطينيين. أُسرت لمدة 17 يومًا من قبل حماس بينما لا يزال زوجها في الأسر مجهول المصير (حتى لحظة كتابة هذا المقال). 

في حوار معها بعد عودتها من الأسر في غزة سُألت: “ما الحل؟”، فأجابت ببساطة وحسم: “السلام”.

  • السلام مع من؟ مع هؤلاء البرابرة؟
  • أوَلا تقيم سلامًا الألمان الآن؟ أنسيت ماذا فعل بك النازيون الألمان؟ هل آذاك الفلسطيني كما فعل النازيون؟!

في معرض ليشبيتس صور من تظاهرات كيبوتس نير عوز ضد الحرب على لبنان عام 1982، وصور من حياة الكيبوتس اليومية، معظمها كان محفوظًا عند ابنتها الفنانة المقيمة في لندن.

تمثّل حالة ليشبيتس، وهي نادرة في المجتمع الإسرائيلي، صدمة لكل من يوظف الجمالي والأخلاقي في اصطفافاته السياسية والأيديولوجية. ثمة صعوبة في تحليل مثل هذه الحالات المركّبة على ضوء هذه المقاربات التقاطبيّة، التي لا تميز الطيف الواسع من التعقيدات الممتدة بين ما هو إنساني ولا- إنساني في سلوك البشر.

في المقابل، غزة مدمّرة؛ لا فنانين ولا فن. أما “جمالية الخراب” فتحتاج إلى ناظر، ربما، ذات يوم خارج اللحظة الكارثة.

في كتاب بعنوان “غزة – مكان وصورة في الحيز الإسرائيلي”، تأليف عمري بن يهودا (باحثة في الأدب اليهودي في جامعة ليل الفرنسية)، ودوتان هاليفي (مؤرخ ومعيد في أكاديمية بولنسكي في معهد فان لير في القدس)، والذي صدر في تموز 2023، أي قبل السابع من أكتوبر، والذي تؤكد مجموعة المقالات فيه ما قاله سمعان خوام في حواره مع نور حطيط، عن أن “الخراب” في بيروت كان سابقًا للرابع من آب (انفجار بيروتُشيما)، واضعًا بذلك حدث 4 أب، كما هو 7 أكتوبر، فوق الخراب المنهجي المستمر؛ إنه الحدث الذي يقف الفنّ أمامه عاجزًا.

 خراب غزة الممنهج يتجلى في هذا الكتاب، الصادر عن دار جاما العبرية، ويرسخ فكرة “التسجيل” أو “التوثيق” بوصفهما من وظائف الفن الأساسية زمن الحروب. وإليكم بعض من عناوين المقالات داخل الكتاب والتي سأكتفي بعرضها لتترك انطباعًا:

* غزة بوصفها فضاءً إسرائيليًّا انتباذيًا (هيتروتوبيا)/  اللاجئ بوصفه عدوًّا/  حين تنتهي الحرب/  غزة آتية: المدينة البيضاء والمدينة التوأم/  رحلة صيد: نظرة بصرية على أرشيفات غزة التي بحوزة إسرائيل/  أمام أبواب غزة/  تعساء البحر/ المكان الذي ينبغي طرد الناس منه”: تشجيع هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة 1967-1969/  أبي يعمل في غزة/  اللغة والتصوير في غزة: نقد الاحتلال لرونيت مطلون/  في ذكرى الانتفاضة الفلسطينية/  في الهامش كما في المركز: غزة بوصفها ميكروكوزموس فلسطيني/  كي نعرف غزة: التقريب والإبعاد في ظل سياسة الحصار الإسرائيلي/  أخي المصلوب على جرافة/ من مسافة صعبة: غزة في الشعر الإسرائيلي/  أنفاق غزة: الحلم الرّطب للواقعيّ/  رغم كل شيء: غزة/  صلاة لسلام غزة، وغيرها…

خاتمة شيطانية: فانتازيات فاشية مكبوتة

إن أولئك الذين يحبون الفن ويعيشون من أجله يرفضون الاعتراف بهذا التحدي المحتمل، معتقدين بدلًا من ذلك أن الفن هو التعبير الأسمى عن الحياة المدنية. ينشرون أكاذيب حسنة النية، قائلين لنا إن الفن العظيم والثقافة الرفيعة التي تخدمه يمكن أن تعزز فقط حياة أولئك الذين يقدرونها حقًا؛ وأن هذا النوع من الفن – على عكس، على سبيل المثال، الدعاية أو الثقافة الشعبية أو الإباحية – غير قادر على إلحاق الضرر بنا أو “إفسادنا”. مثل هذا الموقف لا يفشل فقط في أخذ الفن على محمل الجد، ولكنه يعتمد أيضًا على عملية سابقة من الرقابة المؤيدة للفن، أكثر فعالية من الرقابة الحكومية المناهضة للفن. دفاعهم عن الفن هو غالبًا دفاع ضد الفن، واحترامهم المبالغ فيه له يصبح وسيلة لعدم الانخراط معه. أولئك الذين يحبون الفن أكثر هم أيضًا الأكثر رقابة عليه. الاقتراب من الأدب مع الإصرار على توافق الضمير الأخلاقي والخيال الإبداعي هو أن نكون عميانًا عن حقيقة أن بعض من أكثر الكتابات إقناعًا تتعلق بالتوتر بين، إن لم يكن عدم توافق، هذين الأمرين.

إذا أشرت مرة أخرى إلى “الجنس، الأدب، والرقابة” هنا، فذلك ببساطة لأنني الآن فقط أملك الوقت لتلخيص وتطوير الحجة التي تم طرحها هناك. نحن نعلم أن الرؤية الجمالية يمكن أن تتحدى الأجندات الاجتماعية الرجعية. في الواقع، بالنسبة لمعظم المدافعين عن الفن اليوم، على الرغم من عدم وجودهم جميعًا، فإن ذلك مرحب به بما يكفي لأن أجندتهم معتدلة ليبرالية. لكن الفن يمكن أيضًا أن يتحدى الأجندات الاجتماعية التقدمية والمسؤولة إنسانيًا. ولهذا السبب، فإن أخذ الفن على محمل الجد يعني الاعتراف بأن هناك بعض الأسباب المعقولة (أي العقلانية) للرغبة في السيطرة عليه. لا أزعم أن الفن غير إنساني بالمعنى الذي تشرع به بشكل خفي مصالح الأقوياء على حساب المظلومين والمستغلين، على الرغم من أن هناك بالفعل بعض الأعمال الكلاسيكية التي يمكن قراءتها بمثل هذه الشروط. كما أن حجتي ليست حجة تاريخية شاملة عن كل الفن، أو حتى عن كل الأدب. من الواضح أنها أكثر تطبيقًا على بعض الأنواع والفترات والحركات التي يكون فيها معرفة ما يزعج التوازن النفسي والاجتماعي بشكل عميق، وما يهدد المفاهيم السائدة للحياة المدنية، أمرًا مركزيًا – مثل التراجيديا اليونانية، والدراما والملحمات في عصر النهضة الإنجليزية (خاصة سبنسر وميلتون)، والعديد من النصوص الحديثة، بما في ذلك بعض التي تم تفسيرها بشكل مختلف تمامًا.

مرة أخرى، لقد حدثت نصف إدراك مزعج لهذا الأمر غالبًا حتى ضمن وجهات النظر الجمالية المحافظة. يمكننا اكتشافه في أبسط فئة من الجمالية الإنسانية، وهي فئة “الشخصية”. مرارًا وتكرارًا، وعبر القرون إن لم يكن الآلاف من السنين، كانت أكثر الإبداعات الفردية إقناعًا هي تلك الشيطانية: كانت شخصيات الرذيلة في الأخلاقيات الوسطى تتمتع بالحيوية والذكاء؛ وكانت الشخصيات الساخطة في التراجيديات الإليزابيثية والجاكوبية بطولية، وذكية، وأبطالًا مضادين يتمكنون من فهم الفساد بعمق من خلال تواطؤهم معه؛ ولدى الشيطان في “الفردوس المفقود” لملتون نزاهة معكوسة تعقّد، على أقل تقدير، مشروع التعليم الأخلاقي للملحمة بأكملها، بل وقد تُسقطه في نظر بعض القراء. في “الفردوس المفقود”، الشيطان موجود في الهيكل بقدر ما هو موجود في التفاصيل. لطالما حاول النقاد تجنب هذا من خلال الادعاء بأن مثل هذه التعريفات التخيلية مع اللاأخلاقي وغير الإنساني محصورة، أو موضوعة، أو مُعطلة من قبل رؤية أخلاقية شاملة أو إغلاق هيكلي للعمل الفني.

هناك علاقة غريبة بين التعريف الجمالي مع الشيطاني والدافع اللاهوتي والأخلاقي لتحقيق نظرة كاملة على الأسوأ. على سبيل المثال، ما نواجهه في “الفردوس المفقود” هو الشجاعة – أو الغطرسة، وربما جنون العظمة – من نوع اللاهوت الأكثر هيمنة، الذي يعتقد أنه يمكنه التغلب بفعالية على ما يهدده فقط من خلال معرفته بشكل كامل. في حالة ملتون، ستزداد الحاجة إلى مثل هذه المواجهة بسبب تجربة الهزيمة الثورية. في “الفردوس المفقود”، تنبع الأضرار التي تلحق بالنوايا التعليمية من تجسيد هذا الدافع ليس فقط كلاهوت، بل كأدب تراجيدي، وهو الوسيلة التعبيرية المحددة للهزيمة. 

مع ذلك، كانت مثل هذه القراءات للشيطان خطيرة بما فيه الكفاية لله وإلى أتباعه، إذا لم تكن كذلك لبقية الناس. وهذه هي نقطتي: نحن نسمح بمثل هذه القراءات عندما لم تعد تتحدانا. ومع ذلك، الأدب مليء بالمعرفة التي تشكل خطرًا علينا: إنه يكشف عن فهم للعالم لا تستطيع، أو لا تريد، أن تعترف به أنماط حياتنا المدنية، وربما ينبغي علينا ألا نعترف بها. أجادل، على سبيل المثال، بأن الحداثيين مثل ييتس ولورانس، تحت تأثير نيتشه، يقدمون احتفالًا مثيرًا للجماليات اللاأخلاقية للطاقة. عندما أعجب القراء بصوت ييتس الشعري وتماهوا معه، وجدوا أنفسهم قريبين بشكل غير مريح من جماليات سمحت للفنانين والمفكرين بالتعاطف مع الفاشية. لكن ادعائي ليس أن تُفرض الرقابة على ييتس بوصفه فاشيًا، بل أن شعره يقدم لنا بصيرة مختلفة ومزعجة حول التاريخ الحديث وذواتنا. فهم الشعر لا يعني تجاوز عنفه، بل يعني الدخول في تجلياته المغرية. عندما يكون الشاعر حرًا من السياسة بالمعنى الضيق، يمكنه أن يكون أكثر فعالية في التعبير عن بعض الفانتازيات الأعمق التي ساهمت في جعل الملايين يتخذون بعض الهويات السياسية والانتماءات التي أدت بدورها إلى موت وتعذيب الملايين من الآخرين. هذه الفانتازيات لا تزال حية جدًا اليوم. وللتعبير بوضوح، يكشف قراءة معينة لييتس ولورانس عن الفانتازيات الفاشية كعنصر مكبوت أكثر أو أقل في الثقافات الحديثة. لذا، الإصرار على أن الفن لا يهرب أبدًا من السياسة يختلف تمامًا عن المطالبة بأن يكون سياسيًا بشكل مسؤول؛ بالنسبة لي، قيمة ييتس ولورانس تكمن بشكل مركزي في عدم كونهما مسؤولين سياسيًا، لأن كل مسؤولية من هذا النوع تتضمن بشكل صحيح كبتًا.

بالطبع، هذه حجة تلتزم برؤية تقدير الجماليات باعتبارها في بعض النواحي معرفية، أي أنها تمتلك محتوى من الحقيقة أو المعرفة. هذا الرأي يرتبط بشكل مباشر بأدورنو، لكنه، مرة أخرى، له تاريخ أطول، وهو تاريخ تقليدي كفرض عمل وكنظرية. حتى النظريات الجمالية المحافظة تحتضنه، على سبيل المثال، تلك التي تشمل الكلاسيكية الجديدة، والتي تعتبر الفن يقدم حقائق عامة وعالمية عن العالم، على الرغم من أن السؤال عن نوع الحقيقة المقدمة هو سؤال نادرًا ما يتوقف أحد للإجابة عليه أو حتى طرحه. من الممكن القول إن الفن غالبًا ما كان يُفترض أنه يمتلك محتوى معرفي من نوع ما، ولا يصبح الأمر قضية إلا فيما يتعلق بالنظريات التي تصف الفن بأنه غير مرجعي. إن انفصال الفن عن المعرفة هو أمر نسبي حديث. كما يقول ج. م. برنشتاين في “مصير الفن”: “تجربة الفن كجمالية هي تجربة الفن كمن فقد أو حُرم من قوته في قول الحقيقة… سأطلق على هذا الفقد ‘اغتراب جمالي’؛ إنه يدل على اغتراب الفن عن الحقيقة الناتج عن تحول الفن إلى جمالي، وهو تحول اكتمل تمامًا فقط في المجتمعات الحديثة”. رؤية الفن كمعرفي لا تمنع أن يكون له أنواع محددة وحتى فريدة من الخصائص الشكلية (اللغة، الأسلوب، النوع، وما إلى ذلك)، ولا تقلل من أهميتها. لكنها تتحدى الادعاءات التي تقول إن هذه الخصوصية الجمالية تجعل العنصر المعرفي للعمل ثانويًا أو حتى غير ذي صلة. ونظرًا لأن مثل هذه الادعاءات حديثة نسبيًا، فإن عبء الإثبات يقع على من يطرحونها.

هناك جانب آخر يحتضن فيه البعد “المحافظ” أو المُؤَسَّس من الجمالية تحديًا للأجندة الإنسانية التي يُفترض أنها تدعمها، وهو كامن داخل نظرية تقدير الجماليات بوصفها “غير مهتمة”. مثل هذا التقدير ينطوي على تفرّد عميق في الإدراك الذي ينفصل عن العالم العادي للسياسة والمصالح ويرى ما وراءه – بمعنى آخر، فكرة الإدراك الجمالي كما وصفه كانت: “غير مهتم وحُر”. هذه الفكرة لها مسارها الفريد نحو غير الإنساني أو غير الإنساني، كما في إعادة صياغة شوبنهاور لكانط؛ حيث يحررنا عدم الاهتمام الجمالي من الإرادة للعيش ويتطلب موت الذات – أي القضاء على فرديتنا وحتى إنسانيتنا. هذه الجمالية تجذبنا نحو السامي وتلك الفتنة بجمال غير إنساني قوامه شيء من اللامبالاة تجاه الإنسان.

بعد ذلك، تحولت الجمالية غير المهتمة إلى كراهية إنسانية محددة، أو لامبالاة تجاه الإنسان – مجددًا بطريقة مشهورة عندما يكون الجمال هو موضوع نظرها. هناك العديد من الأمثلة من القرن العشرين: تخيلات لورانس/بيركين عن كون جمالي خالٍ من “النجاسة القذرة” التي هي الإنسانية؛ الشاعر الرمزي الذي صرح عن هجوم بقنبلة أناركية: “ما الذي يهم الضحايا إذا كانت الإيماءة جميلة؟” أو ملاحظة وايلد عن توماس وينرايت: “عندما لومه صديق على قتل هيلين أبركرومبي، هز كتفيه وقال: ‘نعم؛ كان شيء مروع فعله، لكنها كانت تملك كاحلين سمينين جدًا’.” وأخيرًا، والعودة إلى موضوع الحرب، هناك ديون موسوليني للفوتوريين عندما قارن انفجار القنابل بين المدنيين الهاربين بزهور تتفتح. 

لتلخيص ذلك – فإن الجمالية التي أوضحها هنا تتجلى بالفعل ضمن التقليد الغربي: الوظيفة الموجهة للتعليم، والانجذاب والتعريف مع الشيطاني، البعد المعرفي لعمل الفن، والطريقة التي يمكّن بها الانفصال الجمالي الإدراك اللاأخلاقي.

اعرف أن تعرف لا أكثر: المعرفة الخطرة.

تبدو هذه الجمالية واضحة جدًا في انشغال الفن بالمعرفة الخطرة – تلك المعرفة التي تزعزع النظام الاجتماعي والنفسي بدلًا من أن تعززه. هنا نحن معنيون ليس فقط بالمنظور المعارض لبعض الكُتّاب، ولكن أيضًا بتنظيم الثقافة البشرية. الهوية الفردية هي مزيج، تنظيم جزئي معقد أكثر أو أقل، ودائمًا ما يتضمن درجة أكبر أو أقل من الكبت، والقمع، والاستبعاد: الهوية تتكون مما ليس عليه الشيء، بالإضافة إلى ما هو عليه جوهريًا. وكذلك الثقافات والحضارات، وإن كانت أكثر تعقيدًا بشكل لا يُتصور من حيث تنظيمها واستبعادها.

كلما كانت الوحدة المنظمة أكثر تعقيدًا، أصبحت أكثر عرضة لعدم الاستقرار، خاصة بسبب استبعادها أو بالنسبة له. علاوة على ذلك، فإن ما يتم استبعاده يظل غير منفصل عما يتم تضمينه، مما يعني أنه ليس خارجًا تمامًا. هذه واحدة من الأسباب التي تجعل التهديد الأكثر قوة لشيء ما يعمل داخليًا، من حيث هيكله وتنظيمه؛ الهلاك هو عملية داخلية وليست خارجية، والانهيار من الداخل بدلاً من التدمير من الخارج. قد يكون الوحش الغريب يتجه نحو بيت لحم، لكن الخطر الأكبر يكمن في حقيقة أن الأمور تنهار وأن المركز لا يمكنه الثبات. من الناحية الفكرية، أصبح هذا شائعًا في العصر الحديث، وذلك بفضل أمثال داروين، وماركس، ونيتشه، وفرويد. هناك مصطلحات أخرى لنفس العمليات أو العمليات المرتبطة بالهلاك الداخلي، معظمها محملة بالاستنكار: التدهور، التحلل، الذوبان (الانحلال، المفسد)، التفكك، الرجوع للخلف. وبالطبع الثورة، بمعناها القديم والجديد.

في كل حالة من حالات التفكيك المدرك، تظهر أسئلة سياسية عاجلة: هل يمثل هذا حقًا تهديدًا لطرق تنظيمنا الثقافي، أم يمكن دمجه مع تغييرات طفيفة؟ وإذا كانت التغييرات المطلوبة أكثر شمولًا، فهل تعد بالاعتماد والبقاء، أم الانهيار وفقدان الهوية؟ إن حقيقة أن مثل هذه الأسئلة ستُجاب بشكل مختلف اعتمادًا على الموقف، والمصالح المكتسبة، والعلاقات الحالية للسلطة والصراع، تشير إلى تعقيد كل من العملية وإدراكها. من الواضح أن بعض الأدب يُجسد التفكيك: لماذا الرقابة إذن؟ لكننا نعلم أيضًا أن الأدب الذي يتبنى الربط أيضًا يستكشف بالضرورة القوى التي تفكك، وغالبًا ما تكون هذه القوى هي الأكثر جاذبية: تصوير المدينتين المثالية (يوتوبيا) لا يتطابق مع تصوير الكابوسية الخرائبية (ديستوبيا)، ويصبح الكتاب أكثر حيوية عندما يستكشفون تقاطع الرغبة المحظورة والمعرفة الخطرة.

كما أظهر روجر شاتوك وآخرون، كانت المعرفة المحرمة دائمًا جزءًا من الثقافات البشرية، ومن الواضح بشكل خاص في مفاهيم المحرمات والهرطقة. نقول إن الجهل نعمة. في “الفردوس المفقود”، يقدم ميلتون لنا صورة عن آدم وحواء وهما نائمين ببراءة.(13) 

وعلى جسديهما العاريين تساقطت الورود من السقف الزهري الذي أصلحه الصباح. 

ناما، أيها الثنائي المبارك؛ 

وأوه، سيكون الأجمل لو لم تبحثا عن حالة أكثر سعادة، 

ولتعلما أن لا تعرفا أكثر.”(14)

بعبارة أخرى، “كن حكيمًا متواضعًا”. آدم وحواء يعصياني، ورغبتهما المتجاوزة في المعرفة المحرمة تجلب الموت والتفكك إلى العالم، إلى الرغبة. بمعنى آخر، إنها تبدأ التاريخ.

يُنظر إلى الالتزام بالوصية بعدم المعرفة، وعلى أنه شرط مسبق للصحة الاجتماعية والنفسية، ولنجاة الحضارة نفسها – وهو ما يتجلى ضمنيًا في فكرة الرقابة. في المقابل، يُعتبر كسر هذه الوصية تحريرًا عميقًا، رغم أن له عواقب مأساوية، لكنه في بعض الأحيان يؤدي أيضًا إلى ثورات. يربط بين هذا الانقسام بعض الشخصيات الكبرى المتجاوزة في الأساطير والأدب، بما في ذلك حواء، وبروميثيوس، وفاوست، وماري شيلي في “فرانكشتاين”، وفلاوبر في “مدام بوفاري”، وتوماس مان في “أشنباخ”، وجوزيف كونراد في “كورتز”.

تعكس شخصيات أخرى، مثل “جيكل/ هايد” لروبرت لويس ستيفنسون، إدراك أن معرفة الشر هي أكثر ارتباطًا بالعبقرية منها بالهمجية، بينما تؤكد شخصيات مثل “ماكبث” لشكسبير، و”راسكولنيكوف” لدستويفسكي، و”نيتشه” كخالق وكفنان بلا أخلاق، على ملاحظة لباسكال (Pascal) بأن هناك نوعًا من الشر الذي غالبًا ما يُعتبر خيرًا لأنه “يتطلب نفس القدر من العظمة الاستثنائية للوصول إلى مثل هذا الشر كما للوصول إلى الخير.”(15)

 ألم يقل فاوست غوته “أنا هو الشرّ الذي لا يفعل إلا الخير”؟

في الواقع، إذا كانت معظم هذه الشخصيات تحمل إحساسًا بالخطر، فضلًا عن الإمكانات التحريرية للمحرّم، فذلك لأن المعرفة المحرمة تكشف غالبًا عن القرب الأساسي بين الشر والخير. ويُرجع فرويد سبب ذلك إلى:

“الأشياء التي يفضلها الرجال، ومثلهم العليا، تنبع من نفس التصورات والتجارب التي يكرهونها أكثر، وإنها كانت في الأصل متميزة عن بعضها البعض من خلال تعديلات طفيفة… في الحقيقة، من الممكن أن يُقسم الممثل الغريزي الأصلي إلى قسمين، بحيث يخضع أحدهما للكبت، بينما يخضع الآخر، بالضبط بسبب هذه العلاقة الحميمة، للتقديس.”(16)

المعرفة الخطرة 

في الأمثال والأساطير، وفي اللاهوت والفلسفة، تخبرنا لغةٌ إنسانية بعد أخرى أن هناك أشياء لا يجب أن نعرفها، وأشياء لا يجب أن نفعلها، وأشياء لا يجب أن نراها، (17) وأماكن لا يجب أن نذهب إليها، وبالطبع رغبات لا يجب أن نحققها. وهكذا، تأتي أهمية نيتشه في تباين التصور الديونيسي للفن مع التصور الإنساني، وذلك من حيث وجود نوعين مختلفين من المعاناة – أولئك الذين يعانون من فائض من الحياة، وأولئك الذين يعانون من افتقار للحياة. الأولون “يرغبون في فن ديونيسي كما يرغبون في نظرة مأساوية وبصيرة في الحياة”، ويواجهون “المخاطر والتساؤلات… كل رفاهية التدمير، والانحلال، والنفي”؛ بينما يحتاج الآخرون إلى “اللطافة، والسلم، والخير في الفكر والفعل… نوع من الحبس الدافئ، الذي يبعد الخوف ويغلق في آفاق متفائلة”.(18) عند نيتشه، نرى بوضوح أن الرغبة المتجاوزة، حتى عندما تكون إيروسية بشكل صريح، تهدف ليس فقط إلى المتعة المحرمة، بل إلى المعرفة المحرمة أيضًا.

يريد الإنسانيون من الفن أن يؤكد من نحن عليه وما ينبغي أن نكون. أما الجماليات التي أستكشفها، فتواجهنا بما لسنا عليه؛ أو بالأحرى، تواجهنا بالتكلفة النفسية لكوننا ما نحن عليه، أو ربما التكلفة الاجتماعية لأن نصبح ما نود أن نكون، لو كانت الشجاعة لدينا تساوي الرغبة. هذا يعني أننا لا يمكن أن نكون راضين عن التأثير الخيّر للفن، تمامًا كما لا يمكننا أن نكون كذلك بشأن المعرفة بحد ذاتها. 

في حوار حطيط سمعان، تتكرر فكرة “عدم تحميل الفن أكثر مما يحتمل”، ففي زمن الحرب، وحتى في الروتين الديستوبي المنهجيّ، كما في لبنان، لا يمكن التعويل على الفن، لأن الفن لا يقدم الحلول بقدر ما يطرح الأسئلة ويُحرّك الفكر والوجدان، يُخلخل في النفوس وفي النظام، يؤمن للبشر فرصةً ناعمةً للنجاة، لكن بإرادتهم إن توفرت، لكن ليس أكثر من ذلك. 

إن ذهبنا بهذا الحوار خطوةً إلى الأمام، فإن أخذ الفن على محمل الجد يعني معرفة أنه يأتي دون الضمانات الإنسانية التي تخنقه. قد نتفق على أن قمع “الحقيقة” ضارٌّ اجتماعيًا وأخلاقيًا، مع تذكّر أنه يحدث في جميع الثقافات، بما في ذلك “الديمقراطيات”. كان السؤال “لماذا يكرهوننا بهذا الشكل؟” هو رد فعل بعض الأمريكيين المرتبكين والمتألمين في 11 سبتمبر، دون وعي بالكثير: دون وعي بأن بلادهم كانت فعلًا مكروهة بوحشية من نوع ما حدث في ذلك اليوم؛ ودون وعي بأنهم كانوا عرضة لمثل هذا الهجوم؛ ودون وعي حتى بمن كانوا أعداؤهم في الواقع. في هذه الحالة، نشعر بالحزن للجهل كما نشعر بالخسارة في الأرواح، لأنه إذا كان المزيد من الناس قد كانوا أكثر اطلاعًا، لكان التاريخ، ربما، مختلفًا. لكن لا يتبع ذلك أن الوصول الكامل إلى المعرفة دائمًا ما يكون مفيدًا اجتماعيًا وأخلاقيًا. الاعتقاد بأن ذلك صحيح يجب أن يكون من قلة السذاجات المتبقية في إنسانية عصر التنوير. مع تراجع تلك الإنسانية، تُسمع العديد من الأصوات القديمة التي أزاحتها مرة أخرى، بعيدة لكنها مثيرة. واحدة منها تلاحقني بشكل خاص: في كثير من الحكمة يوجد حزن كثير، ومن يزداد حكمة يزداد حزنًا. لقد زاد الفنانون كليهما.

 

هوامش:

  1. H. Hesse, If the War Goes On: Reflections on War and Politics [1946], trans. R. Manheim (London: Pan Books, 1974), pp. 20.
  2. Ibid., pp. 11.
  3. Ibid., p. 141
  4. https://www.facebook.com/28magazine/videos/1001589557030634?locale=he_IL
  5. سمعان خوام هو فنان تشكلي (منزوع الانتماءات) يعرّف نفسه بفنه وإبداعه لا بموروثه. يقول عن نفسه “أنا رجلٌ حرٌّ/ في جسد عصفور/ في قفصٍ أبيض/ في غرفة سجان”.
  6. نور حطيط، كاتبة ومحررة لبنانية من جنوب لبنان. درست العلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية. عملت في عدد من المجلات الورقية والإلكترونية. محررة وكاتبة في الشأن الفكري والثقافي والاجتماعي. حاليًّا مُغتربة في إستانبول.
  7. Albert Einstein and Sigmund Freud. New York: The Modern Library, 1933.
  8. Hesse, If the War Goes On, pp. 123–4, 145, 149.
  9. I’m thinking here of not only T. W. Adorno’s and M. Horkheimer’s seminal Dialectic of Enlightenment, trans. J. Cumming (New York: Seabury Press, 1972) but also Herbert Marcuse’s important collection Negations: Essays in Critical Theory, trans. J. J. Shapiro (Harmondsworth: Penguin, 1968).
  10. T. W. Adorno, Prisms, trans. Samuel and Shierry Weber (London: Neville Spearman, 1967), p. 34.
  11. J. Baudrillard, Symbolic Exchange and Death [1976], trans I. Hamilton Grant, introd. Mike Gain (London: Sage Publications, 1993), p. 125.
  12. G. Steiner, Language and Silence: Essays on Lang
  13. See R. Shattuck, Forbidden Knowledge: From Prometheus to Pornography (New York: St Martin’s Press, 1996); T. Ziolkowski, The Sin of Knowledge: Ancient Themes and Modern Variations (Princeton: Princeton University Press, 2000).
  14. J. Milton, Paradise Lost, Book IV, lines 771–5, in Milton: Poetical Works, ed. D. Bush (Oxford: Oxford University Press, 1969).
  15. B. Pascal, Pensées, trans. and introd. A. J. Krailsheimer (Harmondsworth: Penguin, 1966), p. 215.
  16. S. Freud, ‘On repression’ in The Pelican Freud Library, vol. 11, On Metapsychology: The Theory of Psychoanalysis, ed. A. Richards, trans. J. Strachey (Harmondsworth: Penguin, 1984), p. 150 (my emphasis).
  17. On ‘ocular prohibition’ in myth see especially Shattuck, Forbidden Knowledge, pp. 18–21.
  18. F. Nietzsche, The Gay Science, ed. B.Williams, trans. J. Nauckhoff (Cambridge: Cambridg University Press, 2001), p. 234.
الكاتب: وسام جبران

هوامش

للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع