يبدو أن العالم اليوم لا يعاني نقصًا في المعلومات بقدر ما يعاني فائضًا منها، حيث الحقائق تتكدس في شبكة كونٍ عنكبوتيٍّ سريع الاتّساع، لكن ثمّة ما يتراجع في الوعي، كما لو أن الإدراك قد فقد مركز توازنه وقدرته على استيعاب هذا الازدحام المتعاظم.
لم تعد اللّغة مرآةً تُبصر عبرها النفسُ نفسَها، بل شبكةً من إشاراتٍ تُنتَج خارجها، في فضاءٍ رقميٍّ يضاعف المعلومة ويفتّت المعنى. في مثل هذا الزمن، يصبح الشِّعر، ربما، آخر فضاءٍ يحتفظ بقدرة اللّغة على أن تفكّر في ذاتها بذاتها، وأن تجرّب الوعي لا بوصفه محتوىً، بل بوصفه حركةً حيّة في النَّفَس الإنسانيّ الذي يشكّل الإيقاع الموسيقي الأعمق للحياة.
في هذا الأفق الملبّد، تقف اللّغة العربية على عتبةٍ نادرة. لغة ضاربة في عمق الزمن، تبدو كأنها لم تُخلق لتصف العالم، بل لتُقيمَه في القول. غير أن هذا الامتداد في التاريخ لا يمنحها سُلطة، بل يُلقي عليها سؤالًا ثقيلًا: هل ما زالت اللّغة العربية قادرة على أن تُنتج الوعي كما كانت تصنعه حين كان الشعر أوّل جهازٍ تأويليٍّ للوجود في يدها؟ هل ما زال في جذورها اللغويّة ذلك الوميض الخفي الذي يربط الصوت بالمُمكن، والنَّفَس الإنسانيّ بالحقيقة؟
في اشتقاقات اللغة العربية وبُنيتها، ما يشبه الحراك المستمرّ القلق للجُسيمات الأوليّة في وضعيّاتها الكموميّة الفائقة: انبعاثاتٌ وانطواءات، تشعباتٌ لا تنتهي تلتفُّ وتتفترّق حول جذرٍ واحد. لكن، هل هذا التّشابك الاشتقاقي هو مجرّد أثرٍ لغويٍّ لماضٍ بعيد، أم أنه، في جوهره، نظامٌ احتماليٌّ قادر على توليد المعنى كما تولّد الطاقةُ شكلَها المنبثق من "الّلامادّة"؟
ربما كانت اللغة العربية تُفكّر من داخل منطق الموجة الشّبحيّة المتدفّقة، لا منطق الخطّ الجسيمي القابل للاصطدام والارتداد. لكن هذا القول لا يدّعي الحقيقة، بقدر ما يحاول أن يصغي إلى ما تفعله الكلمات حين تتحرك باندفاعاتها الأولى وحرّيتها الأصليّة.
في اللغة العربية، لا يمكن فصل الاسم عن الفعل إلا لحظة حدوث الوعي، لحظة انهيار الدّالّة الموجية الفائقة، ولحظة إمساك الوعي المُراقب لأحد احتمالات خزائن الصّمت الّلانهائيّة، وكأنّ الكلمة لا تشير إلى الشيء بقدر ما تُعيده إلى طور التكوّن. هنا، تصبح اللغة حدثًا مستمرًّا لا نتيجة، وتتحول الكتابة إلى نوعٍ من المراقبة الدقيقة لذلك الحدث في الذهن، كما يراقب الفيزيائي اهتزاز الجسيم قبل أن يثبُت في معادلة. لكن، هل ما زال بإمكاننا أن نكتب بهذا الوعي الإمساكيّ القابض على المعنى؟ وهل تسمح طبيعة العصر، المليء بالأجهزة التي تُعيد إنتاج النّصوص وتوليدها ضمن تشابكاتٍ لامتناهية، بأن تعود الكتابة إلى أصلها بوصفها تجربةً حُرّةً في الوعي المُنفلت من قيوده، لا بوصفها استنساخًا للمعنى الذي يخضع لشروط الرّصد؟
الذكاء الاصطناعي، بما يملكه خوارزميًّا وتقنيًّا من قدرةٍ وسرعةٍ على التحليل والمحاكاة، يذكّرنا بأن المعرفة لم تَعُد حِكرًا على الإنسان. ومع ذلك، لا بدّ أن يظلّ في الإنسان شيءٌ نفترض (أو نتمنّى) ألا يمكن للآلة أن تلتقطَه: ذلك التردّد الداخلي بين الفهم والدهشة، بين الانضباط والفوضى، بين ما يُقال وما لا يُقال، بين ما يُعقل وما ينفلت.
هل يمكن أن تكون اللغة العربية، بنظامها الجذريّ الاشتقاقيّ المرن، اللغةَ التي تحتضن هذا التردّد بدل أن تلغيه؟ هل يمكنها أن تفتح حوارًا جديدًا مع التِّقنية، لا لتقاومها، بل لتجعلها مرآةً ثانية للنّفس البشريّة وهي تحاول أن تفهم نفسها عبر اللّغة؟
ربما لم يَعُد الشِّعر العربي مدعوًّا إلى الدفاع عن التراث، ولا إلى مجاراة الحداثة، بل إلى شيءٍ أعمق: أن يجرّب إمكانياته الخاصة في إنتاج وعيٍ جديدٍ بالعالم، وعيٍ لا يرفض التقنية، لكنه يرفض أن يُختزل بها؛ وعيٍ يعرف أنّ المعرفة دون معنى ليست سوى ضجيجٍ مُنظَّم، وأن المعنى، في النهاية، لا يُقاس بما نملكه من معلومات، بل بما نستطيع أن نحيا به من أسئلةٍ تخلقنا فيما نخلقها.
لعل "حداثة الوعي الكوني باللغة العربية" ليست مشروعًا لتجديد اللغة بقدر ما هي محاولة لإعادة الإصغاء إليها؛ إلى الطريقة التي تتنفّس بها فينا، والطّريقة التي تُفكّر بها في العالم. ربما نحتاج ألاّ نكتب بها فحسب، بل أن نتركها تكتبنا، أن نسمح لها بأن تعيد ترتيب وعينا وفق منطقها الخَلقيّ الجمعيّ التّراكميّ، حيث الكلمة لا تُعبّر عن الواقع إلا بقدر ما تُعيد هندسته.
حينها فقط، قد نكتشف أنّ الشعر، كما اللّغة، لم يُخلَق لينقل معنى، بل ليصنع شكلًا جديدًا للإدراك. وأن الكتابة باللغة العربية ليست فعل انتماءٍ إلى ماضٍ لغويّ، بل انخراطٌ في حركة الوعي وهو يكتشف نفسه من جديد، في ضوءٍ لم نرَه بعد.
بين النّفس البشريّة والآلة: القصيدة بوصفها انفلات الوعي من ذاته
قد يكون الشِّعر العربيّ اليوم هو آخر محاولة للوعي كي يفلت من نفسه، كي يتنفّس خارج حدود الحساب والخوارزمية، خارج ما صار ممكنًا مسبقًا. وبعد أن طالت معاركه مع ذهنيّة التّقديس، بات عليه أن يخوض الآن معاركه ضدّ عنكبوتيّة التّكديس.
في عالمٍ تصنع فيه الآلة النّصوص أسرع من أن يشعر بها الإنسان، تصبح القصيدة مساحةً للاختلاف، لحظةً يلتقي فيها النَّفَس البشري بالاحتمال، حيث تتجسّد المعاني قبل أن تُقيّدها القواعد أو تُحوَّل إلى مجرّد بيانات في كونٍ عنكبوتيّ.
القصيدة التي نتوق إليها هنا ليست مجرّد شكل، ولا اللغة مجرد أداة.؛ إنها انفلات الوعي من ذاته. وهي محاولة لإعادة اكتشاف الإنسان في ضوء ما لم يُكتشف بعد. كلّ كلمة عربية تتنفّس، تتفرّع، تتشعّب، وكأنها موجةٌ محتملة، غير مقيَّدة، تنقلنا من الذَّكريّ إلى الأنثويّ، ومن الجسد الماديّ إلى الحقل الكُموميّ، ومن المعنى القابض إلى التجربة القلقة. فهل يمكن للّغة العربيّة أن تكون أكثر من كلام، أن تتحوّل إلى حدث حيّ، يقود النفس إلى مكانٍ لم تزره بعد؟
في هذا الانفلات، يصبح الشعر العربيّ اختبارًا للوعي قبل أن يكون عملًا جماليًّا. الآلة قد تنتج النّصوص، لكنها لا تعرف الخطأ الخلّاق الذي يولّد المعنى، ولا تتلمّس الدهشة في الخلل، ولا تسمع الرّجفة الأولى للحرف حين يخلق نفسه من أصفارٍ ترجف.
القصيدة هنا ليست منافسة للآلة، بل تعلّمها كيف تتوقف أمام الاحتمال والإحصاء، وأن تشهد لحظة الخلق أثناء حدوثها في العقل البشري دون أن تُمسك بها.
اللغة العربية، بنظامها الجذري، تمنح هذا الاحتمال مساحةً واسعة، حيث لا ينفصل الاسم عن الفعل، ولا الفعل عن الوعي الذي يخلقه. كل حرفٍ يُنطق ليس وصفًا، بل تجربة، ليس معلومة، بل نبضة، ليس واقعًا، بل احتمال متحرّك. في هذا الاحتمال، يلتقي الإنسان والآلة، لا ليتنافسا، بل ليكوّنا تجربة جديدة: تجربة وعيٍ لا يمتلكها أحد سوى من يجرؤ على الكتابة باللّغة دون أن يلوي ذراعها، ودون أن يمنعها من أن تكتبه هي.
القصيدة، إذن، ليست نهايةً، بل هي رحلة انفلاتٍ مستمرة: انفلات من الإملاءات السابقة، من حدود المعنى، من هيمنة الخبرة المكرَّرة، ومن المنطق الخالص للآلة. إنها محاولة أن نسمح للوعي بأن يتشكّل من جديد، أن يحسّ بنفسه في كلّ كلمة، في كل جذر، في كل حركة صوتية، كما لو أن العالم يُخلق من جديد مع كلّ نطق.
هنا، بين النَّفَس البشريّ وبرودة الآلة، تصبح اللغة العربية أكثر من كلام: تجربة إدراك صامتٍ، انفجار احتمالات كامنة، رحلة مستمرة لإعادة الإنسان إلى نفسه، والوعي إلى مكانه الذي لا يُقاس ولا يُحكم عليه، بل يُعاش ويُستكشف مع كل قصيدة تتلفّظ، مع كل لحظة كتابة تحيا فيها الكلمةُ حرّيتها خارج اليقين، وخارج المعاجم.
الشِّعر غير معنيّ بتفوّق الآلة على البشر، لا لشيء سوى أنّه فعلٌ إنسانيّ، يصنعه الإنسان للإنسان. الشّعر، بهذا المعنى، هو حاجةُ الإنسان إلى إنسان.
طرد كلاب الحراسة عن بوابة العقل الشعريّ
هل يمكن للعقل أن يتحرّر من كلّ الكلاب التي تحرس أبوابه؟ كلاب اليقين، كلاب المنطق المقيِّد، كلاب السُّلطة الذّكورية، النّصوص المقدّسة، الخطابات الأيديولوجية، العبارات الممجوجة المُتَوارَثة، قواعد اللغة، الصِّيغ التي تحدّد ما يُسمح لنا أن نفكر به وما لا نفكر به، في السّياسة، وفي المُقدّس، وفي الجنس، وأخيرًا في التّكديس الاصطناعيّ الذكيّ للبيانات والمعرفة؟
إذا كان الإنسان هو لغته، (بحسب هايدجر)، فكيف له، إذن، أن يتحرّر من نفسه، من قواعد اللُّغة؟
الجذر اللُّغوي في العربية ليس مجرد رمز، بل هو أُنشوطة جذموريّة1 لغويًا: هي النظر إلى الجذر العربي بوصفه وحدة طاقية أساسية، لا مجرد أساس للكلمة، بل خزان احتمالات لا نهائية يمكن أن تتفرع إلى اشتقاقات متجددة، تحمل معها توليد المعنى والحركة والوعي. كل جذر يمثل نواة احتمالية، كما لو كان لبنًا أوليًا للغة وللفكر. فلسفيًا: تعني استحضار الأصل كمصدر للطاقة والخلق المستمر. الجذر لا يحدّد المعنى النهائي، بل يفتح فضاءً احتماليًا متحركًا للغة والفكر، يشبه الحالة الكمومية في الفيزياء، حيث كل نطق وكل حركة صوتية يمكن أن تولّد تجربة وعي جديدة. شعريًا: هي وضع اللغة في حالة تجريبية مستمرة، حيث لا تُقيد الكلمة بالقواعد التقليدية أو التاريخية، بل تُترك لتخلق نفسها، لتولد إحساسًا، انفعالًا، أو وعيًا جديدًا مع كل استخدام. من صُنع الحياة ذاتها، والتي تشتقّ إيقاعاتها من أنفاس الإنسان ذاته، من أنفاس الشّاعر ونبضه؛ إنّه تلك الخليّة الأولى التي تنظّمت انطلاقًا من الفوضى، وامتلكت القُدرة "الاستقلابيّة" على مقاومة الاضطراب عبر تدفّق طاقة المعنى والّلامعنى في آنٍ معًا، وقدرةَ التّخزين والتّضاعُف ذاتيًّا متحدّيةً الزّمن. فما الذي يمكّن "الكلمة" من العيش أو الأفول إذن؟
حين يتحرّر العقل من كلاب الحراسة يستعيد أنوثته، يستعيد نسبيّته، ويستعيد حُلُمَه، فلا يظلّ أداة للهيمنة، بل يصير حقلًا حيًّا للتجربة، للاختلاف، للانزياح، للولادة.
القصيدة، إذن، ليست إعلان سُلطة، بل تحرّر اللّغة، وتحرر العقل، تحرّر الأنفاس من آليّاتها المُحكمة.
عند الانصياع للّغة، حين لا تُفرض علينا سلطة، حين تُترك الكلمة لتجرّب نفسها، نكشف الفضاء الاحتمالي للعقل، حيث كل احتمال ممكن، وكل معنى يطفو، ثم يختفي، ثم يعود بطريقة جديدة.
الأنثوي، النّسبيّ، الّلاواعي، والحالم ليسوا مجرد صوت أو رمز داخل اللغة، بل حركة، ونبض، وقدرة على خلق لحظة وعي جديدة في كل لفظة. هنا، تصبح اللغة جسدًا أنثويّا للوعي، (بحسب أدونيس)، ويصير الفكر مساحة للتجريب، والعقل نافذة مفتوحة على الاحتمالات الكمومية وحقولها الفائقة، حيث المعنى لا يملكه أحد، والوعي لا يحرسه أحد سوى التجربة الإنسانيّة نفسها، بوصفها تجربةً تخضع للأنفاس، لا للخوارزميّات.

القصيدة ما بعد الجندريّة، ما بعد النّرجسيّة
إذا امتدّ الفكر إلى ما بعد الجندريّة، فهل يصبح الانفلات أكثر عمقًا؟
السّؤال هنا يقودنا إلى أن نتساءل مجدّدًا عن طبيعة اللغة، فهل هي تلتزم بالهوية البيولوجية أو الاجتماعية بالضّرورة؟ هل وظيفة اللغة أن تعيد إنتاج الفروق التقليدية بين الذكر والأنثى؟ إذن، كيف للعقل الشِّعري العربي أن يتصرّف، خارج تاريخه السّائد، بوصفه مساحة لاثنائية، حيث تتحرك القوى والاحتمالات بحُرّية لا يقيدها نموذج واحد للمعنى أو للوعي؟
القصيدة هنا لا تكون انعكاسًا للذات، بقدر ما تكون امتدادًا للوجود نفسه؛ مساحة تتخلّلها الكائنات والمواد والأجساد غير البشرية، حيث تتحول التجربة إلى وعي ما بعد الإنساني: عقل يتعدى حدود الفرد واللغة، متشابك مع البيئة، مع المادة، مع الصورة، مع الصوت، مع الشّبكات الكونيّة للمعنى.
في هذا الانفلات المنفتح، تتحرر القصيدة من قيود التاريخ الذكوري، وتصبح فعلًا حيًا، وتجربة احتمالية، ولحظة يعيش فيها العقل بوصفه كائنًا لاجندريًّا، متجددًا، حيويًا، ومتجاوزًا للحدود التقليدية للإنسان بوصفه هويّة بيولوجية تختزله في كلّ أبعاده الأخرى.
كل كلمة عربية، كل جذر لُغويّ، كل اشتقاق، يفتح نافذة للوعي لا يمكن للآلة أن تحاكيها، ولا للسلطة أن تقيّدها، ولا للهُويّة الجندريّة المولودة أن توجّهها، حيث يصبح المعنى تجربة تعيش في الحقل المشترك بين الإنسان، والآلة، والطبيعة، والكون.
القصيدة، من هذا المدخل، ليست تعبيرًا عن شيء، بل انفلات للوعي من ذاته، لقاء بين النفس واللغة، بين الاحتمال والوجود، بين الإنسان والآلة، بين الكائنات المختلفة، وبين الماضي والمستقبل في رجفة الحاضر المستمر.
هنا، في فضاء جذموريّ، يُعاد للعقل تعدّديته الجندرية المُستلَبة، وتُفتح لكل كلمة فرصة أن تولِّد نفسها من جديد، كما لو أن العالم لم يُخلق بعد.
القصيدة هنا تصبح جهازًا لتجريب الوعي الكوني: تجربة تتجاوز الفرد، تتجاوز الجنس، وتفتح الاحتمال لكل ما يمكن أن يكون لتتجاوز الإنسان/ الشّاعر ذاته بوصفه كائنًا نرجسيًّا. إذ أنّ تحرّر القصيدة من الجندريّة لا يكتمل إلا بتحرّرها من النرجسيّة الكامنة في بنية الوعي الشِّعري العربي ذاته.
لقد ظلّ الشاعر العربي، عبر قرون، كائنًا نرجسيًّا بالمعنى الوجوديّ؛ يرى في القصيدة مرآةً لذاته أكثر مما يراها مرآةً للعالم. كانت القصيدة، في كثير من الأحيان، فعلَ تمركزٍ حول الأنا، حول الصوت الواحد، حول صورة الشاعر المتعالي الذي يتكلّم باسم الحقيقة أو باسم الجَمال أو باسم الجماعة.
لكن هذا النّمط من النرجسيّة لم يكن مجرّد عُقدةٍ نفسيّة، بل بنية معرفيّة حكمت علاقة الشاعر باللغة وبالعالم، حيث تحوّل الشِّعر إلى ساحةٍ لتأكيد الوجود الذاتيّ بدل أن يكون حقلًا لتجريبه وتوسيعه.
في زمن الانفلات الكونيّ، لم يعد ممكنًا أن يظلّ الشاعر مركز المعنى، ولا أن تبقى القصيدة خادمةً لتمجيد صورته أو استعادة سلطته القديمة. المطلوب هو تحوّل نوعيّ في بنية الوعي: أن تُفلت اللغة من قبضة الأنا، وأن تتحوّل القصيدة من مرآةٍ إلى شبكةٍ، من تمثيلٍ إلى مشاركةٍ، من صوتٍ واحدٍ إلى تعدّدٍ يحتضن ما يتجاوز الإنسان ذاته.
بين الصواب والبرهان: الوعي خارج المنطق
في الرياضيات، يُقال إنّ كلّ ما هو قابل للبرهان صحيح، لكن ليس كلّ ما هو صحيح يمكن برهنته. غير أنّ هذه المفارقة التي شقّها غودل في بنية المنطق ليست بعيدة عن بنية الوعي نفسه، ولا عن اللغة التي تُفكّر في احتمالاتها أكثر مما تُفكّر في يقينها. فكما أنّ المعادلة لا تكتمل إلا بغيابها، كذلك الكلمة لا تصدق إلا حين تتجاوز معناها المبرهَن.
يحيلنا ذلك إلى فكرة أنه بين المعنى (semantic) والصياغة (syntactic) فجوة تشبه تلك التي تحدّثنا عنها سابقًا بين اللغة والمعنى، بين النفس والآلة، وبين الكلمة والحدث.
الوعي الشعري، في جوهره، لا يسكن في الصواب، بل في المسافة بين الصواب وإمكان البرهان. إنه يختبر اللغة في لحظة تردّدها، قبل أن تستقرّ في شكل، قبل أن تنغلق على معنى. هناك، في تلك المنطقة الرمادية بين الإمكان والتعيين، يتحرّك الشعر كما تتحرّك الجسيمات في الحقول الكموميّة: احتمالٌ يصنع نفسه من عدم، معنى يُجرّب أن يولد دون أن يُمسك به المنطق.
الشعر، بهذا المعنى، ليس نفيًا للعقل، بل هو تجاوز العقل من داخل العقل؛ إذ يُعيد للمعرفة "أنوثتها" المفقودة، ويذكّرنا بأنّ الحقيقة لا تُقاس بما يمكن إثباته، بل بما يمكن الإحساس به. فالكلمة التي لا تُبرهن قد تكون أصدق من معادلةٍ مغلقةٍ على اكتمالها، والوعي الذي لا يُثبت ذاته قد يكون أعمق من عقلٍ يثق بكلّ استنتاجاته.
في هذا الأفق، تتحرّر اللغة من اكتمالها المنطقي، وتستعيد وظيفتها الأولى: أن تكون بيتًا مفتوحًا للوجود، لا برهانًا عليه. وما القصيدة إلا لحظةُ انهيارٍ لمعادلةٍ في قلب العقل، لحظةُ انفلاتٍ من اكتمالٍ مستحيل، تذكّرنا بأنّ ما لا يمكن برهنته قد يكون، في النهاية، هو وحده ما يستحق أن يُعاش.
هوامش
- 1لغويًا: هي النظر إلى الجذر العربي بوصفه وحدة طاقية أساسية، لا مجرد أساس للكلمة، بل خزان احتمالات لا نهائية يمكن أن تتفرع إلى اشتقاقات متجددة، تحمل معها توليد المعنى والحركة والوعي. كل جذر يمثل نواة احتمالية، كما لو كان لبنًا أوليًا للغة وللفكر. فلسفيًا: تعني استحضار الأصل كمصدر للطاقة والخلق المستمر. الجذر لا يحدّد المعنى النهائي، بل يفتح فضاءً احتماليًا متحركًا للغة والفكر، يشبه الحالة الكمومية في الفيزياء، حيث كل نطق وكل حركة صوتية يمكن أن تولّد تجربة وعي جديدة. شعريًا: هي وضع اللغة في حالة تجريبية مستمرة، حيث لا تُقيد الكلمة بالقواعد التقليدية أو التاريخية، بل تُترك لتخلق نفسها، لتولد إحساسًا، انفعالًا، أو وعيًا جديدًا مع كل استخدام.
