مقالة عوفر أديريت في صحيفة هآرتز، منشورة بتاريخ 1 / 7 / 2017
ترجمة عماد الأحمد
لم أصدق ما رأيته بالفعل: لماذا تُخزن هذه المواد في أرشيف جيش “الدفاع” الإسرائيلي وأرشيف وزارة “الدفاع”؟ كُتب على أول مادة بالعبرية “تاريخ فلسطين اعتباراً من عام 1919” وعلى الثانية: “لوحات للأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة ويعيشون في مخيم للاجئين ويتوقون للعودة إلى فلسطين”. أما الثالثة فكتب عليها: “تصوير معاملة الجيش الإسرائيلي ومعاملة الفلسطينيين القاسية في الأراضي”.
ومن المدهش حقاً أن نجد بكرات هذه الأفلام الثلاث بقياس 16 ملم في الأرشيف المركزي الذي يوثق الأنشطة العسكرية الأمنية الإسرائيلية بالذات. يقع مبنى هذا الأرشيف في تل هشومير، بالقرب من مركز التجنيد الوطني للجيش، خارج تل أبيب.
لا تمثل هذه المواد الثلاث سوى قطرات في محيط كبير يبلغ حوالي 38 ألف فيلم و2.7 مليون صورة و96 ألف تسجيل صوتي و46 ألف خريطة وصور جوية تم جمعها في أرشيف الجيش الإسرائيلي منذ عام 1948 بأمر من أول رئيس وزراء إسرائيلي ووزير “للدفاع”، ديفيد بن غوريون. وعند التدقيق سيتبيّن أن هذه القطرات الضائعة في هذا المحيط تحمل تأثيراً هائلاً واستثنائياً وتتمتع بأهمية كبيرة للغاية. تمثل هذه اللقطات مجرد جزء من مجموعة من “غنائم الحرب من الأفلام” التي لا يزال حجمها وتفاصيلها الكاملة مجهولة تماماً، والتي استولى عليها الجيش الإسرائيلي من الأرشيفات الفلسطينية من خلال الغارات والمداهمات التي نفذها على مر السنين، وفي مقدمتها حرب لبنان عام 1982.
انتُشلت الأفلام التي صودرت في لبنان مؤخراً، وبعد معركة قانونية طويلة ومضنية، من الضياع في متاهة النسيان، حيث بقيت هناك تتكدس عليها طبقات الغبار لعقود عدة، إلى جانب العديد من الصور الثابتة، بدلاً من أن يتم عرضها في دور السينما أو في أي أماكن أخرى في إسرائيل. أما الشخص المسؤول فعلاً عن هذا التطور فهو الدكتورة رونا سيلا، أمينة المتحف والباحثة في التاريخ البصري في جامعة تل أبيب.
كانت سيلا ومنذ ما يقرب من 20 عاماً تستكشف الذاكرة البصرية الصهيونية والفلسطينية. حققت عدداً من الإنجازات الهامة والاكتشافات في رصيدها، ونشرتها في كتب وكتالوجات ومقالات. ومن بين العناوين في اللغة العبرية “التصوير الفوتوغرافي في فلسطين/ إسرائيل في الثلاثينيات والأربعينيات” (2000) و”على العلن: صور فلسطينية في الأرشيف العسكري في إسرائيل” (2009). ونشرت في شهر مارس مقالاً في مجلة سوشال سيميوتيكس (Social Semiotics) الفصلية باللغة الإنجليزية، بعنوان “الجينالوجيا والنهب الاستعماري – السيطرة الإسرائيلية على الأرشيفات الفلسطينية”.
صنعت سيلا اليوم فيلمها الأول “المنهوب والمخفي: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل”، الفيلم الوثائقي باللغة الإنجليزية والذي يستعرض مصير الصور والأفلام الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها وإيداعها في الأرشيف الإسرائيلي. يتضمن الفيلم شرائح غير معروضة من قبل من الأفلام التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي من المحفوظات الفلسطينية في بيروت. تقول سيلا إن هذه السجلات الوثائقية “قد تم محوها من الوعي والتاريخ” ولعقود طويلة.
لم يكن الوصول إلى هذه الأفلام سهلاً على الإطلاق. بدأت رحلتها الأرشيفية في عام 1998، عندما كانت تبحث في أفلام الدعاية الصهيونية والصور التي سعت إلى تصوير “اليهودي الجديد” -بعضلات مفتولة يحرث التربة بفخر- والذي يتناقض تماماً، وفقاً لتصور الصهيونية، مع المظهر الهزيل والجلف المفترض للفلسطيني.
تقول سيلا: “بعد قضائي بضع سنوات في الأرشيف الصهيوني المركزي في القدس وفي الأرشيفات الصهيونية الأخرى، وبعد سنوات من البحث حول تاريخ التصوير الصهيوني وبناء جهاز الدعاية المرئية الذي يدعم الفكرة الصهيونية، بدأت أبحث عن التمثيل المرئي للفلسطيني أيضاً، للتعرف على السردية الفلسطينية وتتبع أصولها وتأثيرها”.
كانت هذه المهمة أكثر تعقيداً بكثير مما يمكن أن يتصوره أي شخص كان. وجدت سيلا في بعض الأفلام والصور الصهيونية، وبالصدفة في كثير من الأحيان، حلقات من التاريخ الفلسطيني الذي “تسلل” إليها، كما تقول.
على سبيل المثال، تظهر مستوطنة اليهود في يافا، والمنازل العربية المهدمة والمهجورة بكل وضوح في كارمل نيوزريلز (لقطات الأخبار الأسبوعية التي تعرض في دور السينما المحلية) لعام 1951.
رصدت سيلا لاحقاً آثار وبقايا أرشيف بصري فلسطيني حقيقي في بعض الأحيان تائه في المحفوظات الإسرائيلية. لم تظهر تلك الآثار بوضوح على الفور، بل كانت أشبه بكنز بعيد المنال مخفي هنا وهناك تحت طبقات من القيود وعمليات المحو والتنقيح.
وهكذا، لاحظت في يوم ما في أرشيف ميليشيا الهاغاناه، الميليشيا التي كانت موجودة في فترة ما قبل تأسيس الدولة، لقطات تحمل وسم “صورة رصاص”. واكتشفت بعد المزيد من البحث العميق قصة خليل رصاص (1926-1974)، أحد الآباء المؤسسين لفن التصوير الصحفي الفلسطيني. لم يكن خليل معروفاً لعامة الناس، سواء للفلسطينيين أو الإسرائيليين، ولكنه كان وفقاً لسيلا: “مصوراً جريئاً ورائداً”، قام بدافع من الإحساس بالوعي الوطني بتوثيق النضال الفلسطيني لفترة ما قبل عام 1948.
عثرت لاحقاً على مئات من صوره، مصحوبة بتعليقات كتبها الجنود أو موظفو الأرشيف الإسرائيليون الذين حاولوا اختلاق سردية صهيونية لهذه الصور وفصلها عن سياقها الأصلي. كان مصدر الصور شاب يهودي أخذها من والده، والذي كان ضابطاً في الجيش الإسرائيلي عاد بها كغنيمة من “حرب الاستقلال”.
الأعمال المنسية
كان هذا اكتشافاً غير مسبوق بالفعل. كانت صور رصاص أساساً لمقاتلين فلسطينيين، جاءت على النقيض من صور الدعاية الصهيونية التي عززت بطولية القوات اليهودية والتي نادراً ما أشارت إلى الفلسطينيين. ركزت هذه الصور التي تجسد موقفاً فلسطينياً فخوراً على الكفاح الوطني والعسكري ونتائجه، بما في ذلك التدريب العسكري الفلسطيني والانتشار في ميدان المعركة.
تقول سيلا: “أدركت أنني وجدت شيئاً مهماً للغاية، حيث عثرت على مخبأ ضخم لأعمال أحد الآباء المؤسسين لفن التصوير الفلسطيني، والذي كان أول من منح تعبيراً بصرياً للنضال الفلسطيني. ولكنني عندما حاولت معرفة المزيد عن خليل رصاص، عرفت أنه مصور منسي، لا أحد يعرف عنه شيئاً أبداً سواء في إسرائيل أو في أي مكان آخر”.
قررت سيلا بعد ذلك دراسة الموضوع بنفسها. تتبعت في عام 1999 شقيق خليل رصاص، وهيب، الذي كان يعمل مصوراً سياحياً على “جبل الهيكل”/ الحرم الشريف في مدينة القدس القديمة. حكى لها وهيب قصة حياة خليل. اتضح أنه كان يرافق القوات والقادة الفلسطينيين، ليوثق بصرياً المعارك التي خاضها سكان منطقة القدس خلال حرب الاستقلال عام 1948. تقول سيلا: “كان خليل شاباً اختار الكاميرا كأداة لتغيير وعي الناس”.
اكتشفت سيلا في بدايات العام 2007 أرشيف مصور فلسطيني آخر منسي يدعى علي زعرور (1900-1972)، من قرية العيزرية شرقي القدس. حُفظت حوالي 400 صورة من صوره في أربعة ألبومات. تصور هذه اللقطات مشاهد من حرب 1948، حيث رافق زعرور قوات الفيلق العربي الأردني ووثق معركة مدينة القدس القديمة. قام زعرور بتصوير الموتى والدمار والأسرى واللاجئين وأحداث وقف إطلاق النار.
فرّ زعرور في حرب الأيام الستة في عام 1967 من منزله لفترة قصيرة. وعندما عاد، اكتشف أن ألبومات الصور قد اختفت. ظهر فيما بعد أن أحد الأقارب قد أعطاها لعمدة القدس تيدي كوليك كهدية. ثم تبرعت مؤسسة القدس بها فيما بعد لأرشيف الجيش الإسرائيلي. أعاد الأرشيف في عام 2008، في حركة غير مسبوقة، هذه الألبومات إلى عائلة زعرور. تظن سيلا أن السبب وراء ذلك كان أن ألبومات الصور عبارة عن غنيمة للجيش في المعركة. وقد كانت هذه المرة تمثّل حالة فريدة كما نعلم.
تشجعت سيلا بفضل الاكتشافات التي يمكن أن تحققها مدركة أنه “مع العمل المنهجي المتواصل، سيكون من الممكن الكشف عن المزيد من المحفوظات الفلسطينية التي انتهت في أياد إسرائيلية”.
كان عملها ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إجراء البحوث الأرشيفية لتحديد الصور الفوتوغرافية الفلسطينية والأفلام التي أدرجت في الأرشيفات الإسرائيلية، ومقابلة المصورين الفلسطينيين أنفسهم، أو أفراد أسرهم، وتتبع الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في “الاستيلاء على هذه الغنائم البصرية” وفي جلبها إلى إسرائيل.
التقت سيلا في سياق أبحاثها ببعض الأشخاص الرائعين، ومن بينهم خديجة حباشنة، المخرجة الفلسطينية المقيمة في الأردن والتي تترأس قسم الأرشيف والسينما في معهد السينما الفلسطينية. وجدت هذه المؤسسة منذ نهاية الستينيات وحتى أوائل الثمانينيات، حيث تأسست في البداية في الأردن وبعدها في لبنان، وأسسها ثلاثة مخرجين فلسطينيين من الرواد- سلافة جاد الله، هاني جوهرية ومصطفى أبو علي (زوج حباشنة) – والذين سعوا لتوثيق أسلوب حياة شعبهم وصراعهم وكفاحهم الوطني. انتقل المخرجون إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود في عام 1970، عندما خاض الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية حرباً دموية ضروس، وأعادوا تأسيس معهد السينما الفلسطينية في بيروت.
استمعت ستيلا عندما قابلت حباشنة في عمان في عام 2013، لقصة الأرشيف الفلسطيني الذي اختفى، وهي القصة التي أدرجتها في فيلمها الوثائقي الجديد. قالت حباشنة لسيلا: “من أين نبدأ وقد أتلفت الكثير من المواد، وبعد أن انهار مشروع حياتنا؟ لا زلت قادرة على رؤية هؤلاء الشباب، الرواد الجريئين والثوريين والمفعمين بالمثل العليا، والذين صنعوا صوراً وأفلاماً ووثقوا الثورة الفلسطينية التي لا يريد العالم رؤيتها. رفضوا أن يكونوا مجهولين وأن يكونوا بلا هوية”.
يحتوي الأرشيف الذي أنشأته حباشنة على أعمال منسية توثق معاناة الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين، ومقاومة إسرائيل، ومعارك ضد الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى لقطات من الحياة اليومية. احتوى الأرشيف أيضاً على الأفلام والمواد الخام لمخرجي معهد السينما الفلسطينية، كما ضم أفلاماً فلسطينية أخرى تعود للبدايات من قبل عام 1948 وما بعده.
تقول حباشنة في فيلم سيلا مشيرة إلى السنوات الأولى للحركة الوطنية الفلسطينية إن هذا النشاط يعكس “روح التحرر والروح الثورية وأيام الثورة”. ظهرت تلك الروح في صور التقطت تحت الأرض وبميزانية محدودة، وعلى أفلام تم تحميضها في مطابخ البيوت، وعرضت في خيام في مخيمات اللاجئين ووزعت في الخارج. تقول حباشنة أنه قد تم توثيق صور النساء والأطفال والمقاتلين والمثقفين والشخصيات الثقافية، والأحداث ذات الأهمية التاريخية. وتعلق سيلا: “وكما هو معروف، كان هذا أول أرشيف مرئي فلسطيني رسمي”.
تتذكر حباشنة في حديثها مع سيلا بحنين جارف تلك الأوقات الرائعة، عندما عرضت الأفلام الفلسطينية في دور السينما في بيروت، إلى جانب أعمال أخرى تحمل “روحاً ثورية” من كوبا وتشيلي وفيتنام وأماكن أخرى. تقول حباشنة: “كنا على اتصال مع صناع الأفلام من بلدان أخرى، والذين نظروا إلى الكاميرا كأداة في أيدي الثورة والنضال الشعبي”.
تقول سيلا: “طورنا تعاوناً ثقافياً هاماً، مع التركيز على السينما الثورية. كانت بيروت مدينة حية تتمتع بازدهار ثقافي رائد لم يسبق له مثيل، ازدهار مذهل تماماً من حيث أهميته البصرية”.
ولكن هذا الأرشيف اختفى ولم يُعرف عنه شيء بعدها في عام 1982 بعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت. ولقي فيلمان لحباشنة، واحد عن الأطفال والآخر عن المرأة، المصير ذاته أيضاً. تتساءل حباشنة بحرقة في فيلم سيلا الوثائقي عن الظروف التي اختفت فيها تلك المجموعة المدهشة. تقول حباشنة: “هل مصيرنا أن نعيش حياة دون ماض؟ دون تاريخ بصري؟” وتمكنت منذ ذلك الحين من إعادة بناء جزء صغير من الأرشيف. ظهرت بعض الأفلام في الولايات المتحدة، حيث تم إرسالها لتحميضها. وظلت نسخ من بضعة أفلام أخرى في دور السينما في مختلف البلدان حيث عرضت. تواصل حباشنة اليوم وهي في سبعينياتها مهمتها، على الرغم من أن “مصير الأرشيف لا يزال لغزاً” كما قالت لسيلا في مقابلة سابقة.
“لقد حددوا شخصياتنا”
ما لم تتمكن حباشنة من إنجازه كجزء من أبحاثها وتنقيبها حول العالم بدءاً من العام 1982، تمكنت منه سيلا على مدى بضع سنوات من البحث في إسرائيل. بدأت سيلا جهودها من خلال إيجاد جندي سابق في الجيش الإسرائيلي أخبرها عن اليوم الذي وصلت فيه عدة شاحنات إلى ذلك المبنى في بيروت والذي يضم عدداً من الأرشيفات الفلسطينية وبدأ تفريغ المبنى من محتوياته. وكانت هذه الشهادة، المدعومة بصورة فوتوغرافية، حاسمة للغاية بالنسبة إلى سيلا، حيث أنها أكدت الشائعات والقصص عن الأرشيفات الفلسطينية التي تم نقلها إلى إسرائيل.
وأضاف الجندي نفسه أنه كان خائفاً عندما رأى، من بين الصور التي صودرت من الأرشيف، بعض الصور التي وثقت الجنود الإسرائيليين في تلك الأراضي. وقد ظهر الجندي بنفسه في إحدى تلك الصور. قال لسيلا”: “لقد حددوا شخصياتنا”.
أخبر جندي سابق آخر سيلا عن ألبوم صور فريدة نهب من منزل عائلة النشاشيبي البارزة في القدس عام 1948. وأضاف الجندي أن والده الذي كان ضابطاً في الجيش الإسرائيلي في “حرب الاستقلال” دخل إلى استوديو للصور الفوتوغرافية واستولى على أرشيفه، بينما كان الجنود الآخرون مشغولين بنهب البيانو والأشياء الأخرى الباهظة الثمن من بيت عائلة النشاشيبي. وشهد جندي سابق آخر بأنه أخذ صورة من جثة شخص عربي. ومع مرور الوقت، وجدت كل هذه الصور طريقها إلى الأرشيفات في إسرائيل، ولا سيما أرشيف الجيش الإسرائيلي.
طلبت سيلا في عام 2000، مدعومة باكتشافاتها الأولية، الحصول على إذن من هذا الأرشيف لفحص المواد البصرية التي استولى عليها الجيش في الثمانينيات. وكانت الاستجابة الأولية تتجسد في الإنكار: قيل لها هذه المواد ليست في حوزة إسرائيل.
قالت سيلا: “ولكني كنت أعرف ما الذي كنت أبحث عنه، لأنني كنت امتلك شهادات الجنود”، وأضافت أنها عندما أصرت على طلبها واجهت “صعوبات وقيود مختلفة وأحبطت إمكانية البحث عن المواد”.
وجاء التقدم المفاجئ عندما استعانت بمساعدة المحاميين مايكل سفارد وشلومي زكريا في عام 2008. تلقوا في بادئ الأمر كلمة أكدها المستشار القانوني لوزارة “الدفاع”، أن العديد من الغنائم التي تم الاستيلاء عليها في بيروت أصبحت اليوم جزءاً من أرشيف الجيش الإسرائيلي. ومع ذلك أُبلغت سيلا لاحقاً أن “أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية للتصوير الفوتوغرافي”، كما كانت تشير وزارة “الدفاع” بشكل عام إلى مواد التصوير الفوتوغرافي المأخوذة من الفلسطينيين، يمثل “مواد محفوظة متعلقة بالشؤون الخارجية والأمن، وعلى هذا النحو تعد “مواد سرية” كما تحددها الفقرة 7. (أ) من لائحة قوانين الأرشيفات”.
وفي أحد الأيام في عام 2010، تلقت سيلا رسالة بالفاكس تخبرها بأنه تم العثور على أفلام فلسطينية في أرشيف الجيش الإسرائيلي دون مزيد من التفصيل، مع توجيه دعوة لها لمشاهدتها. تقول سيلا: “كان هناك بضع أجزاء من عدة أفلام، وفوجئت بما رأيت. عرضوا علي في البداية كمية محدودة للغاية من اللقطات، ولكنها تحمل دلالات هامة للغاية عن بقية المواد. واستنادا إلى تجربتي، فهمت أن هناك المزيد”.
وبعد سنوات قليلة من مرور ما سمته سيلا “المراسلات والمحادثات المتواصلة التي لا حصر لها”، أدت هذه الجهود إلى السماح لها برؤية عشرات الشرائح من المزيد من الأفلام، بما فيها بعض الشرائح التي تبدو أنها جاءت من أرشيف حباشنة. كما اكتشفت سيلا أرشيفاً فلسطينياً آخر كان قد استولى عليه الجيش الإسرائيلي. تأسس هذا الأرشيف تحت رعاية قسم الفنون الثقافية في منظمة التحرير الفلسطينية، والذي كان مديره في السبعينيات الفنان التشكيلي والمؤرخ إسماعيل شموط المولود في اللد (1930-2006).
وكان أحد أعمال هذه المجموعة فيلم شموط الخاص «النداء العاجل» الذي يصور أغنية كتبتها وأدتها المغنية الفلسطينية زينب شحات باللغة الإنجليزية بمرافقة غيتارها. تقول سيلا التي وصفت فيلم «النداء العاجل» بأنه “صرخة عن حالة فلسطين وأبنائها وبناتها. وقد ساد اعتقاد إن هذا الفيلم قد ضاع إلى الأبد حتى وجدتُه في أرشيف الجيش الإسرائيلي”. تعيدك مشاهدة هذا الفيلم إلى أواخر الستينيات وأوائل السبعينات عندما كانت سينما النضال الفلسطيني مرتبطة لفترة وجيزة بحركات أفلام ثورية عالمية أخرى.
قام المخرج الأسطوري للموجة الفرنسية الجديدة في السينما جان لوك غودار في عامي 1969 و1970 على سبيل المثال، بزيارة الأردن ولبنان عدة مرات مع مجموعة دزيغا فيرتوف Dziga Vertov Group من المخرجين الفرنسيين (سميت على اسم رائد الأفلام الوثائقية السوفياتي في العشرينات والثلاثينيات)، وقد ضمت هذه المجموعة أيضاً المخرج جان بيير غورين، الذي عمل مع غودار في فترته “الراديكالية”. جاء هؤلاء المخرجين لتصوير لقطات في مخيمات اللاجئين وفي قواعد الفدائيين لفيلم غودار “حتى النصر”. قالت حباشنة لسيلا إنها وآخرين قد قابلوا غودار وساعدوه في التصوير وكانوا بالطبع متأثرين بعمله.
كما وجدت سيلا إلى جانب فيلم «النداء العاجل» -الذي أدرجت مقتطفات منه في فيلمها «المنهوب والمخفي»- عملاً آخر لشموط في أرشيف الجيش الإسرائيلي. يحمل هذا العمل عنوان «ذكريات ونار»، حيث يسجل التاريخ الفلسطيني في القرن العشرين “من تلك الأيام التي تصور الحياة المثالية الهانئة في فلسطين، إلى توثيق حياة اللاجئين، وحتى توثيق عمليات التنظيم والمقاومة. وإذا استخدمنا عبارات الأكاديمي السينمائي والمخرج جورج خليفي، فإن المقاتل الشجاع قد حل محل اللاجئ البائس”.
كما وجدت سيلا لقطات التقطها المخرج العراقي قيس الزبيدي الذي عمل لفترة من الزمن في قسم الفنون الثقافية التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. تشمل أفلامه التي تعود إلى تلك الفترة «بعيداً عن الوطن» (1969) و«الزيارة» (1970). نشر الزبيدي في عام 2006 انطولوجيا بعنوان «فلسطين في السينما»، وهي عبارة عن عمل تأريخي، يذكر فيه حوالي 800 فيلم يتحدث عن فلسطين أو عن الشعب الفلسطيني.
لا تزال بعض الأفلام الفلسطينية في أرشيف الجيش الإسرائيلي تحمل عناوينها الأصلية. وفي حالات أخرى كثيرة أعيد تصنيف هذه المواد الأرشيفية لتتناسب مع المنظور الإسرائيلي، بحيث أصبح “المقاتلون” الفلسطينيون عبارة عن “عصابات” أو “إرهابيين”، على سبيل المثال. وفي إحدى الحالات حملت لقطات لفلسطينيين يخضعون للتدريب على الأسلحة العنوان التالي: “معسكر إرهابي في الكويت: توزيع الزي الرسمي، فتيات يزحفن حاملات الأسلحة، الإرهابيون يصعدون التلال بأسلحتهم، إرشادات لتعليم زرع الألغام والتعامل مع الأسلحة”.
تقول سيلا: “تم نقل هذه الأفلام واللقطات، على الرغم من أنها ليست من صنع مخرجين يهود أو إسرائيليين أو من تصوير الوحدات العسكرية -وهو المعيار الأساسي لإيداع المواد في أرشيف الجيش الإسرائيلي- إلى أرشيف الجيش وأخضعت لقوانين دولة إسرائيل. ختمها الأرشيف على الفور لعدة عقود، وفهرسها وفقاً لمصطلحاته -وهي مصطلحات صهيونية ويهودية وإسرائيلية- وليس وفقاً للمصطلحات الفلسطينية الأصلية. ورأيت أماكن كتبت فيها كلمة “إرهابيين” على صور التقطها الفلسطينيون. ولن يطلق الفلسطينيون على أنفسهم هذه التسمية بالطبع. يمثل هذا جزءاً من تمويه المصطلحات، حيث يخضع عملهم الإبداعي للعملية الاستعمارية إذ يقوم المحتل بالسيطرة على المواد التي تم التقاطها”.
لا تعد اكتشافات سيلا، التي تتمتع بأهمية عالمية، مجرد بحث وتوثيق وإنجاز أكاديمي فحسب، بل تمثل أيضاً اختراقاً هاماً فيما يتعلق بتأريخ التاريخ الفلسطيني. تقول سيلا: “يفتقر التأريخ البصري الفلسطيني إلى العديد من الفصول”. وتضيف إن: “العديد من الصور والمحفوظات قد دمّرت أو فقدت أو اعتبرت كغنائم أو نهبت في الحروب المختلفة وفي سياق “النزاع” الاسرائيلي الفلسطيني”.
تقول سيلا أن الجمع المنهجي للمواد المرئية الفلسطينية في أرشيف الجيش الإسرائيلي “يجعل من الممكن كتابة تاريخ بديل يتعارض مع المحتوى الذي أنشأه الجيش والأرشيف العسكري، والذي تحدده الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية”. وترى أيضاً في المادة التي عثر عليها في أرشيف الجيش “صوراً تمثل تاريخ الشعب الفلسطيني وعلاقاته طويلة الأمد بهذه الأرض وهذا المكان، مما يقدم بديلاً عن التاريخ الصهيوني الذي نفى وجود الفلسطينيين هنا، ونفى ثقافتهم وتاريخهم والمأساة التي طال أمدها، ونفى نضالهم الوطني الممتد لسنوات عديدة”.
تأتي النتيجة على شكل مفارقة مثيرة للاهتمام، مثل النتائج التي غالباً ما يجدها المرء من خلال النبش عميقاً في الأرشيف. تتيح المعلومات الغنية التي وجدتها سيلا في أرشيف الجيش الإسرائيلي إمكانية إعادة بناء مواد وصور عن وجود الفلسطينيين في فترة ما قبل عام 1948 والمساعدة في ملء فجوات السردية الفلسطينية حتى الثمانينيات. وبعبارة أخرى، حتى لو كانت نية إسرائيل تكمن في إخفاء هذه المواد والسيطرة على الكنوز التاريخية للفلسطينيين، فإن أفعالها هذه ستؤدي فعلياً إلى الحفاظ على هذه المواد، وستواصل القيام بذلك في المستقبل.
وقد سبقت أبحاث سيلا حول المواد الأرشيفية البصرية دراسة أخرى رائدة -تناولت الكلمة المكتوبة- والتي أجراها الدكتور جيش أميت، خبير الجوانب الثقافية للصهيونية في جامعة بن غوريون في النقب. يؤرخ أميت المعلومات اللازمة حول مصير الكتب والمكتبات الفلسطينية التي انتهت في الأرشيفات الإسرائيلية، كما حصل مع الصور والأفلام التي وجدتها سيلا، بما في ذلك تلك الكتب الموجودة في المكتبة الوطنية في القدس.
يحلل أميت بوضوح في كتابه لعام 2014، “أسماء المؤلفين: سجلات تمت سرقتها، وحفظها والاستيلاء عليها في المكتبة الوطنية اليهودية” (بالعبرية)، الفشل السابق لأي محاولة لإخفاء تاريخ الآخرين والتحكم فيه. ووفقاً له فإن “الأرشيف يتذكر ما نسي منه وما تم محوه منه، ويوثق الظلم، وبالتالي يجعل من الممكن تتبع مساراته، بل ويمهد الطريق للتواريخ المنسية التي يمكن أن تمثل يوماً ما، إدانة ضد أصحاب” هذه الوثائق.
يرى أميت أيضاً في الوقت نفسه مدى تعقيد هذه القصة ويقدم جانباً آخراً منها. يصف أميت العملية التي قام فيها الجنود الإسرائيليون وموظفو المكتبات الوطنية بجمع الكتب الفلسطينية خلال “حرب الاستقلال”، ويثير احتمال أن يكون ذلك فعلاً ينطوي على إنقاذها وحفظها وإمكانية الوصول إليها: “من ناحية، فقد تم جمع الكتب ولم تحرق ولم تترك في المنازل المهجورة في الأحياء العربية التي أفرغت من سكانها. لو لم يتم جمعها لكانت لاقت مصيرها المحتوم- لن يبقى لها أي أثر على الإطلاق”، ويضيف أميت إن المكتبة الوطنية “حمت الكتب من الحرب والنهب والتدمير ومن التجارة غير المشروعة في المخطوطات”.
ووفقاً للمكتبة الوطنية، فإنها تضم حوالي 6500 كتاب ومخطوطة فلسطينية، أخذت من المنازل الخاصة التي تركها أصحابها في عام 1948. المجموعة بأكملها مفهرسة ومتاحة لعامة الناس، ولكنها تحت مسؤولية أمين حفظ أملاك الغائبين في وزارة المالية. وبناء على ذلك، لا توجد نية في المستقبل القريب لمحاولة تحديد الملاك وأماكنهم وإعادة هذه المواد إليهم.
ترى سيلا وجود غنائم الحرب هذه في إسرائيل تعبيراً مباشراً عن الاحتلال، والذي تعرّفه بأنه يتجاوز الوجود المادي لإسرائيل في هذه الأراضي ليصل إلى “السيطرة على التاريخ وكتابة الثقافة وتشكيل الهوية”. تقول من وجهة نظرها “إن حكم إسرائيل على الفلسطينيين ليس حكماً جغرافياً فحسب، وإنما يمتد أيضاً إلى الثقافة والوعي. تريد إسرائيل محو هذا التاريخ من الوعي العام، ولكنها لن تنجح، لأن قوة المقاومة أقوى منها. لذلك فإن محاولاتها لمحو التاريخ الفلسطيني تؤثر سلباً على إسرائيل نفسها في النهاية”.
تلجأ سيلا عند هذه النقطة إلى مقارنة عميقة مشحونة بالعواطف لتوضيح كيفية مساهمة المواد البصرية في خلق الهوية الشخصية والجماعية. فتقول: “كابنة لناجين من المحرقة، فقد نشأت في منزل بدون ذاكرة تاريخية فوتوغرافية. لا شيء على الإطلاق. يبدأ تاريخي بمقابلة والدي لبعضهما البعض في عام 1953. لدينا صور من ذلك التاريخ وحسب، أما قبل ذلك فلا شيء على الإطلاق. أعرف جيداً معنى ألا يكون لديك أي فكرة عن شكل جدتك أو جدك، أو طفولة والدك. ويصح هذا أكثر على تاريخ شعب بكامله. إن بناء الهوية عن طريق المواد البصرية عملية مفيدة للغاية. وقد تناول العديد من الباحثين هذا الموضوع. والحقيقة أن الهيئات الصهيونية استخدمت (هذه المواد) ولا تزال تستخدمها استخداماً مكثفاً ورشيداً على مدى فترة امتدت إلى عقود”.
تعترف سيلا بأنه لا يزال هناك الكثير الذي ينبغي فعله، لكن فيما يخصها، فبمجرد ظهور صدع في الجدار لن يكون هناك عودة إلى الوراء أبداً. تقول سيلا: “هناك الكثير من المواد، بما في ذلك مئات الأفلام، التي لم أحصل عليها بعد، تمثل هذه المواد كنزاً مدهشاً يحتوي على معلومات عن الحياة الثقافية والتعليمية والريفية والحضرية للشعب الفلسطيني طوال القرن العشرين، تلك السردية الممحوة التي لا بد من استعادتها إلى كتب التاريخ”.
ورداً على سؤال حول ما الذي ترى أنه ينبغي القيام به بخصوص هذه المواد، تؤكد سيلا أنها “ينبغي أن تتم إعادتها بكل تأكيد”. مثلما تكافح إسرائيل باستمرار لاستعادة ما نهبه النازيون من اليهود في المحرقة. القصة التاريخية مختلفة فعلاً، ولكن إذا أخذنا المعيار نفسه في الحكم على القضية، فإن إسرائيل تمارس ما تنهى الآخرين عن ممارسته. هذه المواد عبارة عن مواد ثقافية وتاريخية للشعب الفلسطيني”.
وحقيقة أن هذه المواد تحتفظ بها إسرائيل “تشكل ثغرة كبيرة في البحوث والمعارف الفلسطينية”. وتضيف سيلا قائلة: “تتحمل إسرائيل مسؤولية هذه الثغرة. هذه المواد ليست لنا. ولا بد أن تعاد إلى أصحابها. كما أننا إذا نظرنا إلى الموضوع بذكاء أكبر، يمكننا في نهاية الأمر معرفة وفهم فصول هامة للغاية في التاريخ الفلسطيني وفي تاريخنا. وأعتقد أن المرحلة الأولى والأساسية في عملية التوفيق هي معرفة تاريخ الآخر وتاريخك أيضاً في السيطرة على الآخر”.
رد وزارة “الدفاع”
قال المتحدث باسم وزارة “الدفاع”، والذي طُلب منه التعليق على المقتنيات في أرشيف الجيش الإسرائيلي، أن الأرشيف يحتوي على 642 “فيلماً كغنائم حرب”، يتناول معظمها اللاجئين، وقد أنتجتها الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين) في الستينيات والسبعينيات. وأشارت الوزارة أيضاً إلى أن 158 فيلماً استولت عليها القوات الإسرائيلية في حرب لبنان عام 1982 مدرجة بشكل منظم في فهرس غرفة القراءة، وهي متاحة للجمهور العام، بما في ذلك المواطنين العرب والفلسطينيين.
ذكرت الوزارة فيما يتعلق بالصور الفلسطينية التي صودرت، أنه ليس هناك سجل منظم لها. وهناك 127 ملفاً للصور الفوتوغرافية والنيجاتيف في الأرشيف، يحتوي كل منها على عشرات الصور الفوتوغرافية، والتي التقطت ربما بين فترة الستينيات والثمانينيات، تشمل مجموعة متنوعة من المواضيع، بما في ذلك زيارات الوفود الأجنبية إلى موظفي منظمة التحرير الفلسطينية، وجولات لوفود منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، والفنون والتراث الفلسطيني، والأعمال الفنية، والملابس التقليدية والفولكلور الفلسطيني، والمصانع والورش، والمظاهرات، والمسيرات الجماهيرية والتجمعات التي تنظمها منظمة التحرير الفلسطينية، وصور الشخصيات العربية ورموز منظمة التحرير الفلسطينية.
ويضيف البيان أنه قبل بضعة أشهر، تم تحديد أماكن الصناديق التي تم ختمها من قبل أصحابها الأصليين “منظمة التحرير الفلسطينية/ إدارة المعلومات والإرشاد الوطني وإدارة الإعلام والثقافة” أثناء إخلاء مخازن الأرشيف في قاعدة تزريفين.
سيعرض فيلم رونا سيلا «المنهوب والمخفي – الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل» عرضاً خاصاً في الساعة السابعة مساء يوم 3 يوليو في مركز الفن المعاصر في تل أبيب. وسيتبع ذلك العرض جلسة نقاش مع سيلا وصبري جريس، المدير السابق لمركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت – والذي استولى عليه الجيش الإسرائيلي أيضاً.
تدخّل المحرّر اقتصر على أقواس لبعض العبارات كـ “حرب الاستقلال” ووزارة “الدفاع”، وعلى حذف كلمة الدفاع في الإشارة إلى الجيش الإسرائيلي.
الصور التالية هي المرفقة بالمقالة الأصلية مع شروحاتها.