فلسطين التاريخية وسكانها الأصليون
استوطن الإنسان فلسطين منذ زمن سحيق، لخصوبة أرضها واعتدال مناخها ووقوعها بين مصر وبلاد الرافدين، حتى إنه يقال إن مدينة أريحا الفلسطينية أولُ مدينة شُيدت في التاريخ الإنساني (عام 8000ق.م). ومن الشعوب التي حلّت بفلسطين العرب الكنعانيون (عام 250ق.م)، فصبغوا هذه الأرض باسمهم حتى عُرفت منذ عام 1800ق.م بـ “أرض كنعان”، فذُكرت بهذا الاسم في تقارير القائد العسكري لجارة فلسطين مملكة ماري في الفرات الأوسط (أُنشئت حوالى عام 3000ق.م، واكتشفت أنقاضها في عام 1933)، وعلى مسلة أدريمي ملك الآلاخ (مملكة عند مجرى نهر العاصي، جرى اكتشافها عند العثور على تمثال ملكها إدريمي عام 1939، منقوشًا عليه سيرة حياة هذا الملك)، كما وردت تسمية كنعان بصيغة قريبة هي: Kinahna أو Kinahhi، في رسائل جرى اكتشافها في أخيتاتون القديمة (Ancient Akhetaten) بمصر (تسمى حاليًّا تل العمارنة) وفي وثائق مصرية قديمة، كرسالة رب عدي ملك جبيل إلى الفرعون (1400ق.م)، وكنقش الملك مرنفتاح (1212-1203ق.م). ومن أبرز قبائل الكنعانيين: اليبوسيون، والعناقيون، والحويون، والعماليق، الذين شهد جنوب أرض كنعان خلال استيطانهم (عام 1184ق.م) غزو الفلستيين (Philistines) الذين أعطوا المنطقةَ الممتدة من شمال حيفا إلى جنوب غزة وحتى حوض نهر الأردن الغربي، اسمًا جديدًا هو “فلستيا” استمر منذ ذلك الحين، وقد ورد ذكره في السجلات الآشورية، حيث ذكرت مسلة الملك إدد نيرازي الثالث (حوالى 800ق.م) إخضاع قواته “فلستو”، وترد في العهد القديم تسمية “أرض الفلسطينيين”.
“الفولكلور” في التجمعات البشرية
بناء على ما سلف، يُعتبر الكنعانيون ومن تلاهم من الكيانات العربية سكان فلسطين التاريخية الأصليين والأساسيين؛ وقد أنشؤوا فيها ما لا يقل عن 200 مدينة وقرية وعمروها، ومن الكيانات التي استوطنت فلسطين قبل الإسلام أربعة رئيسة هي: الأنباط وتدمر وقضاعة والغساسنة، ومن أشهر قبائلها: قضاعة وتنوخ وعذرة وكلب وعاملة ومذحج وجذام ولخم وقيس وكندة ومضر… وغيرها، كان لكل منها فولكلورها الخاص، وهي فولكلورات فلسطينية حظيت باهتمام كثير من الباحثين، من أمثال نمر سرحان وعبد اللطيف البرغوثي وإبراهيم نصر الله، وجمعوا منها مؤلفات موسوعية أبرزت تنوعها الكبير والمتميز، مثل: الموسوعة الفلسطينية وموسوعة الفولكلورالفلسطيني لسرحان، وهو جهد للحفاظ على هوية هذا الشعب وعراقته عبر تاريخه الطويل، وإبراز تلاقح الثقافات والحضارات التي تعاقبت على أرضه فأكسبته تنوعًا كبيرًا، ووضْعِ لبنة في جدار إظهار التراث الفلسطيني وتجذره في هذه الأرض منذ بدء الصراع مع إسرائيل في منتصف القرن العشرين، ومحاولاته المستميتة إثبات هوية مزيفه له في هذه الأرض وطمس هوية الشعب الفلسطيني، عبر محاولات لتزوير التاريخ والموروث العربيين الفلسطينيين، إضافة إلى ما شاب الفولكلور الفلسطيني من عناصر ليست من أرومة السكان الأصليين، وتماهي بعض ألفاظه مع مستحدثات العيش تحت ظل الاحتلال، وهو ما أُتبع باندثار عادات وتقاليد جماعية؛ ما دفع بنخبة من أعلام الشعبَين الفلسطيني والعربي؛ مثقفين وأكاديميين وفنانين ومؤرخين، للعمل على النهوض بالوعي العربي؛ إما فرديًّا، كما فعل مصطفى الدباغ ووليد الخالدي وغيرهما، وإما في مؤسسات جماعية، مثل: “مركز الأبحاث الفلسطيني” و”هيئة الموسوعة الفلسطينية” وغيرهما، حيث أصدرت الأخيرة موسوعةً في عام 1984 للتعريف بكل القرى والبلدات والشخصيات الفلسطينية، فأخذت قراء الأمة نحو عمق فلسطين، ثم ألحقتها بالجزء الثاني في عام 1990، ولحقت بهاتين المؤسستين “جمعية إنعاش الأسرة – البيرة” – على سبيل المثال لا الحصر – فبذلت مهمات رائدة في هذا السياق، وكلها جهود ساهمت في تعرية الادعاءات الصهيونية الكاذبة وتوثيق التراث الفلسطيني. وقد ركّز بعض أصحاب هذه الجهود على حفظ التراث الفلسطيني الشعبي الشفوي: الغناء والرقص والدبكات والأمثال والحكايا والطقوس والأعياد، ومن هؤلاء نمر سرحان وعلي الخليلي ويسرى عرنيطة وغيرهم، وبعضهم تكفّل بمهمة حفظ التراث المادي، مثل الزي الفلسطيني التقليدي والحلي، فبرز منهم شريف كناعنة وعبد الرحمن المزين ووداد قعوار وغيرهم.
و”فولكلور السامر” من القوالب الغنائية الجمعية للرجال والنساء التي قلَّ ذكرها في الكتب والموسوعات، أو جرى تناوله بإيجاز واختصار شديدين نصًّا وأداءً؛ ما أوهم القارئ بندرته أو انحسار جغرافيته. وبناء عليه بات من الضرورة إزالة هذا اللبس عبر إخراج مؤلف مستقل حول هذا القالب إلى النور، فكان كتابنا فولكلور السامر في فلسطين مرفقًا بالدِّحِّيّة والدحاريج (بركوسيا والفالوجة نموذجًا).
“السامر”: خصائصة ونصوصه
يمتاز فولكلور السامر بأنه أكثر تعبيرًا عن الثقافة الشعبية قبل عام 1948، وسهل الحفظ والأداء والمحاكاة، ويؤدى في الأماكن العامة، وتمتاز نصوصه المتضمِّنةُ العادات والقيم والحوادث المهمة بالثبات والاستقرار، وهي ميزات لا تتوافر في الغناء الفردي؛ ما جعله مرآةً لحياة القرية الفلسطينية.
يتناول الفصل الأول من الكتاب أصل مصطلح “الفولكلور”، ومعناه العام ومدلولاته وما يتفرع منه من شفهيات، ويتطرق كذلك إلى توضيح معنى الأغنية الفولكلورية وخصائصها وأهميتها، موردًا أمثلة لها، منتقلًا إلى توضيح طابعها في فلسطين، ثم إلى لغة الغناء الشعبي الفلسطيني البسيطة ذات اللهجة القروية الفلاحية الحية ومناسباتها المتعددة، وأهمها الأعراس، لينتقل بعدها إلى بيت القصيد: السامر، مبينًا مفهومه ومدلولاته ونشأته في العراق ثم انتقاله إلى مصر واستقراره في وسط فلسطين وجنوبها، واصفًا أداء السامرين (البدّاع – القائد – الرديدة) رقصًا وسحجًا، ثم باحثًا في مضامين أغاني السامر المتعددة، كالغزل والمدح والذم والمعتقد الديني والحكمة والفخر، مُتبِعًا كلَّ مضمون بأمثلة شعرية، ومتعرِّضًا في كل منها لنصّها واللحن والمقام والسلم الموسيقيين والبحر الشعري وكيفية تغير مخارج الحروف أثناء الأداء والسحجة وحركات القدمين … وأخيرًا المبارزات الشعرية الحية.
أما الفصل الثاني، فقد خُصص لنصوص السامر في قريتي بركوسيا والفالوجة، التي جمعها الباحث من المقابلات الشخصية، ودوّن فيها كل ما وقع على سمعه من مناسبات ووقائع أوردها في ملحق خاص بالكلمات العامية مع مرادفاتها العربية الفصيحة؛ ما أظهر الهوة بين جيلَي ما قبل عام 1948 وما بعده، وقد أوضح الباحث ما أشكل وصَعُبَ في النصوص العامية الحية، ثم قدّم نماذج شعرية تضم قرى جغرافيا انتشار السامر بالرجوع إلى المراجع المعنية بالفولكلور، مختصةً وغير مختصة.
وأشار الباحث في الفصل الثالث إلى نصوص ألوان غنائية مصاحبةٍ للسامر في بعض المناطق ولو كانت نادرةً، لتكتمل بذلك ألوان الطيف الفولكلوري الخاص بسمر الرجال. أما الدحية، فبيَّنَ الباحث في هذا الفصل أصل تسميها، وطابع غنائها، وسلمها الموسيقي، ووزنها العروضي، وكيفية أدائها، موردًا نصوصًا شعرية لها من مراجع وبعض المقابلات الشخصية. أما القالب الغنائي الأخير، وهو السراية، فكان بمنزلة لقية أثرية مهمة، بسبب ندرة انتشاره جغرافيًّا، وانقطاعه مدة طويلة، وكان مصدره للباحث هو الحاج محمد العبسي وحده من قرية الفالوجة. وتطرق الفصل كذلك إلى سامر النساء: الدحاريج، الذي كان يؤدّى مع سامر الرجال في الأعراس، فوضح معناه ومفهومه وكيفية أدائه وأنواعه وألوانه، وأورد نصوصًا لكل نوع منه من المقابلات الشخصية وبعض الكتب، معتمدًا على سيدتين هما الحاجتان هنية مصلح وفاطمة رضوان في جمع نصوص شفهية تُعتبر كنزًا لطبقات من لون نادر ومن أقدم الغناء الفولكلوري في فلسطين، وهو الـ “املالاه”. وأخيرًا، أدرج الكاتب الكلمات ذات الأصول غير العربية في التراث الفلسطيني، ونقرح المصطلحات ليسهل نطقها، وأضاف في الهوامش كلمات فصيحة يغلب على الظن أنها عامية.