نقابة "عمّال" الثقافة

2020-02-13 01:00:00

نقابة
في وقتية المكان، مخيم قلنديا، مجموعة فناء ٢٠١٩

قد غلب تلك المؤسسات شخصيات مؤسسيها وتوجهاتهم السياسية. قد فُرّغت تلك المؤسسات من جماهيرها قصداً، وفي وقتنا الحالي كل متنفذ في النقابات الفارغة الشكلية متواطئ مع عملية هدم النقابات والسيطرة عليها وتحيدها.

بين حَشْد مُصَنّعي البلاستيك والذئاب المنفردة

يجلس زميل لي على طاولة قريبة، ونعلم كلانا أنه من الحتمي تتبع خيوط حواراتنا التي انسلت من جلسة سابقة، والتعليق على بعض الأحداث التي استجدت في المؤسسة الثقافية التي تقاطع وجودنا بها ذلك اليوم.

هو يساري راديكالي ما زال يؤمن باتحادات العمّال وما تملك من قوة الجماعة، ويؤمن أن الصراع الطبقي محفزٌ أساسي لصيرورة التاريخ. ويشير دائماً إلى المعارك المفتعلة التي تُغرق العمّال في صراعات جانبية تشتتهم، عرقية كانت أم قومية أم غير ذلك من الهياكل المتواطئة مع الرأسمالية.

ويؤمن كلانا يقيناً بأن مجابهة هياكل السطوة القائمة يتطلب زخماً حقيقياً ضاغطاً.

ناديت اسمه فنظر إليّ، وتبادلنا نظرةً اختصرت الكثير من المقدمات.

هممت بتناول كأس القهوة عن طاولتي لأرتشفها، بينما أشعل سيجارته واقفاً ومشى ليتخذ مكاناً في حلقة حوارنا الطارئ.

لطالما نادى الرفيق بالعمل النقابي وضرورة شحذ الهمم واتخاذ المواقف الحادة من الترهل المحيط بنا.

علينا الوقوف كجماعة قال، ولا قوة غير الجماعة قادرة على خلق نظام بديل يجابه الأنظمة التقليدية ويقارعها.

على الصعيد الشخصي، ما زلت اشكك بإفرازات العمل الجماعي وتداعياته. كيف لا وواقعنا المعاصر يشهد فشل المأسسة المتتالي عن تلبية أدنى مطالب المقهورين! لا فرصة قلت للعمل الجماعي ومحاولة ترتيبه.

أنا أدعو بفردانية إلى التغيير الجماعي، وربما نجحت الرأسمالية في صناعة اليساري المثالي عندما قلت ذلك!

تحدث الرفيق عن وجوب تأطير عاملي المؤسسات الثقافية والفنية في نقابة تسمح لهم لملمة شتاتهم وتركيز طاقتهم في محاولة للتأثير على سياسات تلك المؤسسات والمساهمة فيها بشكل فعّال، ومن أجل خلق قوة ضاغطة تجابه الآلة الرأسمالية المسعورة ودفع سيطرتها ولو بسنتيمترات قليلة بعيداً عنّا.

قلت له "شيخ جامع من القرية إلي قبالك بلم ناس قد كل العاملين الثقافين، قوتنا مش بس عدد أو تجميع وجوه"

رد الرفيق "عددنا قليل بعرف بس المشكلة مفرقين وكلٌ يغني على ليلاه، ولازم يكون في شكل معين يحمي جماعتنا".

أراد كلانا بشدة امتلاك مساحة مستقلة صغيرة جداً من هذه البلاد لنقف فيها ولو بشكل مؤقت، دون مزاحمة الاحتلال والاعلانات التجارية ومدعي الدين وتمدد رأس المال الذي عجن المنتجات الثقافية وشكلها بذات الطريقة التي تُشكل فيها مصانع البلاستيك منتجاتها ذات العمر المحدد.

صمت قصير.

سرح الرفيق بمبنى المؤسسة الأبيض، وسرحت أنا في الأفق المقابل لها.

متوسعاً في مثال مصنع البلاستيك المحبب لدي، قلت دون أي مقدمات:

المادة الخام في مصانع البلاستيك هي حبيبات من البوليمرات الصغيرة جداً، متشابهة ومتكررة وبلون واحد! ومنها يتراوح الإنتاج بين مصفاة أرز، وكرسي، و صحن، أو منشر غسيل… وإلخ

ثم تابعت مسهباً عن تشابه عمليات إنتاج الثقافة والفن بعمليات إنتاج مصافي الأرز حتى قاطعني الرفيق بقوله:

مصانع البلاستيك أفضل من ناحية إنتاجية، فلها القدرة على خلق أدوات مفيدة من مادة خام واحدة، أما المؤسسات فالسطوة الطبقية خلقت عبرها هياكل مشوهة تجتر المواد والصيرورة الثقافية.

هل من الممكن لنا أن نعْرف ما هي المادة أو المواد الخام للثقافة في واقعنا الحالي؟

فكرت معه بصوت مرتفع:

أظن أن تحرير الإنتاج الثقافي يتطلب تحرير مواده الخام لا تعريفها، فمثلاً فلسطين كفكرة مادة خام رائعة وتسمح لنا التوسع فيها، ولكن فلسطين كجغرافيا محددة وقاصرة عن احتمال ما هو أبعد من حدودها المادية.

أتوافق ذلك؟

جاوب الرفيق دون تردد:

طبعاً، وعلى المادة الخام أن تبقى متحررة من أزمة التمثيل التي وقعت بها فلسطين الفكرة !

صمت قصير.

تابعت بعده في مناكفة محسوبة:

هل تحديد الصراع الطبقي في هذه اللحظة يكفي كمادة خام لفهم أزمة الممارسة الثقافية؟ أظن أن الارتكاز على العلاقات الطبقية كمصدر وحيد للتحليل هو بخطورة تسليع المنتجات الثقافية.

غير الرفيق من جلسته عندما نجح استفزازي، بعدما قللت من أهمية الصراع الطبقي الذي تمحورت حوله أفكار اليساريين. نظر إلي كأن وحي ماركس تجلى أمامه، وكأنه جاهز للضرب بيده وقال:

رأس المال، وسيطرة طبقة بعينها على أدوات الإنتاج لهما القدرة على تعريف الثقافة والفن، وإعادة تعريفهما بشكل متكرر وفق احتياجات الطبقة المسيطرة وليس وفق احتياجات المجتمع ككل.

قلت له مستدركاً:

أليس الصراع الطبقي بقديم؟ ألم تكن هناك آليات ممارسة ثقافية تتجاوز سطوة طبقة محددة؟ لربما علينا افتكاك تلك المعرفة من تجارب السابقين وكيف ناورت إسهاماتهم ذلك الصراع.

أو ربما هناك صفقة خفية يكون علينا فيها التفاوض والمساومة حتى نكتسب مساحة حرة ما مقابل صمتنا عن بعض الأشياء!

قاطعني الرفيق:

الصمت يا رفيقي ما هو إلا اتخاذ جانب القوي وترك الضعفاء وحيدين تحت بطش رأس المال. لا وجود للعمل الثقافي أو الفني دون ارتباطه بمشروع سياسي تحرري، يكون الدوام فيه للعمل الثقافي و صيرورته وليس لتعبئة فراغات خطية في عملية إنتاج ثقافة محايدة.

على أية حال أظن أن أغلب الإنتاجات الثقافية والفنية الحالية تلائم مثال مصنع البلاستيك، ولذلك ستزول تلك الإنتاجات كما تزول صلاحية الأدوات البلاستيكية رديئة الصنع. ما أخشاه هو أن البلاستيك بصورة عامة صعب التحلل وسيترك أثراً شاذاً لا محالة!

صمت الرفيق لوهلة قبل أن يبتسم ساخراً ويتابع:

أنظر لنا. كلانا يجلس في ساحة هذه المؤسسة ونساهم في إنتاج ثقافة دون العمل بها، علينا الهروب من مصنع البلاستيك هذا أو على الأقل ادعاء المرض والتغيب عدة أيام لتجربة وسائل أخرى.

بخباثة وددت سماع أي رفيق يساري يغير رأيه، فباغته بسؤالنا الأول:

أما زلت تظن أن نقابة عمّال الثقافة ستخلق أثراً وقد اختبرنا سوية تعقيدات هذه المرحلة. من وجهة نظري يستحيل النهوض باستخدام ذات الوسائل التي حيدت يساريي الفترة السابقة، نحن لسنا بأذكى أو أفضل منهم.

سنعيد تكرار ذات الأخطاء بطريقة أكثر فعالية!

أظن أن الوضع الحالي يتطلب منّا المناورة.

تماماً كالذئاب الوحيدة المنفردة!

أجاب وقد عاد طيف ماركس يهيم فوقه:

لا أتفق معك بالعمل الفردي، فالصراع الطبقي محفز صناعة التاريخ الأهم، ولمجابهة بغي تمثيلات الطبقة المهيمنة على أدوات الإنتاج نحتاج جهد كل واحد منّا.

تابعت:

ألا تخاف تفريغ نقابة عمّال الثقافة من معناها كما فُرّغت النقابات الأخرى لخدمة أجندات سياسية محدودة الأفق .هناك العديد من الهيئات والمؤسسات التي تدعي تمثيل الكتّاب والفنانين التشكيليين والموسيقيين وغيرهم. هل لهم أثر أو قوة جامعة؟ هل خلق أُطُر جديدة كفيل بمجابهة عدوك القوي؟

أظن أن اللحظة التي ستعلن بها عن هذه النقابة هي نفس لحظة موتها!

قال لي بعد أن أحس بتكاثر عدد الآذان المصغية من حولنا، وأن هذه الجلسة مراقبة:

قد غلب تلك المؤسسات شخصيات مؤسسيها وتوجهاتهم السياسية. قد فُرّغت تلك المؤسسات من جماهيرها قصداً، وفي وقتنا الحالي كل متنفذ في النقابات الفارغة الشكلية متواطئ مع عملية هدم النقابات والسيطرة عليها وتحيدها.

ما رأيك أن ندعو إلى تلك النقابة ونعافر حتى يُسقطنا من يملك غروراً يتجاوز غرورنا؟

دمرنا البعد عن مصادر قوتنا المحلية يا صديقي!

كيساري مترهل قلت له بتفاصيل وجه غلبه الشك لتتناوله الريبة:

معك ولست معك!

لاحظتُ الآذان المراقبة من حولنا بعدما حذرني الرفيق، وكيف اقتربت لسماع هرطقاتنا!

نظرت بعيداً في حيرة بينما استكمل الرفيق تدخين سيجارته الرابعة، قبل أن يستقيم ليمشي صوب مكتبه.

لبضع دقائق إضافية جلست وحيداً على تلك الطاولة البيضاء أفكر في ضرورة العمل الجماعي!

وأظن أن الرفيق فكر أثناء ترجله مبتعداً في ضرورة وجود الذئاب المنفردة!